الفصـــل الثانـــي:
النـزاع العرقـي كنزاع بالوكالـة بين دول القربـى
إن تحديد أطراف النزاع العرقي وقيمة المتغيرات الداخلية، والخارجية المؤثرة على مساره خطوة هامة لتحليله، فقد تكون الأطراف المباشرة للنزاع داخلية، إلا أنها تعتمد بصفة أساسية على الدعم الخارجي، خاصة من طرف الدول التي تربطها بها قرابة عرقية(دول القربىkin-states ) فيكون بذلك النزاع العرقي نزاعا بالوكالة، في هذا الإطار يقول: كارل دويتش Karl Deutsche "إذا كان طرفي النزاع الداخلي يعتمدان في قدراتهما الأساسية سواء البشرية، أو المعنوية، أو المالية، أو أي مصادر أخرى، على مصادر خارجية، فإننا و الحالة هذه نكون أمام حرب بالنيابة: و هي صراع دولي بين قوتين خارجيتين، يدار على أرض دولة ثالثة، و يستخدم رجالها، و مواردها، و أراضيها لتحقيق أهـداف إستراتيجيـة"(I).
فيؤدي التدخل الخارجـي – بهذا المفهوم – إلى جعل النزاع، نزاعا عرقيا مدولا
Internationalized Ethnic conflict ، و يُقصَدُ هنا بصفة التدويل أن تصبح الدول - سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة - أطرافا في النزاع العرقي القائم(II)، قد تستمر فيه بالوكالة عن طريق دعم جماعتها العرقية، كما قد تتورط في حرب مباشرة مع الدولة المستهدفـة.
يعتبر تدخل دول القربى (أي الدول التي تجمعها روابط عرقية Ethnic Ties مع إحدى الجماعات المتنازعة) الأكثر تأثيرا على طبيعة النزاعات العرقية، فأغلب النزاعات المتجدرة المعاصرة،هي نزاعات عرقية مدولة بتدخل دول القربى، عكس تدخل الدولة الأجنبية الذي غالبا ما يكون تدخلا موقتا و ظرفيا، و في هذا الإطار يقول هانتغتون " تعتبر ظاهرة تدخل دول القربى بعبارة "ه.د.ي جواينيواي" ملمحا رئيسيا من حروب خطوط التقسيم الحضاري في أواخر القرن العشرين" (III).
سنحاول في هذا الفصل التطرق إلى العلاقة بين التدخل الخارجي لدول القربى والنزاع العرقي من خلال تحليلنا لدورها، وأساليبها في تحريك الجماعات العرقية، وكذا دوافعها من التدخل وانعكاسات تدخلاتها على طبيعة النزاع العرقي.
المبحث الأول : تدخل دول القربى في النزاعات العرقية
1. تطور تدخل دول القربى في النزاعات العرقية
يعتبر تدخل دول القربى في النزاعات العرقية ظاهرة قديمة، حيث كانت الإمبراطوريات تدعم الحركات الانفصالية لإضعاف الإمبراطوريات المعادية تمهيدا لغزوها، فقد تدخلت الإمبراطورية الإسلامية في الإمبراطورية الرومانية والفارسية لحماية الأقليات الإسلامية، كما تدخلت روسيا فرنسا و بريطانيا في الإمبراطورية العثمانية عام 1825 بذريعة حماية المسيحيين، وتدخلت اليابان في الصين عام 1900م بذريعة حماية الأقليات اليابانية من قمع النظام الصيني( 1)، والو.م.أ عام 1904 م في البلقان لحماية أقليتها هناك ( 2)، و التدخل الألماني في تشيكوسلوفاكيا، بولندا والنمسا، لحماية الجماعات العرقية الألمانيـة (3)، فظاهرة تدخل دول القربى متأصلة في تاريخ العلاقات الدولية.
ترجع جذور فكرة التدخل لحماية الأقليات والرعايا أساسا إلى أعمال Hugo Grotius ، رغم أنه لم يقر بحق تدخل دول القربى بل أكد على وجوب تدخل المجتمع الدولي في الدول التي تضطهد رعاياها …" (4)، كما أشار كل من فكتوريا و سواريز ، و جنتليز وتوما لاكويني و آخرون إلى نفس الفكرة عندما فروقوا بين الحروب العادلة، و الغير عادلة، محاولين وضع معايير تميز التدخل العادل عن غيره منـها :
1. أن تكون القضية عادلة: Just cause موجهة لإحقاق الحق و إبطال الباطل ؛
2. النية الحسنة للمتدخـل: right intention حيث أضاف توماس لاكويني هذا الشرط و اعتبره عنصرا أساسيا للحكم على السلوك النزاعي الدول؛
3. أن يكون العنف آخر بديل : last resort فيأتي بعد استنفاد كل السبل السلمية؛
4. التناسبية proportionality : بين شدة الحرب و تحقيق الهدف، فيجب أن يستعمل العنف في أضيق نـطاق (5) .
و كلها أفكار ساهمت في تطوير مفهوم التدخل الإنساني، وتدخـل دول القربـى كإحدى أشكالـه.
لا يزال الجدل دائرا بين أنصار الشرعية والمشروعية في تدخل دول القربى، فبينما ترفض هيئة الأمم المتحدة الاعتراف بالتدخل العسكري مهما كانت أهدافه إلا إذا كان مؤيدا بقرار من مجلس الأمن، نجد أن العديد من الدول تحاول تطوير مفهوما جديدا لا يشترط فيه الشرعية الدولية، على غرار التدخل الأمريكي في جزر الدومينكان عام 1965 بإنزال 30 ألف جندي بذريعة حماية رعاياها(6)، كذلك التدخل الهندي في سيريلانكا والتدخل الروسي في أبخازيا و التركي – الإيراني في ناكارنو- كاراباخ و كذا التدخل الصربي والكرواتي في كوسوفو، التدخل التركي اليوناني في قبرص …الخ وكلها تدخلات حملت شعار حماية حقوق الأقليات والرعايا.
و يبرز تطور تدخل دول القربى في النزاعات العرقية من خلال التطور الذي عرفته النزاعات الداخلية المدولةInternationalized ethnic conflict عموما كنزاعات تتم بين فواعل داخلية و بين الدول المتدخلة، ففي دراسة إحصائية توصل Nils و فريقه أنه بين 1946 – 2000 حدث 220 نزاعا(*) تم توزيعه حسب الأصناف التاليـة :
1 - نزاع ما بين الدول: (أطرافه دول) 42 نزاعا
2- نزاع خارج النظام extra-systemic: (أطرافه دولة وفاعل خارج إقليمه نزاع تحرري) 21 نزاعا؛
3.نزاع داخلي: 157 نزاع و الذي ينقسم بدوره إلى قسمين:
- نزاع داخلي مدول(بتدخل خارجي) : 25 نزاعا
- نزاع داخلي غير مدول 132 نزاعا (7)
و قد مثلوا نتائج دراستهم في المنحنى الموالـي:
Gleditsch .p.Nils and Wallensteen، conflict 1946-2000: A new data set ،Oslo 2001 http://www.pcr.uu.se/conferenses/Euroconference/nilspetterpapper.pdf. p 12
فمن خلال المنحنى نلاحظ أن النزاعات ما بين الدول في تناقص متذبذب، أما النزاعات خارج النظام فقد انتهت في السبعينات، بعد أن نالت العديد من الدول استقلالها، في حين أن هناك زيادة مستمرة للنزاعات الداخلية و الداخلية المدولة ( بتدخل خارجي)، خاصة في الدول حديثة الاستقلال لتمثل أكبر نسبة من النزاعات المعاصرة.
كما نلاحظ من خلال نفس المنحنى أن النزاعات الداخلية المدولة (سواء العرقية أو الغير عرقية) انتشرت أساسا مع بداية الحرب الباردة، حيث أنتقل النزاع بين المعسكرين (الشرقي و الغربـي) إلى داخل العديد من الدول ، كنزاعات بالوكالة conflict by proxy ، واستمرت لما بعد الحرب الباردة في ظل توفر بيئة ملائمة لتحرك القوى الإقليمية لتحقيق أهدافها بإثارة القوى الداخلية في الدول المستهدفة، فكانت حروب الوكالة المعاصرة بديلا للمواجهة المباشرة بين الدول التي أصبحت مكلفة في ظل تطور المعدات و التقنيات الحربية.
من جهة أخرى، استقطبت النزاعات العرقية التدخل الخارجي أكثر من باقي النزاعات الداخلية لاسيما من طرف دول القربى Kin-State، و هذا لا يعني أن كل تدخلات دول القربى تحول النزاع العرقي إلى نزاع بالوكالة، لذلك وجب التفرقة بين مستويين أساسيين من التدخـل :
1. المستوى الأول : عادة ما تكون الدولة القربى مرتبطة مباشرة بالأطراف الرئيسية، فتقدم الدعم الأساسي لنشاط جماعتها العرقية، على غرار الدعم الأرمني- الأذربيجاني للأرمن والآذريين وفي إقليم ناكارنو- كاراباخ، أو الدعم الصربي و الكرواتي للصرب و الكروات في كوسوفـو …الـخ(
.
و يعتبر دعم دول المستوى الأول حاسما في العديد من النزاعات العرقية، بل و قد يتطور ليقحم دول القربى في حرب مباشرة على غرار النزاع العرقي في كوسـوفــو.
2. المستوى الثاني : يضم دول القربى البعيدة عن ساحة القتال، ولكنها تقدم دعما عسكريا أو دبلوماسيا…الخ، معتبرا للجماعة التي تربطها بها قرابة عرقية Ethnic Ties ، على غرار الدعم الإيرانـي و التركي للآذريين في ناركانو- كاراباخ، والدعم الروسي للأرمن و الصرب، كذلك الدعم السعودي، و التركي، و الباكستاني، الإيراني، و الأفغنستاني للمقاتلين المسلمين في البوسنة وفلسطين ،لبنان ، الشيشان، كشميـر، السـودان، و الفيليبيـن ….الخ (9) .
و رغم تأثير الدعم الذي تقدمه دول هذا المستوى على النزاع العرقي، إلا أنه لا يقحم الدول المتدخلة كأطراف مباشرة في النزاع، في حين أنه كفيل بخلق أزمات دبلوماسية حادة على غرار التوترات التي حدثت في البلقان بين الدول الإسلامية و الكاثوليكية و الأرثوذكسية، عكس تدخل دول القربى من المستوى الأول الذي ساهم في نقل العديد من النزاعات العرقية إلى نزاعات بالوكالة بين الدول المتدخلة، بل و أدى في العديد من الحالات إلى حروب بين الدول و هذا ما سنوضحه في المبحث الموالـي من خلال عرضنا لبعض الحالات المتقدمة من التدخل الخارجي لدول القربى في النزاعات العرقية .
2.تلازم عامل القرابة العرقية و التدخل الخارجي
سنحاول من خلال هذا العنصر إبراز التلازم الموجود بين عامل القرابة العرقيةEthnic Ties ،و التدخل الخارجي في النزاعات العرقية المعاصرة كظاهرة تحتاج إلى تفسير، فاغلب التدخلات المعاصرة و التي أثرت على طبيعة النزاعات العرقية هي تلك التي استقطبت تدخل دول القربى لاسيما من المستوى الأول، حيث تشير الإحصائيات إلى أن نصف1/2 من المطالب الانفصالية تدعمها دول القربى(10)، وأنه في الفترة الممتدة من (1991-2002) كان هناك 44 مطلب انفصالي تمت منه 17 حالة بدعم من دول القربى و الشكل الموالي يوضح ذلك :
المصدر :صمم استنادا على الإحصائيات الواردة في :
Moore H.Will ethnic minority and foreign policy Sais review Vol. xxii،no 2 summer fall 2002.p7791. http://garnet.acns.fsu.edu/~whmoore/research/moore2002.pdf . P 80
من جهة أخرى، لو قمنا بدراسة مسحية لأغلب النزاعات التي تتصدر وسائل الإعلام، لوجدنا أن معظمها نزاعات عرقية مدولة بتدخل دول القربى Kin–state التي تقدم الدعم المباشر و الغير المباشر للجماعات المتنازعة.
ففي آسيا نجد -على سبيل المثال- النزاع في إقليم كشمير، بين الكشمير الهندوس الذين تساندهم الهند، و المسلمين المدعمين من طرف باكستان، والذي تسبب في حربين بين الدولتين (سنة 1948-1965)(11).
من جهة لأخرى لعبت الهند - كدولة قربى للتاميل - دورا هاما في النزاع التاميلي الأمر الذي ادخلها في أزمات دبلوماسية حادة مع سيريلانكا، كما كان للمساعدات الإيرانية و الأفغانية دورا هاما في تدعيم جماعة Baluch في الانفصال عن باكستان(12) .
في أوروبا نجد النزاع في إقليم "ناكارنو كاراباخ" Nagorno-Karabakh ،الذي يضم أغلبية أرمينية أعلن برلمانها عام1991 الانضمام إلى الوطن الأم " أرمينيا"، غير أن الآذريين رفضوا ذلك ، ليبدأ القتال على الإقليم بدعم من أرمينيا و أذربيجان على المستوى الأول و روسيا و إيران و تركيا على المستوى الثاني، حذرت روسيا بأن استمرار التدخل الخارجي في المنطقة يؤدي بالنزاع إلى حدود تدويل خطيرة (13).
من جهة أخرى يعتبر النزاع في البلقان نموذجا لتدخل دول القربى، حيث بدأ كنزاع عرقي بين الأقليات الصربية ، الكرواتية و المسلمة ثم تطور إلى حروب بين دول القربى ، فصربيا ساندت الصرب البوسنيين و كرواتيا الكروات، و على مستوى ثاني انضمت الدول الإسلامية (السعودية إيران، تركيا أفغانستان ، ليبيا ...) لصالح مسلمي البوسنة و انضمت الدول الأرثوذكسية (روسيا وأرمنيا، بلغاريا رومانيا ...) لصالح الصرب، في حين تلقى الكروات المساندة من ألمانيا والفاتيكان وبعض دول الكاثوليكية من أمريكا اللاتينية رغم أن تدخل هذه الأطراف كان أقل حدة من تدخل دول المستـوى الأول (14) .
كما يعتبر النزاع العرقي في قبرص – الذي سنتناوله بالتفصيل في الجزء التطبيقي- حالة متقدمة ومتجذرة من النزاع بالوكالة بين دول القربى( أي تركيا و اليونان)، من خلال دعمهما للقبارصة الأتراك و اليونـان .
كذلك النزاع في إقليم أبخازيا Abkhazie حيث تدخلت روسيا عسكريا بذريعة حماية أقليتها التي تمثل 34 % من سكان المنطقة، هذا ما اعتبرته جورجيا اختراقا صريحا لسيادتها في الوقت الذي تستمر روسيا في تهديداتها بأن "أي تهور جورجي اتجاه قواتها أو عرقيتها في المنطقة سيكلف الحكومة الكثير" (15).
كما سجلت روسيا تدخلات عسكرية أخرى بحجة حماية أقليتها في العديد من الدول أوروبا الشرقية حيث جاء في تصريح يا لتسن B.Eltsine " إن روسيا لن تفرط في حقوق أقلياتها "(16) وكاستجابة لهذا الدعم أصبحت العديد من الأقاليم ذات الأقليات الروسية تنادي بالانضمام إليها من بينها إقليم في أوكرانيا مند 1954، حتى الأقاليم البعيدة على غرار أقليتها التي تقطن ملدوفيا التي أعلنت استقلالها عام 1992 بدعم من روسيا (17) .
بدرجة أقل شدة نجد النزاع العرقي القائم بين الأوسيشان الأرثوذكس و الأنجوش المسلمين عام 1992، عندما شن الأنجوش هجمات لاستعادة منطقة "بيروجورادني" فتدخلت روسيا لمساندة الأوسيشان حيث حاصرت القرى الانجوشية و قصفتها بالدبابات، و نتيجة لذلك بدأ التصعيد العسكري في الشيشان لمناصرة أقربائهم كما هددت جمهوريات القوقاز الإسلامية روسيا بإرسال 500.000 مقاتل إن لم تسحب قواتها، ولكونها لم ترد تصعيد النزاع انسحبت القوات الروسية درءا لامتداد الحرب إلى المنطقة بأسرها(18).
في إفريقيا نجد النزاع الصومالي- الأثيوبي حول الأقلية الصومالية التي تقطن الإقليم الذي احتلته إثيوبيا حيث، يدعم الصومال لوجستيا و عسكريا مطالب أقليته الساعية للانفصال و الانضمام إليــه (19).
كذلك النزاع في أثيوبيا، فبعد امتدادها شرقا إلى البحر الأحمر واحتلالها لإقليم إريتريا العربي تقوم إريتريا بدعم الحركة الانفصالية في هذا الإقليم والتي تنادي بالانضمام إلى الدولة الأم، هذا ما أدخل الدولتين في حروب مباشرة، ولما قام السودان بدعم الحركة الانفصالية المسلمة، قامت إثيوبيا بدورها بتدعيم الحركة الانفصالية المسيحية السودانية(20).
و في النزاع العرقي جنوب السودان، قدمت إيران مساعدة للحكومة السودانية قيمتها 300 مليون $ ،بالإضافة إلى تدريب الجنود و تزويدها بمستشارين، الأمر الذي مكنها من شن هجوما كاسحا عام1992(21) .
فقد عرفت العديد من النزعات في إفريقيا تدخلا لدول القربى، حيث تتحالف دول الجوار سواء مع الحركة الانفصالية التي يربطها بها روابط عرقية، أو مع النظام السياسي، مثال ذلك ما حدث في ليبريا، سيراليون، غينيا بيسو، رواندا، الكونغو الديمقراطية ...الخ(22) .
إن تدخل دول القربى لم يساهم فقط في تصعيد النزاعات العرقية بل و في إثارتها كذلك ، خاصة بعد أن أدركت الدول أهمية أقلياتها كآلية لتحقيق أهدافها في دول أخرى، فهنغاريا تخلق مشكلة أمنية شرق أوروبا من خلال أقلياتها المنتشرة بين دول الجوار ( أوكرانيا كرواتيا ، صربيا، مونتنغرو رومانيا، سلوفانيا ، سلوفاكيا…) حيث أصدرت في 19 جوان 2001 قانونا ينظم علاقاتها مع أقليتها أثار أزمة دبلوماسية مع هذه الدول التي اعتبرته اختراقا صريحا لسيادتها، في حين أصرت هنغاريا على حقها في حماية أقليتها حيث صرح الرئيس السابق للحكومة الهنغارية Antall " لن ندع شخصا يقول بأن مسالة الأقليات هي قضية داخلية "، أما بالنسبة لدول الجوار، فهنغاريا تلعب على ورقة أمنية خطيرة، حيث صرح وزير سلوفاكي سابق "إن سيناريو هنغاريا واضح ...هي تهدف إلى الحصول على الاستقلالية الإقليمية لأقليتها ومن ثم مزاولة حق تقرير المصير ...ثم ضمهم إليها"(23).
كذلك تثير الأقليات الألبانية مشكلة دبلوماسية حادة في أوروبا، فــ ½ من سكان ألبانيا يعيشون خارج الدولة الأم منهم 1.8 مليون في صربيا و 470.000 في مقدونيا و 100.000 فـي اليونان و التي تملك بدورها حوالي 300.000 يوناني في ألبانيا هذا ما خلق توترات بين الدولتيـن(24).
نلاحظ مما سبق أن هناك ترابطا وثيقا بين عامل القرابة العرقية و التدخل الخارجي في النزاعات العرقية المعاصرة ، ففكرة الانفصال irredentism غالبا ما تشمل في دلالتها فكرة الانضمام حتى أن أصل كلمة انفصالية terra –irredenta أطلقت على المناطق الإيطالية التي كانت خاضعة للحكم النمساوي في النصف الثاني من القرن 19، و التي حاولت الانفصال للانضمام إلى إيطاليا، لذلك يعرف Chazan الانفصالية بأنها " محاولة الأقلية للانفصال عن الدولة الوطن Home state" للانضمام إلى دولة القربى Kin –state " كما عرفها Donald Horowitz(1992) بأنها "عملية انفصال شعب من دولة و انضمامه إلى دولة أخرى" (25).
و التركيز على فكرة الانضمام ينم عن شيوعها في الحركات الانفصالية المعاصرة ، فكشمير تريد الانفصال لتنضم إلى باكستان، والصرب في "كوسوفو" يسعون إلى الانفصال للانضمام إلى صربيا والكروات إلى كرواتيا، والأرمن في إقليم "ناكارنوا-كارباخ" يسعون إلى الانضمام إلى أرمنيا ،والألبان اليونان إلى ألبانيا، والروس في أوكرانيا إلى روسيا، والقبارصة اليونان إلى اليونان و القبارصة الأتراك إلى تركيا، وإقليم أوغادين إلى الصومال، وإقليم إثيوبيا العربي إلى اريثريا...الخ، فقليلة هي الحركات الانفصالية التي تنفصل من أجل إعلان الاستقلال، فأغلبها ينفصل لينضـم.
غالبا ما لا تشكل العرقيات التي لا تملك دول قربى تهديدا كبيرا، حيث توجد في حالة ضعف فهي تكافح و تعاني بصمت، و لا تتلقى الدعم الخارجي الذي قد ينقلها من المستوى الوطني إلى الدولي مهما كثر عددها، ومثال ذلك الجماعة "الجبسية Gypsies “ التي تضم 7 ملايين جبسي في أوروبا الوسطى ،أغلبها تعيش القهر في هذه الدول ، رغم ذلك و لغياب الدعم الخارجي بقيت غير نشطة، لذلك كانت الجماعات العرقية ذات دول القربى هي الأكثر نشاطا و تهديدا للأمن الدولي (26).
نستنتج مما سبق أن تدخل دول القربى هي ظاهرة بارزة في النزاعات العرقية المعاصرة، حيث نقلت العديد منها إلى نزاعات بين الدول مستعملة بذلك العديد من الأساليب، و الآليات في تحريك جماعاتها العرقية، فما هي هذه الأساليب و الآليات ؟ هذا ما سنتناوله في العنصر الموالي.
3.أساليب و آليات تدخل دول القربى
في النزاعات العرقية
يرتكز نشاط العديد من الجماعات العرقية المعاصرة على الدعم الذي تتلقاه من طرف دول القربى، هذا ما يزودها بالقدرة الكافية لخوض الحروب و الاستمرار فيها، في هذا الإطار يذهب الواقعيون إلى القول بأن قوة الجماعة العرقية، و تأثيرها في العلاقات الدولية، إنما هو امتداد كلي لقوة الدول كفواعل رئيسية في العلاقات الدولية المعاصرة، غير أننا نتحفظ على هذا القول بشهادة العديد من الجماعات العرقية التـي تعتمد أساسا على قدراتها الذاتية على غرار الحركة الكيبكية و الباسكية و الأيرلندية…الخ، رغم كونها أقل عنفا و تأثيرا من تلك التي تتلقى الدعم الخارجي من دول القربى(27).
تختلف أساليب ووسائل تدخل دول القربى في النزاعات العرقية باختلاف مستوى تورطها في النزاع، فإذا كان تدخلها من المستوى الأولى يمكن أن يدفعها للتورط المباشر في النزاع، أما إذا كان من المستوى الثاني فإنه يستمر في شكل دعم غير مباشر لجماعتها العرقية، و منه يمكن التمييز بين أسلوبين لتدخل دول القربى في النزاعات العرقيـة :
I. الأسلوب المباشر: حيث تقوم الدولة بالغزو المباشر للإقليم الذي تقطنه جماعتها العرقية بواسطة القوة العسكرية ، و ينقسم بدوره إلى نوعين :
- فقد يكون تدخلا مباشرا قصير المدى، الغرض منه التعديل في ميزان القوى الداخلي ( بين الجماعة العرقية و الحكومة) ، فيظهر في شكل عملية عسكرية محدودة مثل التدخل العسكري الإيراني داخل الحدود الأذربيجانية بذريعة إقامة معسكرات لإيواء اللاجئين الفارين من الهجوم الأرمني، و كذلك التدخل العسكري الروسي في الأراضي الأنجوشية و قصفها بالدبابات دعما للأوسيشان(28).
- كما قد يكون تدخلا مباشرا طويل المدى، يبرز في شكل استعماري على غرار التدخل العسكري التركي في شمال قبرص والتدخل الروسي في أبخازيا… الخ.
و يمثل الأسلوب المباشـر أعلى أسلوب من التدخل، حيث يؤدي في أغلب الأحيان إلى حرب بين دول القربى و الطرف الآخر المعادي لجماعتها، لذلك عرف تراجعا ملموسا في ظل زيادة كلفته على المستوى الوطني و الدولي .
II. الأسلوب الغير مباشر: تقوم الدولة بدعم جماعتها العرقية اقتصاديا، سياسيا و عسكريا، لتنوب عنها في النزاع الداخلي القائم، فلا يكون المتدخل طرفا مباشرا في الصدام، بل يكتفي بتأهيل و تجهيز جماعته العرقية لتنوب عنه في النـزاع القائـم.
و تفضل العديد من القوى الإقليمية هذا الأسلوب في التدخل، لتحقيق مصالحها في دول أخرى بتحريك أقليتها، و تدعيمها عسكريا و لوجستيا، مستعملة إياها كوسيلة ضغط على النظام القائم لتفرض عليه إتباع سياسة معينـة، فهو بذلك أقل تكلفة من الأسلوب المباشر الذي قد لا يتناسب مع الهـدف مـن التدخل .
في هذا الإطار تستعمل دول القربـى Kin-State العديد من الوسائل في تدخلاتها أهمـها :
1. الوسائل العسكريـة : حيث تدعم دول القربى جماعاتها العرقية بالمعدات الحربية والخبرة العسكرية في ميدان الرصد و المتابعة، و فتح معسكرات تدريب …الـخ.
و يعتبر الدعم العسكري أساسيا في استمرار الجماعات العرقية في النزاع، لاسيما أثناء الحروب، فقد كان للأسلحة المتدفقة من أثيوبيا دورا هاما لاستمرار الحركة الانفصالية جنوب السودان و كان للدعم الأوغندي و الإثيوبي و الكيني دورا أساسيا لاستمرار النزاع في الصومال(29) ، كما كان للدعم العسكري الأذربيجاني– التركي للآذريين، و الأرمني – الروسي للأرمن في ناركانو- كاراباخ دورا حاسما لاستمرار النزاع في المنطقة (30).
2. الوسائل الاقتصاديـة : إن الاستمرار في النزاع لمدة طويلة، ينهك القدرات الذاتية للحركات الانفصالية، لذلك يلعب الدعم الخارجي دورا أساسيا في استمرار النزاع العرقي، أو ضمان نجاح الحركة الانفصالية، فالعديد من الحركات الانفصالية تعتمد في بقائها على المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها من الدولة القربى Kin-State، سواء على المستوى الأول على غرار المساعدات المالية التي تتدفق من تركيا واليونان لجماعتهما في قبرص، أو على المستوى الثاني على غرار الدعم السعودي للبوسنة الذي تجاوز عام 1995 90 مليون $ (31).
بالإضافة إلى الدعم المالي ، تقوم الدول بفرض عقوبات اقتصادية على الدولة المضطهدة لجماعتها، رغم أن دول القربى لا تفضل هذه الطريقة في تدخلها، حيث سجل بين 1975 –1990 53 عقوبة اقتصادية، لم يحظر عامل القرابة العرقية إلا في حالة واحدة، منها و يظهر ذلك جليا في الشكـل الموالـي :
المصدر : صمم استنادا للإحصائيات الواردة في المرجع التالـي :
Moore H.Will ethnic minority and foreign policy Sais review Vol. xxii، no 2 summer fall 2002.p77-91. http://garnet.acns.fsu.edu/~whmoore/research/moore2002.pdf p 81
و يرجع ذلك –حسب رأينا – إلى كون العقوبات الاقتصادية لن تنجح إلا إذا تمت في إطار دولي أي أن تقوم العديد من الدول بقطع علاقتها الاقتصادية مع تلك الدولة ، فالحصار الاقتصادي لا يمكن أن تقوم به الدولة القربى وحدها حتى لو فعلت ذلك فإنها لن تكبد الطرف الآخر كلفة غير محتملة أو على الأقل رادعة باستثناء بعض الحالات النادرة على غرار الحصار الاقتصادي التركي على أرمينيا الذي كـاد أن يوصل الأرمن إلى مجاعة حقيقية في شـتاء (1992-1993) (32).
من جهة أخرى قد تكون دول القربى ذاتها سببا في فشل الحصار الاقتصادي، على غرار الدعم الاقتصادي الذي تلقاه الصرب من طرف الدول الكاثوليكية رغم الحصار الاقتصادي الذي فرضته عليها هيئـة الأمــم(33).
3.الوسائل الإعلامية و الثقافية : للدعاية دورا أساسيا في إثارة النعرات العرقية داخل الدول، فغالبا ما تركز دول القربى على الرموز العرقية في حملاتها الدعائية، لتخلق بذلك شعورا بالظلم لدى أقلياتها في الدول الأخرى، على غرار الحملة المكثفة التي تقوم بها تركيا ضد معاملة اليونان لأقليتها في تراقيا، أو إيران عندما استغلت جماعتها العرقية لإثارة النزاع في العراق، و ذلك بواسطة الإذاعات الموجهة عبر الإذاعة الوطنية الإيرانية، والتي كانت تذيع 26 ساعة في الأسبوع، وباللغة الكردية من مدينة "الرضائية"، ومدن أخرى تتميز بكثافة التواجد السكاني، كذلك الحرب الدعائية التي شنتها السنغال لتحريك أقليتها الزنجية في موريتانيا ، كما استعملت دول الجوار الدعاية الإعلامية بقوة في دعم قضية الانفصاليين في جنوب السـودان(34)، أو الحملة الدعائية التي قام بها نظام "ميلوزفيتش" لتحريك الصرب في كوسوفـو…الـخ(35).
5. الوسائل الدبلوماسية و السياسية : يشمل دعم دول القربى الدبلوماسي لجماعتها العرقية :
- الاعتراف بالكيانات التي تقوم الحركات الانفصالية بتكوينها داخل الدول: هذا ما قد يدفع الكيان الانفصالي إلى النمو و التطور و فتح علاقته على المستوى الدولي، الأمر الذي قد يؤهله لتكوين دولة على غرار اعتراف ألمانيا و الفاتيكـان و أوروبـا بكرواتيـا، والاعتراف التركي بجمهورية قبرص الشمالية التركية…الخ.
- فتح مكاتب التمثيل الدبلوماسي: مما يشجع الجماعات العرقية على النشاط الدبلوماسي الخارجي وعلى الاتصال بالبعثات، و السفارات الأجنبية الموجودة في دول القربى، و بالتالي شرح قضيتها و كسب المزيد من التأييـد الدولـي.
كما يشمل هذا الدعم، سماح دول القربى للجماعات العرقية بالنشاط بين بعثاتها الدبلوماسية و كذا إيـواء القيـادات الكبـرى(36).
- تمثيل الجماعات العرقية في المنظمات الدولية : حيث تصبح دبلوماسية دول القربى امتدادا لدبلوماسية الجماعات العرقية، على غرار المساندة الروسية لقضية الأرمن، الصرب و القبارصة اليونان فبين( 1993-1995 ) استعملت روسيا الفيتو على قرار مجلس الأمن بتكثيف العقوبات الاقتصادية على صربيا و بين ( 1994-1995 )عارضت قصف الناطو لصرب البوسنة، و في ديسمبر (1994) استخدمت الفيتو ضد مشروع قرار تقدمت به الدول الإسلامية لحظر نقل الوقود من صربيا إلى صرب البوسنة، كما أحبطت قرار آخر يقضي بإدانة صربيا بالتطهير العرقي(37).
غير أن التدخل في النزاعات العرقية يعود على دول القربى بالعديد من التكاليف السياسية و العسكرية و حتى البشرية، فقد تتورط الدولة مباشرة في النزاع العرقي القائم لتدخل في حرب وصدام مباشر مع الدولة المستهدفة : فما الذي يدفع الدول إلى تحمل هذه التكاليف و مساندة جماعاتها العرقية؟ لماذا تتدخل دول القربى في النزاعات العرقية ؟ ما هو سبب هذا التلازم بين التدخل الخارجي وعامل القرابة العرقية ؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في العنصر الموالي.
المبحث الثاني: دوافع تدخل دول القربى في النزاعات العرقية
بعد أن عالجنا في المبحث الأول ظاهرة تدخل دول القربى في النزاعات العرقية، والتلازم الموجود بين القرابة العرقية، والتدخل الخارجي، سنحاول في هذا المبحث التطرق إلى طبيعة العلاقة بينهما، لنكشف عن دوافع تدخل الدول في النزاعات العرقية، من خلال عرضنا لثلاث منظورات أساسية(*) حاولت تحليل العلاقة بين عامل القرابة العرقية و التدخل الخارجي :
1.المنظور اللاعقلانـي Rational Paradigm : ينطلق من أن السلوك النزاعي للدول غير عقلاني ، لا يقوم على حسابات دقيقة و إنما هو استجابة لمتغيرات داخلية ، و في تفسيرنا لطبيعة العلاقة بين القرابة العرقية و التدخل الخارجي سنأخذ نموذج صدام الحضارات ، لصاموئيل هانتغتون والذي يؤكد أن القرابة الحضارية (كجزء من القرابة العرقية) هي عامل مفسر لتدخل دول القربى لصالح جماعتها و أن النزاعات العرقية المدولة هي في حقيقة الأمر "نزاعات تقسيم حضاري Fault Line Conflict .
2.المنظـور العقلانـي : Non Rational Paradigm وهو المنظور الذي يرى أن الدول عقلانية، ولا تقوم بسلوك نزاعي إلا على أساس تحقيق أكبر قدر من المنفعة، بأقل تكلفة، وهنا سنركز على النظرية الواقعية، التي ترى أن الجماعات العرقية هي امتداد لسياسة الدول، و أن القرابة العرقية هي تبرير لتدخلاتها، فالدول تتدخل لاعتبارات أمنية، كمنع تدفق اللاجئين إلى إقليمها، أو منع انتشار النزاع إلى إقليمها، أو إستراتيجية، كالتوسع في مناطق حساسة…الخ .
3.منظور العقلانية المحدودة : و هو المنظور الذي جاء كانتقاد للمنظورين السابقين، فلا يمكن اعتبار الدول ذات عقلانية مطلقة، كما لا يمكن اعتبارها وحدات بسيطة، و غير عقلانية، فمن جهة لا يمكن اعتبار القرابة العرقية عاملا مفسرا لتدخل دول القربى في النزاعات العرقية، و من جهة أخرى ، تعتبر عاملا مساعدا بخلقها الظروف النفسية الملائمة للتدخل، سواء على مستوى المجتمع المدني، أو صنـاع القـرار.
من خلال عرضنا لهذه المنظورات، سنحاول الإجابة على سؤال رئيسي: ما هي طبيعة العلاقة بين القرابـة العرقيـة، و التدخل الخارجـي؟ أو بصيغة أخرى : لماذا تتدخل دول القربى في النزاعات العرقيـة ؟
1.المنظور اللاعقلاني (صدام الحضارات نموذجا)*
لم يستعمل ألسون تسمية المنظور اللاعقلاني لنماذجه الثلاثة، ولكنه أشار إليه من خلال النموذج البيروقراطي و الحكومي، رغم كونهما لا يمثلان إلا نظريتين من نظريات المنظور اللاعقلاني، أما التسمية فقد وردت في مقال لـ Verba Sidney " فرضيات حول العقلانية واللاعقلانية في نماذج النظام الدولي"، غير أنه استعمله بمعنى ضيق حيث حصره في النظريات السيكولوجية التي تركز على تأثير شخصية صانع القرار على السلوك النزاعي(1) .
يشير المنظور اللاعقلاني في دراستنا إلى كل النظريات و الدراسات التي تتقاسم فرضية أن السلوك النزاعي ليس سلوكا عقلانيا قائما على حسابات دقيقة موجه لتحقيق أهداف مصلحية واضحة بقدر ما هو نتيجة لمتغيرات أساسها البيئة الداخلية (متغيرات فردية - سيكولوجية متغير الإحباط الاجتماعي المتغير الاقتصادي، و التنفيس، التحديث، الصراع الطبقي...).
و يشمل المنظور اللاعقلاني العديد من النظريات الجزئية، التي حاولت ربط السلوك النزاعي للدول بالمتغيرات الداخلية، على غرار التنافس بين البيروقراطيات (النظرية البيروقراطية لهالبرن و أليسون )،طبيعة النظام السياسي (النظرية الليبرالية ) سيكولوجية صانع القرار ( نظرية السيكولوجية)، الأزمة الداخلية (نظرية التنفيس scapegoat theory)، إحباط المجتمع (نظرية الإحباط)، الصراع الطبقي ( النظرية الماركسية) اختلال البنى الداخلية (النظرية البنيوية لغالتونغ) تنافس النخبة ( نظرية النخبة و النموذج الحكومي لاليسون بالإضافة إلى نظرية المركب الصناعي العسكري ) والقائمة طويلة من النظريات الجزئية التي حاولت تفسير السلوك النزاعي بربطه بالمتغير الداخلـي(2).
رغم اختلافها في البناء النظري إلا أنها تتفق حول العديد من الأسس ، من بينها كون الفاعل في النزاع ليس عقلاني و ليس موحد ، و أن السلوك النزاعي ناتج عن تأثير البيئة –الداخلية و ليس الخارجية، وأن التحليل لا يقتضي التركيز على الفعل بحد ذاته، ولكن على المتغير الداخلي الذي انبثق عنه، فلا يمكن أن تتفق نظريات المنظور الواحد في كل الجزئيات على غرار ما أكد "توماس كون"، فهم يتقاسمون الخطوط العريضة التي تميز الظاهرة، و تحدد ملامحها الرئيسية، أما الاختلاف فيمتد إلى التقنيات و متغيرات التحليل(3) .
و يمكن تلخيص أهم ملامح المنظور اللاعقلاني من خلال العناصر التالية :
1.الفواعل : إذا كان المنظور العقلاني يعتبر الدولة فاعلا موحدا و منسجما، فإن المنظور اللاعقلاني ينظر إليها من زاوية أخرى ، فهي ليست فاعلا موحدا ، فقد تكون مجموعة من البيروقراطيات المتنافسة ، أو مجموعة من النخب المتنافسة، أو طبقات متصارعة ، أو جهاز اتخاذ قرار "آلي" يستجيب بصورة مباشرة مع الضغوطات الداخلية الناتجة عن الإحباط أو الشعور القومي و الحضاري ، أو أنها مجموعة من صناع القرار المتأثرين بالبيئة النفسية و الداخلية ، ومنه ينفي أنصار هذا المنظور كون الدولة فاعل منسجم Harmonized .
2.طبيعة الفواعل و السلوك النزاعي : الفاعل- مهما كان نوعه- هو لاعقلاني irrational أي لا يتخذ السلوك الخارجي استنادا إلى حسابات دقيقة و معلومات كافية ، فقد يكون السلوك النزاعي نتيجة لتنافس بيروقراطيات، أو تنافس النخب وتوزيع القوى بينهم، أو نتيجة لإحباط المجتمع و رغبة صانع القرار في تصريف الأزمة خارجيا، أو نتيجة لصراع بين الطبقات تسعى من خلاله الطبقة البرجوازية لفت انتباه الطبقات الأخرى إلى قضايا تخفي من خلالها الاستغلال القائم، أو نتيجة للاديمقراطية النظام السياسي، أو لاختلال التوازن بين البنى المختلفة للمجتمع، وسعي صناع القرار لتعديلها، أولكون صانع القرار ذو شخصية سلطوية واستبدادية ، أو نتيجة للتصادم الثقافي …الخ .
3. ديناميكات التفاعل : يتفق أنصار المنظور اللاعقلاني على أن احسن مستوى لتحليل السلوك النزاعي هو المستوى الوطني national level للدول، أين يتم تأسيس السلوك قبل أن يطبق في البيئة الخارجية، لذلك يؤكدون أن ديناميكات النزاع داخلية سواء أكانت سوسيولوجية (الإحباط ، التملك العدوان ، التحديث…) ، سياسية ( المساومة ، التنفيس ، الديمقراطية ..) اقتصادية، اجتماعية ( الأزمات الديمغرافيا، الأيديولوجيا...).
4. طريقة التحليل : إذا كان أنصار المنظور العقلاني يؤكدون على وجوب دراسة الفعل في حد ذاته، و فهم الأهداف التي يسعى صانع القرار من خلاله إلى تحقيقها، فإن أنصار المنظور اللاعقلاني يدعون إلى تحليل المتغيرات الداخلية، وليس السلوك لان السلوك في حد ذاته يبقى غامضا وغير مفهوم، لكونه غير مبني على أسس عقلانية يمكن استنتاجها.
تعتبر نظرية صدام الحضارات إحدى نظريات المنظور اللاعقلاني التي حاولت تفسير طبيعة التلازم بين عامل التدخل الخارجي و القرابة العرقية(*)، التي تربط الدولة المتدخلة بإحدى الجماعات المتنازعة، حيث يرى كل من Johnson و صاموئيل هانتغتون أن عامل القرابة العرقية هو المفسر لتدخل الدول في النزاعات العرقية، فللتقارب الثقافي دورا أساسيا في تحريك السلوك النزاعي للدول حيث يقول هانتغتون " إن العصر الجديد للنزاعات هو الاختلاف الثقافي إن الحضارات ستكون المرحلة الأخيرة من تطور النزاعات في العالم الحديث..." (3)، و يؤكد أن " العنف بين الدول والجماعات التي تنتمي إلى حضارات مختلفة يحمل معه إمكانية التصعيد، فتهب جماعات و دول من تلك الحضارات و تتجمع للدعم…"(4) وكمثال على ذلك يشير هانتغتون إلى خريطة الأحلاف الدولية في الأزمة اليوغسلافية حيث تجمعت الدول الأرثوذكسية (روسيا، رومانيا اليونان قبرص ...الخ) في حلف مساند للصرب الأرثوذكس و للدول الكاثوليكية (ألمانيا، سلوفانيا و الفاتيكان وحتى الشيلى و بوليفيا...الخ) ساندت الكروات الكاثوليك أما الدول الإسلامية (تركيا، إيران، ليبيا السعودية أفغانستان...الخ) فقد مولت البوسنة المسلمين(5).
فحسب – هانتغتون- تعتبر القرابة العرقية العامل الأساسي الذي دفع ألمانيا إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي للاعتراف بسلوفانيا الكاثوليكية و هي أيضا ما دفع الفاتيكان إلى الاعتراف بكرواتيا و إعطائها لقب " متراس المسيحية " و دفعت الدول الكاثوليكية لمساندتها على غرار ألمانيا وبولنـدا (6).
كما أن غياب القرابة العرقية –حسب أنصار هذه النظرية- يقلل من احتمال تدخل الدول في النزاعات القائمة، ففي أزمة هايتي 1997 رفضت الدول اللاتينية التدخل بل و حتى استقبال اللاجئين (رغم قبولهم للاجئ كوبا) ، حيث صرح أحد المرشحين لرئاسة بنما " أمريكا اللاتينية لا تعترف بهايتي كدولة من دولها ...أهلها يتكلمون لغة مختلفة ولهم ثقافة مختلفة ...إنهم مختلفون تماما " و يعلق هانتغتون على ذلك قائلا " هايتي هي الجار الذي لا يريده أحد...هي دولة من دون أقارب…"(
.
فحسب هانتغتون " حكومات و شعوب حضارة ما لا يبدلون الدم أو المال لمساعدة شعب من حضارة أخرى يقود حربا من حروب خطوط التقسيم، الاستثناء الوحيد في هذا النمط الحضاري هو الو.م.أ التي كان قادتها يتكلمون لصالح المسلمين البوسنة، إلا أن الدعم الأمريكي كان محدودا من الناحية العمليــة…" (9).
لذلك هو يؤكد أن هذا التلازم بين القرابة العرقية و التدخل الخارجي في النزاعات المتجدرة Deep Rooted المعاصرة (في كوسوفو، إثيوبيا ، ناكارنو-كاراباخ، أبخازيا قبرص …الخ) هو تلازم سببي، فالقرابة العرقية تدفع الدول إلى دعم جماعتها العرقية، حتى أن النزاعات التي يتوفر فيها عامل الاختلاف العرقي هي الأكثر شدة، و طـولا، و الأكثر استقطابا لتدخل دول القربى.
أما عن آليات تأثير الجماعة العرقية على السلوك النزاعي لدول القربى ، فقد أشار هانتغتون أن للقرابة العرقية تأثير نفسي مباشر على صناع القرار في دول القربى ، و يعطي مثالا عندما انفجر الوضع في ناكارنو-كاراباخ صرح أحد صناع القرار الأتراك "من المستحيل أن لا تتأثر و أنت ترى أقاربك يقتلون"(10).
كما يؤثر عامل القرابة العرقية على السلوك النزاعي للدول من خلال تأثيره على المجتمع المدني، والذي يضغط بدوره على صناع القرار للتدخل في النزاع القائم ، ففي النزاع العرقي في القوقاز، صرح أحد القادة الأتراك "نحن واقعون تحت الضغط ، صحفنا مليئة بصور الفضائح ربما يكون علينا أن نجعل أرمينيا ترى أن هناك تركيا عظمى في المنطقة " (11)، و على هذا الأساس يفسر هانتغتون تدخل القوى الإقليمية في نزاع كوسوفو حيث يقول "مواقف الحكومات الألمانية و التركية و الروسية كانت على الأقل متأثرة بجماعات الضغط و الرأي العام في مجتمعاتها…" (12).
و يمكن توضيح تأثير القرابة العرقية على سلوك دول القربى من خلال الشكل الموالي :
الشكل رقم8 : آليات تأثير الجماعة العرقية على تدخل دول القربى في النزاعات العرقية
ملاحظة : قراءة المخطط من اليمين إلى اليسار
المصدر: تصميم الباحث
من خلال المخطط ، نلاحظ أن النزاع العرقي يبدأ أولا على المستوى الوطني، ثم تحرك الجماعة العرقية المجتمع المدني للدولة القربى ، و الذي بحكم القرابة الحضارية يستجيب لطلباتها فيقوم بالضغط على جهاز صناعة القرار الذي يأخذ هذه الطلبات بعين الاعتبار ، ليتم في الأخير اتخاذ القرار، متدرجا في شدته ، حيث يبدأ بالتنديد الدبلوماسي ، فالتحذير ، ثم التدخل العسكري فبعد إغارات الناطو في يوغسلافيا – السابقة - عارض 60 % من الروس قصف الناطو للصرب و سجل 1000 روسي أسماءهم كمتطوعين مع الصرب ضد الكروات و المسلمين ، بعدها جاء التدخل الروسي لصالح الصرب(13).
نستنتج مما سبق أن القرابة العرقية – وفقا لنظرية صدام الحضارات – هي العامل الأساسي الذي يدفع الدول للتدخل لدعم جماعاتها العرقية، فالقرابة العرقية عامل مستقل مفسر، و التدخل الخارجي عامل تابـع.
غير أن الملاحظ في دراسة هانتغتون أنه لم تتعمق في تحليل طبيعة العلاقة بين القرابة العرقية و التدخل الخارجي معتبرا أن التلازم في الحضور كاف لإثبات فكرة أن القرابة العرقية هي الدافع الأساسي للتدخل الخارجي وهذا ما لا يسانده الواقع ، فهناك العديد من التدخلات التي تمت من طرف دول لا تجمعها روابط عرقية بإحدى الجماعات المتنازعة، ولا حتى بالنظام الإقليمي، و هانتغتون نفسه يعجز – مثلا –عن تفسير الدعم الأمريكي لمقاتلي البوسنة –انطلاقا من هذا المنظور- متسائلا " لماذا كانت الو.م.أ أثناء الحرب و بعدها، هي الدولة الوحيدة التي كسرت القالب الحضاري؟ …ما الذي يفسر هذا الشذوذ الأمريكي ؟"(14) .
من جهة أخرى لا يمكن الجزم بأن السلوك النزاعي للدول هي استجابة آلية لضغوطات المجتمع المدني (المساند للجماعة العرقية)،فغالبا ما ترفض الدولة الانقياد إلى الضغوطات الداخلية حتى في الدول الأكثر ديمقراطية كبريطانيا، التي لم تستجب لمعارضة الرأي العام الداخلي و لا الدولي لتدخلها في العراق و كذلك الأمر بالنسبة لأسبانيا(*)، و أثناء الانتفاضة الفلسطينية مارس المجتمع المدني في الوطن العربي كل أشكال الضغط، إلا أن ذلك لم يدفع الدول العربية بصفتها دول قربى للتدخل لصالح الفلسطينيين، فلذلك لا يمكن الجزم بأن ضغوطات المجتمع المدني تحدد السلوك الخارجي للـدول.
كما أن الملاحظ في أغلب تدخلات دول القربى أنها تتجاوز هدفها من حماية جماعتها العرقية إلى التوسع على حساب الدولة المستهدفة، على غرار التدخل التركي في قبرص ففي حين أن القبارصة الأتراك لا يشكلون إلا 18% من سكان الجزيرة إلا أن تركيا سيطرت على 37% من الأراضي القبرصية، و رغم الضمانات التي قدمتها جورجـيا للأقليات الروسية إلا أن القوات الروسية رفضت الانسحاب من إقليمها، فلا وجود لتناسب proportionality بين الهدف و الفعل في أغلب تدخلات دول القربـى(15).
لذلك هناك من يرى أن القرابة العرقية ليست عاملا مفسرا لتدخل الدول، بل هي عامل تابع لا يمكنه إعطاء تفسيرا مقنعا للتدخل الخارجي و قد أطلق على أنصار هذا الرأي بالعقلانيين ، فكيف يفسر العقلانيون تدخل دول القربـى ؟
2.المنظور العقلاني ( الواقعية نموذجا)
يعتبر المنظور العقلاني من أقدم منظورات العلاقات الدولية ، حيث تطور في ظل الواقعية و الدراسات الاستراتيجية، رغم أن جذوره تمتد إلى دراسات التاريخ الدبلوماسي، ويؤكد "غراهام أليسون" أنه المنظور المستعمل حتى في تحليل العامة للعلاقات الدولية(16) .
يأخذ تحليل الظواهر الدولية -من المنظور العقلاني- النمط التالي من الاستنتاج " فلتحليل مشكلة نشر الصواريخ السوفيتية في كوبا، نتساءل : لماذا قرر USSR نشر الصواريخ في كوبا ؟ ثم نختار وحدة التحليل "الدولة" ، بعدها نركز على بعض المفاهيم "على رأسها الأهداف"، لنضع بعدها فرضيات مثل " إذا قامت الدولة بهذا الفعل فذلك لأن لها هدف من هذا الـنوع "(17).
و يمكن إبراز عناصر هذا المنظور انطلاقا، من ما يعتبره Khun " العناصر الأساسية التي تشكل المنظور" : كتحديد الفواعل ، طبيعتها، ديناميتها ، طريقة التحليل (18).
1.الفواعل : هي الدول كفاعل موحد Unified و منسجم ؛
2.طبيعة الفاعل : الفاعل عقلاني لأنـه :
- يبني سلوكه على أساس البيئة الخارجية : توزيع القوى داخل النظام الدولي و سلوك الطرف الآخر وهذا يستلزم الفصل بين البيئة الداخلية الخارجية في التحليل ؛
- يملك المعلومات الكافية و التحليل السليم لها ؛
- يختار من البدائل البديل الأمثل استنادا إلى قانون الاستزادة من المنفعة و الإنقاص من الخسارة ؛
1.ديناميكات التفاعل : تحقيق المصلحة المحددة بالقوة، والأمن الوطني وما يتطلبه ذلك من الاستزادة من القوة Maximization of power ، في هذا الإطار يقسم مورغانتو أهداف الدول إلى :
- زيادة القـــوة : بإتباع سياسة توسعية ؛
- الحفاظ على القوة : بإتباع سياسة الحفاظ على الوضع الراهن ؛
- إظهـار القــوة : بإتباع سياسة عرض القوة (19) Prestige ؛
3. طريقة التحليل : يجب التركيز على الفعل في حد ذاته، و ذلك بالوقوف موقف صانع القرار و تصور الأهداف التي سعى لتحقيقها من ورائه، يقول مورغانتو " نضع أنفسنا مكان رجل الدولة الذي يواجه بعض مشاكل السياسة الخارجية، تحت بعض الظروف، ثم نتساءل : ما هو البديل الذي يمكن لصانع القرار اختياره لمواجهة المشكل تحت هذه الظروف مع افتراض أنه يتفاعل دوما بطريقة عقلانية" (20).
هذه باختصار أسس المنظور العقلاني، والتي أنطلق منها العديد الباحثين في تفسير طبيعة العلاقة بين القرابة العرقية و تدخل الدول في النزاعات العرقية .
ففي تحديدهم لدوافع الدول من التدخل في النزاعات العرقية، و العلاقة بين عامل القرابة العرقية و التدخل الخارجي، يرى أنصار هذا المنظور أن التلازم بين التدخل الخارجي و القرابة العرقية لا يعني أن العلاقة بينهما سببية: فالجماعة العرقية ليست إلا أداة تستعملها الدول لتحقيق مصالحها و القرابة العرقية ما هي إلا قناع يفيد في تبرير التدخل، وجعله مقبولا لدى البيئة الداخلية، والخارجية في حين يبقى الهدف الحقيقي كامن وراء المصلحة المحددة بالقوة (21).
فلا يمكن - حسب أنصار التفسير العقلاني- اعتبار عامل القرابة العرقية السبب الأول لتدخل الدول في النزاع العرقي، نظرا " لغياب التماثل" بين الهدف goal و الكلفة cost ، فمن الممكن أن تقوم الدولة بالتنديد الدبلوماسي أو فرض عقوبات اقتصادية أو قطع العلاقات الدبلوماسية كأقصى استجابة ضد الدولة المضطهدة لأقليتها، أما أن تختار بديل بهذا الكلفة (التدخل العسكري المباشر و التورط في نزاع طويل و مكلف)، فلا يمكن إيعاز سلوكها إلى القرابة العرقية و لكن إلى هدف آخر سواء ترتبط بزيادة القوة (التوسع)، الحفاظ على القوة ( تحقيق الأمن)، إظهار القوة ( لردع سلوك معيـن).
فقد تهدف الدول من خلال دعمها لجماعتها العرقية في دول أخرى إلى زيادة القوة أو التوسع على أرضي جماعة العرقية، كرغبة صربيا و كرواتيا في التوسع على الأراضي التي تقطنها جماعاتهما في كوسوفو، أو الدور الذي تلعبه روسيا كدولة قربى لـ 25 مليون روسي يعيشون في 14 دولة منهم مليون في أوكرانيا، 6.5 مليون في كازاخستان، مليونان في البلقان)