الجزء الأول: الإطار النظري للدراسة
سنتناول في هذا الجـزء فصلين: فصل تمهيدي نحدد من خلاله المفاهيم، وفصل نعرض فيه دور التدخل الخارجي لدول القربـى Kin-States – أي الـدول التـي تجمعها روابط عرقية بإحدى الجماعات المتنازعـة – في النزاعات العرقيـة.
الفصل الأول : تحديد المفاهيم
المبحث الأول : مفهوم التدخل الخارجي
سنحاول في هذا المبحث تحديد مفهوم إجرائي للتدخل الخارجي، من خلال تعريفه وعرض أهم أشكاله، وكذا إطاره القانوني.
1. تعريف التدخل الخارجي :
التدخل لغة(*): مشتق من الكلمة اللاتينية Intervenire و التي تعني حسبEppstein التموضع بين شيئين interposition (1) و يستعمل بمعنيين: معني "سلبي" interference ليشير إلى الاعتداء والتعرض لشؤون الغير، و بمعنى "إيجابي" كالتوسط في الخصومات(2).
أما اصطلاحا فيمكن التمييز بين نوعين من التعاريف، التعريف القانوني و السياسـي :
1.التعريف القانوني للتدخل الخارجي : يعتمد أنصاره على عامل الشرعية في تعريفهم للتدخل، و يمكن التفرقة في إطاره بين التعريف الجامد و المرن :
- التعريف الجامد : يعرف التدخل بأنه " سلوك غير قانوني موجه لانتهاك سيادة الدول نظرا لتعارضه مع المادة 2 الفقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة "، في هذا الإطار يرى Lauterpacht أن التدخل مصطلح تقني يشير إلى كل سلوك تقوم به دولة يمس استقلال و سيادة دولة أخرى"(3).
أماOppenheim فاعتبر أن جوهر التدخل الخارجي هو الإكراه Compulsion ، لذلك يعرفه بأنه "سلوك دكتاتوري تقوم به دولة في شؤون دولة أخرى لإرغامها على فعل معين"(4).
يستبعد تعريف أبنهايم أن يكون الامتناع عن الاعتراف الدبلوماسي بحكومة ما، أو الاحتجاج على فعل خاطئ، أو قطع العلاقات الدبلوماسية أو مقاطعة منتجاتها، تدخلا خارجيا(*)، فلا يمكن اعتبار السلوك تدخلا إلا إذا كان عنصر الإكراه فيه بارزا، فكل استعمال أو تهديد باستعمال القوة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى سواء بطريقة مباشرة أو بدعم جماعة انفصالية أو إرهابية يعتبر تدخلا وفقا للقانون الدولي.
كما اعتبرت محكمة العدل الدولية أيضا " أن عنصر الإكراه هو أساس تعريف التدخل المحظور، خاصة إذا تم فيه استعمال القـوة"(5).
غير أن حصر التركيز على عامل الإكراه في تعريف التدخل، يفتح المجال أمام آلياته الأخرى مثل الدعاية الإعلامية التي قد يكون لها تأثير أكبر من الإكراه، فقد تقوم دولة بتحريك جماعاتها عرقية في دولة أخرى عن طريق الدعاية، والتي أصبحت آلية حساسة في عصر العولمة.
يتفق أنصار هذا التعريف حول فكرة أن التدخل الخارجي هو سلوك غير قانوني تقوم به دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى و هو نشاط يهدد الأمن و الاستقرار الدولي (6) .
- التعريف المرن : حـاول البعض – على غرار Stowell –إعطاء تعريف آخر يشمل التدخلات الشرعية أو التي تتم في إطارا هيئة الأمم المتحدة ، لذلك هم يرون أن التدخل بمفهومه الواسع "هو كل سلوك خارجي يستهدف الشؤون الداخلية للدول، قد يكون شرعيا أو غير شرعيا و قد يساهم في إثارة النزاعات الدولية وتصعيدها كما قد يساهم في تسويتها(7).
فهذا التعريف يخرج التدخل من كونه سلوك غير شرعي ، فقد يكون وسيلة لحماية الشرعية الدولية في إطار ما أصطلح عليها البعض بالتدخل الإنسانيHumanitarian intervention .
غير أن موقف ثالث يرى أن الأصل في التدخل الخارجي أنه سلوك غير قانوني أما التدخل الشرعي فيبقى الاستثناء و ليس القاعدة(
.
2.التعريف السياسي للتدخل الخارجي : إذا كان التعريف القانوني قد ركز على عامل شرعية أو عدم شرعية التدخل الخارجي ، فإن باحثي العلاقات الدولية ركزوا في تعريفهم على العامل السياسي الديناميكي للتدخل ، حيث يرى هانس مورغانتو " بأنه مند عهد اليونان القديم إلى يومنا الحالي تجد بعض الدول منفعة في التدخل في شؤون دول أخرى غصبا عنها ، لتحقيق مصالحها الخاصة" و يتفق معهLina في ذلك حيث يرى " بأن التدخل الخارجي هو سلوك إكراهي تقوم به دولة اتجاه دول أخرى لتفرض عليها إتباع سياسة غير التي كانت تتبعها "، وهذا ما أكده أيضا جيمس روزنو عندما قال " إن السعي لتغيير البنايات السياسية الداخلية للدولة المستهدفة Targeted state هو أساس أي تدخل الخارجي " (9).
و التأثير على البنايات السياسية للدولة المستهدفة قد يكون:
- إما بتغيير الوضع القائم داخل الدولة على غرار ما أكده القاموس الموسوعي الفرنسي عندما عرف التدخل بأنه "سلوك يهدف إلى قلب الوضع القائم في دولة ما"(10)،وغالبا ما يكون بدعم القوى المناهضة و الانفصالية؛
- أو بالحفاظ على الوضع القائم على غرار ما جاء في قاموس Oxford حين عرفه " بأنه سلوك تقوم به الدولة لمنع حدوث تغيير ما في دولة أخرى " (11) و عادة ما يكون بدعم الحكومة القائمة.
- هذا و قد يقتصر هدف الدولة المتدخلة على تغيير سلوك النظام السياسي و ليس النظام في حد ذاتـه.
أما Reagan فأضاف في تعريفه الوسيلة التي يتم بها التدخل، حيث عرفه "بأنه سلوك يتضمن نشاطات اقتصادية و عسكرية موجهة نحو الشؤون الداخلية لدولة أخرى تستهدف البنايات السياسية تسعى إلى التأثير على موازين القوى بين الحكومة و قوى المعارضة " (12)، وهو تعريف أقرب للتدخل الخارجي الغير مباشر الذي يتم بدعم القوى المعارضة.
في حين يرى Aron Young أن " التدخل الخارجي يشير إلى نشاطات منظمة، موجهة إلى حدود معترف بها و تهدف إلى التأثير على البنية السياسية للهدف" (13).
انطلاقا من التعاريف السابقة نستنتـج:
1. أن الأصل في التدخل الخارجي أنه سلوك غير قانوني يهدد الأمن و الاستقرار الدولي لذلك يعتبر مبدأ عدم التدخل هو القاعدة ، و التدخل الشرعي هو الاستثناء؛
2. أنه يتضمن العنصر الإكراهي ، حيث يتم من دون رضا الدولة المستهدفة و بالتالي لا يشمل هذا التعريف تدخلات هيئة الأمم المتحدة ، و التدخلات بالدعوة By invitation ؛
3. أنه سلوك موجه أساسا نحو الشؤون الداخلية لدول أخرى معترف بحدودها؛
4. أنه يستهدف إحداث تغيير داخلي في البني السياسية للدولة ، سواء بالحفاظ على الوضع القائم أو بتغييره؛
5. أنه سلوك تقوم به الدول ، و ذلك ليس نفيا لدور الفواعل الأخرى ( كالمنظمات الدولية…) بل لأنها الفاعل الأكثر تأثيرا ، فرغم كثرة الفواعل السياسية لازالت الدول تتصدر العلاقات الدولية المعاصرة؛
6. أنه وسيلة من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجية ؛ و في هذا الإطار يقول هانس مورغانتو أنه "رغم كونه قديم و وسيلة مهمة من وسائل السياسة الخارجية على غرار الدبلوماسية و الحرب ، لم يستقطب التدخل نفس الاهتمام من طرف دارسي العلاقات الدولية بالمقارنة مع الوسائل الأخرى " (14).
استنادا إلى هذه المعايير ننطلق في دراستنا من التعريف الإجرائي التالـي :
" التدخل الخارجي هو السلوك الذي تقوم به الدول في الشؤون الداخلية لدولة أخرى بلا دعوة منها ، تهدف من خلاله سواء لقلب الوضع الداخلي السائد ( وعادة بدعم الجماعات الانفصالية) أو الحفاظ عليه (بدعم الحكومة القائمة ) سعيا لتحقيق مصالحها وقد يتخذ شكلا مباشرا ، أو غير مباشر ، غالبا ما يؤدي إلى إثارة النزاعات الداخلية أو المساهمة في تصعيدها و استمرارها ".
وقد يأخذ التدخل الخارجي أشكالا مختلفة، سنوضحها في العنصر الموالي.
2.أنماط التدخل الخارجي
يمكن التمييز بين عدة أشكال من التدخل الخارجي وفقا لعدة معايير، فهناك من اعتمد على عامل الأطراف المتدخلة ليقسمه إلى : تدخل أحادي ( كالتدخل البريطاني في السيراليون )، التدخل الثنائي ( كالتدخل الأنجلو-أمريكي في أفغانستان و العراق ) و التدخل الجماعي ( على غرار التدخلات التي تمت في إطار هيئة الأمم المتحدة ، أو تدخل الناطو في كوسوفو )، أو استنادا إلى عامل الشرعية إلى تدخل شرعي و غير شرعي إلا أننا فضلنا تصنيفه على أساس هدف الطرف المتدخل لكونه يتضمن في حد ذاته الأصناف السابقة، و على هذا الأساس يمكن التمييز بين:
1.التدخل الهجومي : Offensive تهدف من خلاله الدول إلى توسيع نفوذها ، و قد يظهر في شكل استعماري مباشر على غرار الحملات الاستعمارية الأوروبية ، فإذا كان التدخل استيطاني ، تفقد الدولة المستهدفة سيادتها تماما ، و تفقد جزءا منها إذا كان انتدابا ، و قد يكون عن طريق قصف عسكري متقطع و مفاجئ على غرار القصف الأنجلو-أمريكي للعراق و السودان و ليبيا…الخ.
كما تتدخل الدول عندما تجد فرصة في النزاع القائم لتحقيق مصالح معينة أو إضعاف الدولة المستهدفة لحسم قضايا عالقة بينهما(15) ، أو كانتقام من دعم الدولة المستهدفة لأقليات الدولة المتدخلة على غرار الدعم الإريتـري للانفصاليين في السودان كرد على الدعم السوداني للأقليات الصومالية في اريثريا، الدعم الروسي للأكـراد في تركيا كرد على دعمها للانفصاليين الشيشان.
2.التدخل الدفاعي Defensive : و هو التدخل الذي تقوم به الدول دفاعا عن أمنها : فقد يشكل النزاع الداخلي القائم في دولة ما تهديدا لأمن و مصالح الدولة المتدخلة خاصة إذا كانت تقاسمها الجوار الجغرافي ، لذلك غالبا ما يساهم هذا النوع من التدخل في حصر النزاع و منع انتشاره على غرار التدخل الفرنسي في إقليم الباسك ، التدخل النيجيري في ليبريا، التدخل الأوروبي في كوسوفو كذلك التدخل التركي في شمال العراق و الصينـي في أوزباكستان .
كما يشمل هذا النوع أيضا التدخلات الوقائية التي تقوم بها الدول، لمنع تهديدا متوقعا من الدولة المستهدفة، و يمكن تصنيف التدخلات الأمريكية لما بعد 11 سبتمبر في هذا الإطار .
رغم ذلك يبقى من الصعب التمييز بين التدخل الدفاعي و الهجومي، فاغلب الدول المتدخلة تعتبر أن تدخلاتها دفاعية، حتى أن التدخل الأمريكي في العراق و أفغانستان بالنسبة للو.م.أ تدخلا دفاعيا يهدف إلى حماية الأمن الأمريكي من تهديد مستقبلي يقوم به نظام طالبان أو نظام صدام حسين لذلك يبقى مفهوم التدخل الدفاعي قابلا للتأويـل.
التدخل الإنسانيhumanitarian : برز هذا الشكل من التدخل أساسا مع الدور الذي لعبته المنظمات الإنسانية في النزاعات الدولية ، ثم أصبح يشمل التدخل العسكري الجماعي في إطار هيئة الأمم المتحدة في الدول التي تنتهك فيها حقوق الإنسان على غرار التدخل شمال العراق، هايتي الصومال، و البوسنة والهرسك …الخ (وفقا للمادة 42 من الفصل السابع من الميثاق)(16).
و رغم أن الفقرة الأولى من المادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه " لا يجب القيام بأي فعل إكراهي سواء تحت ترتيبات إقليمية أو منظمات إقليمية بدون موافقة مجلس الأمن"(17) إلا أن العديد التدخلات الخارجية - التي حملت شعار حقوق الإنسان - تمت بدون قرار من مجلس الأمن على غرار تدخل حلف الناطو في كوسوفو1999 و تدخل بريطانيا في السيراليون 2000 …الخ .
و كنتيجة لذلك بدأت تظهر معالم أولوية المشروعية على مبدأ الشرعية في التدخل الخارجي فالو.م.أ تدخلت في كوسوفو و أفغانستان والعراق من دون شرعية أممية ، كما أنشأ – من جهته-الاتحاد الأوروبي قوات التدخل السريع التي تقوم بالفصل في النزاعات الداخلية على مستوى القارة الأوروبية وباقي أنحاء العالم ، بغض النظر عن مدى شرعيتها (18)).
من جهة أخرى لا توجد معايير واضحة تسمح بالتمييز بين التدخل الإنساني و الدكتاتوري فكل التدخلات تدعي أن هدفها تحقيق مبادئ إنسانية سامية، رغم أن أغلب التدخلات الإنسانية لم تتم في الدول التي تعرف أزمة إنسانية حادة ، على غرار الكونغو، أنغولا، الزائير، البورندي، غرب إفريقيا الشيشان، كشمير، بورما في حين استهدف الدول التي بدأت تشهد تحسنا داخليا على غرار العراق(19) وفي هذا الإطار يقولGarkinkel Adam "أحيانا تقوم الو.م.أ بالتدخل الإنساني كما حدث في كوسوفو وأحيانا أخرى تعزف عن ذلك على غرار رواندا و السيراليون، وفي بعض الأحيان تتدخل كفاعل رئيسي على غرار البوسنة وتارة أخرى كفاعل مساعد على غرار تيمور الشرقية "(20).
من جهته أكد نعوم شومسكي و إدوارد سعيد، أن ما يعرف بالتدخل الإنساني ما هو إلا تسويق أكاديمي للسياسة التدخلية الأمريكية " فكيف يمكن اعتبار التدخل في كوسوفو تدخلا إنسانيا في الوقت الذي قامت به الو.م.أ مع تركيا إحدى أكبر الدول انتهاكا لحقوق الإنسان ضد القبارصة و الأكراد؟ وكيف يمكن تفسير السكوت الأمريكي على ما يحدث من قمع إسرائيلي شبه يومي ضد الفلسطينيين؟"(21).
حتى أن التدخل الأمريكي في الصومال – والذي يعتبره البعض نموذجا للتدخل الإنساني- لم يكن حسب Schrader Peter تدخلا جادا فعندما سؤل أحد الضباط عن سبب عدم تسخير قوة أكبر أجاب "هذه إفريقيا و ليست أوروبا "! (22).
كما أن التدخل الإنساني بهذا المفهوم، يعتبر تحديا خطيرا للشرعية الدولية و سيادة الدول الضعيفة فغالبا ما تخفي الدول أهدافها التوسعية والإستراتيجية وراء مبرر التدخل الإنساني (و حالة العراق خير مثال ) في هذا الإطار صرح هنري كسنجر " إن العمل على تعويض حكومة بأخرى مكانها سيجعلنا أمام مسئوليتنا حول نظام السلام الذي سن عام 1648 م في وستفاليا و الذي يرتكز على عدم السماح بتدخل الدول الأجنبية في الشؤون الداخلية لدول ذات سيادة "(23)
لذلك فرغم التحولات التي مست العلاقات الدولية، وبداية بروز التبريرات المختلفة للتدخل الخارجي إلا أن مبدأ عدم التدخل لازال يمثل الأساس القانوني للعلاقات الدولية المعاصرة ، وهذا ما سنعالجه في المطلب الموالي.
3.الإطار القانوني للتدخل الخارجي
لقد كان لنتائج الحروب التي عرفتها أوروبا تأثيرا كبيرا على بروز مبدأ عدم التدخل، كوسيلة لكبح السياسات التوسعية، ومنع انتشار النزاعات الداخلية، تفاديا لما حدث في حرب الثلاثين عاما حين تحولت الحروب الداخلية بين الكاثوليك، و البروتستانت إلى حرب دولية بعد تدخل الأطراف الإقليمية فجاءت اتفاقية وستفاليا سنة 1648 م لتضع أسس مبدأ عدم التدخل بعد إقرارها بالمساواة و احترام سيـادة الدول الأعضاء(24).
ثم تطور المبدأ في إطار عصبة الأمم المتحدة، حيث جاء في المادة 10 من الميثاق "على كل دولة عضو في العصبة احترام و ضمان سلامة إقليم الدول الأعضاء و استقلالها السياسي ضد أي اعتداء خارجي"(25)، رغم ذلك اقتصر تطبيقه على العلاقات بين الدول الأوروبية فقط، في حين بقيت العديد من الدول الأخرى تحت نير الاستعمار الذي قننه ميثاق العصبة في المادة 22، حيث جاء فيها " هناك شعوب غير قادرة على إدارة نفسها بنفسها لذلك يعتبر تقدمها و ازدهارها مهمة حضارية على عاتـق الدول المتمدنة" (26.
و بظهور هيئة الأمم المتحدة –بعد الدمار الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية- قررت الدول الكبرى وضع أسس قانونية تضبط الأطماع التوسعية حفاظا على التوزيع القائم للقوى ، فكان مبدأ عدم التدخل إحدى الأسس المهمة لتحقيق ذلك حيث جاء في المادة 2 الفقرة 4 من ميثاق الأمم المتحدة " يجب على الدول الإحجام عن استعمال القوة أو التهديد باستعمالها بطريقة تتعارض مع أهداف الأمم المتحدة ضد الوحدة الوطنية و الاستقلال السياسي للدول الأخرى " (27). كما جاء في الفقرة 7 من نفس المادة " ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما "(28)، و رغم إقراره هو الآخر بنظام الوصاية في المادتين 76 و 81 إلا أنه ساهم في استقلال العديد من الدول انطلاقا من مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.
من جهة أخرى ساهمت قرارات الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية في توضيح و تفسير هذا المبدأ، حيث جاء في قرار الجمعية العامة رقم XXV) 2625 ) الصادر عام 1970 في تفسيره للمادتين 4.2-7.2 " ليس لأية دولة حق التدخل مباشرة أو غير مباشرة في الشؤون الداخلية أو الخارجية للدول الأخرى مهما كان الدافع، و عليه كل أنواع التدخل العسكري، أو محاولة التهديد ضد أشخاص الدولة أو عناصرها السياسية، الثقافية و الاقتصادية، هو اختراق للقانون الدولي، فلكل دولة حق اختيار نظامها السياسي، الاقتصادي الاجتماعي، و الثقافي من دون تدخل دول أخـرى" (29).
و جاء في قرار محكمة العدل الدولية الصادر في 27 يونيو 1989 "من الواجبات و الالتزامات التي احتواها القانون الدولي، و كذلك المواثيق و المعاهدات الجماعية، و القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية، واجب جوهري يفرض على كل دولة الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة أخرى أو في العلاقات بين الدول، و يقع هذا الواجب أيضا على أشخاص القانون الدولي مثل المنظمات الدولية التي ظهرت حديثا على المستوى العالمي و الإقليمي"(30) .
كما حظرت محكمة العدل الدولية التدخل بصنفيه المباشر و الغير مباشر: فحول التدخل العسكري المباشر جاء في القرار " يظهر التدخل اللاشرعي في حالة تدخل تستعمل فيه القوة بشكل مباشر…" (31=)، أما بخصوص التدخل الغير مباشر فجاء في إحدى قراراتها " إن دعم دولة للعصابات المسلحة في دولة أخرى بغرض قلب حكومتها يعتبر سلوكا غير شرعي مهما كانت دوافعـه…" (31).
غير أن ميثاق الأمم المتحدة أستثنى بعض أشكال التدخل مثل التدخل التي يتم بقرار من مجلس الأمن وفقا للمادة 42 من الفصل 7 من الميثاق، كذلك في حالة الدفاع الذاتي على غرار ما نصت عليه المـادة 51.(32)
و رغم وضوح النصوص القانونية حول لاشرعية التدخل الخارجي، إلا أنها غالبا ما تخترق من طرف القوى الإقليمية و الدولية، و يرجع ذلك أساسا إلى غياب سلطة دولية رادعة في ظل مجتمع الفوضـى– على حد تعبير Hedley Bull - بالإضافة إلى تعارض مبادئ أخرى مع مبدأ عدم التدخل كحق الدفاع الذاتي Self Defense الذي أقرته المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والذي اتخذته العديد من الدول كتبرير لتدخلاتها الخارجية في إطار ما أصبح يعرف بالتدخل الوقائي أو الضربات الإستباقية(33) .
كما وفر مبدأ حماية حقوق الإنسان و الأقليات البيئة الملائمة للتدخل الخارجي حيث أصبحت الدول تتخذ منه ذريعة للتدخل في الدول الأخرى على غرار التدخل الروسي في أبخازيا، التدخل الصربي الكرواتي في كوسوفو التدخل التركي و الإيراني في إقليم ناكارنو- كاراباخ، التدخل الأمريكي في الصومال و العراق و كوسـوفو و التدخل البريطاني في سيراليون…الخ .
ولقد بدأ الترويج لمبدأ حماية حقوق الإنسان و الأقليات أساسا في مطلع القرن التاسع عشر ليلازم الحركة الاستعمارية، حيث أشارت إليه اتفاقية فينا (1814-1815 ) في إطار الحرية الدينية والمساواة السياسية، كما ساهمت الحركة الصهيونية في نشره على المستوى الدولي من خلال مطالبتها بحقوق الأقليات اليهودية في الدول الأوروبية (34).
من جهة أخرى ساهمت العديد من المواثيق و الاتفاقات في إقرار هذا المبدأ على غرار إعلان حق تقرير المصير الذي جاء في بيان الحركة الاشتراكية العالمية عام 1918 م و كذا اتفاقيات مؤتمر السلام في فرساي (1919-1920) وصولا إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10/12 / 1948) الذي منع التمييز على أساس العرق، الدين، اللون أو الاتجاه السياسي و الذي أكده إعلان الأمم المتحدة الصادر في (10 /12 /1992) و الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات عرقية مختلفة رغم أنه لم يعترف بالجماعة العرقية كشخص من أشخاص القانون الدولي بل كأفراد ينتمون إلى ثقافـة أو سلالة معينـة(35).
فقد كان و لا يزال التدخل لحماية الأقليات و حقوق الإنسان عموما يمثل تحديا أساسيا لمبدأ عدم التدخل، حيث استغلت العديد من الدول انتشار جماعاتها العرقية في دول أخرى كذريعة لتدخلها سواء مباشرة باحتلال الإقليم الذي تقطنه الأقلية، أو بطريقة غير مباشرة من خلال دعمها للحركة الانفصاليـة للضغط على النظام السياسي القائم في الدولة المستهدفة، كما وجدت الدول الكبرى في مبـدأ حمايـة حقـوق الإنسان و الأقليات ذريعة قوية لتبرير تدخلاتها في الشؤون الداخلية لدول أخـرى، مما ساهم في تقوية الحركات الانفصالية و تحريك العديد من النزاعات العرقية التي عرفت انتشارا واسعا في النظام الدولي المعاصـر.
و قبل التطرق إلى العلاقة بين التدخل الخارجي و النزاعات العرقية، ارتأينا الإشارة أولا إلى مفهوم العرقيـة و النزاع العرقي كإحدى المفاهيم الجديدة التي يكتنفها الغموض .
المبحث الثاني : مفهوم العرقية
يعتبر مفهوم العرقية من المفاهيم الغامضة التي يتداخل معناها مع العديد من المفاهيم الأخرى، سنحاول في هذا المبحث التطرق إلى دلالته اللغوية، و الاصطلاحية و إلى الفرق بينه و بين المفاهيم المشابهة، لنخلص بتعريف إجرائي يكون أساس دراسـتنا.
1. تعريف العرقية :
أ). العرقية لغة: مشتقة من الكلمة الإغريقية إثنوس έŐύŎçوالتي تعني حسب أرسطو أمة أو الجماعة المؤسسة على علاقات عائلية، أو التي تنحدر من نفس الأصل، عكس المدينة Polis التي تشير إلى مجتمع مؤسس على تنظيم سياسي .
أطلق قدماء اليونان مصطلح العرقية على الغرباء و المتوحشين wild people ، ثم انتقل إلى اللغة اللاتينية ليصبح ethnicum، ليقترب من نفس الدلالة اليونانية، حيث وصف به الكفار les infidèles و الغرباء من غير المسيحيين و اليهود .
استمر استعمال المصطلح بلفظته الإغريقية إلى بداية القرن العشرين ، حيث ترجم للألمانية إلى das ethnikon و الإنجليزيةethnic و الفرنسية ethnie ، أما الإسبانية و البرتغالية والإيطالية فاستعملوا كلمة ethnia بدلا منethnos ، و يؤكد و ورسلي أن كلمة ethnicity ليس لها مرادف في اللغة الإنجليزية و أصلها الإغريقي هو أمة .
في اللغة العربية نقلت الكلمة بترجمتين، حيث ترجمت حرفيا إلى " إثنية " ودلاليا إلى "عرقية "، ويقل استعمال مصطلح إثنية من طرف الباحثين العرب، عكس " العرقية " حتى أن أغلب القواميس العربية تترجم ethnicity إلى "عرقية" بدلا من إثنية(*).
و هناك من يعارض استعمال كلمة "العرقية" لأنها ذات دلالة ضيقة ترتكز على السلالة و تهمل باقي العناصر، إلا أن هذا الرأي يخلط بين الجماعة العرقية و الجماعة السلالية التي تعتبر جزء منها، فالعرقية أوسع من الجماعة السلالية ، فهي ترتكز على العديد من المقومات ( الدين اللغة والعادات…الخ) و ليس على عامل السلالة فقط (*).
اختلف الباحثون حول أول من أخرج المفهوم من دلالته التحقيرية péjorative و أدخله المجال العلمي حيث يعتقد البعض أن David Riesman هو أول من أدخل المفهوم بمعناه المعاصر عام 1953 ليشكل قطيعة مع المفهوم السلبي و التحقيري ، في حين يرى آخرون أن vacher de lapouge هو أول من استعمل المصطلح في كتابه les sélections sociales عام 1896 حيث انتقد فيه النظرة الستاتيكية للعرقية، و فضل النظرة الديناميكية ، و الحقيقة انه من الصعب التأريخ للمفاهيم في العلوم الاجتماعية فغالبا ما تستعمل المفهوم بدلالات مختلفة.
هذا عن التعريف اللغوي للعرقية ، فما هو تعريفها الاصطلاحي ؟
ب. العرقية اصطلاحا : اختلف الدارسون في تعريفهم للعرقية ويظهر الاختلاف في عنصرين :
- اختلاف حول المعيار أو المعايير التي تقوم عليها العرقية
- الاختلاف حول طبيعة العرقية هل هي موجدة فعلا أم لا تعدو أن تكون وحدة سيكولوجية .
سنحاول التركيز على العنصر الأول لأن العنصر الثاني و لأهميته –في دراستنا – خصصنا له مبحثا مستقلا في إطار تعريف النزاع العرقـي.
يرجع الاختلاف في تحديد المعايير التي تقوم عليها العرقية إلى اعتبارين :
1.بناء الباحثين لتعاريفهم على حالات محدودة و التعميم علي باقي الحالات: هذا ما يجعل التعريف ضيقا، كالاعتماد على عامل الجنس، أو الدين، أو اللغة، وإهمال باقي العوامل الأخرى، فعدم انسجام الظاهرة يتطلب الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بينها، فقد نجد عامل الدين أساسي في النزاع العرقي في أيرلندا، و الهند، و عامل الجنس في الو.م.أ و جنوب إفريقيا و اللغة في الحركة الكيبكية بكندا و البربر في الجزائر …الخ، و قد تتداخل هذه العوامل فمثلا نجد الدين واللغة في الهند، أو في قبرص أين تجتمع كل العوامل باستثناء العامل الفيزيولوجـي.
2. كما ينبع الاختلاف عن اعتبارات سياسية محضة: على غرار الجدل الذي دار بين الباحثين الألمان و الفرنسيين، فكل طرف يحاول التركيز على العامل الذي يجعل من إقليم الألزاس المتنازع عليه آنذاك من حق دولته، حيث يقول المؤرخ الفرنسي فوستل دوكولانج " قد يكون الألزاسيون ألمانا باللغة و لكنهم فرنسيون بالنزعة و المشيئة"9، في حين يؤكد المفكرون الألمان على عامل اللغة و التاريخ حيث يقول مرمسن "ربما يكون الألزاسيون قد فقدوا وعيهم القومي لكنهم لا يزالون ألمانا باللغة فمن حقنا نحن الألمان بل من واجبنا أن نوقظ هؤلاء من سباتهم و نعيد إليهم وعيهم و نحي شعورهم بقوميتهم"10 .
فتعريف العرقية ليس بالقضية العلمية فقط، بل قضية سياسية و قانونية معقدة قد تفتح المجال أمام الحركات الانفصالية، لذلك تستعمل الدول مصطلحاتها الخاصة و الفضفاضة في تسميتها فالدستور السوفيتي و اليوغسلافي يستعملان مصطلح القوميات Nationalités أما الدستور الروماني فيفضل اسما أكثر إغراء القومية المتعايشة أو المسالمة " nationalités cohabitantes أما الدستور البلجيكي فيستعمل مصطلح الجماعة الثقافية 11 .
تركز بعض تعاريف العرقية على عامل الثقافة* على غرار Will Moore حيث يعرفها بأنها " جماعة تمتاز بلغة و تاريخ و دين مشترك يميزها عن الآخرين أو تتميز من خلالهم "12 ، وهذا ما تبناه قاموس OXFORD الذي جعل العرقية "تضم، القبيلة tribe الأمة nation، التي تمتلك ثقافة أو تقاليد ثقافية تميزها "، ليهملا بذلك العامل الفيزيولوجـي13.
في حين تدمج تعاريف أخرى بين العامل الثقافي والفيزيولوجي على غرارRichmond Anthony * لذي يرى أن العرقية " تجمع بشري يشترك أفراده في بعض المقومات الفيزيولوجية (كوحدة الأصل) والثقافية ( اللغة الدين التاريخ و غيرها من المقومات الغير المادية)14.
كما يضيف باحث آخر عامل " العيش في مجتمع أرحب" فيقول العرقية "جماعة تشعر بالتمايز سواء الفيزيولوجي أو الثقافي عن الجماعة أو الجماعات التي تعيش معها داخل المجتمع15 " ليتفق بذلك مع Fredrik Barth الذي يرى أنه لا يمكن تعريف العرقية في إطار منعزل بل يجب إدخالها في "علاقة"، فلا توجد جماعة عرقية إلا بالنسبة "لأخرى" و مجال الدراسة هو الخط الذي يفصل بينهما16
و نفس العامل نجده في تعريف قاموس كامبردج " هي جماعة سلالية أو قومية تعيش في دولة أين توجد جماعة أكبر من مختلف السلالات و القوميات "17.
في حين يضيف ذ.سعد الدين إبراهيم عامل آخر، و" هو إدراك هذه الجماعة لاختلافها" فوجود هذه العوامل لوحدها لا يكفي حيث يقول: " إن الوعي بالاختلاف هو أساس تكوين أي جماعة عرقية و طبقا للضغوط و العوامل الجدلية المحيطة بهذه الجماعة و حجمها و تركيزها الجغرافي يتوقف احتمال و توقيت تحولها إلى حركة قومية " فليس الخصائص العرقية هي المهمة في هذه الجماعات ولكن إدراكها لذاتها هو الأهم (18) .
و هذا ما أكد عليه Horowitz الذي يرى" أن الجماعة العرقية تعرف بالمعايير التي تجعلها تختلف عن الباقي ، مثل اللون ، المظهر ، اللغة ، الدين و معايير أخرى كالأصل المشترك " ، فالعرقية حسب رأيه أقرب من مفهوم ماكس فيبر حول الاعتقاد الذاتي بالأصل المشترك subjective beliefs of common descent فهي تضم الجماعات التي تتميز باللون واللغة والدين و تشمل القبائل tribes السلالات و القوميات18*.
من خلال هذه التعاريف نستنتج ما يلي :
1. هناك معيارين أساسيان في تعريف العرقية: المعيار الثقافي ( و الذي يضم اللغة التاريخ العادات و التقاليد...)، والمعيار الفيزيولوجي (و الذي يضم الجنس، الأصل ، و لون البشرة ، الرقعة الجغرافية، العيش في مجتمع أرحب ...)؛
2. ليس بالضرورة أن تتحقق كل هذه المعايير في العرقية، حيث تختلف من جماعة إلى أخرى ؛
3. يجب أن تكون العرقية واعية بالاختلاف كشرط لتشكيل وحدة، و قد يساعد التمييز العنصري كثيرا في ذلك، فمثلا السود في الجزائر أو في المملكة السعودية لا يشعرون بتمايزهم عن باقي المجتمع الأمر الذي لم يدفعهم إلى التكتل في شكل جماعة على غرار السود في الو.م.أ... فلا وجود لشيء إلا في عقل يدركه* ؛
4. يجب أن توجد الجماعة العرقية في مجتمع ارحب تختلف عنه و إلا كنا بصدد الحديث عن دولة قومية، فيجب أن يوجد " الآخر" Other الذي تعرف من خلاله العرقية نفسها و تشعر بالاختلاف معه ، حيث يقول هانتغتون " نحن لا نعرف من نكون إلا إذا عرفنا غيرنا، وذلك يتم غالبا عندما معرف نحن ضد مـن "19 ؛
لوضع تعريف إجرائي للعرقية يجب أن لا يكون التعريف ضيق لا يستوفي الظاهرة، ولا فضفاض يعجز على تحديدها، وانطلاقا من ذلك نعطي التعريف التالـي :
" العرقية هي جماعة ذات وعي بخصائص فيزيولوجية( السلالة و الجنس… ) و ثقافية ( اللغة الدين التاريخ المشترك...) إحداها، كلها، أو بعضها، تميزها عن الجماعة أو الجماعات الأخرى داخل الدولة ، فتعرف بها "الأنا "self و تحدد من خلالها "الآخر" Other ".
هذا و يتداخل مفهوم العرقية مع العديد من المفاهيم الأخرى خاصة منها القومية و الأمة القبيلة، و الأقلية فما هو الفرق بينها و بين هذه المصطلحات ؟
2.الفرق بين العرقية و المفاهيم المساوقة:
سنحاول في هذا المطلب التفرقة بين العرقية و المفاهيم المقاربة لها في المعني، وسنركز على أربع مفاهيم أساسية : الأقلية، القومية، الأمة و القبيلة.
غالبا ما تستعمل الأقلية minderheit (*) كمرادف للعرقية، إلا أن هناك فرق واضح بين المفهومين، فإذا كانت العرقية تعني: جماعة متميزة في المجتمع بغض النظر عن حجمها كالسود في جنوب إفريقيا أو الهوتو في أوغندا، فإن الأقلية تطلق على جماعة عرقية أقل عددا، وقد أخذ العديد من الباحثين و فقهاء القانون الدولي بهذا المعيار في تعريفهم20، حيث يرى البعض أن العرقية "عبارة عن مجموعة من الأفراد داخل الدولة تختلف عن الأغلبية بسمات ثقافية أو فيزيولوجية معينـة"21.
كما عرف فرانسيسكو كابوتورتي في تقريره لهيئة الأمم المتحدة الأقلية بقوله" هي مجموعة أقل عددا بالنسبة إلى باقي السكان في الدول التي ينتمون إليها، تملك خصائص ثقافية أو فيزيولوجية تختلف عن باقي السكان 22 .
وهذا ما أخذت به الاتفاقيات الثنائية الخاصة بالأقليات لما بعد الحرب العالمية الثانية حيث عرفت الأقلية بأنها مجموعة من سكان الدولة تختلف عن الأغلبية الساحقة في الجنس أو اللغة أو الدين…إلخ 23 .
غير أن هناك من يعتقد أن الأقلية لا تشير إلى جماعة أقل عددا بل إلى جماعة مستضعفة داخل الدولة حيث يقول سليمان قلادة " نحن لا نضع نصب أعيننا الأهمية الديمغرافية للأقليات بقدر ما نأخذ بعين الاعتبار وزنها الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي "، و بالتالي ليست الأقلية هي الأقل كما، بل الأقل أهمية ومكانة، وإلا تم إلغاء العديد من الأقليات مثل الهوتو في البورندي 24.
كما يرى أنصار هذا الرأي بأنه ليست كل أقلية عددية هي بالضرورة مقهورة، و ليست كل أغلبية قاهرة، فالأوروبيون في معظم أقطار آسيا و إفريقيا إبان الحقبة الاستعمارية كانوا يمثلون أقلية عددية بيد أنهم كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم في تلك الدول، و يقهرون الأهالي الذين كانوا يمثلون أغلبية ، و الشكل الاستعماري الذي كان سائدا في زيمبابوي (روديسيا) الجزائر وجنوب إفريقيا خير مثال على ذلك 25.
غير أن أنصار هذا الرأي يدخلوننا في مغالطة منطقية، إذ كيف يمكن تسمية أغلبية السود في إفريقيا أقلية والأقلية البيضاء أغلبية! ، فلا وجود لمبرر علمي للقيام بذلك، فكلمة الأقلية لا تشير بشكلها اللغوي إلى المحتوى الذي يريد أنصار هذا الرأي ربطها به ، فالرمز هنا لا يطابق الدلالة والمعني ،والأخذ بهذا التعريف يدخلنا في السفسطة اللغوية التي تفقد المفاهيم علميتها .
هذا ما دفع العديد من الباحثين وفقهاء القانون إلى الأخذ بالعامل الكمي في تعريف الأقلية من دون إهمال وضعها السياسي و الاجتماعي في المجتمع، حيث عرفته الجمعية الفرعية الأوروبية للكفاح ضد العنصرية "بأنها جماعة من مواطني الدولة، أقل عددا ،و مستضعفة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، لها خصائص فيزيولوجية، ثقافية تختلف عن الأغلبية ..."26.
حتى و لو أخذنا مصطلح الأقلية بمعناه الرقمي كجماعة عرقية أقل عددا من سكان الدولة - لتختلف بذلك عن الجماعة العرقية الأغلبية ، الأكثر عددا- فلا نجد فائدة علمية من هذا الترانب في المصطلحات الذي لا يزيد إلا في تعقيد الظاهرة أمام الباحث، فالعرقية بالمفهوم الذي أسلفنا ذكره هو الأقرب إلى تغطية الظاهرة، أما الأقلية فلا تغطي إلا جزء منها.
استنادا إلى هذه التعاريف نستنتج أن كل أقلية هي بالضرورة عرقية –حيث يجمع أعضاؤها إما روابط فيزيولوجية أو ثقافية – في نفس الوقت ليست كل عرقية هي أقلية فليست كل عرقية بالضرورة أقل عددا من المجتمع الذي تعيش فيه فالسود في إفريقيا الجنوبية يمثلون أغلبية مستضعفة، كذلك الهوتـو في البورندي.
أما عن العلاقة بين العرقية و القومية nationalism، فالقومية* كحركة سياسية و فكرية تسعي إلى جمع الأمة في وحدة سياسية، وهي بهذا تختلف عن الأمة "التي تشير إلى شعور الجماعة بالانتماء إلى كيان واحد دون أن يتعدى ذلك إلى الرغبة في تكوين إطار سياسي ينظمه، أي أن الأمة هي إحساس بالانتماء، والقومية هي إحساس بالانتماء ورغبة في التجمع " بالتالي تشمل القومية الأمة و العكس غير صحيح .
ومنه قد تكون الحركة العرقية حركة قومية إذا تجاوزت بشعورها بالوحدة إلى الرغبة في التجمع داخل دولة مستقلة أو الانضمام إلى الدولة الأم .
أما عن الفرق بين القبيلة tribu و العرقية فنشير إلى القبيلة هي إحدى أشكال التنظيم الداخلي للعرقية خاصة في الدول النامية، حيث نجد في كينيا قبيلة الكيكويا و في أوغندا (الباغاندا) و الهوتو في رواندا، التوتسي في البورندي و قبائل العيسي و العفريون في جيبوتي و هذا لا يعني أن كل عرقية هي بالضرورة قبيلة فنجد الحركة العرقية الكيبكية غير منظمة في شكل قبلي بل حزبي سياسي معاصر27.
كخلاصة نقول، أن العرقية لغة مشتقة من كلمة إثنوس اليونانية و التي تعني- حسب تعريف ارسطو-جماعة تنظمها قيم و روابط اجتماعية معينة ، أما اصطلاحا فهي " هي جماعة ذات وعي بخصائص فيزيولوجية ( السلالة و الجنس… ) و ثقافية ( اللغة ، الدين ، التاريخ المشترك...) كلها أو إحداها أو بعضها، تميزها عن الجماعة أو الجماعات الأخرى داخل الدولة ، فتعرف بها "الأنا "self و تحدد من خلالها "الآخر " Other ، و أن الأقليةminority هي جزء من العرقية كما تصبح العرقية أمةnation إذا جمعتها روابط و معايير تشعرها بالانتماء ، أما إذا تعدى شعورها بالانتماء إلى الرغبة في التجمع داخل كيان سياسي تصبح "حركـة قومية" nationalism . أما القبيلة tribu فهي حالة من حالات التنظيم الداخلي للعرقية.
بعد التطرق لمفهوم العرقية، سنحاول من خلال العنصر الموالي عرض مفهوم النزاع العرقي من خلال عرض المقاربات السائدة في تعريفه.
المبحث الثالث : مفهوم النزاع العرقي
قبل التعرض لمفهوم النزاع العرقي تجدر الإشارة أولا إلى مفهوم النزاع، و الفرق بينه وبين المفاهيم المشابهة لـه.
يعرف النزاع بأنه "تعارض أو تصادم بين اتجاهات مختلفة أو عدم توافق في المصالح بين طرفين أو أكثر مما يدفع بالأطراف المعنية مباشرة إلى عدم القبول بالوضع القائم ومحاولة تغييره1 و لا يرتبط النزاع فقط بالعنفViolence ، فقد يتخذ الأشكال التاليـة:
- توتر : Tension يظهر في الشكوك و التخوف وتصور لتباين في المصالح أو الرغبة في السيطرة و تحقيق الانتقام لكنه يبقى في هذا الإطار دون أن يتعداها ليشمل تعارضا فعليا و صريحا وغالبا ما يلازم النزاعات كما قد يكون سببا أو نتيجة لها 2.
- الأزمة: Crisis هي مرحلة أكثر تقدما من التوتر عرفها Chales Herman بأنها " تهديد كبير و مفاجئ ، في وقت قصير"3،والأزمة تمتاز بكثرة الأحداث فيها و قصر مدتها، وإن لم يتم إداراتها بشكل مقبول قد تؤدي إلى حرب 4.
- الحرب : Wars هي أعلى مستوى النزاع ، حيث يتصادم فيها الطرفان أو الأطراف عسكريا.
فالنزاع إذا يشمل : التوتر ، و الأزمة و الحرب ، فهو أوسع و أطول أمدا من هذه الحالات الفرعية فقد يمتد أكثر من نصف قرن على غرار النزاع العربي – الإسرائيلي .
تعتبر النزاعات العرقية إحدى أشكال النزاعات الدولية، حيث ينصب اهتمام دارسيها على "العرقية النشطة "active ethnic group" أو التي لها تأثير سياسي، أما دراسة العرقية في حد ذاتها كظاهرة إنسانية واجتماعية هي من اختصاص الاثنولوجي والانتروبولوجي رغم أن نتائج أبحاثهم تساعد كثيرا على فهم السلوك النزاعي للجماعة العرقية.
اختلفت المقاربات حول مفهوم "النزاع العرقي"، حيث تؤكد المقاربة الأولية Primordialism أن النزاع العرقي هو النزاع الذي تكون "أطرافه الفاعلة" جماعات عرقية، و يكون "الاختلاف العرقي" في حد ذاته السبب في تحريك السلوك النزاعي لهذه الجماعات.
في حين ترى المقاربة الو سائلية Instrumentalism أنه ليس الاختلاف العرقي في حد ذاته هو السبب الأول للنزاع و إنما "التحريك السياسي" Political mobilisation الذي تخضع له العرقية فيجعل منها أداة في يد الفواعل السياسة سواء الوطنية ( النخب و الأحزاب) أو الخارجية (دول) التي تستعملها كوسيلة لتحقيق أهدافها ومصالحها ليكون النزاع العرقي استثمار مربح لهذه الفواعل.
أما المقاربة البنائية constructivism ، حاولت التوفيق بين المقاربة الافتعالية و الأولية في تبيين كيفية دراسة النزاعات العرقية، فالنزاع ناتج عن الاختلاف العرقي الذي يقوم الافتعال السياسي بإبرازه و تقويته، فلا يمكن نفي دور التحريك السياسي، كما لا يمكن نفي دور الاختلاف العرقي.
ومن خلال هذه المقاربات الثلاثة تنبثق كل النظريات التي حاولت فهم النزاعات العرقية، لذلك كان عرضها مهم كبداية لأي دراسة حول النزاعات العرقية.
1.المقاربة الأولية Primordialism
يختلف الدارسون حول تسمية هذه المقاربة فـ D . Horowitz على سبيل المثال يفضل اسم النظرية الصلبة Hard view theory في مقابل Soft view theory للمقاربة الوسائلية 5.
يرى أنصار هذه المقاربة أن "النزاع العرقي هو نزاع بين جماعات يحركه الاختلاف العرقي" فالجماعة العرقية تبرز كفاعل مستقل independent actor والاختلاف العرقي كعامل أساسي لانفجار النزاع العرقي، حيث ترتبط الجماعة من خلال الخصائص التي تميزها، فتزود أفرادها بولاء قوي و شعور بالانتماء يقوي الروابط العرقية ethnic Ties بينهم ، وكلما زاد هذا الشعور زادت العداوة اتجاه الآخر لتصل إلى حالة التعصب ethno-centrism لجماعاتهم في مواجهة الجماعات الأخـرى6، في هذا الإطار يقول هانتغتون " إن الاختلاف قد خلف على مر القرون النزاعات الأكثر ضراوة "7.
فسلوك الجماعة العرقية تحدده الأحاسيس العرقية ethnic passions لذلك هم يعتقدون أن الأحقاد التاريخيةAncient Hatreds هي نتيجة لهذه الأحاسيس وفي نفس الوقت سببا للنزاع العرقي المعاصر8، حيث يقول هانتغتون: " يكشف الناس هويات جديدة عادة ما تكون قديمة، هم يسيرون تحت أعلام جديدة، عادة ما تكون قديمة، لتؤدي بدورها إلى حروب مع أعداء جدد ، هم في حقيقة الأمر أعداء قدامى" (بتصرف) 9.
من خلال الاختلاف العرقي تضع الجماعة العرقية حدود التقسيمfault line ، فتعرف الأنا self الذي يضم كل من هو داخل الجماعة in-group و الآخر Other الذي يشمل كل من هو خارجها out–group * ، فأفراد الجماعات العرقية لا تشعر فقط بالرغبة "بالانضمام"inclusion بل "بالإقصاء"exclusion كذلك .
لذلك فدراسة النزاع العرقي –حسب هذه المقاربة- يجب أن تنطلق من الجماعة العرقية "كوحدة تحليل"، حيث يحلل الباحث ثقافتها و تاريخ تفاعلها مع الجماعات الأخرى، على غرار ما قام به هانتغتون في دراسته لصدام الحضارات على مستوى نزاعات خطوط التقسيم Fault line conflicts حيث صنف الدول و الجماعات العرقية وفقا لانتماءاتها الحضارية، مؤكدا أن النزاع يستقي أسبابه من الاختلاف الحضاري بين الوحدات السياسية حيث يقول " إن المصدر الأساسي للصراعات في العالم لن يكون بالدرجة الأولى أيديولوجيا و لا اقتصاديا، إن المصدر الأساسي للخلاف سيكون ثقافيا "10.
كما يركز الباحث على – ما اصطلح عليه Kauffman - السياسة الرمزية symbolic politics للجماعات العرقية: أي كيف تؤثر الرموز الثقافية و الشعور بالاختلاف عموما على سلوك النزاعي للعرقية 11.
هذا ما يعيد إثارة السؤال القديم حول طبيعة السلوك النزاعي هل هو نتيجة للمصلحة أم للثقافة و الأحاسيس *passions، بل و يثير كذلك قضية إلى أي مدى يمكن اعتبار "الجماعة العرقية" وحدة متماسكة لتكون أقرب من كرة البليارد Hard billiard ball عند الواقعيين، في هذه النقطة يتفق أنصار الواقعية العرقية ethno-realism مع المقاربة الأولية حول فكرة العرقية ككرة بليارد، غير أن الواقعية- العرقية ترى أن سبب النزاع ليس الاختلاف في حد ذاته بل الشعور باللأمن الذي يجعل من كل جماعة تسعى لزيادة قوتها للحفاظ على أمنها، و بما أن الكل يسعى لكسب القوة من أجل الأمن يحدث النزاع12 .
أما عن دور صناع القرار في النزاع العرقي فيؤكد أنصار هذه المقاربة أن سلوك صناع القرار نابع هو الآخر من الولاء للجماعة العرقية و قيمها الثقافية، فالشعور بالانتماء هو الذي يملي عليهم السلوك النزاعي اتجاه الجماعات الأخرى، من خلال مركب الأسطورة –الرمز myth–symbol، complexe الذي يحدد نظرتهم للآخر13، حتى أنهم يفضلون تنصيب عناصر من قبليتهم في الوظائف الحكومية الحساسة، حيث نجد على سبيل المثال الرئيس الكيني السابق "جوموكينياتا" استعان بقبيلته "الكيكويو Kikuyo والرئيس السابق للكونغو " ألفونس ماسباديان" قرب إليه أفراد قبيلته "الباتيك" أما الرئيس الأوغندي "أبوتي" في ولايته الثانية 1980-1985 فوزع الوظائف الحساسة على أفراد من قبيلته "الانجي النيلية الشمالية14.
لذلك يؤكد أنصار هذه المقاربة أن النزاع ينبع من الجماهير Mass led و ليس من سياسة النخبة الحاكمة15، و من الاختلاف العرقي و ليس من التحريك السياسي.
لقد برزت العديد من التيارات الفرعية في المقاربة الأولية، فأنصار الأولية الثقافية cultural primordialism يرون أن الاختلاف الثقافي في حد ذاته سببا للنزاع، من أبرز أنصاره (Huntington 1996). (Ignatieff1993). ( Maynihan 1993) (Shepsele 1993)) Smith 1986))16 في حين ركز آخرون على "إثار الجماعة" group altruism على غرار دراسات Chai 1996 أو المعرفة المشتركة (2001 Chwe ) أو الشبكات الاجتماعية المعقدة على غرار( granovetter 1973)17.
كما برز اتجاه جديد في هذه المقاربة تحت اسم الأولية التطورية evolutionist primordialism و التي انتقدت الاتجاه القديم الذي كان يؤكد على أن الجماعة العرقية ثابتة عبر التاريخ ، حيث أكدوا أن العرقية تخضع للتغيير فقد تنتقل من التنظيم القبلي إلى التنظيم الحزبي إلا أن ذلك لا يؤثر على بنيتها و هويتها ، إي أنها تتغير و لا تتحول 18.
يمكن تلخيص نظرة المقاربة الأولية للنزاع العرقي في المخطط الموالي :
قد ساندت العديد من الدراسات الإمبريقية فرضيات هذه المقاربة، حيث أكدت إحداها أن سبب النزاعات العرقية قابع وراء الهوية العرقية فمن 27 نزاع عام 1996 مصنف كنزاع مسلح كبير بـ1000 قتيل في العام ,خناك 22 منه يضم عنصر اختلاف الهوية19 19.
و في تحليله للعلاقة بين الاختلاف العرقي و الدخول في النزاع العرقي قام Nicholas Sambanis 2001) بدراسة للجماعات العرقية في 161 دولة بين 1960-1999 فوجد أنه ليس العامل السياسي أو الاقتصادي هو المفسر للنزاع العرقي فالنزاعات العرقية توجد في الدول الديمقراطية كما توجد في الدول الغير ديمقراطية، و في الدول المتقدمة و المتخلفة على حد السواء وهذا ما يثبت دور عامل الاختلاف العرقي في النزاعات العرقية، و قد وضح Sambanis ذلك من خلال الشكلين الموليين:
الشكل رقم : 3
الشكل رقم 2 : العلاقة بين الانقسام العرقي و الدخول في نزاعات عرقية
Nicholas Sambanis، do ethnic and non-ethnic conflicts have the same causes? 2001 in:
www.duke.edu/web/licep/3sambanis/ethnicwarpaper.pdf p 42
ولكن دراسة "سمبانيس" تبرز كذلك الاختلاف الحاصل بين الدول الديمقراطية و الغير ديمقراطية، و بين الدول المتقدمة والمتخلفة في شدة النزاع وانتشاره، حيث نلاحظ من خلال المنحنيين زيادة احتمال حدوث نزاع عرقي في الدول الغير ديمقراطية المتخلفة، أكبر من الدول الديمقراطية المتقدمة، و هذا ما يؤكد بأن النزاع العرقي لا يتأثر فقط بعامل الاختلاف العرقي بل بعوامل أخرى مثل البيئة السياسية، و الاقتصادية، التي يوجد فيها هذا الاختلاف، بل وهناك دراسة أخرى خلصت إلى أن النزاعات ككل ومن بينها النزاعات العرقية، تتركز بشدة في دول الع