الحــركـــــة الوطنيــة.. تباينــات الرؤى وتوحُّد الغايات
>.. يحيى الضبيبي
الجمعة 28 سبتمبر-أيلول 2012
حينما يكون الهدف “مقدساً” ومصيرياً، فإن ذلك يقتضي أن تشترك في تحقيقه أمشاج متعددة تنصهر في طريقها لتحقيق ذلك الهدف، تباينات الأفكار ونوازع الطموحات الفردية والجماعية، هكذا ولدت الحركة الوطنية وبهذا الأسلوب شقت طريقها للوصول إلى عبق الحرية ومرافئ العيش الكريم، وربما تكتسب مراحل النضال الوطني الذي شهدته بلادنا خصوصاً منذ أوائل القرن المنصرم خصوصية وتفرداً وتجربة جديرة بالدراسة المتأنية لاسيما وأنها ـ كما يقال ـ لازالت ذيولها تسحب علينا حتى الآن، كما أن آثارها على المستويين الإيجابي والسلبي يلعبان دوراً بارزاً في المشهد السياسي في الأيام الحالية باعتبار ما نعيشه ثمرة لنضال متراكم وتضحيات جسيمة اجترحها المخلصون والأوفياء والصادقون من أبناء الوطن. فيما خلف أدعياء الوطنية وذوو المطامع والأهواء الذاتية تركة ثقيلة من الأعباء والمشاكل التي لا تزال ترهق كاهل الوطن وإن بدا أبطالها عقب ثورة فبراير بألوان مختلفة وأشكال مغايرة، الأمر الذي يؤكد صدق ماقيل بأن
الـــ “ التاريخ يعيد نفسه”.
ومع سمو هدف الحركة الوطنية والنضالية ضد الحكم البائد إمامياً واستعمارياً فإن صفحاتها البيضاء لم تخل من نقاط سوداء وأخطاء مقصودة أو غير مقصودة مثلت أعباءً إضافية أمام الثوار في مسيرتهم النضالية، إلا أن عظمة مقاصدهم وعلو غايتهم مكنهم من تحطيم كل المشاريع التآمرية وتجاوز الإجتهادات الفردية وتحقيق أهدافهم التي توجت بثورة اليمن العظيمة الـ 26 من سبتمبر 1962م والـ 14 من أكتوبر 1963م وما تلا ذلك من حركات وانتفاضات وثورات لتصحيح مسار الثورة آخرها ثورة الـ 11 من فبراير2011م.
ومن خلال هذا العرض الموجز نهدف بالإشارة إلى جوانب من الصراعات البينية التي شهدتها الحركات التحررية وأبطال الثورة والمناضلين، مع أملنا في أن تكون محل دراسات تاريخية عميقة ومتجردة لا تغفلها مراكز الدراسات والجامعات والجهات المعنية بغية الإستفادة من الأخطاء وتجنب تكرارها مستقبلاً، ولتكتمل الصورة الحقيقية للتاريخ الوطني أمام الأجيال انطلاقا من مبدأ أن قيمة التاريخ تكمن في معرفة ما سيحدث على ضوء ما حدث.
الإمام يحيى والظلم الأسود
عقب تولي الإمام يحيى بن حميد الدين الحكم إثر بيعة تمت له في قفلة عذر1904م بعد وفاة والده المنصور بالله محمد بن يحيى حميدالدين، شهدت اليمن استمراراً لتغذية الصراعات التي جذرها الحكم الإمامي منذ العام 1893م، وعانى اليمنيون في المناطق التي يفرض عليها الإمام سيطرته أشد أنواع وصنوف الحرمان والإقصاء والتهميش والتسلط.
وارتدت تلك المعاناة عكسية بخلق شعور واسع من التذمر والسعي إلى الخلاص من هذه الزمرة المستبدة، وتبلورت مشاريع وطنية تحررية وإن بدت في أشكالها الأولى فردية، وساعد من نموها الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها الإمام يحيى ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما تضمنته اتفاقية صلح دعان 9 أكتوبر1911م بينه وبين العثمانيين والتي أبرزت النزعة السلالية والطائفية التي تتضح من خلال بنود الاتفاقية، إذ يتضمن البند الأول منها أن ينتخب الإمام حكاماً لمذهب الزيدية وتبلغ الولاية بذلك، فيما أشار البند السادس إلى أنه يحق للحكومة أن تعين حاكماً للشرع من غير اليمنيين في البلاد التي يسكنها الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي والحنفي، فضلا عما احتواه الإتفاق من مصالح ذاتية عكست عقلية الإمام و أنانيته ولهثه وراء مصالحه الخاصة.
ومنذ توليه الحكم بدأت بعض الأصوات والتحركات الاحتجاجية المعارضة لفكرة الإمامة والوراثة بشكل خاص سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، أبرزها انتفاضة الزرانيق والتي استمرت لفترة طويلة وكلفت الإمام الكثير من الوقت والجهد والمال والرجال، وانتفاضة البيضاء، وانتفاضة المقاطرة بقيادة حميد الدين الخزنفار، وغيرها من الانتفاضات والاحتجاجات التي قوبلت بالعنف الشديد من الإمام يحيى.
وسعياً لإخماد الأصوات المعارضة استدعى الإمام يحيى بعض مشائخ المناطق الوسطى خصوصاً من تعز والبيضاء وأمر بإيداعهم السجن حتى مات أكثرهم ولم ينج منهم إلا من أُبعِدوا عن مناطقهم ولكنهم أعدموا بعد ذلك، وفي عام1928م سجن الإمام يحيى من قبيلة الزرانيق (800) شخص جميعهم سيقوا إلى حجة مكبلين بالسلاسل سيراً على أقدامهم لمدة أسبوع ولم يفرج عن أحد منهم حتى ماتوا جميعاً ودفنوا في حجة وأطلق عليها مقبرة الزرانيق.
ويؤكد المؤرخون أن الحركات والأصوات المناوئة للإمام يحيى استمرت فترة من الزمن على هيئة إحساس بالألم والظلم والاستعباد عكست شعوراً عاماً ولد حركة معادية لنظامه بدون امتلاكها برامج وشعارات ممنهجة.
وأشاروا إلى أن تضافر ويلات البؤس والفقر والعزلة جعل من اليمن واحدة من أكثر البلدان تخلفاً وغرقاً في ظلمات الفساد والاستبداد.
وظهرت العديد من التنظيمات الإصلاحية التي مثلت قواعد الانطلاق نحو التحرر والتوعية وتبلور الأفكار وساهم في ظهورها المدارس والكُتّاب التي كانت موجودة آنذاك في الشمال، إلى جانب المدارس في جنوب اليمن المحتل والتي امتد أثرها إلى الشمال ، بالإضافة إلى البعثات العسكرية المحدودة والطلاب المبتعثين إلى الخارج والتي مثلت نواة حقيقية للمعارضة والمطالبة بإصلاح نظام الحكم ومن ثم المطالبة بتغيير النظام كما بدا في المراحل
اللاحقة، ومن التنظيمات التي ظهرت جمعية فتاة الفليحي التي تأسست في صنعاء 1935م على يد أحمد المطاع وأحمد الشامي ويحيى الإرياني وعبد الله الجرافي وحسين العمري وانضم اليهم أحمد عبدالوهاب الوريث، وهيئة النضال التي تأسست في منتصف الثلاثينيات بزعامة أحمد المطاع، والمدرسة الأهلية ونادي الإصلاح بتربة ذبحان بالحجرية التي تأسست على يد الأستاذ أحمد محمد نعمان، وكذا تأسيس الكتيبة الأولى عام 1939م على يد الضابط محيي الدين العنسي والطلاب المبتعثين للقاهرة سلام فارع والجفري ولقمان، والتي قام الأستاذ محمد محمود الزبيري بتغيير اسمها إلى “ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” 1941م لدى عودته من القاهرة.
ويؤكد الباحثون والمؤرخون أن العام 1944م شهد ظهور مصطلح المعارضة كفكرة وكمبدأ عبّر عنه الزبيري والنعمان حينما فرا إلى عدن وتم خلال العام ذاته إنشاء حزب الأحرار اليمنيين، وإعلان قيام الجمعية اليمانية الكبرى بعدن 1946م صدر عنها صحيفة (صوت اليمن)، وغيرها من التنظيمات.
فشل ثورة 1948م وبداية الاختلاف
هدفت ثورة 1948م إلى قيام نظام دستوري شوروي كثمرة لتطور النضال الوطني، واعتبرت هذه الخطوة التي غابت فيها المطالبة بالتغيير الجذري للنظام مجاراة للمرحلة وظروف الأربعينيات، وقد استطاعت هذه الثورة الإطاحة بنظام الإمام يحيى في 17فبراير واستمرت حتى 8 مارس تولى فيها الحكم عبدالله أحمد الوزير، وقد ساهم في اشتعالها إبراهيم الوزير الذي لحق بالثوار إلى عدن، وجمال جميل العراقي قائد الجيش والأمن في الانقلاب، والفضيل الورتلاني الجزائري الموجه السياسي للانقلاب.
وقد فشل هذا الانقلاب بعد تحرك الأمير أحمد بن يحيى حميد الدين من تعز إلى الحديدة ثم حجة واستغلال خزينة أموال الدولة لإغراء وشراء ذمم المشائخ حتى عاد إلى صنعاء واستعاد زمام الأمور وتولى الحكم بعد ثلاثة أسابيع من الإطاحة بحكم أبيه.
وتتمثل أبرز الأخطاء لهذه الثورة في جهل الثوار في عدن بما حدث في صنعاء وعدم اتفاقهم على مقتل الإمام يحيى لعلمهم بما سيخلفه هذا الحدث من استغلال سيئ بحكم أن الإمام يحيى شيخ جليل وطاعن في السن والعادات القبلية تحرم الغدر وهو بالفعل ما استغل من قبل ولده أحمد وساهم في خلق تذمر واسع من الثوار.
ويشير الدكتور محمد عبد الجبار سلام إلى أن فشل هذه الثورة أو الحركة تمثل إلى جانب قتل الإمام يحيى غدراً في عدم أخذ من قاموا بالثورة في صنعاء للمشورة من الثوار في عدن، إلى جانب أن أسرة الوزير كانوا على قدر كبير من الغرور. ويقول الدكتور في كتابه الإعلام اليمني والقضايا السياسية والاجتماعية« أخذ ابن الوزير يوجه حملاته الكلامية بعنف شديد ضد العشائر والقبائل، وكذا التمادي في طلب النجدات من الأجنبي المستعمر، فضلا عن النزاع الذي كان على أشده من اليوم الثاني بين عائلة الوزير لمحاولة كل منهم الحصول على شيء وبأسرع فرصة”.
ولأن الانقلاب حدث والزبيري والنعمان وإبراهيم الوزير وعدد من الثوار في عدن فقد رأى البعض عدم عودتهم إلى صنعاء لأن ولي العهد سيف الإسلام أحمد بن يحيى حميد الدين كان لايزال حياً فور سفره إلى حجة، وأن عبدالله الوزير لا يختلف في حقيقة أمره عن أن يكون صورة طبق الأصل للإمام يحيى باعتبارهم من جيل واحد ومن مدرسة واحدة، وهذا يعكس عدم رضا الأحرار عن ابن الوزير.
ويشير الأستاذ الراحل عبد الله البردوني إلى أن مثقفي فترة انقلاب أو ثورة 1948م كانوا مصنفين إلى، صنف دستوري من المثقفين والشيوخ كالزبيري والنعمان، وصنف إمامي كعبدالله الوزير، وصنف ثالث كان يريد أكثر مما حدث ويرى الإنقلاب إجهاضاً لإمكانيات أحداث خلاقة.
ويقول البردوني في كتابه اليمن الجمهوري :« من آخر الثلاثينيات بدأ التذمر من استبداد الإمام يحيى وهذه ظاهرة مشرقة تبرهن على الحيوية ومحاولة التحول ، غير أن هذه الظاهرة المشرقة تفقد بعض إشراقها أو كل إشراقها بوراثية سوء استثمارها وعراقة انتمائها إلى القبيلة الفردية، لأن الوسيلة تحمل في صميمها وجه الغاية، لكي تتحول هذه الغاية إلى وسيلة تملك إبداع الغاية الأجد، فليست الوسائل بمعزل عن غاياتها، وإنما هي منها بمثابة البذور من الزروع فإذا كان التحول عن الإمام يحيى إلى الجانب الوطني الديمقراطي فإن القصد شريف أما الذين تحولوا عنه إلى الإدريسي المحتل لتهامة وإلى عبد العزيز آل سعود أو إلى مشايخ المستعمرات البريطانية في الجنوب فإن هؤلاء كانوا يشكلون خروجاً عن الوطن مهما كان بعد الغاية ، لقد كانوا يبحثون عن الساخطين على الإمام يحيى بلا تساؤل عما يملك هؤلاء الساخطون من رؤية مغايرة أو عن إمكانياتهم لامتلاك رؤية مغايرة لأن السخط وحده ثورة دائمة ولكن تحويله إلى وسيلة تغييرية يحتم رؤية الغاية من خلال الوسائل، فلا يكفي السخط على الإمام يحيى بدون نظرية تغيير وبالأخص إذا لاحظنا أن أغلب قادة ذلك التحرك أبعدوا من مناصب أو عجزوا عن الوصول إلى مناصب لأن المناصب مجرد وسائل لغايات شعبية”.
ويضيف :« سبب سقوط الإنقلاب أثران متناقضان: الحس الحركي، والخوف من الحركة .. فكما أصبح الإنقلابيون محور الحديث والنقاش من آخر الأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات كان حضور المحور الثاني وهو المنتصر على الإنقلابيين إلى جانب الإنقلابيين لأن الشعب بدأ يحس نهاية العهد الحميدي بنهاية الإمام أحمد”.
حركة 1955م وتذمر الثوار
شهدت الحركة الوطنية في الخمسينيات طورا آخر من التقدم والنشاط والتنظيم نتيجة للثورات التي اندلعت في بعض البلدان العربية أبرزها ثورة يوليو1952م في مصر والتي انعكست بظلالها على كل البلدان العربية ومنها اليمن. وتعد الخمسينيات مرحلة خصبة في النضال باعتبارها جاءت بعد الحرب العالمية
الثانية ونزوح عدد من الثوار إلى عدن التي اشتهرت بالانتعاش التجاري والاجتماعي والثقافي، حيث اتسمت الحركة الوطنية آنذاك بالشمولية لكل اليمن والهم المشترك للتخلص من الاستعمار في الجنوب والحكم الإمامي في الشمال، الأمر الذي سهل للثوار قيام العديد من التنظيمات وإصدار الصحف والمنشورات والنقابات العمالية.
ويؤكد المؤرخون والباحثون أن إعلان إنشاء الإتحاد اليمني عام 1951م مثلّ تغييراً جذرياً في مسار الحركة الوطنية بآفاقها الوطنية والقومية والإنسانية.
وفي منتصف الخمسينيات تباينت آراء الثوار حول جوهر التغيير في اليمن جمهورية أم ملكية أم ملكية دستورية أم نظام اشتراكي، وقد شهدت أسرة حميد الدين نزاعات داخلية غير معلنة رافقها تذمر وغليان شعبي أسفرت عن قيام حركة 1955م كرد فعل على معاقبة الإمام لجنود غاروا على ممتلكات المواطنين في الحوبان بتعز.
وفي 31 مارس عام 1955، حدث انقلاب قام به المقدم أحمد يحيى الثلايا ..وقد قام المقدم الثلايا بقيادة فرقة من الجنود لمحاصرة الإمام في قصره في مدينة تعز، وطالبوا الإمام بتسليم نفسه وهو ما حدث.
وقد اختلف قادة الانقلاب فيما بينهم على مصير الإمام، فبعضهم اقترح قتله، والبعض الآخر اقترح أن يستبدل بأخيه الأمير سيف الله عبد الله، وفي أثناء ذلك قام الإمام بفتح خزائن قصره واشترى جنود الثلايا، وفشلت هذه الحركة.
وقد تباينت آراء الثوار حول انقلاب 1955م بين التأييد والرفض، حيث احتج المؤيدون بأهمية الاستمرار بضرب صنم بصنم، إلا أن الرافضين لهذه الحركة كانت حجتهم أقوى باعتبار أن المرحلة لم تعد تستدعي المدارة، فالمد الثوري العربي ونشاط الحركة الوطنية دفعهم للبحث عن الجمهورية والإطاحة بالنظام الإمامي الذي لم يعد ذا جدوى لإصلاحه وترميمه بعد استفحال مشاكله وأضراره المحلية وسياسته الخاطئة خارجياً.
ووفقاً لصحيفة الجنوب العربي آنذاك فإن جماعات محدودة حاولت الانشقاق عن الإتحاد اليمني بعد عودتها من تعز والمعارضة لحركة الأحرار نتيجة لموقفها المؤيد للانقلاب عام 1955م حاولت تأسيس تنظيم انشقاقي، وحاولت أن تضع لها ميثاقاً وبرنامجاً إلا أنهم رغم كل هذا لم يفلحوا مطلقاً وذلك لأن مرحلة الخمسينيات تجاوزت طموحاتهم الهادفة إلى تغيير إمام بآخر.
وينقل الدكتور محمد عبد الجبار سلام في كتابه الإعلام اليمني والقضايا السياسية والاجتماعية وصف الإتحاد اليمني لهذه الجماعة بقوله :« إن هذه الجماعات المهزومة والضعيفة والتي لا تعرف روح الشعب ولا تفهم حركاته مما حدا بهم أن يفروا من الإتحاد اليمني وينسلخوا منه فور إعلان الإتحاد (الجمهورية) فقد حسب أولئك الأغبياء أن هذه الدعوة سترفضها القبائل وإذا بالتاريخ يتحداهم فيلتقي القبيلي من أقاصي اليمن بالقبيلي في أواسط اليمن على مدرج الحرية من أجل انتصار سيادة الشعب بقيادة الحكم الجمهوري”.
وبحسب الأستاذ عبدالله البردوني رحمه الله، فإن انقلاب 1955م لم تسبقه بوادر تحركيه كالذي سبق انقلاب 1948م لهذا تبدى انقلاب مارس 1955م على غير انتظار وبلا دهشة مفاجئة لأن ذلك الحدث كان يعاني إزدواجية إذ أيده بعض رجال 48م من أمثال عبد الرحمن الإرياني، ومحمد حسين عبد القادر إثر خروجهما من سجن حجة، وشجبه بعضهم من أمثال الأستاذ محمد أحمد نعمان
والأستاذ أحمد محمد الشامي والأستاذ محمد محمود الزبيري الذي ندد بالحادث وحذر منه في أحاديثه من صوت العرب في القاهرة.
وفي صيف عام 1959، عندما سافر الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين إلى روما للعلاج من التهاب المفاصل الرثياني، فبلغ البدر من مصادره في روما أن أباه يحتضر فاعتقد أنها نهاية أبيه فقام بإنشاء مجلس نيابي برئاسة القاضي أحمد السياغي، كما قام بإلقاء خطاب ناري ضد الإمام في احتفال للجيش اليمني الوليد، الأمر الذي دفع الهاشميين ليثوروا ضد البدر، فاستعان بالقبائل لإخماد ثورتهم.
إلا أن الإمام أحمد عاد إلى اليمن بعد أن أفاق من مرضه وقام بإلغاء كل ما قام به البدر من إصلاحات، وأمر باسترجاع الأموال والسلاح الذي أعطاه البدر للقبائل التي أيدته، وهرب شيوخ القبائل إلى السعودية ولكن الملك سعود بن عبد العزيز كفلهم عند الإمام أحمد، وتعامل معهم الإمام أحمد كعادته حيث أمر الإمام أحمد إبنه البدر بذبحهم ترضية لأبيه.
ويؤكد المؤرخون أن هذه الحادثة مثلت دليلاً للذين عقدوا الآمال على البدر أنه لا يختلف كثيراً عمن سبقوه.
وكان عهد الإمام أحمد عهد معارضة وثورات، وقد تعرض الإمام إلى 12 محاولة اغتيال، منها محاولة فاشلة لاغتياله وهو على فراش الموت، وقد تدهورت صحته لتأثره برصاص اللقية ورفيقيه في الحديدة في مارس عام 1961م، والذي توفي متأثراً بجراحه منها.
ويقول الباحث الأستاذ عبد الوهاب محسن صالح جلبوب :« لم تيأس المعارضة مما حدث لها فاستمرت في نشاطها ضد الإمام أحمد وأصدر الأحرار في القاهرة كتيبًا بعنوان “مطالب الشعب” حيث اعتبر هذا الكتاب مشروعًا لدستور الدولة الحديثة، وبفعل دأب الإمام على شق الصف الوطني شهدت معارضة الأحرار
المنطوية تحت مسمى الاتحاد اليمني بعض الانشقاقات، ومع تزايد زخم المعارضة قام الإمام بالانفتاح على بعض الدول العربية والدول الاشتراكية، أسفر ذلك عن توقيع عدد من الاتفاقيات وعلى الرغم من انفتاح الإمام إلا أنه لم يستطع الحد من آثارها الإيجابية التي تمثلت في المجالات العسكرية والثقافية، كما قام الإمام بإرسال بعض البعثات اليمنية للدراسة في بعض الدول فقاموا بنقل الأفكار التحررية وجلبوها معهم إلى اليمن”.
ويضيف في رسالته لنيل درجة الماجستير 2008م من معهد البحوث والدراسات العربية بجمهورية مصر:« لم تكتف اتجاهات المعارضة بالخطاب السياسي والإعلامي لمعارضة الحكم بل حاولت التخلص من الحكم الإمامي برمته سواء بالاغتيال أو الانقلاب عليه، وقامت المعارضة بعدة محاولات في أعوام 1959،
، 1960، 1961م، إلا أنها جميعًا فشلت ولعل ذلك يرجع إلى عدم التخطيط السليم، أو إلى الارتجال والعشوائية من جانب رجال المعارضة أو غير ذلك، ورغم محاولات الإخفاقات في اغتيال الإمام فقد استمر زخم المعارضة في التصاعد، فبادرت مجموعة من طلاب المدارس والكليات العسكرية الذين توفرت فيهم عوامل ومقدمات النجاح بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار وحملوا على
عاتقهم بشكل رئيسي مهمة إسقاط الحكم الإمامي، إذ قاموا بإجراء اتصالات واسعة لقوى المعارضة المختلفة سواء داخل اليمن أو بجمهورية مصر العربية”.
وتخلص دراسة الأستاذ عبد الوهاب محسن الموسومة بـ “ حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام أحمد 1948-1962م» إلى أن المعارضة قد مرت بعدة مراحل: مرحلة المعارضة التنويرية التي بدأت في منتصف الثلاثينيات والتي مهدت لقيام حركة شبه منظمة، ومرحلة المعارضة السياسية المنظمة التي بدأت بتأسيس حزب الأحرار، وإصدار جريدة صوت اليمن في عدن برئاسة الزبيري،
ومرحلة ثورة 1948م التي أدت إلى اغتيال الإمام يحيى، وانتهت بفشل الثورة وسقوط صنعاء بيد الإمام أحمد، والقبائل الموالية له، وكذا مرحلة نشاط المعارضة بعد ثورة 1948 رغم ما أصاب المعارضة من قتل وسجن وتشريد، وتمثل ذلك في تأسيس الاتحاد اليمني في القاهرة وعدن، ومرحلة استفادة الأحرار من الخلاف بين أفراد الأسرة الحاكمة، مما أدى إلى اندلاع حركة 1955م، إضافة
إلى مرحلة غياب التنسيق السياسي والعسكري وتفكك الجبهة الداخلية لعناصر المعارضة ومحاولة إعادة ترتيب صفوفها، بعد الضربات الموجعة أثناء حركة 1955م، ومرحلة نشاط المعارضة بعد تأسيس تنظيم الضباط الأحرار الذي استطاعت به المعارضة أن تسقط الحكم الإمامي وتعلن قيام النظام الجمهوري الحلم الذي طالما داعب خيال الأحرار والثوار اليمنيين لفترة ليست بالقليلة”.
ثورة سبتمبر ونضج الحركة الوطنية مع بداية الستينيات
اتسمت الحركة الوطنية بالنضج والنشاط الذي لا يهدأ رغم انقسام صفوفها لأسباب أيديلوجية وسياسية واجتماعية، فضلا عن العوامل الخارجية وأبرزها الصراع المصري السعودي وغيرها من العوامل.
وكنتاج لما قام به الأحرار منذ بداية العشرينيات من مساعِ للتخلص من النظام البائد وللتجربة التي اكتسبوها في هذه المسيرة الشاقة فقد اتحدت معالم هدفهم صوب قلب نظام الحكم الملكي واستبداله بالنظام الجمهوري كمطلب ملح وضرورة لا يمكن الإستغناء عنها.
ورسم الثوار خطة لتنفيذ هذه المهمة أشار إليها الدكتور البيضاني في “ثورة اليمن ودور مصر كما يراه البيضاني» مبيناً أنه تم وضع خطة الانقلاب في مدينة جرمش بألمانيا عندما اجتمع البيضاني وعبد الغني مطهر، ثم بعد ذلك سافر البيضاني إلى القاهرة لعرض الخطة على المسؤولين المصريين هناك وكان
من ضمنهم أنور السادات، صلاح نصر مدير المخابرات العامة ونائبه علي سليمان والرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكان يصاحب البيضاني في بعض هذه اللقاءات محمد قائد سيف الذي شارك في انقلاب سنة 1948 الذي قاده عبد الله الوزير .. فيما تختلف بعض الروايات عن هذه الرواية وكل يدعي شرف التخطيط لهذه الثورة التي اشترك الجميع في التخطيط والتنفيذ لها.
وفي 19 سبتمبر عام 1962توفي الإمام أحمد وخلفه ابنه الإمام البدر، وكان قرار تعيين عبد الله السلال قائداً للحرس الملكي من أولى القرارات التي اتخذها الإمام، واختلف ضباط الجيش إذا كان هذا هو الوقت المناسب للقيام بالانقلاب أو الانتظار حتى عودة الأمير الحسن من الخارج للقبض عليهما معاً في وقت واحد.