المقاربات النظرية في تفسير الصراعات الاثنية
مقدمة:
استخدمت العديد من المداخل لتفسير الصراع الاثني في عالم يسعى إلى التحديث. أحد المداخل يقول بان الهويات الاثنية و الدينية للشعوب لها أسس اجتماعية و تاريخية و جينية عميقة. هذا المنظور والمسمى أحيانا بالتفسير الطبيعي يرى أن التحديث يشكل تهديدا للتضامن الاثني مما يحفز الأقليات لأن تتكتل للدفاع عن نفسها.
تفسير آخر هو التفسير الذرائعي الذي يفترض في الأهداف السياسية لأي جماعة أن تكون مكاسب مادية و سياسية و يتم استحضار الهوية الثقافية كوسيلة للحصول على تلك المكاسب.في هذا المنظور التأثير الأكثر أهمية للتحيث هو زيادة الفروق الاقتصادية أو الوعي بالفروق بين الجماعات المسيطرة والأقليات، وهو ما يراهن عليه المنظمون السياسيون لتأسيس حركات سياسية اثنية تهدف إلى الارتقاء بالوضع السياسي أو الاقتصادي لجماعتهم أو منطقتهم.أحد إفرازات هذا المنظور ما يسمى الاستعمار الداخلي و الذي اهتم بتفسير الحركات الانفصالية الإقليمية كأحد أشكال الصراع الاثني المتنامي في المجتمعات الأروبيةالمتقدمة كالحديث عن سكان ويلز و اسكتلندا في بريطانيا، سكان كورسيكا في فرنسا، إلباسك في اسبانيا.
يؤكد كل من التفسير الطبيعي و التفسير الذرائعي على عوامل مختلفة في تفسير الصراع الاثني، فالأول يؤكد على الدفاع عن الهوية الاثنية،و الثاني يؤكد على تواصل المصالح المادية و السياسية للجماعة. و لكنهما ليسا متعارضين تماما، فالنظريات الحديثة تقول بأن الجماعات الاثنية يتم تعبئتها عندما تجتمع كلتا المجموعتين من الظروف، فالشعوب ذات الجماعات الاثنية المختلفة و تتنافس على نفس الموارد و الوظائف المحدودة تبح هوياتهم الاثنية أكثر أهمية بالنسبة لهم، و تعتبر تعبئة الجماعات الاثنية أحد المحفزات الرئيسية للأفعال السياسية المستخدمة لخلق المطالب تجاه الحكومات و يعتمد مدى و كثافة الصراع الناتج على الاستراتيجيات التي يتبعها قادة تلك الجماعات و تلك التي تتبعها حكومات الدول المنتمية لها هذه الجماعات.
و سوف أحاول من خلال هذه الورقة تحديد مفهوم الاثنية و علاقته ببعض المفاهيم اللصيقة به،تفصيل مختلف المداخل المعتمدة في دراسة و تحليل الصراعات الاثنية، وأخيرا التطرق الى المؤشرات المختلفة المعتمدة في التعبئة الاثنية.
مفهوم الاثنية و علاقته بغيره من المصطلحات:
يثير مفهوم الصراع إشكالية في التعريف،فهناك من يعرفه بأنه تنازع للإرادات، وهو تنازع ناتج عن الاختلاف في الدوافع و التصورات و الأهداف و التطلعات و الإمكانات،بما يؤدي في النهاية إلى اتخاذ قرارات و إتباع سياسات تختلف أكثر ما تتفق(1). أما معجم المصطلحات السياسية فيعرف الصراع بأنه نوع من التفاعل يتسم بالمواجهات العدائية،أو بتصادم المصالح،أو السياسات أو البرامج أو الأشخاص. والصراع السياسي له مظاهر عديدة تتراوح ما بين التعبير الفظي عن الخلالاجتماعية،رك الجسدية.و عادة ما يسكن الصراع داخل المجتمعات بوسائل غير سياسية مثل الضغوط الاجتماعية، أو وضع قيود اقتصادية، أو أنه يحل عن طريق مبادرات الجماعات الخاصة.أما الصراعات الحادة التي تهدد استقرار المجتمع أو التي قد تؤدي إلى انتشار العنف أو ارتفاع درجته،فإنها عادة ما تتطلب تدخل الحكومة(2). وتزداد المسألة تعقيدا إذا ما كانت الحكومة طرفا في هذا الصراع أو تدعم أحد الطرفين على حساب الطرف الآخر، وهنا قد يتوجب الاستعانة بطرف آخر يقوم بدور الوساطة بين الأطراف المتصارعة.
لكن تنازع الإرادات و التعبير اللفظي عن الخلاف قد لا تكون مؤشرات واضحة لوجود الصراع، بل هناك من يرى إمكانية تعريف الصراع بأنه إتباع طرفين أو أكثرلأهاف متعارضة في آن واحد. و الصراع بهذا المعنى يدور حول:
- محاولة الحصول على الشيء، و مثال ذلك الصراعات التي ثارت بين الدول الاستعمارية في سعيها لاحتلال مناطق استخراج المواد الخام.
- محاولة استعادة شيء.وذلك كالصراع الذي خاضته مصر لاستعادة شبه جزيرة سيناء من أيدي القوات الإسرائيلية.
- محاولة حماية شيء و إبقاءه تحت السيطرة.مثل الصراع الباكستاني الهندي الذي تسعى الهند فيه لإبقاء كشمير تحت سيطرتها.
- إنكار شيء للطرف الآخر.و ذلك كسعي الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على منابع النفط العراقي و إنكاره أو منعه عن روسيا.
أما عن مفهوم الاثنية فهناك مجموعة من المفاهيم التي يبدو ظاهريا تقاربها في الدلالة معه رغم وجود اختلافات بينها مما يتعين عليه التفرقة بينها و التعريف بكل مفهوم على حدة.تضم هذه المجموعة مفاهيم:العرقية،الأقلية،القبلية و القومية.
أولا: الاثنية:
شاع استخدام مفهوم الاثنية بين السياسيين و علماء الاجتماع و العامة في الغرب منذ الخمسينات من القرن العشرين،و منذ الستينات أصبح اللفظ يستخدم للدلالة على جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات و التقاليد و اللغة و الدين و أي سمات أخرى مميزة،كالأصل و الملامح الفيزيقية الجسمانية،و تعيش في إطار مجتمع واحد مع جماعة أو جماعات أخرى تختلف عنها في إحدى أو بعض هذه السمات(3).
كان الاستخدام الأصلي للمصطلح يشير إلى الخرافات الوثنية أو لعقيدة أي مجتمع لا يدين بالإيمان للعقيدة اليهودية أو المسيحية، و لكن استخدامه لأكثر انتشارا الآن يشير إلى الرغبة في إنماء أو استعادة أو الاحتفاظ بشخصية سياسية مبنية على أساس عرقي أو إقليمي.فهو مصطلح يشير إلى جماعة لا تعرف بالنظر إلى المؤسسات السياسية و لكن بالنظر إلى علاقات الدين أو اللغة أو الروابط الإقليمية السائدة بين أعضائها(4).
كان الاستخدام الأصلي للمصطلح يشير إلى الخرافات الوثنية أو لعقيدة أي مجتمع لا يدين بالإيمان للعقيدة اليهودية أو المسيحية، و لكن استخدامه الأكثر انتشارا الآن يشير إلى الرغبة في إنماء أو استعادة أو الاحتفاظ بشخصية سياسية مبنية على أساس عرقي أو إقليمي.فهو مصطلح يشير إلى جماعة لا تعرف بالنظر إلى المؤسسات السياسية و لكن بالنظر إلى علاقات الدين أو اللغة والروابط الإقليمية السائدة بين أعضائها(5).
تشير الموسوعة البريطانية للجماعة الاثنية إلى أنها جماعة اجتماعية أو فئة من الأفراد في إطار مجتمع أكبر تجمعهم روابط مشتركة من العرق،واللغة،و الروابط القومية أو الثقافية(6).لكن هناك تعريفات أخرى تركز على علاقات القوة في المجتمع،فترى الجماعة الاثنية على أنها تلك الجماعة التي تعرف نفسها و تعرف من جانب الآخرين على أساس أنها حائزة لمقومات ثقافية مختلفة عن الجماعات المسيطرة، الأمر الذي يؤثر في حقوقها في المساواة السياسية و الاجتماعية-الاقتصادية في محيطها الأشمل(6).
و لكي نطلق على جماعة مجتمعا اثنيا لا بد من تلاقي المعايير التالية:(7)
1- لا بد للجماعة من اسم، ذلك ليس أمرا تافها، لأن افتقار الاسم يعكس هوية جماعية غير مكتملة التطور.
2- لا بد أن يعتقد الأفراد في أصل مشترك لهم وذلك أكثر أهمية من الروابط الجينية التي قد تتواجد.
3- الاشتراك في تراث واحد،و هو غالبا ما يكون أساطير تتناقلها الأجيال شفاهة.
4- الاشتراك في ثقافة واحدة تقوم عادة على توليفة من:اللغة، و الدين و القوانين و العادات و المؤسسات و الزى و الموسيقى و الحلاف و العمار و الطعام.
5- لابد للجماعة من أن تشعر بارتباط لإقليم محدد قد تتوطن أو قد لا تتوطن فيه.
6- لا بد للأفراد أن يفكروا في أنفسهم كجماعة تسعى لتأسيس مجتمع اثني بمعنى الإحساس باثنيتهم المشتركة، فالجماعة لا بد و أن تكون مدركة لذاتها.
ثانيا: العرقية:
يشير مفهوم العرق أو السلالة إلى مجموعة من البشر يشتركون في عدد من الصفات الجسمانية أو الفيزيقية على فرض أنهم يمتلكون موروثات جينية واحدة.و هو مجرد مصطلح وصفي يبين الاختلافات التي ينقسم إليها بنو الإنسان(
.
أما مفهوم العرقية (العنصرية) فيشير إلى الاعتقاد بأن هناك صلة بين السمات الجسمانية العضوية و الثقافية وتفوق بعض السلالات على أخرى عبر روابط سببية بين السمات الفيزيقية الوراثية و الاجتماعية البيئية و تلك النظرة الاستعلائية.و لاقت هذه الرؤية رواجا في الكتابات الغربية و خاصة في الخبرة الألمانية و إن لم ينف ذلك خبرة العديد من المجتمعات البشرية الأخرى بمثل هذه النظرة الاستعلائية القائمة على أسس وراثية أو اجتماعية(9).
ويمكن القول إن الجماعة العرقية يكمن مناط تميزها عن غيرها في اعتقاد أعضائها أنهم ينتمون إلى أصل عرقي(سلالي) مشترك. و هي في ذلك تختلف عن الجماعة الاثنية التي تمثل فيها الأبعاد الثقافية و الدينية العنصر الأساسي في التعريف على الرغم مما قد ينبني على الروابط العرقية من أبعاد ثقافية و حضارية،و ما قد يتزامن مع الأبعاد الثقافية للاثنية من وحدة العرق أو اعتقاد ذلك(10).
ومن أمثلة العرقيات التي ليست اثنيات العرقية السلافية التي ينتمي إليها كل من الروس و الأوكرانيين و الروس البيض و الصرب،إلا أن كل جماعة منهم تشكل اثنية تختلف عن الأخرى.
ثالثا: الأقلية:
الأقلية هي جماعة تشترك في واحد أو أكثر من المقومات الثقافية أو الطبيعية، وفي عدد من المصالح التي تكرسها تنظيمات و أنماط خاصة للتفاعل و ينشأ لدى أفرادها وعي بتمايزهم في مواجهة الآخرين نتيجة التمييز السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي مما يؤكد تضامنهم و يدعمه(11).
يتسم مفهوم الأقلية بالمرونة و النسبية لأنه يتحدد في الأساس من خلال وضع جماعة معينة داخل دولة أو مجتمع م.كما أنه عرضة للتغيير باستمرار بفعل عوامل عديدة،كالاندماج أو الانصهار ضمن الأغلبية العددية في الدولة،أو الهجرة أو الارتحال عن الدولة إلى مناطق أخرى، أو بفعل التهجير ألقسري،أو بفعل الانفصال عن الدولة و تأسيس كيان مستقل أو الاندماج مع دولة أخرى مجاورة(12).
هنا و قد اهتمت الدراسات الغربية بدراسة الأقليات المسلمة لاعتبارات متنوعة ترتبط بطبيعة المناطق موضع الاهتمام.فقد اختلفت دوافع دراسة الأقليات المسلمة في الاتحاد السوفيتي السابق عن دوافع دراسة الأقليات المسلمة في غرب أروبا و الولايات المتحدة، فإذا كانت الأولى تبحث عن عوامل و مظاهر عدم الانصهار،ومن ثم الآثار المحتملة على تفكك الاتحاد السوفيتي ثم ل روسيا، فان الثانية اهتمت بعواقب عدم الاندماج لعلاج ما يسمى بأزمة الإسلام في عقر دار الغرب(13).
رابعا: القبلية:
تركز بعض التعريفات على أهمية روابط القرابة في القبيلة حيث ترى فيها الأساس الذي تقوم عليه الرابطة القبلية، و هي علاقة اجتماعية تعتمد على رابطة الدم الحقيقية أو المكتسبة.و بالتالي فان أفراد القبيلة أو تفرعاتها من عشائر أو أفخاذ أو بطون أو فصائل أو أس أو غيرها، إنما ينحدرون من نسب واحد.و غالبا ما تتخذ القبيلة موقعا أو إقليما لها،فتشكل رابطة الإقليم عاملا مضافا لعامل القرابة و المصاهرة،مما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار القبيلة مجموعة اجتماعية حقيقية بسبب تمتعها بمركز ثابت قائم على إقليم معين(14).
تستخدم القبلية في الأبحاث الأنتروبولوجية للدلالة على التنظيم الاجتماعي القائم على القبيلة في الوقت نفسه على الشكل الذي تبرز فيه الهوية الثقافية و السياسية للجماعة المشكلة للقبيلة بالدرجة التي حافظت على وحدة قبلية ما رغم التفكك و التحول الذين أصابا تنظيمها الاجتماعي و القبلي من جراء الغزو الاستعماري و تشكل الدول الحديثة في المناطق المستعمرة سابقا. فالقبيلة هي وحدة سياسية تقوم على فكرة الانتماء لجد مشترك -حقيقي أو وهمي- دون أن يعني ذلك أن صلات القرابة بالدم تلعب على كل المستويات الاجتماعية دورا أوليا، إذ أن الأمر يختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى و من ثقافة إلى أخرى(15).
و يعرف معجم المصطلحات السياسية القبلية بأنها مفهوم مؤداه وجود حركة ما أو اعتقاد ما يكون مرتكزا على الدفاع عما يسمى قبلي، و الذي عادة ما يكون مخالفا لمصلحة ما هو أعم و أشمل.و القبليون يدافعون عن عادات و لغات وطقوس و تقاليد و نظم اجتماعية ضد أي محاولة - سواء حقيقية أو متخيلة - للتدخل من قبل قبيلة أخرى أو حتى من قبل الدولة(16).
ارتبط مصطلح القبيلة منذ وقت طويل بالقارة الإفريقية،إلا أن معظم دارسي إفريقيا الآن يظهرون تفضيلا واضحا لاستخدام مصطلح الاثنية،لأنه يحقق عدة مزايا منها:(17)
1- لا يفترض المصطلح مسبقا أي شكل خاص للتنظيم الاجتماعي أو مرحلة للتطور التاريخي،إذ يعترف فقط بوجود هويات خاصة مستمدة من اللغة المشتركة و الأصول الثقافية الواحدة.
2- بلائم المصطلح الدراسات المقارنة فيما وراء الحدود الإفريقية.
خامسا: القومية:
القومية مستمدة لغة من قوم وهم الجماعة من الناس تجمعهم جامعة يقومون لها، و قوم الرجل أقاربه و من يكونون بمنزلتهم تبعا له. و القومة: النهضة، ويقال: قاموا قومة واحدة. و التدقيق في هذا المعنى اللغوي يكشف عن سمتين في الجد اللغوي للمفهوم، السمة الأولى هي ارتباط القوم بالإقامة أي عنصر المكان، و ارتباطها كذلك بالقيام أي الفعل و الحركة من أجل هدف معين(18).
وحول هذين السمتين يدور تعريف معجم المصطلحات السياسية الذي يعرف القومية على أنها:(19)
1- عاطفة و ايديولوجية الارتباط بأرض أو وطن معين و بمصالح هذا الوطن أو تلك الأرض.
2- النظرية التي مؤداها أن كل دولة لا بد و أن تقوم بالارتكاز على أمة، و أن كل أمة لا بد و أن تتشكل في دولة ما بما يعني محاولة استخدام الحركة السياسية من أجل تحقيق الشخصية القومية.
والشخصية القومية لا يشترط لظهورها الصفة القومية فقط،فهي لا تتضمن فقط التكامل الإقليمي، و اللغة المشتركة والعادات و الثقافة الواحدة( و هي العناصر الضرورية في فكرة الأمة)، و لكنها تتضمن أيضا الوعي بذلك كله و أنه يشكل الأساس و الركيزة لحقوق و لتحالفات معينة متميزة من الحقوق و التحالفات السائدة في أمم أخرى،و هذا الوعي هو الذي يبرر التقارب بين أفراد الأمة.
يثير العنصر الثاني في التعريف السابق مسألة التمييز بين الاثنية و الأمة.حيث يعتبر مفهوم الأمة هو أكثر المفاهيم اقترابا و تشابها مع مفهوم الاثنية حتى انه يمكن القول إن جوهر المفهومين واحد و الاختلاف في الدرجة و النطاق،فمفهوم الاثنية أضيق نطاقا من مفهوم الأمة،و إن حمل نفس خصائصه و سماته(20).
ينصرف مفهوم القومية إذن إلى الشعور الجماعي بوجود ملامح مشتركة تاريخية، سياسية، عرقية، ثقافية، اجتماعية لدى أمة ما (بمعنى الأفراد و الجماعات)، و هو الشعور الذي من شأنه أن يحرك سلوك هذه الأمة و يعبئها لتحقيق أهدافها المنشودة في:الوحدة،الاستقلال،المكانة و الهيبة، النجاح السياسي و الاقتصادي(21).
عندما تكون هياكل الدولة ضعيفة فان القومية يحتمل أن تقوم على الاختلافات الاثنية أكثر من فكرة أن كل من يعيش في دولة يحوز نفس المزايا.فالقومية القائمة على حقوق مواطنة متكافئة و عالمية داخا إقليم تعتمد على إطار من القوانين تحمي هذه الحقوق مثل مؤسسات تسمح للمواطنين أن يعبروا عن آرائهم. على العكس من ذلك لا تعتمد القومية على المؤسسات و إنما على الثقافة(22).
ظهور القومية الاثنية قد يجعل من الصعب تحاشي بعض أشكال الصراع الاثني،حيث إن بروز القومية الاثنية لدى إحدى الجماعات سيرى على أنه يمثل تهديدا للآخرين و سيقود لمشاعر مماثلة في أماكن أخرى،و هو ما سيزيد من حدة التمايزات بين الجماعات و يزيد احتمال اضطهاد الأقليات الاثنية و مطالبتهم بدولة خاصة بهمزكما قد تيسر القومية الاثنية على الجماعات تعبئة الجيوش،و هو ما سيقود الآخرين إلى أن يكونوا حذرين و يبنوا قواتهم المسلحة الخاصة بهم(23).
الصراع الاثني و مدارسه التفسيرية:
مما سبق يمكن تعريف الصراع الاثني بأنه نوع من التفاعل بين جماعتين أو أكثر تختلف كل جماعة منها عن الأخرى في العادات و التقاليد و اللغة و الدين و سمات أخرى مميزة كالأصل والملامح الفيزيقية. إلا أن هذا التفاعل يتسم بإتباع الطرفين لأهداف متعارضة و السعي لتحقيقها في آن واحد.
عندما لا يتحول الاضطهاد ألاثني إلى صراع اثني، فغالبا ما يكون ذلك لضعف الجماعة المعرضة للاضطهاد.تتحول المشكلات الاثنية إلى صراعات اثنية مع ضعف سلطة الدولة،و ربما تضعف المشكلات الاثنية ذاتها الدولة، أو لأن الدولة تتفكك لأسباب أخرى جعلت الأفراد يعودون لولاءات أقدم و أكثر تقليدية(24).
تتسم الصراعات الاثنية بخصائص منها:(25)
1- تميل هذه الصراعات للاستمرار مدة طويلة.و لعل ذلك من طبيعة الأشياء، حيث إن أطراف الصراع يتم تعريفها من خلال خصائص يصعب تغييرها-كالعرق أو الديانة أو اللغة-و بالتالي من المحتمل أن يطول أمد الصراع بين الأطراف.
2- من حيث طبيعة أطراف الصراع فالحروب ما بين الدول تتم بين حكومات،و الحروب الأهلية غالبا ما تنشب بين حكومات متنافسة أو جماعات تسعى للسلطة، أما الصراعات الاثنية فغالبا ما تكون بين حكومات و حركات اثنية، و يرفض كل طرف قبول شرعية الآخر.
3- في المراحل الأولى للصراع الاثني يكون هناك خلافات داخل المجتمع الاثني نتيجة سعي الجماعات الفرعية لجعل نفسها الممثل الشرعي للاثنية.هذه الخاصية ليست مطلقة لأنه في بعض الحالات توفر الترتيبات القائمة قيادة موحدة للحركة الاثنية.
مصادر الصراعات الاثنية بين المدارس المختلفة:
يصعب الحديث عن نظرية واحدة تفسر الصراعات الاثنية،فقد تعددت الدراسات حول الصراع الاثني و مع تنوع تخصصات الدارسين تباينت رؤاهم حول تفسير هذا الشكل من أشكال الصراع. إلا أنه يمكن إجمالا القول بوجود أربع مجموعات من التفسيرات: التفسيرات الطبيعية، التفسيرات الذراعية، التفسيرات النظمية والبنيوية والتفسيرات السيكولوجية الإدراكية.
أولا: التفسيرات الطبيعية:
يعتبر الاقتراب الطبيعي (ألوشائجي) primordialist الاثنية خاصية ثابتة للأفراد و المجتمعات. و سواء وجدت جذورها في الخصائص البيولوجية أو في عقود الممارسات فانه يصعب على الأفراد تغييرها. يرى أصحاب هذا الاقتراب أن الانقسامات و الاضطرابات أمور طبيعية، والصراع ينساب من التباينات كما أنه كامن في الاثنية ذاتها(26). يؤكد محللو الصراع داخل هذا الاقتراب على أهمية الهوية الاثنية حيث يفترض الصراع الاثني مواجهة بين أو وسط شعب ذي هويات اثنية متباينة،و الفرد لا يختار أن يكون عضوا في فئة اجتماعية و لكنه يولد فيها. يضفي هذا عليه هوية أولية ما.ويستخدم المجتمع ذلك من أجل تصنيف أعضائه ليس تبعا لما يفعلون بل وفقا لما هو مفترض أن يكونوا عليه و ما هو متوقع منهم(27). و تعتمد هوية الجماعة الاثنية على عدد السمات المشتركة بين أعضاء الجماعة بحيث كلما زاد عدد هذه السمات مثل الدين، الثقافة، التاريخ المشترك، محل الإقامة و العرق (السلالة)، زادت قوة الهوية(28).
الكتابات الأولى عن الاثنية بعد الحرب العالمية الثانية في المجتمعات الرأسمالية و الاشتراكية استبعدت احتمال استمرار بقاء الاثنية في الدولة العصرية الحديثة. و ظهر لذلك توقعان، الأول ليبرالي و الآخر ماركسي. اعتمد التوقع الليبرالي على أن نمو الاتصالات و الثقافة داخل المجتمعات سيذيب و يلغي العلاقات الأولية في المجتمع و يستبدلها بعلاقات حديثة قائمة على الولاء للدولة و مؤسساتها.
تأثر هذا التوقع بالفكرة القومية كما عرفها الغرب منذ الثورة الفرنسية و كذلك تجربة بوتقة الانصهار الأمريكية.لكن في أواخر الستينات بدأت الفرضية الليبرالية تواجه تحديات عندما بدأت الأحداث تسير بالاتجاه المعاكس. أما عن الفرضية الماركسية فتوقعت أن اتجاه المجتمعات نحو الحداثة سيتم من خلال بناء البنية الاجتماعية الاقتصادية التحتية التي ستحول العلاقات الأولية إلى علاقات مبنية على الطبقة، ولكن ذلك لم يتم أيضا(29).
فشل التوقعين الليبرالي و الماركسي حد بالبعض(30) للقول بأن كل أبعاد التحديث تقريبا تميل إلى عدم تخفيف وتيرة العواطف الأولية في البداية و إنما إلى تسريعها.و تم التركيز على بعدين من أبعاد التحديث: الأول هو إدخال جائزة قيمة جديدة إلى المجتمع يتم التقاتل عليها أي "الدولة"، و الثاني تأسيس حق الانتخاب العام الذي جعل إغراء مخاطبة الجماهير بالتماس الو لاءات التقليدية أمرا لا يقاوم.
من بين الانتقادات الموجهة للاقتراب الطبيعي افتراضه ثبات الهوية و فشله في تفسير الاختلافات في مستوى الصراع عبر الزمان و المكان حيث يعجز عن تفسير ظهور هويات جديدة و متحولة أو تفسير الفترات الطويلة التي لا تكون الاثنية فيها خاصية سياسية بارزة أو تكون العلاقات بين الجماعات الاثنية المختلفة سلمية نسبيا(31).
ثانيا: التفسيرات الذرائعية:
يرى الاقتراب ألذرائعي الاثنية أداة يستخدمها الأفراد و الجماعات أو النخب لتحقيق غاية مادية كبرى. الاثنية هنا سواء استخدمت بشكل دفاعي لتعطيل طموحات آخرين أو هجوميا لتحقيق غاية شخصية لفرد، فإنها تصبح عنوانا أو مجموعة من الروابط الرمزية التي تستخدم لتحقيق أغراض سياسية مثل عضوية جماعة مصلحة أو الانخراط في حزب سياسي(32). يشدد الذرائعيون على تنوع الاثنية و مرونتها، بالمقارنة برؤأفرادا وأحيانا ساكنة و الأحادية البعد للاثنية. و تكشف دراستهم هن الهوية القبلية و اللغوية و الدينية أن أفرادا وأحيانا مجموعات بأكملها يتخلون عن هوية لصالح مجموعة أخرى. أما عن كيف يمكن لهوية معينة أن تحظى بامتيازات على هوية أخرى، فيرى الذرائعيون بتبنيهم نظرية الخيار الرشيد أن الانتهازيين السياسيين يستطيعون تسييس الهويات التي كانت في السابق ثقافية فحسب عن طريق إظهار المنافع المادية للتماهي مع قبيلة معينة أو دين أو مجموعة لغوية(33).
تستدعي التفسيرات الذرائعية الحديث عن الاثنية المسيسة و علاقة الديمقراطية بالاثنية، و هو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- الاثنية المسيسة:
ليس من المحتمل أن تأتي الشكاوي الاثنية إلى دائرة اهتمام الحكومات أو المراقبين الخارجيين حتى يتم التعبير المتواصل عنها بواسطة قادة الحركة السياسية الذين يدعون تمثيل مصالح جماعتهم. و من الصعب الحكم على أصالة مطالب الممثلين لأن المنظمات المتنافسة تدعي تمثيل الجماعة، و لأن الحكومات التي يتم تحديها من قبل الجماعات الاثنية غالبا ما تحاول أن تقلل من قيمة هذه المطالب و مصداقيتها(34).
يميل الساسة الانتهازيون في المجتمعات المتعددة الاثنيات إلى الاعتماد على المحفزات الاثنية و القومية، و هي طريقة فعالة في الغالب لحشد الدعم و اكتساب المؤيدين(35). و عندما يمارس السياسيون الاثنية فأنهم لا يشيرون إلى مصالحهم الحقيقية مثل السعي للسلطة و الثروة لكنهم يعملون على استغلال القبول الذي تحظى به الاثنية لدى القواعد الشعبية المهيأة لمثل هذا التلاعب نتيجة قبولها المسبق لأنظمة تصنيف الهويات الفئوية(36).
يظهر تأثير عامل الاستغلال السياسي في الحالات التي تكون فيها الاختلافات الدينية أو الطائفية مكونا هاما في الصراع الاثني، و تظهر مجموعة من الأساطير تهدف إلى جعل الاضطهاد الديني أحد الأسباب الأولية للحروب التي تشنها الجماعات على بعضها البعض. ففي العديد من الصراعات الاثنية هناك اختلافات دينية بين الأطراف المتحاربة ضمن عوامل أخرى حقيقية أو مصطنعة. و مع ازدياد كثافة بعض هذه العوامل تتزايد حدة الصراع. في هذه الحلقة المفرغة يصبح المكون الديني جزءا مما يمكن اعتباره ميراثا تاريخيا و نفسيا و ثقافيا بما يحمله من مشاعر الانتقام(37). بل و هناك البعض(38) الذي يرى أن الصراعات الاثنية هي صراعات عقيدية الأساس، حيث العقيدة بذاتها هي حاجة، لأن كل الأفراد بحاجة لأن يشعروا بمستوى من الهوية من خلال الانتماء لجماعة عقيدة.
و لابد أن يوضع في الاعتبار مجموعة من الملاحظات عند تقييم المطالب المتعلقة بمصالح الجماعات الاثنية:(39)
1- المصالح الجماعية ليست واحدة،حيث يوجد تنوع في المصالح الفردية و الجزئية داخل كل جماعة اثنية و يمكن افتراض وجود عدد من الأفراد في كل جماعة اثنية مضطهدة يفضلون قبول الوضع القائم،أو يظلون محايدين بدلا من السعي من أجل القضية العادلة لشعبهم.
2- التنظيم السياسي ضرورة لصياغة الأهداف و التعبير عن المصلحة الجماعية، و يمكن القول بأن الشعوب المضطهدة أو التي تعرضت للغزو لها مصلحة موضوعية جماعية في المساواة و الحكم الذاتي.
3- تتغير أهداف الجماعة أثناء وجرى الصراع الاثني حيث يتزايد الإجماع على المصالح المشتركة أثناء مجرى الصراع المكشوف و يزيد الصراع مع عدو خارجي من التضامن داخل الجماعة.
2- علاقة الديمقراطية بالاثنية:
تسمح الديمقراطيات بمدى واسع من المشاركة السياسية التي قد تشمل بعض أوقات الاحتجاجات، أحداث الشغب، التمرد الواسع. و على الرغم من ذلك لابد أن يؤخذ في الاعتبار أن الديمقراطيات الوظيفية الكاملة تحمي قيما أساسية مثل المساواة أمام القانون و الحقوق السياسية و الدينية الكاملة، و لهذا يصبح التمييز ضد الجماعات الاثنية أقل احتمالا للحدوث، و الاحتجاجات العنيفة أقل شيوعا(40).
تضع الاثنية مجموعة من المعوقات عند بداية عملية التحول الديمقراطي،فإذا كان النظام القديم هو امتداد لأقلية اثنية اضطهدت جماعات أكبر فان المشكلات الاثنية ستعقد المفاوضات حول الترتيبات السياسية من بدايتها.إذا زاد النظام القديم من المشكلات الاثنية بالاشتراك في الاستيعاب الجبري و الاستبعاد الاثني أو حملات الإبادة فان عملية التحول الديمقراطي تصبح مشحونة عاطفيا و مثيرة للمشكلات و ستظهر العديد من المشكلات الاثنية على الأجندة السياسية.على الجانب الآخر،إذا استطاع النظام القديم أن يوازن بين الجماعات الاثنية الأساسية بطريقة تمثيلية عادلة و مواصلة سياسات متوازنة تجاهها،فان القضايا الاثنية ستلعب دورا أقل بروزا في المفاوضات حول الترتيبات الجديدة(41).
كما يمكن لالتقاء الانقسامات الاثنية و الاجتماعية أن يعوق الديمقراطية التنافسية حيث يرى البعض أن الانتخابات الديمقراطية تكرر الانقسام الاثني داخل البرلمان عندما تلتحم الهويات الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و السياسية لإنتاج أحزاب تمثل طبقة أو مجموعة اثنية واحدة تمثيلا صارما.و بالتالي إذا أستخدم الحزب الفائز انتخابه و سيطرته على البرلمان لكي يقص الأحزاب الاثنية الأخرى عن السلطة بشكل دائم،فانه لن يكون هناك حافز يدفع الخاسر إلى التمسك بقواعد اللعبة الديموقراطية(42).
لا يقتصر أثر الاثنية على التحول الديمقراطي على ما سبق و إنما يمتد لمجموعة قضايا يمكن إجمالها على النحو التالي:(43)
1- الحجم النسبي للجماعات الاثنية في الدولة.فإذا كانت هناك جماعة أكبر حجما من مثيلاتها، فانه من المحتمل أن تسيطر المناقشات حول الترتيبات الأساسية الجديدة وسيتم تجاهل مصالح الأقلية.أما إذا كانت المفاوضات بين اثنين أو أكثر من الجماعات المتكافئة الحجم فانه ستتم مناقشة كل الاهتمامات الأساسية للجماعات.
2- إذا كانت المعارضة للنظام القديم تقودها جماعة أو اثنتان،و كان النظام القديم ذاته امتدادا لثالثة فان النظام السياسي للدولة سيتفتت بسهولة من خلال الخطوط الاثنية و هو ما ستكشفه عملية التحول الديمقراطي. من ناحية أخرى، إذا كانت المعارضة للنظام القديم قد انبثقت عن كل الجماعات الاثنية الكبرى في هذا المجتمع،فان هذه الجماعات سيكون لديها أساس تعاوني يبدءون منه مناقشاتهم حول الترتيبات السياسية الجديدة.
3- إذا كانت القواعد العسكرية تدين بالولاء لجماعة اثنية واحدة و ليس للدولة،فان إمكانية إدارة الصراع الاثني ليست جيدة.أم إذا كانت تدين بولائها للدولة فهنا الإمكانيات أفضل.
ينتج عن الاقتراب الذرائعي إمكانية تطبيق الدروس المستفادة من الصراعات الاثنية على نوعيات أخرى من الصراعات. إذا لم تختلف الاثنية المسيسة عن الأشكال الأخرى للمناورات السياسية فلن يختلف الصراع الاثني عن الصراعات الأخرى القائمة على المصلحة أو الإيديولوجية.طبقا لهذه الرؤية فان الصراع الاثني رغم انتشاره هو جزء من عملية صراع أكبر. لكن يوجه الذرائعيين الانتقاد بان الاثنية ليست شيئا يمكن أن يقرره الأفراد وقتما شاءوا مثل الارتباطات السياسية الأخرى و لكنها كامنة داخل المجتمع الأكبر الذي يتحكم فيها و يسيطر عليها، و بالتالي فان هناك طبيعة اجتماعية كامنة في كل الاثنيات بحيث لا يمكن فهمها إلا داخل إطار من العلاقات(44).
ثالثا: التفسيرات النظمية و البنيوية:
تركز التفسيرات النظمية على طبيعة نظم الأمن التي تعمل في إطارها الجماعات الاثنية و الاهتمامات الأمنية لهذه الجماعات.يتطلب الصراع الاثني إن تتواجد جماعتان اثنيتان أو أكثر على مقربة من بعضهما البعض، و أن تبلغ السلطات القومية و الإقليمية و الدولية درجة من الضعف لا تستطيع معها منع الجماعات من الاقتتال أو ضمان حماية الجماعات فرادى.ففي النظم التي تنعدم فيها السيادة أو تسود الفوضى، على الجماعات أن تتولى أمور الدفاع عن نفسها و عليها أن تقلق بشأن ما إذا كانت الجماعات المجاورة توجه تهديدات أمنية لها و ما إذا كانت هذه التهديدات ستزداد أم تتضاءل عبر الزمن.المشكلة التي تواجهها الجماعات أنها في محاولتها للدفاع عن نفسها و تعبئة الجيوش و نشر القوات المسلحة فإنها تهدد أمن جماعات أخرى. و هذا بدوره يمكن أن يقود الجماعات المجاورة إلى أن تتخذ إجراءات تقلل من أمن الجماعة الأولى، و هذه هي معضلة الأمن(45).
تسعى التفسيرات البنيوية إلى التأكيد على الطبيعة الاجتماعية للاثنية،و تشير إلى أن الاثنية تتشكل من أنسجة كثيفة لتفاعلات اجتماعية.ففي الرؤية البنيوية ليست الاثنية خاصية فردية لكنها ظاهرة اجتماعية،و تظل هوية الفرد خارج الاختيار أو التحكم من جانبه.و مع تغير التفاعلات الاجتماعية تتطور مفاهيم الاثنية، فحتى أواخر الثمانينات من القرن العشرين حفزت المكافآت التي قدمتها الحكومة الفيدرالية العديد من الأفراد في صربيا، كرواتيا، البوسنة، و جمهوريات أخرى على تطوير هوية يوغوسلافية، و مع تفكك الدولة اضطر هؤلاء الأشخاص أنفسهم بفعل الأحداث المتلاحقة إلى العودة إلى جذورهم الاثنية الأكثر خصوصية(46). و مع كثافة الاتصال و التفاعل فيما بين أفراد الجماعة يزداد تماسكها إلى المدى الذي يستعد من خلاله أعضاء الجماعة للالتزام بوضع مواردهم و طاقاتهم في العمل باسم مصالحهم المشتركة، و على الجانب الآخر يضعف التماسك عند الجماعات إلي يوجد بها حركات و تنظيمات سياسية متنافسة(47). يمكن القول مما سبق أن التفسيرات البنيوية تشترك مع التفسيرات النظمية في التركيز على التفاعل ما بين الجماعات.
الجماعات غالبا ما تكون غير واعية لتأثير أفعالها على الآخرين. و في حالات أخرى تدرك هذه المشكلة و لكن تتصرف بأية طريقة لأنها تشعر أنها مجبرة على مواجهة ماتراه تهديدات أمنية وشيكة.و تنشأ الاضطرابات بين الجماعات الاثنية عندما يتوافر شرطان:الشرط الأول عندما يصعب التمييز بين القوات المسلحة الدفاعية و الهجومية،فالجماعات لا تستطيع أن تبرز نواياها الدفاعية من خلال القوات العسكرية التي تنشرها.القوات المنتشرة لأغراض دفاعية ستكون لديها قدرات هجومية و لهذا سيراها الآخرون مصدر تهديد. الشرط الثاني أنه إذا كانت العمليات العسكرية الهجومية أكثر فعالية من العمليات الدفاعية نتيجة طبيعة التقنية العسكرية أو نوع القدرات المتوافرة، فان الجماعات سوف تتبنى مواقف عسكرية هجومية و سيكون لديها حوافز قوية لشن هجمات سريعة في الأزمات السياسية(48).
تختلف الجماعات الاثنية من حيث درجة بروز الهوية لديها،و من المعتاد أن تكون الهوية قوية عند الشعوب المعرضة للخطر، و الأمم التي يتم غزوها.و تساهم ثلاثة ظروف خارجية في بروز هوية الجماعة:(49)
1- قوة الأضرار الواقعة على الجماعة الاثنية مقارنة بجماعات أخرى.
2- مدى الاختلافات الثقافية بين جماعة اثنية و جماعات أخرى تتفاعل معها.
3- كثافة الصراع مع الجماعات الأخرى و الدولة.
عندما تنهار الإمبراطوريات تجد الجماعات الاثنية نفسها مطالبة بالدفاع عن ذاتها.و تخلق الجغرافيا الاثنية غالبا مواقف تدعم الهجوم على الدفاع. و في بعض الحالات تخلق الجماعات الاثنية جزرا منعزلة من الأفراد عن بقية الجماعات، و يصبح الدفاع عن هذه الجزر في حالة العداوات أمرا صعبا، فكلها معرضة للحصار،و غالبا ما تحاول الجماعات استبعاد جيوب الأقليات من إقليمها و في عمليات التطهير الاثني تكون للهجوم مزايا تكتيكية عديدة(50). و من ناحية أخرى يتعاظم التماسك وسط الجماعات التي تتركز في منطقة واحدة، و كذلك التي تعيش في ظل حكومة إقليمية شبه مستقلة ذاتيا(51).
رابعا: التفسيرات السيكولوجية الإدراكية:
يؤكد التفسير السيكولوجي على الملامح العاطفية الرمزية للصراع الاثني(52) و تركز بعض التفسيرات الإدراكية على القصص التي تسوقها الجماعات الاثنية عن نفسها أو عن غيرها،و كثير من هذه القصص لا تخضع للفحص أو التدقيق حيث تم تناقلها شفاهة عبر الأجيال و أصبحت أحد معارف الجماعة و تكون غالبا انتقائية في تغطية الأحداث و غير محايدة في تفسيرها لهذه الأحداث.تزداد مبالغة القصص عبر الزمن بحيث تعطي البطولة لإحدى الجماعات و تمنعها عن الأخرى، و تعطي القدسية لمطالب جماعة في حين تصف الأخرى بأنها كانت وحشية و عدوانية في تعاملها،و غالبا ما يعامل أعضاء الجماعة هذه الأساطير الاثنية على أنها تراث حقيقي(53).
ليس من المستغرب أن القصص الشفهية للجماعات تنطوي على تنافس مكثف يصبح مرآة لصور هذه الجماعات.الصرب على سبيل المثال يرون أنفسهم حماة أرويا و يرون الكروات قتلة سفاحين، في حين يرى الكروات أنفسهم ضحايا القهر و الصرب هم المعتدون.في ظل هذه الظروف تؤكد ادعاءات الجانبين امتلاكهما نسقا عقيديا و تفسر ردود الأفعال الانتقامية هذه الأشكال من المعتقدات و الادراكات تخلق ضغوطا متزايدة و يستغلها الساسة الانتهازيون بما يزيد من حدة المشكلات(54).
يرى دارسوا الإدراك السيكولوجي أن هناك عمليات إدراكية ليس فقط في الأحكام و السلوكيات على المستوى الشخصي و إنما أيضا على مستوى الجماعات.و في العمليات الإدراكية لا تقيم المواقف استنادا لنتائجها على الذات فقط و إنما أيضا لآثارها على جماعة الفرد.و يهتم هؤلاء الدارسون بما يسمى القوالب الجامدة التوافقيةconsensual stéréotypes و التي هي عبارة عن معتقدات مشتركة حول الخصائص التي يملكها أعضاء جماعة ما. مع مثل هذه القوالب الجامدة يشترك أعضاء جماعة ما في معتقدات رمزية تضم تنويعات واسعة من القيم و الادراكات تشمل إدراك كيف تتواءم جماعة معينة مع مجتمع و تساهم في جعله مكانا أفضل أو أسوأ للعيش فيه،كما تشمل رؤى حول كيفية تنظيم و تشغيل المجتمع.التباين في مثل هذه المعتقدات و ليس الخصائص الاثنية الثقافية، يسبب أحكاما مسبقة و توجهات سلبية تجاه جماعات أخرى، كما يسبب عداء ما بين الجماعات(55).
الاختلافات في المعتقدات الرمزية أو الاختلاف في هيراركية هذه المعتقدات، أو حتى الاختلافات المفترضة لهيراركية هذه المعتقدات،كل هذه الأمور تدمر الشعور بإنسانية مشتركة ما بين جماعتين أو أكثر،و لهذا تقود لصراعات تميل بشدة للعنف.في هذه الصراعات يدرك أعضاء الجماعة ليس فقط ذواتهم و لكن قيمهم المعرضة للتهديد.و عندما تتعرض القيم و المعتقدات الرمزية التي تشترك فيها جماعة التهديد، فإنها تميل لأن تصبح أكثر بروزا. و لذلك من السهل لجماعة اثنية مسيطرة اللجوء إلى العنف و الاضطهاد ضد جماعة متدنية الوضع تؤيد التغيير الاجتماعي من أن تراجع الجماعة المسيطرة قيمها و معتقداتها الرمزية(56).
أسباب التعبئة الاثنية:
ان من أهم العوامل المساهمة في التعبئة الاثنية مفهومي التمييز و هوية الجماعة الاثنية. ويشير التمايز الى التفاوتات الاجتماعية في الوضع المادي لأعضاء جماعة ما أو الفرصة السياسية مقارنة بجماعات أخرى.و تتضمن الجماعة الاثنية أفرادا تقوم هويتهم على سمات مشتركة كالدين، الثقافة،التاريخ المشترك،محل الاقامة،العرق (السلالة). و تزداد قوة هوية الجماعة مع تزايد عدد الخصائص المشتركة بين أعضائها.
أولا: التمييز
هو مدى التفاوتات الاجتماعية في الوضع المادي لأعضاء جماعة ما أو الفرصة السياسية مقارنة بجماعات أخرى.يتفاعل الأفراد ضد المعاملة التمييزية و ربما يستخدمون غضبهم للانشاء أو التدمير.فقد يكون التمييز حافزا لبذل مجهود أكبر من أجل النجاح و اثبات الذات،و ربما يهاجر الأفراد هربا من ذلك التمييز.لكن هناك أفراد يكونون على استعداد لتحدي منافسيهم و مهاجمة مصادر استيائهم.
وثمة مؤشرات متعددة للتمييز،فسياسات الحكومة التي تعامل الجماعات الاثنية بدون مساواة هي أقل مؤشرات التمييز غموضا.التفاوتات بين الجماعات الاثنية قد تنتج أيضا عن تمييز تاريخي أو تباينات ثقافية و اقتصادية أعطت لبعض الجماعات مزايا عن الآخرين.
- مؤشرات التمييز الاقتصادي: و يمكن اجمالها في:
- السياسات العامة التي تقيد الأنشطة الاقتصادية أو أدوار أعضاء الجماعة.
- الدخل المنخفض،الاقامة في أماكن فقيرة الخدمات،ارتفاع معدلات وفيات الطفال مقارنة بجماعات أخرى في المجتمع.
- فرص محدودة للجماعة في التعليم خاصة التعليم العاليز
- ضعف نسبة من يشغلون وظائف تجارية ،ادارية،مهنية من الجماعة.
مؤشرات التمييز السياسي: و تتمثل في:
- السياسات العامة التي تقيد مشاركة الجماعة في الحياة السياسية و فرص وصولها لمناصب سياسية.
- مشاركة أقل في الحياة السياسية مقارنة بجماعات أخرى في المجتمع.
- ضعف نسبة من يشغلون مناصب بالانتخاب،أو في الخدمة المدنية،أو في الشرطة أو في الجيش من أعضاء الجماعة.
ثانيا: هوية الجماعة:
تعتمد هوية الجماعة الاثنية على عدد السمات المشتركة بين أعضاء الجماعة. كلما زاد عدد هذه السمات مثل الدين، الثقافة، التاريخ المشترك، محل الاقامة، العرق أو السلالة زادت قوة الهوية. والجماعات المتماسكة هي تلك التي تمتلك شبكات اتصال وتفاعل كثيفة تربط أعضاءها ببعضهم البعض كما تربط القادة باتباعهم، وكلما زاد عدد الأجنحة أو الطوائف داخل الجماعة قل ترابطها. ولقوة هوية الجماعة خصائص كلما زادت بين اعضائها زادت قوة الأولى وتتمثل في:
- مدى اشتراكهم و استخدامهم للغة واحدة.
- نسبة من يشتركون في معتقدات دينية واحدة.
- خصائص عرقية ظاهرة.
- تاريخ مشترك لفترة لا تقل عن قرن من الزمان.
- ثقافة مشتركة،عادات اجتماعية تطورت و مورست عن قرب.
الخاتمة:
يمكن تعريف الصراع بأنه إتباع طرفين أو أكثر لأهداف متعارضة في ذات الوقت، و الصراع بهذا المعنى قد يدور حول محاولة الحصول على شيء، أو استعادته، أو حمايته و إبقائه تحت السيطرة، أو إنكاره للطرف الآخر.أما عن مفهوم الاثنية فتم التعريف به في إطار التفرقة بينه و بين بعض المفاهيم الأخرى مثل العرقية،الأقلية،القبلية و القومية.
و انتهت الدراسة إلى إمكانية تعريف الصراعات الاثنية فمن الصعب الحديث عن نظرية واحدة تفسر هذه الصراعات،فقد تعددت الدراسات حول الصراع الاثني و مع تنوع تخصصات الدارسين تباينت رؤاهم حول تفسير هذا الشكل من أشكال الصراع.إلا أنه يمكن إجمالا القول بوجود أربع مجموعات من التفسيرات:التفسيرات الطبيعية،و التفسيرات الذرائعية، و التفسيرات النظمية و البنيوية، و التفسيرات السيكولوجية الإدراكية.
يعتبر الاقتراب الطبيعي الاثنية خاصية ثابتة للأفراد و المجتمعات، و أن الانقسامات و الاضطرابات أمور طبيعية،و ينساب الصراع من التباينات كما أنه كامن في الاثنية ذاتها.
أما الاقتراب الذرائعي فيرى الاثنية أداة يستخدمها الأفراد و الجماعات أو النخب لتحقيق غاية مادية كبرى. و يشدد الذرائعيون على تنوع الاثنية و مرونتها،بالمقارنة مع رؤية الطبيعيين الساكنة و الأحادية البعد للاثنية.
تركز التفسيرات النظمية على طبيعة نظم الأمن التي تعمل في اطارهاالجماعات و الاهتمامات الأمنية لهذه الجماعات.أما التفسيرات البنيوية فتسعى إلى التأكيد على الطبيعة الاجتماعية للاثنية و تشير إلى أن الاثنية تتشكل من أنسجة كثيفة لتفاعلات اجتماعية.
يؤكد التفسير السيكولوجي الإدراكي على الملامح العاطفية الرمزية للصراع الاثني و القصص التي تسوقها الجماعات الاثنية عن نفسها أو عن غيرها.
و للقول بأن جماعة ما تشكل مجتمعا اثنيا أشارت الدراسة إلى ضرورة تلاقي المعايير التالية:
- وجود اسم للجماعة ليعكس هوية جماعية مكتملة.
- الاعتقاد في أصل مشترك و ذلك أكثر أهمية من الروابط الجينية التي قد تتواجد.
- الاشتراك في تراث واحد،و هو غالبا ما يكون مجموعة من الأساطير التي تم تناقلها شفاهة عبر الأجيال.
-الاشتراك في ثقافة واحدة تقوم عادة على توليفة من:اللغة، الدين، القوانين، العادات، المؤسسات، الزي، الموسيقى، الحرف، المعمار و الطعام.
- الشعور بارتباط لإقليم محدد.
- الإحساس بالاثنية المشتركة و إدراك الجماعة لذاتها.
و توصلنا في الختام إلى نتيجة مفادها أن ليس كل الجماعات الاثنية تتجه بالضرورة إلى العنف و الصراع، بل أن التعبئة الاثنية لا تتحقق إلا في ظل توفر أسباب مساعدة و مشجعة على ذلك منها سياسية،اقتصادية و تمييزية في الغالب.