الأسباب الحقيقية لتعثّر انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي

الأسباب الحقيقية لتعثّر انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي




المشهد الأول: باريس ـ المقر الرئيسي للجبهة الوطنية الفرنسية. رئيس الجبهة جان ماري لوبان يعقد مؤتمراً صحافياً استثنائياً يعلن فيه تنظيم حملة لرفض قبول طلب انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية، ومقاومة هذا الطلب على قاعدة "حماية الأوروبيين من تأثيرات الحضارة الاسلامية الدخيلة بكل ما تحمله من قيم مناقضة لقيم الحضارة الأوروبية المسيحية".
المشهد الثاني: أنقره ـ المقر الرئيسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم. رئيس الحزب، رئيس الحكومة ـ رجب طيب أردوغان يبلغ قيادة الحزب تعديل قانون العقوبات لرفع العقوبة عن الزنى بما يتوافق مع الطلب الأوروبي تسهيلاً لقبول طلب انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية . غير أن أعضاء في الحزب يتحفظون من التعديل على قاعدة "أن الاتحاد الأوروبي أنشئ في محيط مسيحي، فهل يجوز أن نُذوّب في هذا المحيط حتى تُقبل عضويتنا؟... وهل نتخلى عن ثقافتنا ونتنازل عن اسلامنا كرمى لعيون الأوروبيين؟
يعكس المشهد الأول خوفاً من الاسلام. ويعكس المشهد الثاني خوفاً على الاسلام.
الخائفون من الاسلام في أوروبا ليسوا محصورين في الجبهة الوطنية الفرنسية وهي حركة يمينية متطرّفة معادية ليس فقط للمسلمين، ولكنها معادية لليهود أيضاً. فالخوف يشمل قوى وشخصيات سياسية داخل الحكومة الفرنسية وخارجها. ومثل هؤلاء كثيرون في بقية الدول الأوروبية أيضاً.
أما الخائفون على الاسلام في تركيا فليسوا أعضاء حزب العدالة والتنمية حصراً. فهناك قوى وشخصيات حزبية وفكرية وسياسية أعربت عن مثل هذه المخاوف... وحذرت من أن تركيا قد تدفع ثمن قبول انضمامها إلى المجموعة الأوروبية ضياع هويتها ومسخ شخصيتها وربما تمزيق وحدتها الوطنية. وتلقى مخاوف هؤلاء على الاسلام صدى في العديد من الدول العربية والاسلامية التي تخشى من أن يؤدي انضمام تركيا إلى المجموعة الأوروبية بالشروط التي تفرضها المجموعة إلى ضياع الاسلام التركي وانحلاله.
لم يعد سراً أن الاسلام يشكل البعد الأساس وراء أي قرار أوروبي من طلب تركيا الانضمام إلى المجموعة الأوروبية. فإذا رفض الطلب التركي، فإن ذلك قد يوحي بأن الحذر من الاسلام "الاسلاموفوبيا" هو الذي أملى قرار الرفض. وبالتالي فإن هذا الرفض لن يكون موجهاً ضد تركيا حصراً ولكنه قد يفهم على أنه موجه ضد الاسلام أيضاً. وإذا تجاوبت أوروبا مع الطلب، فإن معنى ذلك أن المجموعة الأوروبية ومعها الولايات المتحدة أيضاً تأمل في تعميم التجربة التركية التي تجمع بين الديموقراطية والاسلام في بقية دول العالم الاسلامي.
ليست المجموعة الأوروبية نادياً مسيحياً، فقد رفضت أن يتضمن دستورها الموحد أي نص يشير إلى المسيحية ديناً، أو حتى ثقافة، رغم كل المحاولات التي بذلها البابا يوحنا بولس الثاني، ورغم كل التجاوب مع هذه المحاولات التي أبدتها دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي مثل البرتغال واسبانيا ودول حديثة العضوية مثل بولندة. فقد نص الدستور بدلاً من ذلك على احترام كل العقائد الدينية وحرية الايمان، الأمر الذي يشمل الاسلام واليهودية وسواهما من العقائد الأخرى (البوذية ـ الهندوكية...). ثم ان المسلمين يشكلون اليوم نحو 12 في المئة من مجموع الأوروبيين. ولذا فحين وضعت تركيا قانوناً للعقوبات يرى في الزنى جريمة، وفي الإجهاض قتلا للنفس، تعاملت أوروبا مع القانون على أنه دليل جديد إلى افتقاد تركيا الى ثقافة احترام الحريات والحقوق الفردية مما لا يؤهلها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لم يقم هذا التعامل على قاعدة مسيحية، إذ إن المسيحية كالاسلام، تحرم الزنى والاجهاض، ولكنه يقوم على قاعدة الليبرالية والعلمانية المتفلتة من كل الضوابط الدينية.
غير أن هذه الصورة لم تصل إلى حزب العدالة والتنمية بشكل واضح، الأمر الذي أدى إلى ردات الفعل التي تعبر عن الخوف على الاسلام ديناً وثقافة.
هناك أسباب عديدة أخرى تملي الموقف الأوروبي الحذر من الطلب التركي:
السبب الأول هو عدد السكان. فتركيا التي يبلغ عدد سكانها اليوم 71 مليوناً يمكن أن تصبح بعد عقد من الزمن، أكبر دولة عضو في المجموعة الأوروبية. وحتى أكبر من ألمانيا، ومن شأن ذلك أن يعطيها صوتاً أعلى داخل المجموعة ومقاعد أكثر في البرلمان الأوروبي. ذلك أن الدستور الأوروبي يحدد عدد المقاعد بنسبة عدد السكان. وبموجب ذلك سيكون لتركيا مقاعد في البرلمان الأوروبي أكثر مما لدى اسبانيا أو البرتغال أو حتى فرنسا. وستكون اللغة التركية لغة رسمية معتمدة في اجتماعات ووثائق المجموعة الأوروبية.
السبب الثاني هو مستوى الدخل الفردي، حيث يقل في تركيا بنسبة 15 في المئة عنه في أفقر دولة عضو في المجموعة الأوروبية. ومن شأن ذلك أن يحمل دول المجموعة مسؤولية تقديم مساعدات كبيرة لرفع مستوى الدخل حتى يتماشى مع المستوى الأوروبي العام... وهو ما يقلق وزراء المال الأوروبيين. ثم إن تركيا ترزح تحت عبء دَين كبير وتعاني في الوقت نفسه عدم إقبال المستثمرين عليها حتى ان كل ما تمكنت من جذبه من استثمارات في العام الماضي بلغ مليار دولار فقط، أي ما يعادل خمس حجم الاستثمارات التي حصلت عليها هنغاريا وحدها.
إلا أن الاقتصاد التركي حقق في العامين الماضيين نمواً سنوياً قدره 8.4 في المئة. رافقه انخفاض حاد في التضخم. وفوق ذلك، فإن نسبة عالية من سكان تركيا هم شباب فيما تتسم مجتمعات معظم الدول الأوروبية الأخرى بالشيخوخة. وفيما يتزايد عدد السكان في تركيا كل سنة، يتناقص عدد سكان هذه الدول كل سنة أيضاً مثل ألمانيا وإيطاليا.
السبب الثالث هو أن الكثافة السكانية وانخفاض الدخل في تركيا مع انفتاح الحدود مع أوروبة سوف يحمل الملايين من الأتراك على الهجرة إلى الدول الأوروبية الأخرى مما يغرق هذه الدول في موجات متلاحقة من المهاجرين المختلفين ثقافياً واجتماعياً وعقائدياً أيضاً. ومع العلم أن هذا الأمر صحيح من حيث المبدأ، إلا أن الصحيح أيضاً هو أن الدول الصناعية الأوروبية تفتقر إلى اليد العاملة ليس في الصناعة فقط، ولكن في الزراعة أيضاً، وهي في حاجة إلى "استيراد" اليد العاملة لئلا تتوقف دواليب اقتصادها عن الدوران.
السبب الرابع هو أنه باستثناء مدينة اسطنبول وجزء صغير من غرب البلاد، فإن تركيا تقع جغرافياً في آسيا، وليس في أوروبا (وبحكم هذا الموقع تجاور تركيا دولتين من دول الشرق الأوسط هما إيران وسوريا، وهما الدولتان اللتان تعتبران الأشد استعصاء على التدجين والاحتواء في المنطقة، فإذا ما انضمت تركيا إلى المجموعة الأوروبية فإن ذلك يعني امتداد حدود أوروبة حتى الشرق الأوسط بكل ما فيه من تعقيدات ومتاعب سياسية وأمنية.
ولكن متى كانت أوروبة بعيدة أو غير معنية بتعقيدات ومتاعب الشرق الأوسط؟ ألم تكن أوروبا عاملاً أساسياً في زرع بذور هذه التعقيدات والمتاعب التي أينعت اليوم على الشكل الذي يعاني منه العالم كله؟ ثم هل ان الشرق الأوسط بالنسبة لأوروبة هو مجرّد كمّ من التعقيدات والمتاعب؟ وماذا عن أسواقه الاستهلاكية...؟ وماذا عن النفط...؟ وماذا عن الاستراتيجية الأمنية...؟
السبب الخامس هو احترام الحريات الدينية. لقد كانت تركيا توصم دوماً بانتهاك الحريات الدينية. إلا أن الحكومة الجديدة المنبثقة عن حزب اسلامي في الأساس، وانطلاقاً من السماحة الاسلامية ومن العقيدة نفسها، أعادت النظر في العديد من القوانين بحيث إن الحريات الدينية أصبحت مصونة ومحترمة. وقد أقرّ بذلك غونتر فورهوجين مفوّض المجموعة الأوروبية المكلف قضايا التوسعة، إلا أنه رسم علامة استفهام حول تطبيق هذه القوانين الجديدة.
السبب السادس هو احترام الحريات الاثنية، وتحديداً الأكراد الذين يشكلون نحو عشرة في المئة من مجموع السكان، وقد اعترفت الحكومة لأول مرة بلغتهم القومية في التعليم وفي الاعلام إلا أنها لم توافق على منحهم حكماً ذاتياً. وهي لو فعلت ذلك لتمزقت تركيا ـ على غرار ما بدأ يحدث الآن في السودان ـ بل ان تركيا تقف ضد مشروع استقلال شمال العراق، وحتى ضد منحه حكماً ذاتياً دون أن يلقى هذا الموقف معارضة من المجموعة الأوروبية أو حتى من الولايات المتحدة نفسها.
وبعد أن وافقت تركيا على مشروع الأمين العام للأمم المتحدة بشأن قبرص، وبعد أن مارست ضغطاً شديداً على حكومة قبرص التركية للموافقة على المشروع، الأمر الذي أدى إلى إقصاء عبد الرؤوف دنكتاش عن رئاسة الحكومة لأول مرة منذ عام 1974، لم تعد هناك مشكلة بين تركيا واليونان، لا في بعدها الطائفي ـ الديني، ولا في بعدها العنصري ـ العثماني ـ الهلّيني.
منذ عام 1963، أي منذ أربعين عاماً وتركيا تطرق بوابة المجموعة الأوروبية دون أن يؤذن لها بالدخول. وفي عام 1987 قدمت الطلب الرسمي الأول للحصول على العضوية الكاملة، وبعد عامين أي في عام 1989 أوصت المجموعة الأوروبية برفض الطلب... من دون أن تغلق الباب نهائياً. وبقيت تركيا تنتظر. وخلال عقود الانتظار الطويلة كانت تتلقى الشروط، وكانت تبادر إلى التعامل معها بإيجابية بما تحتمه من إصلاحات داخلية أساسية، لعل من أهمها إقصاء الجيش عن السياسة. وفي التسعينات انضمت إلى الاتحاد الجمركي مع أوروبا، وكانت ثانية دولة توقع اتفاق شراكة معها.
هذا الأسبوع أبدت الأمانة العامة للمجموعة الأوروبية استعدادها للبدء في إجراء مفاوضات مع تركيا بشأن طلب انضمامها. إلا أن بت هذا الطلب سوف يتأخر حتى موعد القمة الأوروبية المقررة في 17 كانون الأول القادم، في وقت يحذر فيه فاليري جيسكار ديستان الذي ترأس لجنة صياغة الدستور الأوروبي الموحد، من أن قبول طلب تركيا يعني نهاية الوحدة الأوروبية... وفي وقت تضغط الولايات المتحدة على الدول الأوروبية لقبول الطلب التركي احتواء لها وتشجيعاً لبقية دول العالم الاسلامي، ولكن القوى المهيمنة على المجموعة الأوروبية تأنف أن يأتي تجاوبها مع الطلب التركي بضغط أميركي، أو استجابة لتدخل أميركي. بل ان الحرص الأميركي على قبول تركيا عضواً في الأسرة الأوروبية بدأ يشكل مشكلة لتركيا نفسها لما تتسم به السياسة الأميركية في أوروبا من رفض وحتى من كراهية.
في عام 1683 استطاع التحالف الأوروبي رد القوات التركية عن أبواب فيينا، فهل تعود تركيا إلى أوروبا من بوابة بروكسل؟
الأمر الأكيد هو أن طريق تركيا إلى بروكسل لا تمر في واشنطن!!

[img][/img]