يعد ابن خلدون قمة من قمم الفكر الإسلامي فهو أوّل من استطاع أن يستخلص السياسة من الاعتبارات الدينية(1)، كما أنه أول من أدخل مبدأ العلمية الطبيعية في دراسة الظواهر التاريخية والسياسية والاجتماعية، وحاول استخلاص القوانين الطبيعية التي تحكم قيام الدولة وزوالها وحاول وضع الدولة في إطارها الحضاري(2) منطلقاً من المدن الواقعية التي عرفها وعاش فيها لا من المدن الطوباوية، ومن الأحداث التي سايرها وعرفها، وليس من الخيال. فلقد استقرأ واقعه ملتزماً بالمنهج العلمي، وجعل السياسة موضوعاً لعلم نظري بعدما كانت هزيلة في حركة المسلمين العلمية(3). تقسم إلى ثلاثة أقسام “يسمى أولها بالخلق وموضوعه تحديد العلاقة بين السلطان والرعية والثاني عملي ويحدد تصرف الحكومة نحو الأفراد فيما يتعلق بالمسائل العامة ويتعلق بالتشريع، والثالث نظري ويختص بنظام الخلافة، وضروريتها وأساسها من الدين والعقل. ومختلف آراء المسلمين في وراثة السلطة في أسر الخلفاء واحتمال وجود خليفتين ويكون ذلك جزءاً من علم الكلام(4). وكذلك يُعدّ ابن خلدون رائداً في الفكر العالمي، حقق ثورة في جميع مناهج العلوم الإنسانية(5) ووضع الكثير من العلوم، منها: التاريخ، وفلسفة التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي(6).
وُلد عبد الرحمن ابن خلدون في تونس (732هـ ـ 1332م) في وسط ثقافي إسلامي عريق في وقت كانت شمس الحضارة العربية الإسلامية في أفول، وهو سليل أسرة من أعرق الأسر العربية اليمنية في حضرموت، كانت قد نزحت إلى الأندلس منذ الفتح وخرجت من إشبيلية إلى اتجاه تونس لما أدركت حتميّة سقوطها الذي تمّ فعلاً في (646هـ ـ 1248م)(7). عاش متنقلاً ما بين بلاد المغرب والأندلس ومصر والشّام والحجاز، اعتلى مناصب مختلفة، ما بين كاتب وقاض ومعلم ووزير، تكبّد عظام المصائب وتعايش مع بيئة سياسية قلقة مضطربة، مما زاده حنكة وتجربة وجلادة وإدراكاً، أشعره أن التاريخ الحضاري والسياسي للدول الإسلامية يميل نحو المغيب وأن الزعامة والتفوق والقوة انتقلت نحو الشمال؛ إلى الضفة الشمالية من البحر التي ستسحب البساط ثم تغزو الأراضي الإسلامية. لقد كان لابن خلدون “نظرة تنبئيّة تفسر أسباب الكولونيالية التي تمت في القرن التاسع عشر(
.
انزوى ابن خلدون في قلعة بني سلامة[1] لمدة أربعة أعوام من (776هـ ـ 1375م) إلى (780هـ ـ 1379م)، متخلياً عن الشواغل كلها وكتب “المقدمة” التي تعتبر دائرة للمعارف(9)، جاءت في صيغة تأليفية لم يترك فيها ظاهرة إلا وأتى على تفصيلها من حيث أسباب نشأتها، ومراحل تطورها، ومدى خطورتها في العمران وفي شؤون المجتمع، سواء أكان ذلك في الميادين السياسية وشؤون الإدارة ومرافق الحياة وأسباب المعاش أم في اختلاف المذاهب وتباين الأخلاق وأصناف العلوم وتنوّع الفنون(10) “فابن خلدون ـ كما ذكر توينبي في كتابه دراسة التاريخ ـ قد أنتج أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنساني في كل زمان ومكان”(11).
لقد حوت المقدمة أفكار ابن خلدون السياسي التي سنحاول حصرها فيما يلي:
يرى ابن خلدون أن الاجتماع الإنساني ضروري وأن الحكماء قد عبروا عن هذا بقولهم: “الإنسان مدني بالطبع”(12)، فلقد اتفق في هذا الرأي مع أفلاطون(13) وأرسطو(14)، وردد بعض حججهم، بل واتفق أيضاً مع الفارابي(15)، وابن الربيع(16) اللذين سارا على المنهج اليوناني مبيّناً: “… أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من الغذاء غير موفية لـه بمادة حياته منه ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري. هب أنه يأكله حباً من غير علاج، فهو أيضاً يحتاج في تحصيله حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه، الزراعة والحصادة والدارس الذي يخرج الحبّ من غلاف السنبل، ويحتاج كل واحد من هذه إلى آلات متعددة وصنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير، ويستحيل أن توفي بذلك كله أو بعضه قدرة واحدة فلابد من اجتماع القدرة الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت لـه ولهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم لأضعاف.
وهذا التعاون عنده ليس فقط لتسهيل الحياة بل لاستمرارها وبقاء الجنس البشري و”ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل لـه قوت ولا غذاء ولا تتم حياته، لما ركّبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل لـه أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك عن مدى حياته، ويبطل نوع البشر”(18).
غير أن ابن خلدون اختص وتميّز عن حكماء اليونان ومن تابعهم بأنه رأى أن هذا التعاون والتجمع بين الناس، لا يحصل إلا بالإكراه الذي يأتي من الدولة التي تقوم على الصالح العام لإدراكها لـه ومعرفتها به، وإلا سيصبح سلوك الإنسان حيوانياً، يأكل القوي الضعيف. يقول ابن خلدون موضحاً ذلك “… فلابدّ من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لِمَا في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم… فلابدّ من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض… ويكون الوازع واحداً منهم يكون لـه عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو الملك”(19). كما يقول أيضاً في فصل “إن السعادة والكسب إنما تحصل غالباً لأهل الخضوع والتملق وأن هذا الخلق من أسباب السعادة”، “… ثم إن هذا التعاون لا يحصل إلا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النوع، ولما جعل أهم من الاختيار… وقد يمتنع من المعاونة فيتعين حمله عليها، فلابدّ من حامل يكره أبناء النوّع على مصالحهم، لتتم الحكمة الإلهية في بقاء هذا النوع”(20).
يبدو أن نظرية إكراه الدولة على التعاون قد تشابهت كثيراً مع نظرية هيجل (1770/ 1831م) القائلة إن الدولة وحدها هي المُدركة للصالح الحقيقي للشعب، ومن ثمَّ فإرادتها هي الواجب فرضها من فوق إلى تحت(21).
وعلى الرغم من أن ابن خلدون رأى أن الدولة لها خاصية الإكراه، فإن هذا الإكراه ـ الذي رآه ـ يعدّ إيجابياً، إذ يحمل الناس على التعاون وعلى الاستمرار، ولم يفته أبداً التركيز على الأخلاق، بل إنه ربط بين السياسة والأخلاق، فالأخلاق تكسب الدولة القوة، وزوالها سبب للضعف والانهيار. “… اعلم أن الدنيا وأحوالها كلها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية، فقد الوصول، وليس مراده فيما ينتهي عنه أو يضمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية، أو إقلاعه من أصله وتعطيل القوى التي نشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد استطاعه حتى تصير المقاصد كلّها حقاً، وتتحد الوجهة…”(22). كما ربط ابن خلدون بين حسن الملكة والرفق وبين الظلم وخراب الدول الحتمي”… فإن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات، منقباً عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلقوا بما فسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحرب والمدافعات وفسدت الحماية بفساد النيّات، وربما اجتمعوا على قتله لذلك فسدت الدولة ويخرب السياج”(23)، ثم إن الرفق عنده يتطلب من السلطان “النعمة” على الرعية، التي يفسرها تفسيراً اقتصادياً إذ تقوم بـ”النظر لهم في معاشهم” فالرعاية هي النسيج الذي يربط بين السلطان والرعية وتنشر بينهم المحبة(24) وفي هذا يقول: “… أما توابع حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم، فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك، وأما النعمة عليهم، والإحسان لهم فمن جملة الرفق بهم، والنّظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبّب إلى الرعية(25).
يرى ابن خلدون أن هناك تلازماً بين الدولة والمجتمع فالمجتمع لا شكل لـه دون دولة إذ هي التي تعطيه شكله فهماً كالصورة والمادّة اللتين يتلازمان في فلسفة أرسطو تلازماً لا يمكن معه اكتشاف أي مادة دون صورة أو أي صورة دون مادة ما عدا حالة مستثناة وهي صورة الله(26) وهذا التصور الميتافيزيقي أخذ به هيجل الذي ذكر أن الشعب مجرد من السلطة لا شكل لـه وإنما الدولة هي التي تضفي عليه الشكل(27). يقول ابن خلدون “… والسبب الطبيعي الأول في ذلك على الجملة أن الدولة والملك للعمران، كالصورة للمادة، وهو الشكل الحافز بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران لا تتصور والعمران دون دولة والملك متعذر”(28).
لقد رفض ابن خلدون أن يكون الحاكم مفرط الذكاء أو مفرط الغباء أو فيلسوفاً أو عالماً فقيهاً. وهذا ـ كما يبدو ـ “… إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطّرفان مذمومان من كل صفة إنسانية والمحمود هو التّوسط”(29) فالحاكم الذكي يكلف الناس فوق طاقتهم”… اعلم أنه قلّما تكون ملكة الرفق في من يكون يقظاً شديد الذكاء… وأقل ما يكون في اليقظ أنه يكلف الرعية فوق طوقهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مباديها بألمعيته فيهلكون”(30). واتخذ من قصة زياد بن أبي سفيان مثالاً، لما عزله عمر عن العراق فقال له: “لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألعجز أو لخيانة، فقال عمر: “لم أعزلك لواحدة منهما، ولكنني كرهت أن أحمل فضل عقلك على النّاس”(31). ولا شك أيضاً أن ابن خلدون اعتمد في هذا على الوسطية التي نادى بها الإسلام.
أما الفلسفة فقد أبطلها ابن خلدون وجعلها مفسدة للملك ومخالفة للدين(32). وهو بهذا الرأي خالف تماماً ما ذهب إليه أفلاطون في جمهوريته، في أن أحق الناس بالحكم هم الفلاسفة وحدهم(33). أما العلماء الفقهاء فهم “يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنّظر، أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة…”(34).
يعارض ابن خلدون الفكرة القائلة أن النّبوة ضرورية لتأسيس الحكومة إذ لا يتأتّى قيام دولة ما دون إرشاد من الله، فالله يبدي إرادته بواسطة نبي يرسله إلى الناس، وأولئك الرسل هم الذين يؤسسون الحكومات ويسنّون الشرائع(35). والتاريخ يؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون، إذ كثير من الشعوب عاشت دون أن تُسن شرائعها على أيدي رسل(36)، وقد قدم مثالاً عن المجوس يقول فيه: “… فأهل الكتاب والمتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلاً عن الحياة”(37).
إذن، المهم أن تحكم الدولة قوانين سياسية، وإلا سوف لن تستمر، وقد وضح ذلك في قوله: “… فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة يسلمها الكافة’ وينقضون إلى أحكامها… وإذا خلت الدولة من مثل هذه السياسة، لم يستتب أمرها ولا تتم استيلائها(38).
ويصنّف هذه السياسات إلى أربعة أنواع:
ـ سياسة دينية مستمدة من الشّرع منزلة من عند الله وهي نافعة في الدنيا والآخرة.
ـ سياسة عقلية تتمثل في القوانين المفروضة من “العقلاء وأكابر الدولة وبصائرها” وهي حمل الكفة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار(39).
ـ سياسة طبيعية، وهي حمل الكفّة على مقتضى الغرض والشهوة.
ـ سياسة مدينة “وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع، وإنما يتكلمون عنها على جهة الفرض والتقدير، ويسمّون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك بالمدينة الفاضلة والقوانين المراعاة في ذلك بسياسة المدينة(40).
أما الحكم الذي يفضله ابن خلدون، فهو الخلافة الشرعية، وهي “حمل الكفة على مقتضى النّظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية، وهي في الحقيقة نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا”(41)، وذلك لأن أحكام الملك “في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته”(42).
يقرن ابن خلدون لفظ إمامة بلفظ خليفة أمّا تسميته إماماً فتشبيهاً بإمام الصّلاة في اتباعه والاقتداء به، وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبيr في أمته، فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول اللهr(43) وهو على الرغم من أنه ذَكَر أن الخليفة والملك، خلفاء الله في عباده، إلا أنه لم يكن يقصد بذلك الحق الإلهي أو التيوقراطية في الحكم، كغيره من المفكرين الإسلاميين، فالقرآن ينص على أن جميع النّاس خلفاء الله في الأرض وليس أناساً بعينهم وقد تنبه ابن خلدون لذلك وذكر قول أبي بكر القائل: “لست خليفة الله ولكني خليفة رسول اللهr“.
ولخّص ابن خلدون شروط الخلافة في الإجماع، وهذا راجع إلى اختيار أهل العقد والحل، علاوة على شروط أربعة وهي العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس والأعضاء مما يؤثر في الرأي والعمل، أما النسب القرشي فقد ذكر أنه قد اختلف عليه.
وللخليفة مسؤولية حفظ الدين وسياسة الدّنيا، أما حفظ الدين فعن طريق الخطط الدينية المتمثلة في إمامة الصلاة، وإعطاء حق الفتوى إلى أهل العلم وإعانتهم على ذلك وإبعاد من ليس أهلاً لها، ومباشرة القضاء والإشراف على العدالة والحسبة والسكّة(44).
أمّا الخطط السلطانية التي تُدرج في مهام سياسة الدنيا فأولها الوزارة وهي أم الخطط السلطانية والرّتب الملوكيّة لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة وهي مأخوذة من المؤازرة وهي المعاونة، أو من الوزر وهو الثقل وقد يصبح الوزير مستبداً بالحكم، ويكون هو القائم بالحكم، وهنا تسمى الوزارة وزارة تفويض، وحينما يكون السلطان قائماً على نفسه تكون الوزارة وزارة تنفيذ، وهذا ما عبر عنه، أيضاً، الماوردي(45) في الأحكام السلطانية. ثم الحجابة، والحاجب هو من يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم، ويفتحه لهم على قدره في مواقيته، وديوان أعمال الجبايات وهو القيام على أعمال الجبايات وحفظ الدولة في الدخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم ثم ديوان الرسائل والكتابة والشرطة وقيادة الأسطول.
وأعطى ابن خلدون مقاماً كبيراً للجغرافية في صنع الظواهر الاجتماعية ثم السياسية، فإلى اختلاف الأقاليم الطبيعية يعود ما يميز المجتمعات بعضها من بعض، في ألوانها ونشاطها وشجاعتها وكثرة عددها أو قلته وما فطرت عليه من طبائع باختلاف مساكنها على سطح الأرض من جبل أو سهل أو صحراء ومن منطقة باردة أو حارة أو معتدلة، ومن منزل خصب إلى واد ليس ذي زرع(46) بل وذهب إلى أن النظام الغذائي أيضاً يؤثر على البناء الفيزيولوجي والبناء النفسي وما يترتب على هذه وتلك من الأبعاد السياسية(47).
يقسم ابن خلدون الكرة الأرضية إلى سبعة أقاليم، أعدلها الإقليم الرابع وما يحيط به من الإقليم الثالث والخامس،والثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، أما الأول والسابع فهما أبعد بكثير. ولهذا كانت العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال وسكانها من البشر أعدل أجساماً وألواناً وأخلاقاً وأدياناً، حتى النبوّات فإنما توجد ـ في الأكثر ـ فيها ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية… وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم،… وهؤلاء أهل المغرب والشّام والحجاز واليمن والعراقين والهند والسند والصين وكذلك الأندلس ومن قرب منهما من الفرنجة والجلالقة والروم واليونانيين(48).
يؤيد تاريخ الحضارة فعلاً ما ذهب إليه ابن خلدون، فالحضارات الكبرى، كالحضارة الإسلامية والساسانية واليونانية، والرومانية لم تكن إلا في المناطق المعتدلة.
يخصص ابن خلدون بعد ذلك جزءاً للحديث عن أثر الهواء في اختلاف البشر ويذكر أن الحَرّ يُولّد الخفة والطيش وكثرة الطّرب والولع بالرقص والغفلة عن العواقب، على عكس المناطق الباردة التي ترى أهلها يميلون إلى الحزن ومفرطين في النّظر إلى العواقب(49)، ثمّ يتحدث عن اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم ويذكر أن المتقشفين من أهل البادية والحضر ممن يأخذ نفسه بالجوع والتّجافي عن الملاذ أحسن ديناً وإقبالاً على العبادة من أهل التّرف والخصب “ألوانهم أصفى، وأبدانهم أنقى، وأشكالهم أتم وأحسن، وأخلاقهم أبعد من الانحراف وآذانهم أثقب في المعارف والإدراكات”. كما ذهب إلى أن التحمّل والجلد والصّبر هي من سمات أهل الجوع(50)، ولاشك أنه هنا تأثر بالحديث النّبوي القائل: [المعدة بيت الداء]، ولا يخفى أن ابن خلدون سبق الدراسات الطبيّة الحديثة التي تقوم على الغذاء وتجعله سبباً لكل داء.
لقد كان ابن خلدون رائداً لعلماء الغرب في الربط بين الظواهر الجغرافية والظواهر الاجتماعية والسياسية، لقد تأثر به منتيسكيو (1689-1755م) وأعلن أن مجتمعات الطّقس الحر تميل إلى الخمول والكسل، ومجتمعات الطقس البارد تميل إلى النشاط والحيوية، ففي نظره كلّما كان الطقس حاراً ساد الحكم الاستبدادي، وكلّما كان بارداً كان ملائماً لظهور الديمقراطيات، فالاسترخاء والكسل يساعدان الناس على الخضوع للحاكم المستبد والبرودة تساعد الشعوب على الوصول إلى الحرية السياسية، كما أن الأرض السهلة التي لا تمنح مانعاً طبيعياً للمقاومة والدّفاع ينشأ فيها نظام استبدادي طغياني، أما الأرض الجبلية فتمنح النّاس الشجاعة والبطولة، وتساعدهم على المقاومة الطويلة وبدهي أن الديمقراطيات تقوم فيها، بينما تكون السهول مكاناً ملائماً لقيام الحكومات الاستبدادية(51).
في الواقع، أن منتسكيو غالى كثيراً في رأيه، وفاته أن ابن خلدون قد أعطى قيمة للمناخ والطبيعة، لكنه أدخل في حسابه عوامل أخرى لتكوين الظاهرة السياسية كالدين والعصبية والظروف الاقتصادية والتربية والتعليم حيث نراه يقول: “إن الإنسان ابن عوائده ومألوفه”(52).
يَقسم ابن خلدون سكان الدولة إلى بدو وحضر وسكان الصحارى المتوغلين فيها البعيدين عن الحضارة، وهو يدعوهم بالمتوحشين. غير أنه أشاد كثيراً بسكان البدو، “فهم أصل للمدن والحضر وسابق عليها”، وعرفهم قائلاً: “فهم المنتحلون للمعاش الطّبيعي من الفلاحة والغراسة والزراعة والقيام على الأنعام، وأنهم مقتصرون على الضروري في الأقوات والملابس والمساكن، وهم يعيشون في القرى والأرياف، لأنها متّسع لما لا تتسع لـه الحواضر من المزارع والمسارح للحيوانات، فأهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيّئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير أو شر”. “وأهل البدو إن كانوا مقبلين على الدنيا، إلا أنهم في المقدار الضروري لا في التّرف ولا في شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها، وهم أقرب إلى الشجاعة من الحضر وأكثر تلاحماً “لأنهم عصبية وأهل نسب واحد” وأكثر حياء ووقاراً يحترمون مشايخهم وكبراءهم الذين يشرفون عليهم ويكونون وازعاً لهم(53).
أما أهل الحضر فـ”لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدّنيا والعكوف على شهواتهم منها، قد تلوثت أنفسهم بكثير من الشّرور، وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه “كما أنهم يتخاذلون ويتقاعسون” ووكلوا أمرهم والمدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم الحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولّت حراستهم” على المبدأ القائل “إن قوماً يلبسون السراويل المطرزة بالورود الجميلة لن يستطيعوا الدفاع عن مفاخرهم الوطنية في ميدان القتال”(54) ثم إن أهل الحضر ساءت أخلاقهم وابتعد عنهم الحياء ” حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذعون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم، ولا يصدّهم عنه وازع الحشمة، لما أخذتهم به عوائد السوء والتظاهر بالفواحش قولاً وعملاً… إن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير”.
إن هذه الموازنة بين البدو والحضر هي التي انتهى منها ابن خلدون إلى نظرية العصبية التي هي صلب نظرياته السياسية، وأساس وجهة نظره في الحكم والقوة والدولة، لقد ابتكرها ابتكاراً وأيدها بما شاهده من أحوال الأمم التي عاشها وسمع عنها.
يعرف ابن خلدون العصبية بـ”نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته… وما جعل الله في قلوب عباده من الشّفعة والنّعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في أتباع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر “ويقول في موضع آخر”… إن صلة الرحم طبيعية في البشر إلا في الأقل، ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة… فإذا كان النّسب الواصل بين المتناصرين قريباً جداً بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة فاستدعت ذلك بمجردها وضواحيها… وهذا الباب، الولاء والحلف، إذ نعرة كل أحد على أهل ولائه وخلفه للأنفة التي تلحق النفس من اهتضام جارها أو قريبها أو نسبها بوجهة من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء مثل لحمة النّسب أو قريب منها…”(55).
إذن، العصبية عند ابن خلدون هي “النعرة والتناصر”(56) بين الجماعة، عن طريق الدّم الواحد وعن طريق الجيرة أو الحلف أو الولاء أو طلب الحماية “أو الفرار من قومه بجناية أصابها”(57) بل إنه أدرج موالي الجماعة وعبيدها وصنّاعها ضمن عصبيتها”، فإذا اصطنع أهل العصبية قوماً من غير نسبهم أو استرقّوا العبيد والموالي والتحموا بهم… ضرب معهم أولئك الموالي والمصطنعون بنسبهم في تلك العصبية ولبسوا جلدتها كأنها عصبيتهم”(58).
فابن خلدون لم يكن ضيق الأفق بطرحه لنظرية العصبية، ولم يكن يقصد بها الدّم وحده، بل كل ما يؤدي إلى الالتحام والمناصرة عن طريق “العشرة والمدافعة، وطول الممارسة، والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة”، بل إنه أوضح أن العصبية بالدم أقل قيمة من كل هذه الرّوابط “لأن أمر النّسب وإن كان طبيعياً فإنما هو وهمي”(59).
وذكر ابن خلدون كل الرّوابط التي تؤدي إلى العصبية التي عرفت في زمانه، وهذا لا يعني أن هذه النّظرية ليست صالحة لهذا الزّمان، ذلك أن رابطة الحزب السياسي، والجمعيات والأحلاف والاتحادات والمبادئ السياسية والقوميات كلّها تندرج في مفهوم العصبية التي جاء بها، والدّول الحديثة لا زالت تبنى على العصبيات. وإذا كان ابن خلدون لم يذكر هذه الروابط فذلك لأنها لم تكن معروفة في عهده.
العصبية عند ابن خلدون هي أساس القوة، ثم هي أساس التّغلب الذي هو أساس الرّئاسة، وعنها يقول: “ولما كانت الرياسة إنما تكون في الغلب، وجب أن تكون العصبية ذلك النّصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتم الرياسة لأهلها “فلا يمكن أبداً الامتزاج والاجتماع والدّول بعصبيّات متكافئة القوى، “فالعصبيات لابدّ أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل، حتى تجمعها وتؤلفها وتصيّرها عصبية واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها”(60)، ثم يستطرد ويذكر أن هناك نوعين من العصبية، عصبية خاصة وأخرى عامة، فكل حي أو بطن من القبائل وإن كانوا عصابة واحدة لنسبهم العام، فبينهم أيضاً عصبيات أخرى لأنساب خاصة هي أشد التحاماً من النّسب العام لهم، والنّعرة تقع من أهل النّسب الخاص، أو من أهل النّسب العام، إلا أنها في النّسب الخاص أشد لقرب اللحمة، لذا تكون أكثر قوة، ويجب عليها الرّياسة.
يذهب ابن خلدون إلى أن أهل البدو أقدر على التغلّب وصنع الدّول لشجاعتهم وإقدامهم وبسالتهم وخصوصية نسبهم وصراحته وقوة عصبيتهم “ولا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد، لأنهم بذلك تشتدّ شوكتهم ويخشى جانبهم”(61) فكلّما كان الجيل وحشياً كان أشد شجاعة، وكلّما تحضّر نقصت الشّجاعة وضاعت الغلبة، ومثلهم في ذلك مثل بعض الحيوانات التي تفقد وحشّيتها حينما تدجّن وتخالط الآدميين، ويبين أن أهمية العصبية ليست فقط للوصول إلى الغلبة والرياسة بل “في كل أمر يحمل الناس عليه من نبوّة أو إقامة ملك أو دعوة، إذ بلوغ الغرض من ذلك كلّه إنما يتم بالقتال عليه لما في البشر من الاستعصاء(62).
وكما تحتاج الدّعوة الدّينيّة إلى عصبية تقوم بها على مبدأ ما جاء في الحديث النّبوي “ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه”(63)، فإن العصبية تحتاج إلى دعامة الدين حتى تقضي على التّنافس والتّحاسد اللذين ينبعان من أهل العصائب الأخرى ومن أهل العصبية الحاكمة أيضاً “فالصبغة الدّينية تذهب بالتنافس والتّحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق…”، كما أنها تؤلف بين جميع القلوب “وسرّه أن القول إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل وأقبلت على الله واتّحدت وجهتها، فذهب التنافس، وقلّ الخلاف، وحسن التّعاون والتّعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة”(64) كما يذكر أيضاً: “واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين، وفسدت كيف ينتقد الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدّين. فيغلب الدّولة من كانت تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غلبتهم بمضاعفة الدين بقوتها، وكانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة”(65).
إنّ السياسة ليست منفصلة عن الدّين ومثاله عن العرب الذين “نبذوا الدين فنسوا السّياسة” وبُعد عهدهم عن السياسة لما نسوا الدين(66). كما تحتاج العصبية ـ للتغلب أيضاً ـ إلى الأخلاق الحميدة وإلا ستصبح كشخص مقطوع الأعضاء”، إذا كان الملك غاية للعصبية فهو غاية لفروعها ومتمماتها، وهي الخلال، لأن وجوده دون متمماته كوجود شخص مقطوع الأعضاء أو ظهوره عرياناً بين النّاس”(67) ثم إن الفضائل السياسية ليست ضرورية للحاكم وحده بل ضرورية لبقاء عصبيته وقبيلته على الرّياسة”… وبالعكس من ذلك إذا تأذّن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرّذائل، وسلوك طرقها، فتفقد الفضائل السّياسية، منهم جملة ولا تزال في انقراض إلى أن يخرج الملك من أيديهم”.
والواقع أن أهميّة الدّين في تغلب العصبية ثم الدّول لم تكن خاصّة بالعصبيات العربية والدول الإسلامية التي عرفها ابن خلدون، فانظر كيف استعمل التّبشير بالمسيحية لدى الدّول الأوروبية حينما بدأ الاستعمار الحديث، لقد ذكر شنكال رئيس غرفة التجارة في همبرغ “إن نموّ ثورة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات، وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة، لأن هذا هو الشّرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية”(68). ثم ألم تقم وتقوى إسرائيل بالدّين؟ ألم تجمع اليهود شتاتاً من كل العالم ليكوّنوا دولة حملت شعار الدين اليهودي؟.
لم يفت ابن خلدون أن يتحدّث عن أهمية عدد أهل العصبية فإن قوة واستمرار العصبية مرتبطان بكثرة عددها(69) “والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية وأهل العصبية. لهم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها، فما كان من الدولة العامة قابلها وأهل عصابتها أكثر، كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطاناً وكان ملكها أوسع لذلك”(70).
فأهل العصبية يتوزعون حصصاً على الممالك والثغور، ويقومون بالحماية والجباية، “إن كانت العصابة موفورة، ولم ينفذ عددها في توزيع الحصص على الثغور والنّواحي، بقي في الدولة قوّة على تناول ما وراء الغاية، حتى ينفسح نطاقها إلى غايته”، فغاية العصبية الغالبة هي التغلّب على عصبيات أخرى بعيدة عنها، فسوف لن تكتفي بالتّغلب على العصبيات التي تحيط بها فقط، فالهدف أكبر من ذلك” وإن غلبتها واستتبعتها التحمت بها أيضاً، وزادت قوة في التّغلب إلى قوتها. طلبت غاية من التّغلب والتحكّم أعلى من الغاية الأولى وأبعد. وهكذا دائماً حتى تكافئ بقوتها قوة الدولة”(71) ولذلك تقوم قوتها في كثرة عددها كما أنه أوضح أنه إذا حصل الملك والتّرف كثر التّناسل والعمومية فكثرت العصابة(72).
تحدث ابن خلدون أيضاً عن النسب الشريف وأهميته في القوة المعنوية للعصبية مبيّناً “أن ثمرة الأنساب وفائدتها إنما هي العصبية، للنعرة والتّناصر، فحيث تكون العصبية مرهوبة ومخشية والمنبت فيها زكي محمي تكون فائدتها” لكنه مع ذلك يعترف أن الحسب والنسب كائن فاسد لا يدوم على وتيرة واحدة من قوة ومنعة، بل إنه لا يعطي قيمة للحسب الطّبيعي “إلا ما كان من ذلك للنبيr كرامة به وحياطة على السّر فيه” فالشّرف والحسب عنده إنما هما الخلال ويذكر أن لهما دورة واضحة محددة حيث إن نهايتهما في أربعة أجيال، الأول باني المجد عالم بما عانه في بنائه ومحافظ على الخلال التي هي أسباب كونه وبقائه، وابنه من بعده مباشر لأبيه فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه إلا أنه مقصر في ذلك تقصير السّامع بالشيء عن المُعاني له، أما الثالث فكان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة فقصر عن الثّاني تقصير المقلد عن المجتهد، أما الرابع فقصّر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم، وتوهّم أن ذلك البنيان وجب لهم بمجرد انتسابهم، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته. ويستدرك ابن خلدون ويذكر أنه قد يتصل أمر الشرف بالخامس والسادس لكن في الغالب أربعة أجيال(73).
هكذا الدولة أيضاً، تولد، وتبلغ أشدها، وتموت، فهي عنده كائن حي تعيش وتتقدم وتتلوها فترة من الضعف ثم الانقراض، والذي يتحكم في ذلك نمط الإنتاج والانتقال الاقتصادي من البداوة إلى الحضارة، وليس من العناية الإلهية كما رأى أوغستين (354-430م) حيث قال: “إن الدولة تقوم بأمر الله وتستمد قوتها منه”(74). فحياة الحضر شرط عند ابن خلدون للتقدم الثقافي والاقتصادي لكنها أيضاً مصدر للفساد والتّدهور والنّهاية والانحطاط فحياة الشعوب الماديّة هي التي تصنع السياسات وهو بهذا الفكر المادي التاريخي (المادية التاريخية) سلف سابق لماركس. ولهذا فإن الدولة عنده لها أعمار طبيعية، لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال في الغالب، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، وهو بلوغ سن الأربعين الذي هو انتهاء النّمو والنّشوء إلى غايته متأثر هنا بقول الله: )حتَّى إذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ الأَرْبَعينَ سَنَة(، فعمر الدولة إذن، في الغالب، مائة وعشرون سنة. أما الجيل الأول فيتغلب ويقيم دعائم السلطان، لأنه ما زال على خلق البداوة، والعصبية محفوظة فيه ولذلك يكون “جانبهم مرهوباً والناس لهم مغلوبين(75). أما الثاني فيتحول بالدولة من حال البداوة إلى حال التّرف والحضارة فتنكسر قليلاً ثورة العصبية، بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع. أما الثالث فينسى عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن “ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ التّرف فيهم غايته بما تفنّقوه من النعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة ومن جملة النسّاء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم”. وهنا يحتاج صاحب الدولة إلى من يدافع عنها وعنه فيستعين بالموالي لأن من فيها لن يسعفوه وتضل هكذا الأمور حتى يأذن الله بالنّهاية(76).
صحيح أن إخوان الصفا أدركوا أن الدولة تبتدئ وترقى وتنتهي حيث قالوا: “إن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي. وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها. ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط، والظّهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر…”(77).
لكنهم لم يحددوا هذا بعمر مثلما حدده ابن خلدون بمائة وعشرين سنة ولا بأجيال. فقد قالوا كلاماً عاماً يدركه الكل ولا يختلف عن “قانون الدورة” الذي جاء به بوليبيوس (201-120ق.م) الذي قال: “عندما تتوصل دولة ما، بعد أن تكون قد أبعدت الكثير من الأخطار الشديدة لسموّ وقوة لا جدال فيهما، يحدث بالتّأكيد، إذا أقامت الرّفاهية فيها طويلاً، أن يصبح العيش فيها يتم بطريقة باذخة جداً، ويأخذ النّاس فيها بالتّشاجر بشكل مفرط من أجل كل ما يتعلّق بالحصول على مناصب الحكم وكلّ ما تبقى من مشاريع، حينئذ يبدأ الانحطاط”(78).
يؤكد ابن خلدون نظريته في أعمار الدولة بنظرية أخرى مشابهة لها وإن اختلفت عنها قليلاً وهي نظرية أطوار الدّولة التي لا تعدو خمسة “يكتسب القائمون بها في كل طور خلقاً من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر لأن الخلق تابع بالطّبع لمزاج الحال الذي هو فيه”(79). أمّا الطّور الأول فهو طور الاستيلاء على الملك، تكون العصبية في أوجها، ولا ينفرد صاحب الدّولة دونها في الحكم، فيكون أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة، أما الطور الثاني فهو طور الانفراد بالسلطة والاستبداد وهنا يتحول الملك إلى التنكّر لأهل عصبيته، ويلجأ إلى تكوين عصبية بديلة باصطناع الرّجال واتخاذ الموالى والصنّاع، أما الثالث، فهو طور الفراغ والدّعة، وينصرف فيها الملك إلى تحصيل ثمرات الملك، ويأتي هذا الطّور حين يُشبع الحاكم المستبد شهوته في الحكم، فأول ما تتجه إليه شهوة المستبد هي تنظيم ماليّة الدّولة، وزيادة دخله، فيزداد الصرف على مظاهر المدينة والترف والرخاء، فيزدهر الحكم بازدياد الصّناعات والفنون والعلوم، ويبلغ الرّخاء المادي الذّروة، فيبث الحاكم المعروف على أهله، هذا مع زيادة الأرزاق لصناعه وحاشيته وجنوده، “حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وزيّهم وشكلهم، وهذا الطّور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة، لأنهم في هذه الأطوار ـ التي ذكرت ـ كلّها مستقلّون بآرائهم بانون لعزّتهم موضّحون الطّرق لمن بعدهم
(80). أما الطور الرابع، فهو طور المسالمة والقناعة، وفيه يقنع صاحب الدولة بما ورثه عن آبائه، يكتفي باقتفاء آثارهم وسيرتهم، “فيقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنه أبصر بما بنوا من مجده”(81). أما الطور الخامس فهو طور الإسراف والتبذير يكون صاحب الدولة فيه مبذّراً مسرفاً متلفاً لما جمع أولوه، فتصاب الدّولة بالهرم ويستولي عليها المرض المزمن فتبدأ بالانحلال ثم الفناء والانقراض.
إذن، حينما تضعف العصبية ويزداد البذخ، تضعف الدولة وتغيب قوتها على العصبيات الأخرى التي تبدأ في الانقراض والخروج بدءاً من أطراف الدولة البعيدة عن مركزها “فتأخذ ـ الدولة ـ في التّناقص من جهة الأطراف، ولا زال المركز محفوظاً إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة، فحينئذ يكون انقراض المركز”(82) فالدولة قَلّ أن تستحكم في رقعة واسعة ومع قبائل وعصبيات كثيرة وهذا ما عبّر عنه أرسطو في أن المركبات السياسية المترامية الأطراف، غير متجانسة ويستحيل عليها تحقيق الغاية من الاجتماع السياسي وهو توفير السّعادة للمواطنين(83).
إذن، الدولة عند ابن خلدون تقوم على أربع دعائم وهي: العصبية، والفضيلة، والدين، وضعف دولة سابقة لتقوم الدّولة الجديدة على أنقاضها.
هكذا أسهم ابن خلدون في إعطاء الأمثلة الواقعية والحية لكنّها كانت خاصة بالعرب والبربر مما سبب لـه بعض النّقد، مع أنها هي الطّريقة المثلى في دراسة المجتمعات، فيجب أن يقطع مجتمعاً بعينه وتحصر الدّراسة فيه لتخرج بنتائج دقيقة، ثم إن الطريقة نفسها كان قد اتبعها أرسطو في منطقة جغرافية أصغر ومع أناس أقل، حينما أخذ دساتير (158) مدينة يونانية ودرسها وحللها وعلّق عليها(84)، ونال على ذلك كامل الاستحسان والشّرف والتّبجيل، وسمي منهجه بالمنهج العلمي الاستقرائي. ثم صحيح أن ابن خلدون أخذ في استقرائه مجتمعاً معيناً وخاصاً لكن النتائج التي وصل إليها تعمم على كل المجتمعات في كل الأزمنة فـ(فون فسيندنك) ـ الباحث الألماني ـ يذكر أنه “طبق ما كان يشعر به أو يدعو إليه ابن خلدون على أوروبا في القرن التاسع عشر أصح تطبيق وأتمّه”(85)، وذكر ـ متسائلاً ـ أنّ الإمبراطورية الألمانية لم تعمّر طويلاً، فهل يجب أن نبحث لتلك المأساة عن أسباب غير تلك التي أوردها الكاتب العربي ـ ابن خلدون ـ عن سقوط المرابطين والموحّدين؟… كما أن كريمر ـ المستشرق النمساوي ـ ذكر في الرسالة التي قدّمها لأكاديمية العلوم بفيينا سنة (1879م) تحت عنوان “ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدّول الإسلامية” أنّه حاول أن يطبق نظريات ابن خلدون على المجتمعات الأوروبية فرأى أن فرنسا التي استعبدها الرّومان فقدت جرأتها وعصبيتها، أما ألمانيا التي لم تغلب قط فقد حافظت عليها، وأن ذلك هو السبب في أن الحرية الحقيقية لا توجد عند الفرنسيين وتوجد عند الألمان(86).