منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولصفحتنا عبر الفيسبوكمركز تحميل لكل الإمتدادات
منتدى قالمة للعلوم السياسية يرحب بكم
تنبيه:إن القائمين على المنتدى لا يتحملون أي مسؤولية عن ما ينشره الأعضاء،وعليه كل من يلاحظ مخالفات للقانون أو الآداب العامة أن يبلغ المشرف العام للمنتدى ، أو بتبليغ ضمن قسم اقتراحات وانشغالات
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2024م
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الثلاثاء يناير 16, 2024 8:08 pm

» عام ينقضي واستمرارية في المنتدى
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 السبت مايو 27, 2023 1:33 pm

» الإقرار وفق القانون الجزائري
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الخميس مايو 11, 2023 12:00 pm

» امتحان تاريخ العلاقات الدولية جانفي 2023
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الجمعة يناير 20, 2023 10:10 pm

» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2023
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء يناير 11, 2023 9:15 pm

» كتاب : المؤسسات السياسية والقانون الدستورى
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف ammar64 الثلاثاء نوفمبر 08, 2022 10:47 pm

» الفكر السياسي عند الرومان
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:32 am

» الفكر السياسي الاغريقي بعد أفلاطون
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:31 am

» الفكر السياسي الاغريقي
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyمن طرف salim 1979 الأحد أكتوبر 16, 2022 7:29 am

أنت زائر للمنتدى رقم

.: 12465387 :.

يمنع النسخ
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Ql00p.com-2be8ccbbee

 

 الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
أكرم الحوراني
وسام التميز
وسام التميز



الدولة : سوريا
عدد المساهمات : 242
نقاط : 494
تاريخ التسجيل : 17/09/2013

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 6:06 pm

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد

أتسم الإسلام بمسحة شمولية تغطي جوانب الحياة المختلفة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا لمجتمع معين ولكن للمجتمعات الإنسانية كافة ، ومع هذا فان القرآن الكريم المصدر الأصلي والأساسي للإسلام والسنة النبوية الكريمة لم يتعرضا إلي تفاصيل الدولة الإسلامية وأساليب الحكم فيها ، وإنما اقتصرا علي تحديد الأسس الثابتة والمبادئ العامة في هذا المجال .
وبعد توسع الدولة الإسلامية وتعانقها مع الحضارات الأخرى وضحت الحاجة لوجود مفكرين وفقهاء مسلمين لمعالجة الأوضاع السياسية التي استجدت فظهرت فئة من الفقهاء وعلماء الدين الذين أولوا سياسة الحكم الإسلامي نصيباً من آرائهم واجتهاداتهم وفتاواهم مثل أبن حزم الأندلسي والماوردي في كتابه (( الأحكام السلطانية)) و أبو حنيفة (كأحد الفقهاء الذين تعرضوا لظاهرة السلطة بالتحليل والانتقاد) و الفارابي في كتاب (( آراء أهل المدينة الفاضلة)) وابن رشد وإخوان الصفا وابن خلدون في كتابه المقدمة ، هذا بالإضافة إلى مجموعة من الأدباء والكتاب الذين تعرضوا لظاهرة السلطة في كتاباتهم الأدبية .


التراث السياسي الإسلامي:.

تشير كلمة السياسة في تقاليد الحضارة الإسلامية إلي عدة معاني ، ومن هذه المعاني التي تعارف عليها المفكرون المسلمون:.

1- السياسة بمعنى الرئاسة أو القيادة والتوجيه.
2- السياسة بمعنى التعاليم أو قواعد الحركة.
3- السياسة بمعنى أداة أو أسلوب معين من أساليب الحكم يقوم على قواعد معينة تميزه عن الأساليب الأخرى.

تطور النظام السياسي الإسلامي:.

مر النظام السياسي الإسلامي بمراحل متعددة منها:.

1- مرحلة المدينة الدولة وتمتد منذ سنة 622م حتى سنة 632 والتي كان الحكم فيها للرسول وكان المصدر الإلهي أساس القواعد السياسية .
2- مرحلة الدولة الإمبراطورية وتمتد حتى سنة 750 م .
3- مرحلة الدولة العالمية.

أمـا المراحل الأخرى اللاحقة فقد مثلت نوعاً من اللامركزية.



موضوعات الفكر السياسي الإسلامي

(1) نشأة الدولة ووظيفتها :.

هناك ثلاث نظريات لنشوء الدولة :.
1- النظرية العقدية ويقدمها الفارابي .
2- نظرية التطور القبلي ويقدمها الغزالي.
3- نظرية العصبية ويقدمها ابن خلدون.



(2) نظام الحكم :

لم تتعرض المصادر الأساسية في الإسلام كالقرآن والسنة النبوية لم تتعرض لتفاصيل نظام الحكم وسياسته ، وإنما اقتصر دورها على تحديد بعض المبادئ العامة والأسس الثابتة التي يجب أن يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي ، ومن هذه الأسس :

1- السيادة أو الحاكمية لله :

تعنى صاحب السلطة العليا في المجتمع والدولة , وفي الدولة الإسلامية هناك إجماع على أن السيادة لله وحده . و يتبع عملية الاعتراف بالسيادة والحاكمية لله وحده ضرورة التقيد بشرعه وتعليماته التي يحددها الدستور الإسلامي في مصدرين أساسين وهما القرآن والسنة النبوية حيث يقول تعالى " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " ، هذا بالإضافة إلى مجموعه من المصادر الثانوية أو الوضعية مثل الإجماع والاجتهاد والقياس ونهج الصحابة الأوائل .

2- العدالة :

تشكل العدالة بمعنى الحياد وعدم التحيز المبدأ الأصيل الذي يقوم عليه النظام السياسي. ويقوم هذا المبدأ على إعطاء كل ذي حق حقه ، وأخذ مفهوم العدالة من قوله تعالى " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ، وقد اعتبرت العدالة شرطاً ضرورياً من شروط الإمام .
3- الشورى :

وتعنى تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتم التعرف والوصول إلى أصوبها وأحسنها للعمل به , والشورى واجبة على الحاكم وليست اختيارية .تطبيقاً لقوله " وشاورهم في الأمر " ولكن يجب أن يفهم بان وجوبيه الشورى تتعلق بالأمور التي لم يرد فيها نص .
4- المساواة:

ينظر الإسلام إلى البشرية على إنها شعب واحد . ويقرر الإسلام مبدأ المساواة بصوره مطلقه بغض النظر عن اللون أو الجنس أو اللغة أو الحالة الاجتماعية والاقتصادية , وتقوم المساواة في النظام السياسي الإسلامي على أساس أن الناس متساوون أمام القانون وأن المساواة تكون في الحقوق والواجبات .

(3) الخلافة :

كانت الخلافة الإسلامية من أهم القضايا التي شغل بها الفكر السياسي الإسلامي وثار حولها جدل طويل وصراعات مريرة ، و يدور هذا الصراع حول جملة من الموضوعات نذكر منها:
أ*- معنى الخلافة :

أخذ مصطلح الخلافة عده مفاهيم منها منها ما أورده المارودي في كتابة " الأحكام السلطانية " ، وعرفت الخلافة بأنها حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية .. فهي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا .



ب*- وجوب الخلافة :

اتفق العلماء المسلمون على ضرورة السلطة ووجوبها سواء من اعتبر وجوبها شرعا أم وجوبها كحتمية اجتماعية ، ويدلل على ضرورة وجود السلطة في المجتمع قول الرسول (ص) " إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم " .
ج*- أسلوب تولى الخليفة وشروطه :

أن يكون مسلماً بالغاً يتمتع بالحرية وسلامه الحواس والأعضاء وهذا بالإضافة إلى بعض الشروط الخاصة منها :
1- العلم 2- العدل 3- الكفاية
واختلف الفقهاء المسلمون في تحديد شرط آخر وهو النسب القرشي .
سلطات الخليفة :يلاحظ المراقب لسلطات الخليفة في الدولة الإسلامية بأنها سلطات شمولية تمتد بنشاطها ونفوذها إلى جميع مجالات الحياة ذات الطابع العام المتصل بمجموع الأفراد وجماعتهم سواء كانت هذه المجالات فكرية أم اقتصادية أم اجتماعية .
(4) العلاقة بين الحاكم والمحكوم :

يقر الإسلام بواجب الطاعة والولاء من قبل المحكومين للحكام . وان طاعة الحاكم فرض من فروض الإسلام وهي طاعة مقيدة وليست مطلقة ، أي ما دام ملتزما بتطبيق الشريعة الإسلامية وقائما على العدل بين الناس , كما يطلب الإسلام أيضا من الحاكم أن يخضع لإرادة الشعب وأخذ رأيه في المشورة وأن هناك شبه إجماع على إمكانية مقاومة الحاكم المستبد الخارج عن شريعة الله إن لم تؤد هذه المقاومة إلى فتنة .



المفكر الاسلامي ابن خلدون


ولد عبد الرحمن ابن خلدون الاسم الكامل : ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن الحسن بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خالد (خلدون) الحضرمي في تونس عام 1332 في أسرة أندلسية الأصل من مدينة اشبيلية، هاجرت إلى المغرب، ثم قدمت إلى تونس أثناء بداية حكم الحفصيين، و شغل أفرادها مناصب سياسية رفيعة داخل البلاط الحفصي. نشأ بتونس في محيط أرستقراطي، و مثل أقرانه باشر مبكرا حفظ القرآن الكريم،
وبعد ذلك درس اللغة العربية و العلوم الشرعية على يد والده الذي كان متبحرا فيهما، و درس أيضا بجامع الزيتونة ، و هناك تشرب بعلوم عصره النقلية و العقلية. كان ابن خلدون يرغب في التفرغ للعلم على منوال والده ، لكن الطاعون الجارف الذي اجتاح تونس سنة 1348 غير مسار حياته؛ إذ بوفاة أبيه و عدد كبير من شيوخ جامع الزيتونة و هجرة عدد من المتبقين منهم على قيد الحياة إلى المغرب، قرر بعيد ذلك ترك العلم و الاتجاه نحو الوظائف المخزنية، رغم أخطارها، للقيام بأوده على غرار أجداه .

أول وظيفة تولاها ابن خلدون كانت سنة 1350، وظيفة كاتب مراسلات الوزير محمد بن تافراكين. و لما سقط ابن تافراكين سنة 1352 ترك ابن خلدون تونس و رحل إلى بسكرة بالجزائر ، ومنها انتقل إلى قسنطينة. في سنة 1354 رجع إلى مدينة تونس، و هناك تزوج . في نفس السنة هاجر إلى فاس، و بسرعة اندمج في بلاط السلطان المريني أبى عنان الذي أصبح يشغل منصب كاتبه الخاص. و ظل ابن خلدون في منصبه قرابة عامين و نصف إلى أن اتهمه السلطان بالتآمر مع أمير بجاية، فأمر بالقبض عليه و سجنه سنة 1357 ، و ظل في سجنه قرابة سنتين، ثم عفا عنه السلطان وأعاده إلى وظيفته الأولى، التي بقي يشغلها ما يناهز عن الأربع سنوات. و في مدينة فاس التي كانت تمثل آنذاك عاصمة العلم بأقصى الغرب الإسلامي زاد تفقها في المسائل الشرعية بفعل مخالطته لشيوخ جامع القرويين، وزادت معرفته بدواخل عالم السياسة بفعل موقعه داخل البلاط الأميري. و في هذه الفترة كتب مسودة مقدمة كتابه العبر.

رحل ابن خلدون إلى الأندلس و التحق بحاشية السلطان محمد بن يوسف بن الأحمر أمير غرناطة، فكان مستشاره الأريب ، بحيث أغدق عليه العطايا ، ثم توترت العلاقة ما بينهما، فغادر الأندلس إلى بجاية بالجزائر سنة 1365 ، وهناك تولى لفترة قصيرة منصب الحجابة. إثر ذلك انتقل إلى بسكرة بجنوب الجزائر، و بقي بها خمس سنين بعيدا عن عالم البلاطات السلطانية، عاكفا على مطالعة كتب الفقه و كتب التاريخ الإسلامي.

هاجر إلى تلمسان ليشغل منصب حاجب الأمير أبي حمو من بني عبد الوادي، لكن بفعل الحرب ما بين بني عبد الوادي و المرينين حكام فاس قرر الرجوع من جديد إلى بسكرة، و في الطريق أسر من طرف أعوان المرينين، و لينقذ نفسه قبل بأن يخلع بيعته لأبي حمو و الاشتغال مع أعدائه المرينين. في مدينة فاس اكتوى أيضا بدسائس البلاط ، و سجن ، و لم ينجو من محبسه إلا بفعل تدخل صديقه أمير مراكش، لكنه بقي هناك و التحق بسلك التدريس في جامع القرويين . في سنة 1374 غادر فاس إلى قلعة بني سلامة في الجزائر، و بها قضى قرابة أربع سنوات انصرف خلالها إلى تحرير كتاب المقدمة الشهير، و شرع في تصنيف كتابه العبر، ثم نقحه بعد ذلك وهذبه، وألحق به تواريخ الأمم.

في سنة 1378 رجع إلى مدينة تونس عاصمة الحفصيين. و لما استقر بالحاضرة انهال عليه طلبة العلم ، فأثار ذلك حفيظة بعض شيوخ جامع الزيتونة، على رأسهم ابن عرفة. كره ابن خلدون أجواء السعاية التي كانت تلاحقه منذ شبابه في منطقة المغرب العربي، فقرر الهجرة إلى مصر سنة 1382 أيام حكم الملك الظاهر برقوق، و بالقاهرة باشر التدريس بالأزهر. هناك ذاع صيته كفقيه مالكي متبحر في علوم الدين، و في سنة 1384 عين في منصب قاضي قضاة مالكية. و في تلك السنة غرق المركب البحري الذي كان يقل زوجته و أبنائه القادمين من تونس ، فكان ذلك المصاب أخطر حدث أثر فيه، رغم كثرة المصائب التي ألمت به سابقا .

أقام ابن خلدون في مصر قرابة أربع وعشرين عاما لم يغادرها إلا سنة 1387 للحج ، و سنة 1399 لزيارة القدس ، و سنة 1400 للشام برفقة السلطان الناصر فرج الذي خرج للدفاع عنها ضد زحف المغول بقيادة تيمورلنك . بعد هزيمة الناصر فرج و عودته إلى مصر أجبر ابن خلدون على البقاء في الشام جليسا لتيمورلنك، الذي رغم فضاعته إلا أنه قدر ذكاء ابن خلدون و سعة علمه. لما ضجر من جو المعارك و من غربته داخل بلاط مغولي، استأذن ابن خلدون تيمورلنك للعودة إلى مصر على أساس أنه ذاهب لجلب كتبه التي لا يستغني عنها، لكنه في قرار نفسه كان مقررا عدم الرجوع، فأذن له. و بعد عودته إلى مصر نقح كتبه وأتمها، ثم وافته المنية في رمضان عام 1406 ، وكان حينئذ قاضي قضاة المالكية فيها، و دفن في القاهرة بمقابر الصوفية خارج باب النصر.

أهم مؤلفات ابن خلدون هو " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، الذي قدم له بمقدمة شهيرة طغت شهرتها على الكتاب نفسه. و له أيضا شرح البردة و هي كتاب في مدح الرسول، و كتاب لباب المحصل في أصول الدين ، وهو تلخيص كتاب الفخر الرازي في علم التوحيد. وكتاب في الحساب، ورسالة في المنطق.

ابن خلدون عبقري من عباقرة الإنسانية، و فيه قال المؤرخ و المفكر الأنقليزي أرنولد توينبي جملة شهيرة : " تصوّر ابن خلدون و صاغ فلسفة للتاريخ تمثل بما لا يدع أي مجال للشك أعظم عمل كان قد أنجزه الفكر البشري في كل العصور و في كل البلدان " . لقد توفرت عدة عوامل لتجعل منه ذلك الشخص الذي يحظى بإجلال كل من اطلع على آثاره، خصوصا منها كتاب المقدمة. من تلك العوامل :

* ذكاءه الفطري الذي صقله في صغره محيط عائلي متوازن، يسوده جو علمي تغذيه مكتبة عائلية تراكمت كتبها الموروثة عن أسلافه منذ وجودهم بالأندلس.

* مزاولته للتعلم بجامع الزيتونة الذي كان أثناء القرن الرابع عشر يمكن منتسبيه من الحصول على تكوين متنوع يشمل العلوم الدينية و العلوم العقلية، و كان به مدرسون يعدون من أفضل ما هو موجود آنذاك بالعالم الإسلامي.

* مخالطته للعلماء منذ صباه في تونس، و مواصلته ذلك في فاس و غرناطة و تلمسان و القاهرة . و عدم استنكافه من مناظرة أقرانه الذين كان يتمتع بمغالبتهم فكريا بالنظر إلى ذكائه الثاقب و سرعة بديهته و معرفته الموسوعية. كل ذلك ساعده على التروي في أحكامه، و في نفس الوقت دربه على الاعتداد بنفسه؛ فهو يعرف أنه استنبط علما جديدا سماه علم العمران ، و هناك من يسميه الآن علم الاجتماع أو علم الأنتروبولوجيا، حتى أن عديد الدارسين اعتبروه جد هذين العلمين المعاصرين.


* تعدد تجاربه السياسية طيلة نصف قرن، من توليه مهمة كتابة المراسلات لدى الوزير ابن تافركين بتونس سنة 1350 إلى مخالطته لتيمورلنك سنة 1400. صحيح أنه طيلة تلك الفترة لم يشغل مناصب رسمية إلا لما يناهز عشر سنوات، إلا أنه كان طوال المدة في قلب الأحداث السياسية في المناطق المتعددة التي استقر بها، سواء بإرادته كطرف في تلك الأحداث، أو بالرغم منه، أو كشاهد عيان محايد. كل ذلك متـّن معرفته بآليات تحرك الوقائع التاريخية و ساعده على صياغة منهج تاريخي عقلاني يرفض الأقوال العجائبية و الأسطورية، يعتمد الملاحظة الدقيقة للأحداث، و يقوم على مكافحة المصادر ببعضها لانتقاء أصوبها، و البحث عن الأسباب الحقيقية للسيرورات التاريخية. و ساعده أيضا على صياغة نظرية أجيال الدول : مرحلة الفتوة، فمرحلة النضج، ثم مرحلة التدهور و من ثمة الوفاة.

* شدة معرفته بالأوساط الحضرية، فهو ابن الأرستقراطية المدينية و متطبع بطبائعها، و لكنه كان أيضا عارفا بالأوساط البدوية العربية خصوصا قبائل الذواوذة المستقرين بجهة بسكرة الذين استقر قربهم قرابة خمس سنوات، و القبائل البربرية الزناتية التي كانت متوطنة بنواحي تلمسان. كل ذلك أثـّر في رسم ملامح نظرته للعمران البشري و ساعده على صياغة نظرية العصبية.

* توليه مهام القضاء في مدن متعددة ، خصوصا بمصر ، و لو أن ذلك كان بصفة متقطعة راوح فيها ما بين الإثبات والعزل بفعل دسائس البلاط و دسائس المتخاصمين، فتكونت له معرفة جيدة بخبايا النفس البشرية ، و بمشاكل المجتمع و الاقتصاد اللذان كتب فيهما فصولا عميقة و متفردة.

* توليه لمهام التدريس في مدن متعددة، أهمها تونس و فاس و القاهرة، فكان لإظهار تفوقه مجبرا على تكوين معرفة متينة ذات سمات موسوعية؛ بحيث شملت المسائل الشرعية، و التاريخ الإسلامي و الأعجمي، و الحسابيات، و الفلسفة ... كل ذلك ظهر في منهجه البحثي العقلاني المتفرد بحسب مقاييس عصره، و حتى بمقاييس الحاضر.

* قدرته على نقد نفسه، و على تعديل أفكاره و تصويبها، فهو لم يفرغ من كتابة الصيغة النهاية لكتاب العبر و مقدمته إلا سنة 1402، أي قبيل وفاته بأربع سنين، لما بلغ عمره سبعة عقود.


السلطة مبنية عند ابن خلدون على الغلبة والغلبة في العربية هو الهيمنة وصنف أول من الغلبة هي الرئاسة والغلبة إنما تكون بالعصبية الذي يسمح بالرئاسة التي تترجم chef. ان الملك صنف آخر من الرئاسة ونمط آخر من الغلبة وهي السؤدد وصاحبه متبوع وليس عليهم قهر في أحكامه والقهر هو الذي يميز الملك عن الرئاسة





Domination هي هيمنة تقليدية وكاريزماتية وقانونية نجدها عند ابن خلدون، ان الهيمنة التي مصدرها الدين والنبوة وهو مماثل لمفهوم السلطة السلطة الكاريزماتية (النبي هو كاريزم). أما الهيمنة التقليدية فتحدث عندما يتحول الملك إلى تقليد نجده عند ابن خلدون بقوله إذا استقرت الدولة استغنت عن العصبية وتصبح بالوراثة. تحول الملك إلى ملك مبني على الزمن والعادة. في حين أن الهينة القانونية الشرعية والعقلانية، اذ يؤكد ابن خلدون إلى تأكيد ضرورة بناء الحكم على القوانين عندما يصرح:" فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسية مفروضة في ذلك كما أن الشأن في الفرس وغيرهم


يميز ابن خلدون بين قوانين العقلاء وقوانين ترجع إلى الله التي يسميها السياسة الدينية ولكن السياسة العقلية هي مبنية على قوانين الغاية منها المصلحة العامة. كما تفوق السياسة الدينية على السياسة العقلية في علاقة بالآخرة بينما في مجال الدنيا فالتفوق يكون إلى السياسة الدينية.

النوع الآخر من الملك هو الخلافة وهنا يحيل إلى نوعين من القوانين: القانون العقلي الذي يستند إلى المصلحة العامة والشرع الذي يستند إلى النجاة في الآخرة

أنماط العمل أربعة وأنماط الهيمنة ثلاث فقط وهذا خلل في حد ذاته. أشار الخالدي خطأ شائع من قبل الباحثين حول التناقض بين الخلافة والملك، لكن الملك الذي يناقض الخلافة هو الجبروتية والكسروية بينما الملك الذي هو خلافة فهو الحكم الصالح.

حتى فكرة وجوب النبوات فهي غير برهانية في السياسة وقد تتم من دون ذلك لأن أهل المجوس لهم أنظمة سياسية ناجحة. النظرة الخلدونية العلمية هي نظرة تنسيبية تاريخية للملك.

ابن خلدون تجرأ على تفسير الدين بالسياسة والتاريخ، زمن الطرطوشي فيه أكبر من حرية الفكر والتعبير أكثر من زمن ابن خلدون ان الرغبة في الإصلاح عند ابن خلدون ليست ناتجة عن فقدانه للإيمان الديني بل متأتية من إيمانه العميق بصدقية النص الديني.

ظهور الكاريزم ضرورة تاريخية من أجل التغيير في طريقة بناء الدول من قدوم العصبيات من البادية والسيطرة على الحكم في المدينة إلى الاعتماد على دعوة دينية تتشكل كإيديولوجية تتعالى على الواقع من أجل تأسيس الدولة على الفكرة والهيمنة الأيديولوجية.

زد على ذلك أن البحث في علاقة الدين بالسياسة عند ابن خلدون والتصريح بأن ابن خلدون كانت له جرأة قراءة الدين من وجهة نظر سياسية وأن قوله بأن الدعوة السياسية ولا تقوم إلا بدعوة دينية وأن الدعوة الدينية لا تقوم إلا بالعصبية هو رأي يغلب الاجتماعي الطبيعي على الإلهي والشريعة ويجعل المقدس مجال صراع وتجاذب من طرف رجال السياسة، وهو أيضا توصيف يجعل من ابن خلدون واحد من الذين خاضوا في تجربة الإصلاح الديني عند العرب والمسلمين،




يمر معظم الباحثين في الدراسات الخلدونية سريعا على المقدمة السادسة التي تتحدث عن تعريف الإنسان على أنه "مدني بالطبع" وكأن هذا الأمر بديهي ولا يثير أي إشكال، لكن إذا كانت كلمة مدني تعني سياسي والإنسان حيواني سياسيun animal politique في المدونة القديمة فإنها لا تعني نفس الشيء في الفلسفة السياسية العربية والحديثة. فأين موطن البداهة والإشكال في ذلك؟ ولماذا يجب أن نتوقف عند هذا التعريف البديهي للإنسان ونفكر فيه؟ وما المقصود بالسياسة في المدونة القديمة والوسيطة؟ وما الذي يميز النظرة الخلدونية؟

السياسة في التصور الخلدوني وخاصة في المقدمة تعني فن تدبير الشأن الإنساني أي الحكم فحسب وليست لها علاقة بتدبير الصنائع والمنزل والمدينة، كما أن كلمة مدني وكلمة سياسي كان مصيرها الانتقال إلى كائن اجتماعيun animal sociable.

تمثل المدينة تجمع اجتماعي والسياسة تلحق فيما بعد، إن المرة الوحيدة التي تم فيها الجمع بين السياسة والمدنية في الفلسفة العربية كانت مع مفهومي العلم المدني والسياسة المدنية هي عند الفارابي ولكن ما قام به ابن خلدون هو رفض هذه المدونة القديمة.

ماهو وضع ابن خلدون في الفلسفة العربية والفلسفة العالمية من جهة التناول للمسألة السياسية ؟

ابن خلدون هو أرسطي في تفكيره السياسي وبعيدا كل البعد عن المثالية الأفلاطونية وغير أرسطي في نفس الوقت،فهو أرسطي لاحتفاظه بمفهوم المدينة ولاعتباره الإنسان مدني بالطبع في المرة الأولى دون مناقشة ذلك ولكنه عندما يتكلم عن كتاب السياسة لأرسطو فهو في الحقيقة يتحدث عن كتاب سر الأسرار المنسوب إلى أرسطو خطا وليس عن كتاب السياسة المعروف والمتداول.

السياسة عند العرب هي سياسة طوباوية تهتم بما ينبعي أن يكون وتغطي الواقع التاريخي بطبقة من التأويلات المضللة وابن خلدون يحاول أن يؤسس السياسة بمعنى الحكم المرتبط بالوازع والسلطان

من هذا المنطلق يفيد مفهوم السياسة عند بن خلدون فن الحكم وأما المفهوم القديم Polisفيعني تدبير المدن ومفهوم مدني بعيد كل البعد عن مفهوم سياسي وقريب من مفهوم اجتماعي.

من المعلوم أن ابن خلدون هبط من السماء إلى الأرض وحاول دحض الفلسفة السياسية المثالية وينتج خطاب علمي حول مجال السياسة سمي عند البعض علم السياسة وعند ابن خلدون نفسه علم العمران البشري وإقصائه للفلسفة الكلاسيكية هو إقصاء للسياسة المعيارية التي تطلب السعادة في الدنيا والآخرة لتجاوز ربط النبوة والسياسة في عيون الحكمة والكتاب العاشر من الشفاء ويحتفظ بالسياسة بالمعنى التوصيفي غير المعياري والذي يمكن أن نسميه الواقعية السياسية إلا باستثناء السياسة النبوية وذلك لانبهار الناس بالنبي.

السياسة المعيارية التوصيفية الخلدونية تتلاءم مع الاستبداد السياسي وذلك لغياب مفهوم الحرية في الفكر السياسي في الفلسفة العربية القائم على باراديغم الخضوع والطاعة والشوكة والغلبة والطاعة والعصبية.

لم يقترح ابن خلدون فلسفة سياسية جديدة بل اقترح نظرة واقعية براغماتية تعتمد على علم الفقه والسياسة الاصطلاحية والعرفية التي نقلها عن الفرس والساسانيين والهنود


ابن خلدون وحكومة المصالح العامة

الإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة

وأما ابن خلدون فهو يرى الحكومة من المصالح العامة وقد فوض أمرها إلى الأمة، والمهم في نظر الشارع أن يكون للمجتمع نظام وحكومة مقتدرة تؤمن مصالحها وتقمع الاضطرابات الداخلية وتصد هجمات العدو الأجنبي، ولا شك أن أحكام الشريعة هي الأساس لدى المسلمين في محتوى النظام وضوابط العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فالشكل النهائي لهذا النظام هو الملكية ولا شيء سواها.

فالقبول بالملكية لا ينافي في رأي ابن خلدون التدين، وإنما يعتقد أنه من القضايا المعقولة والطبيعية التي منها الملكية، والإمامة عند ابن خلدون ليست منصبا شرعيا وتعيينا من قبل الشارع، وإنما هي من المصالح العامة، وقد أحالها الباري تعالى إلى إرادة الأمة.

ولما كان ابن خلدون كأسلافه قد عاش في فضاء يسود فيه التغلب ساحة السياسة، والحكم في أذهان المسلمين والمفكرين المسلمين سلطة مطلقة، لذا اعتبر الملكية المستبدة أمرا طبيعيا، وليس لديه تصور واضح عن مسؤولية الحاكم تجاه شعبه، فكيف يمكنه إذن أن يجد حلا بشريا لتحقيق وتنفيذ هذه المسؤولية أو يضع أنظمة للرقابة على السلطة السياسية؟ وبالتالي فإن الملك مسؤول أمام الله وليس أمام الشعب الذي ليس له إلا التسليم للحاكم من غير تردد.





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أكرم الحوراني
وسام التميز
وسام التميز



الدولة : سوريا
عدد المساهمات : 242
نقاط : 494
تاريخ التسجيل : 17/09/2013

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 6:07 pm

المفكر الاسلامي الفرابي


هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ، أبو نصر الفارابي، ويعرف بالمعلم الثاني لدراسته كتب أرسطو (المعلم الأول) وشرحه لها. ويعرف الفارابي في اللاتينية باسم Alpharabius. ولد في مدينة "فاراب" في تركستان حيث كان والده تركياً من قواد الجيش. وفي سن متقدمة، غادر مسقط رأسه وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا، فدرس الفلسفة، والمنطق، والطب على يد الطبيب المسيحي يوحنا بن حيلان، كما درس العلوم اللسانية العربية والموسيقي. ومن العراق انتقل إلى مصر والشام، حيث التحق بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء، والأدباء، والفلاسفة.
وبعد حياة حافلة بالعطاء في شتى علوم المعرفة طوال ثمانين سنة، توفي الفارابي أعزب، بمدينة دمشق سنة 339هـ/950م.

إسهاماته العلمية:

يعدّ الفارابي أكبر فلاسفة المسلمين. وقد أطلق عليه معاصروه لقب "المعلم الثاني" لاهتمامه الكبير بمؤلفات أرسطو "المعلم الأول"، وتفسيرها، وإضافة الحواشي والتعليقات عليها. ومن خصائص فلسفة الفارابي أنه حاول التوفيق من جهة، بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفلاطون، ومن جهة أخرى بين الدين والفلسفة. كما أنه أدخل مذهب الفيض في الفلسفة الإسلامية ووضع بدايات التصوف الفلسفي.

ورغم شهرة الفارابي في الفلسفة والمنطق، فقد كانت له إسهامات مهمة في علوم أخرى كالرياضيات والطب والفيزياء. فقد برهن في الفيزياء على وجود الفراغ. وتتجلى أهم إسهاماته العلمية في كتابه "إحصاء العلوم" الذي وضع فيه المبادئ الأساس للعلوم وتصنيفها ؛ حيث صنف العلوم إلى مجموعات وفروع، وبين مواضيع كل فرع وفوائده.
وبجانب إسهامات الفارابي في الفلسفة، فقد برز في الموسيقى. وكانت رسالته فيها النواة الأولى لفكرة اللوغارتم حسب ما جاء في كتاب "تراث الإسلام"، حيث يقول كارا دي فو Carra de Vaux : أما الفارابي الأستاذ الثاني بعد أر سطو وأحد أساطين الأفلاطونية الحديثة ذو العقلية التي وعت فلسفة الأقدمين، فقد كتب رسالة جليلة في الموسيقى وهو الفن الذي برز فيه، نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغارتم)، ومنها نعرف علاقة الرياضيات بالموسيقى. وتؤكد زغريد هونكه الفكرة نفسها حين تقول : >إن اهتمام الفارابي بالموسيقى ومبادئ النغم والإيقاع قد قربه قاب قوسين أو أدنى من علم اللوغارتم الذي يكمن بصورة مصغرة في كتابه عناصر فن الموسيقى.

مؤلفاته:
ـ شرح كتاب "المجسطي" في علم الهيئة لبطليموس
ـ شرح المقالتين الأولى والخامسة من كتاب إقليدس في الهندسة
ـ كتاب في المدخل إلى الهندسة الوهمية
ـ كلام في حركة الفلك
ـ مقالة في صناعة الكيمياء
ـ كتاب إحصاء العلوم : قسم الفارابي، في هذا الكتاب، العلوم، إلى ثماني مجموعات، ثم ذكر فروع كل مجموعة، وموضوع كل فرع منها، وأغراضه، وفوائده. ترجمه جيرار الكريموني إلى اللاتينية.
ـ صناعة علم الموسيقى : شرح فيه الفارابي مبادئ النغم والإيقاع.
وللفارابي عدد كبير من المؤلفات الأخرى في الفلسفة والمنطق ومن أشهرها :
ـ "آراء أهل المدينة الفاضلة" ؛
ـ "الجمع بين رأى الحكيمين أفلاطون الإلهي و أرسطوطاليس" : وهو كتاب يوفق فيه الفارابي بين آراء أفلاطون وأرسطو.
وأكثر الكتب التي ألفها الفارابي، إما أنها فقدت أو أنها لا تزال في الخزائن والمكتبات، والمعروف منها إلى الآن قليل، إذا قيس بمجموع ما كتبه في شتى العلوم والفنون.

نظرة الفرابي للسياسة


وأبو نصر الفارابي واحد من الفلاسفة الّذين تكلّفوا عناء التّفكير والتّفلسف في مسعىً لوضع الأسس والتّصوّرات الكفيلة بتحقيق السّعادة للمجتمع الّذي يتكوّن من الرّئيس والمواطنين ومراتب الرّئاسة المختلفة في إطار مجتمع المدينة الواحد، وفقَ تصوّرٍ فلسفي مثالي مستمدٍّ في جانبٍ كبيرٍ منه من التّصوّرات الفلسفيّة للفلاسفـة اليونان ، خصوصاً ( أفلاطون و أرسطو ) ومن الشّريعة الإسلاميّة ، لينتهي بعد ذلك إلى وضع تصوّرٍ فلسفيٍّ أخلاقي للعلم السّياسي الّذي يكون قادراً على تحقيق السّعادة لمجتمع المدينة الفاضلة .

وعليه سيتناول الفارابي عدداً من المسائل السّياسيّة بروحٍ فلسفيّة تأمليّةٍ تنتهي إلى مطابقة ما بالأعيان للتصوّرات الفلسفيّة للكون والعالم والاجتمـاع المدني الّذي ينبغي أن يخضع للمبادئ والنّواميس الّتي يخضع لها العالم الطّبيعيِّ ذاته ، تلك المبادئ الّتي تنطلق من التّسليم بوجود اللّه بوصفه رأس الموجودات وكمالها المطلق وواجب الوجود الّذي يعقل ذاته بذاته وتصدر عنه سائر الموجودات باعتبار أن وجوده هو المصدر الّذي تصدر عنه الأشياء كلّها ، من هنا جاء ترتيبه للعقول ابتداءً بالعقل الأوّل الّذي تصدر عنه العقول العشرة الباقية ، متأثّراً بنظريّة الفيض الأفلاطونيّة .

ولطالـما أنَّ العقل الأوّل هو علّة الوجود وكماله، والسّبب في وجود باقي العقول ، ولطالما أنَّ العقول العشرة تسعى للتّشبّه بالموجود منها في سلسلة تنتهي بتشبّه الموجود الثّاني بالموجود الأوّل واجب الوجود ـ أي الله ـ فإنَّ رأس الكثرة هنا يكون الواحد، وعليه فرأس مجتمـع المدينة ينبغـي أن يكون الرّئيس ، الّذي يعتبر السّبب الأوّل في وجودها ، فالرّئيس أوّل العناصر ، وأكثرها أهمّيّة في الاجتمـاع المدني ، وهو بمنزلة الموجود واجب الوجود بالنّسبة للموجودات الصّادرة عنه ، في علاقته بالاجتمـاع المدني ، بمعنى أنّهُ لاوجود للاجتماع المدني المبني على أسسٍ أخلاقيّة فضائليّة من غير الرّئيس الّذي بواسطته يتمّ تنظيم المجتمـع تنظيمـاً مثالياً مماثلاً للتّنظيم الكـوني الّذي يربط جميع الموجودات بالله ، وعليه فالرئيس هو علّة وجود المدينة الفاضلة ، و وجوده سابقٌ على وجود المدينة الفاضلة ذاتها ، باعتبارها تأتي في سلسلة المراتب التّالية لوجود الرّئيس ، من هنا تسعى إلى التّشبّه به بوصفـه المثال الأعلى للفضيلة وقيمها الأخلاقيّة والنّظام .

وعليهِ فثمّة رابط بين الأخلاق والسّياسة في فلسفـة الفارابي السّياسيّة انطلاقاً من نظرته لأخلاق الإنسان بوصفه كائناً مدنيّاً، آخذين بنظر الاعتبار هيمنة الأفكـار السّياسية على فلسفته ، والدليل على ذلك أننا نقع على مجموعـة من المؤلّفات السّياسيّة لديه أبرزها :"السّياسة المدنيّة " ، " آراء أهل المدينة الفاضلة " و" تحصيل السّعادة " ، والفارابي كما نظر البعض إليه من " أشدّ الفلاسفة المسلمين عنايةً بالسّياسة رغـم أنّه لم يشارك فيها أدنى مشاركة " ( د. بدوي ، عبد الرحمن ، موسوعة الفلسفة ، ج2،الطبعة الأولى ، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر ، بيروت 1984،ص110 ).

يحدد الفارابي غاية الفلسفة السّياسيّة بأنّها : سياسيّة أخلاقيّة في المقام الأوّل . من هنا كانت المهمّة الرّئيسة للعلم المدني هي مهمّة البحث عن كلّ الأفعال الحسنة،كالخير ، والفضائل الّتي تمكّن الإنسان من الاقتراب من الكمـال ، بخلاف الأفعال القبيحة التي تعيقه من تحقيق ذلك ، وعليه يكون العلم السّياسي هو : " علم الأشياء الّتي بوساطتها يتوصّل سكّان المدن إلى السّعادة بفضل المجتمع المدني " لذا يولي الفارابي أهمّيّة كبيرةً للاجتماع المدني باعتباره السبيل الموصل للسّعادة .

والفلسفة السّياسيّة _ أو العلم المدني عند الفارابي _ تتناول أنواع الأفعال والشّرائع الإداريّة والملكات والأخلاق والسّجايا والشّيم الّتي تنجم عنها الأفعال،والغايات الّتي من أجلها تُفعل الأفعال طبقاً لقوله بأنَّ العلم المدني هو الّذي " يفحص عن أصناف الأفعال والسِّيَر الإراديّة وعن الأخلاق والسّجايا والشّيم الّتي عنها تكون تلك الأفعال والسّنن ، وعن الغايات الّتي لأجلها تفعل ، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان " ( الفارابي ، أبو نصر ، السياسة المدنيّة ، حققه وقدّم له ،الدكتور فوزي متري نجّار ، الطبعة الأولى، بيروت ، ص15) .

ولمّا كانت السّعادة هي الغاية المنشودة لفلسفته السّياسية ، فقد تناول كلّ ما من شأنه أن يكون على علاقة بسعادة الإنسان ، فأصبح العلم المدني لديه يُعنى بالمبادئ الأوّليّة والنّظريّات الإلهيّة نظراً للصّلة الّتي تربطها بسعادة الإنسان ، أمّا السّعادة في أعلى درجاتها فلا يتوقّف تحصيلها على أفعال الإنسان فحسب ، وإنّما على آرائه أيضاً من هنا انفرد كتاب الفارابي " مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة " في إبراز الآراء الّتي يتعيّن على أهل المدينة الفاضلة الأخذ بها حتّى يصلوا إلى السّعادة الّتي هي الكمال النّظري الّذي لا يوجد إلاّ في الأذهان والنّفوس فحسب. القول في الاجتماعات المدنيّة(أهمّيّتها،أقسامه� �،اختلافاتها):

الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ سياسيٌّ بالطّبع فلا يستطيع الاستمرار في العيش بمعزلٍ عن النّاس والمجتمـع والنّظام فهو على حدّ قول الفارابي: " .. من الأنواع الّتي لا يمكن أن يتمّ لها الضّروري من أمورها ، ولا تنال الأفضل من أحوالها إلاّ باجتماع جماعاتٍ منها كثيرة في مسكن واحد "( المصدر نفسه ، ص 69 ) ، والجماعات الإنسانيّة عند الفارابي تنقسم إلى ثلاثة أقسام : عظمى ، وسطى ، وصغرى ، أمّا العظمى فهي جماعة مكوّنة من أمم كثيرة تجتمع وتتعاون . والوسطى هي الأمّة ، والصّغرى هي الّتي تحوزها المدينة ، والجماعات الثّلاث هي الجماعات الكاملة ، والمدينة هي أوّل مراتب الكمالات، من هنا كان جلّ تركيز الفارابي على الجماعـة الصّغرى الّتي تشكّل مجتمع المدينة . بالمقابل هناك الجماعات النّاقصة وهي ، الاجتماع في القرى والمحال والسّكك والبيوت ، وهناك ما هو أنقص منها جدّاً وهو " الاجتماع المنزلي" وهو جزء للاجتماع في السكّة الّذي هو جزء للاجتماع في المحلّة الّذي هو جزء للاجتماع المدني ، وثمّة تقاطعاتٍ واختلافاتٍ بين هذه الاجتماعات ، فالمحال والقرى لأجل المدينة لكنّ الفرق بينهما هو " أنَّ المحال أجزاء للمدينة والقرى خادمة للمدينة.. [ كذلك ] الجماعة المدنيّة هي جزءٌ للأمّة ، والأمّة تنقسم مدناً" والجماعـة الإنسانيّة الكاملة من وجهة نظر الفارابي هي الّتي تنقسم أمماً ، ولكنّ الأمم تتمايز عن بعضها البعض بشيئين طبيعيين هما " الخِلَق الطّبيعيّة والشّيم الطّبيعيّة،وبشيء ثالث وضعي..وهو اللّسان ، ( اللغة الّتي بها تكون العبارة ) " ( المصدر نفسه ، ص70 ) ، والأمم ليست على درجة واحدة من حيث الكمّ والاتّساع : " فمن الأمم ما هي كبار ومنها ما هي صغار " ( المصدر نفسه، ص70 ) ، أمّا اختلاف الأمم فيرجع إلى أسبابٍ جغرافيّة وطبيعيّة :" فالسّبب الطّبيعي الأوّل في اختلاف الأمم .. اختلاف أجزاء الأجسام السّماويّة الّتي تُسامتهم في الكرة الأولى ، ثمّ من كرة الكواكب الثّابتة ، ثمّ اختلاف أوضاع الأُكر المائلة من أجزاء الأرض وما يعرض لها من القرب والبعد ، ويتبع ذلك اختلاف أجزاء الأرض الّتي هي مساكن الأمم .. ويتبع اختلاف أجزاء الأرض اختلاف البخارات الّتي تتصاعد من الأرض ، وكلّ بخار حادثٍ من أرض فإنّه يكون مُشاكلاً لتلك الأرض ، ويتبع اختلاف البخار اختلاف الهواء واختلاف المياه ، ويعلل ذلك أنَّالمياه في كلّ بلد إنّما تتكون من البخارات الّتي تحت أرض ذلك البلد .. ويتبع اختلاف الهـواء ، واختلاف المياه ، اختلاف النّبات واختلاف أنواع الحيوان غير النّاطق ، فتختلف أغذية الأمم ، ويتبع ذلك اختلاف المواد والزّرع الّتي منها يتكوّن النّاس الّذين يخلفون الماضين ، ويتبع ذلك اختلاف الخِلَق واختلاف الشّيم الطّبيعيّة .. فما يبقى بعد ذلك من الكمالات الأُخَر،فليس من شأن الأجسام السّماويّة أن تعطيه بل ذلك من شأن العقل الفعّال " ( المصدر نفسه، ص71 )،هكذا يردّنا الفارابي في اختلاف الأمم إلى الأساس الفلسفي الّذي ينطلق منه، بحيث يردّ الاختلافات الحاصلة بين الأمم إلى الأثر الطّبيعي المتعلّق بالكرات ، كرة الكواكب الأولى ، وكرة الكواكب الثّابتة ، وكرة الكواكب المائلة ، فاختلافات الأمم لديه ليست اعتباطيّة وإنّما ترتدّ إلى عللها الطبيعيّة .

أمّا العقل الفعّال فَيَهِب الإنسان قوّةً ومبدأً به يسعى ، أو به يقدر على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر الكمالات .. فيعطيه المعارف والمعقولات بعد أن يتقدّم في الإنسان ، ويحصل فيه الجـزء الحاس من النّفس ، والجزء النّزوعي الّذي به يكون الشّوق والكراهة التّابعان للحاس.. فبهذين تحصل الإرادة إذ يعزو إليها كلّ أفعال الإنسان من المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح . فالإرادة أوّلاً هي : شوق عن إحساس، والشّوق يكون بالجزء النّزوعي ، والإحساس بالجزء الحاس . وهي ثانياً : شوقٌ عن تخيّل ، وبعد أن يحصل هذان يمكن أن تحصل المعارف الأُوَّل الّتي تحصل من العقل الفعّال في الجزء النّاطق . وهي ثالثاً : شوقٌ عن نطق ، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار ، وهو الّذي يفرّق الإنسان عن سائر الحيوان طبقاً للتّعريف الشّائع بأنَّ "الإنسان حيوان ناطق " ولعل هذا النّوع من الإرادة هو الأهمّ بين الإرادات المذكورة " بهذا _[النّوع ] _ يقدر الإنسان أن يفعـل المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح ، ولأجل هذا يكون الثّواب والعقاب" أمّا الإرادتان الأوّليان فإنّهما قد يكونان في الحيوان غير النّاطق،وبذلك فهما مشتركتان بين الإنسان والحيوان ، بينما إذا حصلـت الإرادة الثّالثة في الإنسان ، يكون بوسعه أن يسعى نحو السّعادة أو أن لا يسعى ، وأن يفعل الخير أو أن يفعل الشّر ، وأن يفعل الجميل أو القبيح أيضاً (للمزيد ، أنظر المصدر نفسه).

القول في السّعادة :

يرى الفارابي بأنَّ السّعادة هي الخير على الإطلاق ، وبأنَّ كلَّ ما من شأنه أن يعيق الوصول إلى السّعادة هو الشّر على الإطلاق(المصدر نفسه،ص72)،والخير والشّر إمّا أن يوجدا بالطّبع أو بالإرادة ، والخير الإرادي والشّر الإرادي هما الجميل والقبيح،والسّعادة الّتي يشعر بها الإنسان تحصل فقط بالقوّة النّاطقة النّظريّة وهي أحد قوى النّفس الخمسة ، النّاطقة النّظريّة والنّاطقة العمليّة، والنّزوعيّة ، والمتخيّلة ، والحسّاسة ( أنظر ، المصدر نفسه ، ص73 ) ، من ناحية أخرى لا يوجد سعادة واحدة كاملة غير متفاضلة عند النّاس ، بل يوجد بضع سعاداتٍ متفاضـلةٍ بالنّوع والكـمّ والكيف :" ..والسّعادات تتفاضل بثلاثة أنحاء ، بالنّوع ، والكميّة والكيفيّة "(الفارابي ، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة ، قدّمه وعلّق عليه ، الدكتور ألبير نصري نادر ، الطبعة الخامسة ، ص139) .

وهذا التّفاضل شبيه بتفاضل الصّنائع ، ولجوء الفارابي إلى التّشبيه والمماثلة مردّه أنَّ غالبيّة النّاس يستيسرون الفهم عن طريق التّمثيل ومحاكاة ما هو محسوس في الحياة كونه أقرب إلى الفهم والتّصوّر ، لذا نجده يحدّد التّفاضل بالنّوع على هذا النّحو : " التّفاضـل بالنّوع هو أن تكون صناعات مختلفة بالنّوع ، بحيث إحداها أفضل من الأخرى مثل الحياكة وصناعة البزّ وصناعة العطر، ومثل صناعة الرّقص ، وصناعة الفقه، ومثل الحكمة والخطابة " ( المصدر نفسه، ص139) أمّا التّفاضل بالكميّة ، فيكون لأهل الصّنائع الّتي من نوعٍ واحد ، كأن يكون كاتبان مثلاً ، عَلِمَ أحدهما من أجزاء صناعة الكتابة أكثر من الآخر ، وآخر احتوى من أجزائها على أشياء أقلّ . وأمّا التّفاضل بالكيفيّة ، هو أن يكون اثنان احتويا من أجزاء الكتابة على أشياء بأعيانها ويكون أحدهما أقوى فيما احتوى عليه وأكثر دراية .

من ناحيةٍ أخرى يبرز الفارابي أثر الأفعال الحسنة في تقويّة جزء النّفس المعدّ بالفطرة للسّعادة ، وإذا بلغ من القوّة حدّاً يجعله في حلٍّ من المادّة ، عندئذٍ تحصل السّعادة دون أن تكون محتاجة في قوامهـا ووجودهـا إلى مادة ( أنظر ، السياسة المدنيّة ، ص81 ) وعليه فالنّفس هي الآلة الّتي يتمّ بها تحصيل السّعادة وليس البدن لأنّ البدن يبطل أمّا النّفس فلا تبطل ببطلانه، من هنا يكشف الفارابي عن عمق العلاقة بين السّعادة والنّفس الأمر الّذي جعله يولي أهمّية لخلاص النّفوس وازديادها : " فإذا مضت طائفة وبطلت أبدانها ، وخلصت أنفسها وسعدت ، فخلفهم ناس آخرون بعدهم فقاموا في المدينة مقامهم ، وفعلوا أفعالهم،خلصت أيضاً أنفس هؤلاء..وكلّما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة واتّصل بعضها ببعض ، كان التذاذ كلِّ واحدٍ منها أزيد " ( المصدر نفسه ) فاتّصال الأنفس المتشابهة بعضها ببعض في كافّة الأزمنة ، يزيد من سعادتها على نحوٍ مطّرد: " وزادت لذّات الماضين باتّصال اللاّحقين بهم لأنَّ واحدةً تعقل ذاتها وتعقلُ مثلها مراراً كثيرةً ويزيد ما يعقل منها بلحاق الغابرين بهم في مستقبل الزّمـان فيكـون تزيُّد لذّات كلّ واحدٍ في غابر الزّمان بلا نهاية ، فهذه هي السّعادة القصوى الحقيقيّة الّتي هي غرض العقل الفعّال " ( المصدر نفسه ، ص82) ،وعليه فاتّصـال النّفوس ببعضها يجعلها تعيش في شركـة روحيّة أبديّة بحيث يمتدّ أثر الأنفس اللاّحقة في الأنفس السّابقة ، وتزداد اللذة كلّما ازداد عدد الفاضلين اللاّحقين وذوي الأنفس الإنسانيّة المتشابهة إلى ما لانهاية .

القول في العضو الرّئيس والرّئاسة :

يولي الفارابي للرّئيس أهميّة كبيرة في مجتمع المدينة،فمنزلتهُ من المدينة أشبه ما تكون بمنزلة القلب من البدن، فكما أنّ القلب هو العضو الرّئيس في البدن فإنَّ الرّئيس هو العضو الرّئيس في المدينة : " وكما أنَّ القلب يتكوّن أوّلاً ثمَّ يكون هو السّبب في أن يكوّن سائر أعضاء البدن،والسّبب في أن تحصل لها قواها وأن تترتّب مراتبها.. كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أوّلاً ، ثمّ يكون هو السّبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها ، وهذا ما حدا بنا أن نبدأ بالقول في الرّئيس قبل القول في المدينة الفاضلة ومن ثمَّ مضادّاتها"( آراء أهل المدينة الفاضلة، ص120) ، ووفقاً لهذه النّظرة ينفي الفارابي مسألة انتخاب الرّئيس من قِبَل أعضـاء المدينة،أو القول بأسبقيّة الاجتماع المدني على وجـود الرّئيس ، كما ينفي إمكان قيام مجتمع مدني عن طريق اتّفاق أعضائه في انتخاب رئيس لهم يدبّر لهم شؤونهم ، وهذا يرتكز بالطّبع على الأساس الفلسفي الّذي ينطلق منه الفارابي في إشادة علمه المدني،وهو أنَّ أوّل الموجودات وأسبقها في الوجود هو السّبب الأوّل الّذي تفيض عنه بقيّة العقول والأجسام الأخرى،فيكون للواحد أسبقيّة في الوجود على بقيّة الموجودات الكثيرة الّتي تخضع لتدابيره بشكلٍ تراتبي ، الأدنى منها يخضع للأعلى . وهكـذا هو الحال في تحديد العلاقة بين الرّئيس والنّاس وسائر أجزاء المدينة عموماً : " وتلك حـال الموجودات ، فإنَّ السّبب الأوّل نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائهـا "،(المصدر نفسه ، ص122) ، وكما أنَّ الأخسّ يقتفي غرض ما هو فوقه،وكما تكون الموجودات كلّها تقتفي غرض السّبب الأوّل ، ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة ، بحيث يتعيّن على كلّ أجزائها أن تحتذي بأفعالها نحو مقصـد رئيسها الأوّل على التّرتيب ، وليس يمكن أن يكون رئيس المدينة الفاضلة أي إنسان ، فللرّئاسة شروطٌ ينبغي أن تتوافر في الرّئيس:" الرّئاسة إنّما تكون بشيئين : أحدهما أن يكون بالفطرة وبالطّبع معدّاً لها ، والثّاني بالهيئة والملكة الإراديّة .. والرّياسة لمن فطر بالطّبع معدّاً لها ، فليس كلّ صناعة يمكن أن يرأس بها ، بل أكثر الصّنائع صنائع يخدم بها في المدينة ، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة .. كذلك الرّئيس الأوّل للمدينة الفاضلة ينبغي أن تكون صناعته صناعة لا يمكن أن يخدم بها أصلاً ، ولا يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصلاً " .

( المصدر السّابق ، ص122، ص123) .

والرّئيس ليس هو من لا يملك القدرة على إرشاد وإنهاض غيره ، فهذا يكون مرؤوساً وفي كلّ شيء ، فالرّئيس :"من كانت له قوّة على أن يرشد غيره إلى شيء مّا يحمله عليه أو يستعمله فيه،فهو رئيس في ذلك الشّيء على الّذي ليس يمكنه أن يفعل ذلك الشّيء من تلقاء نفسه " ، ( السّياسة المدنيّة ، ص79 ) ، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على ضرورة توفّر الاستعداد والموهبة للرّياسة بشكل فطري في الرّئيس .

من ناحية أخرى هنالك رئاسات يكون فيها الرّئيس مرؤوساً لرئيس آخر وفـق تسلسل تراتبي ، باستثناء الرّئيس الأوّل الّذي لا يحتاج ولا في شيء أن يرأسه إنسان ، الأمـر الّذي يستدعي أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلةً بالفعل ولا حاجة به أن يرشده غيره في شيء ، وتكـون له قدرة عل جـودة إدراك شيء ممّا ينبغي أن يعمـل من الجزئيّات ، وقوّة على جودة إرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ ما يعلّمه ويكون لديه قدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السّعادة وهذا لا يكون على حدّ قوله إلاّ : " في أهل الطّبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعّال "( المصدر نفسه ، ص 9 ) .

ويتمّ بلوغ ذلك بأن يحصل له أوّلاً العقل المنفعل ثمّ أن يحصل له بعد ذلك العقل المستفاد : " فبحصول المستفاد يكون الاتّصال بالعقل الفعّال " بمعنى أنَّ العقل المستفـاد هو الصلـة الّتي تصل بين العقل المنفعل والعقل الفعّـال، والشّخص الّذي يحصل له ذلك _ كما هو الحال عند القدماء _ هو الملك الّذي يوحى إليه كونه بلغ هذه الرّتبة ، فتفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوّة الّتي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السّعادة:"ويتمّ ذلك على اعتبار أنَّ العقل المنفعل هو شبه المادّة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادّة والموضوع للعقل الفعّال ، وبما أنَّ العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السّبب الأوّل ، يمكن القول بأنَّ السّبب الأوّل هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسّط العقل الفعّال"بناءً على ذلك يستنتج الفارابي بأنَّ رئاسة هذا الإنسان الموحى إليه من السّبب الأوّل بتوسّط من العقل الفعّال هي الرّئاسة الأولى في حين أنَّ سائر الرّئاسات متأخّرة عن هذه وكائنة عنها .. وينتج من ذلك أنَّ النّاس الّذين يُدَبَّرون برئاسة هذا الرّئيس هم النّاس الفاضلون والأخيار السّعداء ، فإن كانوا أمّةً فتلك هي "الأمّة الفاضلة"،وإن كانوا أُناساً مجتمعين في مسكنٍ واحـد يجمـع جميع من تحت هذه الرّئاسة فهي "المدينة الفاضلة" أمّا من كانوا في مساكن متفرّقة يُدَيَّر أهلها برئاساتٍ أُخر غير هذه كانوا أناساً أفاضل يعرض تفرّقهم لأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّه لم تتّفق لهم بعد مدينة يجتمعون فيها ، أو أنّهم كانوا في مدينةٍ عرضت لها آفات من عدوٍ أو وباء أو جدبٍ أو غير ذلك فاضطرّوا إلى التّفرّق،بعد ذلك ينتقل الفارابي للحديث عن طبيعة المدينة أو الأمّة الواحدة أو الأمم الكثيرة الّتي يتواجد فيها جماعة من الملوك في وقتٍ واحد، بأنّها تكـون موحّدةً كملك واحد نظراً لاتّفاق هممهم وأغراضهم وسِيَرِهم ، فتصبح القيادة الجماعيّة أمـراً يسيراً فيما بينهـم لعلّة تجانسهم ووحـدة مقاصدهم وأهدافهم ، وعليه يكون بالإمكـان تشكيل مجلس رئاسة منهم ، فتكون نفوسهم كنفسٍ واحدة حتّى إذا توالوا في الأزمان واحداً بعد آخر ، بحيث يكون الثّاني على سيرة الأوّل والغابر على سيرة الماضي ، وهذا التّواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الجمود والتّقليد الكامل، إنّما يخضع لمنطق التّجديد والتّطوّر طبقاً لقول الفارابي : " وكما أنّه يجوز للواحد منهم أن يغيّر بشريعة قد شرّعها هو في وقتٍ إذا رأى الأصلح تغييرها في وقتٍ آخر ، كذلك الغابر الّذي يخلف الماضي له أن يغيّر ما قد شرّعه الماضي ، لأنَّ الماضي نفسه لو كـان مشاهداً للحال لغيّر " ( السّياسة المدنيّة، ص81) فالحياة ليست جامدةً بل متحرّكةً تتطوّر في كلّ عصر فتكون مقتضيات العصر قاضيةً بالتّعامل معها بالشّرائع الملائمة .


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أكرم الحوراني
وسام التميز
وسام التميز



الدولة : سوريا
عدد المساهمات : 242
نقاط : 494
تاريخ التسجيل : 17/09/2013

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 6:08 pm

الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:

ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة ( أنظر، آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص127،ص128،ص129) . الخصلة الأولى : أن يكون سليم البدن ، تام الأعضاء بحيث تكون قواها مؤاتية أعضائها على الأعمال الّتي شأنها أن تكون بها ، ومتى همّ بعضوٍ مّا من أعضائه عملاً يكون به ، فأتى عليه بسهولة . بمعنى أنَّ الجسد منظومةٌ متكاملة إذا اعتلَّ عضوٌ من أعضائه نجـم عنه اضطّرابٌ في القيام بعمل العضـو المعتلّ من ناحية وانعكس اعتلاله على باقي أعضاء الجسد من ناحية أخرى. ناهيك عن أن الرّئيس صورةٌ عن العقل الفعّال وعلى علاقةٍ واتّصال بالسّبب الأوّل، الموجود الكامل ، واجب الوجود ، المنزّه عن كلّ نقص واعتلال ، فلا يجوز أن يعتريه النّقص والاعتلال .

الخصلة الثّانية: أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له فيلقاه بفهمه على نحـو ما يقصده القائل ، وعلى حسب الأمر في نفسه ووجود هذه الخصلة في الرئيس تمليها الضرورة لئلاَّ يخطئ في فهم الآخرين فيخطئ في التّدابير الّتي يلجـأ إليها ، من هنا يعدّ الفهم الصّحيح والقدرة على تفسير العالم والأشياء الموجودة فيه _ بما فيها العلاقات الاجتماعيّة _ أحد أهم الشروط الّتي تقوم عليهـا نظريّة المعرفة ، حتّى يتسنّى التأثير فيه تأثيراً إيجابيّاً يأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الذّاتيّة والموضوعيّة للعالم والمجتمع والأشياء ، ويحول دون الوقوع في الخطأ والضّلال .

الخصلة الثّالثة : أن يكون جيّد الحفـظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه ، وفي الجملة لا يكاد ينساه وهذا يتطلّب وجود جملة عصبيّة سليمة ومعافاة، والغاية من وجود هذه الخصلة، هي حتى يكون الرّئيس على بيّنة في تدبّر القضايا والأحكام فلا يقع في الزّلل .

الخصلة الرّابعة : أن يكون جيّد الفطنة ذكيّاً،إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة الّتي دلَّ عليها الدّليل. وهذه خصلة أساسيّة في الخصال الواجب أن يتمتّع بها الرّئيس فيكون جيّد التّذكّر والانتباه ، لبيداً ذو حاسّة مرهفة تمكّنه من الوصول إلى الشّيء بأقلّ الأدلّة .

الخصلة الخامسة : أن يكـون حسن العبارة ، يؤتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة ، وهذا يعني تطابق اللّفظة مع الفكرة تطابقاً تامّاً حتّى لا يقع التباسٌ في التّعبير والإبانة،لأنَّ من يخونه اللّسان عن حسن نيّة ، يفتح الباب للتّأويل الخاطئ لما يُقال .

الخصلة السّادسة: أن يكون محبّاً للتّعليم والاستفادة، منقاداً له سهل القبول،لا يؤلمه تعب التّعليم،ولا يؤذيه الكدُّ الّذي ينال منه ، لأنَّ العلم زاد المعرفة والمعرفة نور الحقّ الّذي لا ينطفئ ، وبالعلم تتهذّب النّفوس وتصفوا . وبالتّالي يكون الرّئيس على درجة من العلم والمعرفّة تمكّناه من حلّ جميع القضايا والمشكلات الّتي تواجهـه بالمنطق والعقل والحوار ، وتفادي اللّجوء إلى العنف وسفك الدّماء وما شاكل ذلك .

الخصلة السّابعة : أن يكون غير شرهٍ في المأكول والمشروب والمنكوح، متجنّباً بالطّبع للّعب مبغضاً للذّات الكائنة عن هذه . لأنَّ الإسراف في طلب تلك الأمور من شأنه أن يصـرف الرّئيس عن تدبّر أمـور الرّعيّة ويفقده مكانته ومهابته .

الخصلة الثّامنة : أن يكون محبّاً للصّدق وأهله ، مبغضاً للكذب وأهله . الأمر الّذي يُكسِبهُ ثقة الجمهور ومحبّته ، ويزرع المهابة في نفوس مواطنيه جميعاً .

الخصلة التّاسعة : أن يكون كبير النّفس ، محبّاً للكرامة ، تكبر نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، وهي نقطة جوهريّة كون الرّئيس مثلاً أعلى للرّعيّة يتشبّهون به ويقتفون أثره فإن هانت عليه كرامته ستجد أصداء لها في نفوسهم ، وإن عفّت عليه نفسه وكانت الكرامة عنوان شخصيّته ستجد تجليّاتها في كرامتهم طبقاً للمثل الشّائع " أخلاق الرّعيّة من الرّاعي " .

الخصلة العاشرة : أن يكون الدّرهم والدّينار وسائر أعراض الدّنيا هيّنةً عنده ،وهذا تكريسٌ للعادات والأخلاق المتوارثة منذ القدم ، كعادات الكرم والسّخاء ، والإيثار ، وغيرها،حتّى إذا عمَّ هذا المبدأ لم يعد للسّحت مكان ٌ في الأمّة ، ولم يعد أحدٌ محتاج فيها فيتحقّق بذلك التّآزر الاجتماعي والأمن والاستقرار للجميع .

الخصلة الحادية عشرة : أن يكون بالطّبع محبّاً للعدل وأهله ، ومبغضاً للجور وأهلهما ، ثمّ أن يكون عدلاً غير صعب القياد ولا جموحاً ولا لجوجاً إذا دُعي إلى العدل ، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجـور وإلى القبيح . فالعدل خيرٌ والخيرُ مجلبةٌ للسّعادة ، والجورُ ظُلمٌ ، والظّلم مجلبةٌ للشّر والشّر مجلبةٌ للشّقاء .

الخصلة الثّانية عشرة : أن يكون قوي العزيمة_على الشّيء الّذي يرى أنّه ينبغي أن يُفعل _جسوراً عليه، مقداماً غير خائف ولا ضعيف النّفس .( أنظر ، المصدر نفسه ) .

وبالطّبع فإنَّ توفّر جميع هذه الشّروط في شخصٍ واحد ليس بالأمر اليسير :" واجتماع هذه كلّها في إنسان واحد عَسِر ، فلذلك لا يوجد من فُطِرَ على هذه الفطرة إلاّ الواحد بعد الواحد ، والأقلّ من النّاس ، ويكون الرّئيس الثّاني الّذي يخلف الأوّل من اجتمعت فيه من مولده وصباه تلك الشّرائط ، ويكون بعد كبره فيه ستة شرائط مكتسبة هي :أن يكون حكيماً ، وأن يكون عالماً حافظاً للشّرائع والسّنن والسِّيَر الّتي دبّرها الأوّلون للمدينة محتذياً بأفعاله كلّها حذو تلك بتمامها ، وأن يكون له جودة استنباط فيما لا يُحفَظ عن السّلف فيه شريعة ، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذياً حذو الأئمّة الأوّلين ، وأن يكون له جودة رؤية وقوّة استنباط لِما سبيله أن يُعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث الّتي تحدث ممّا ليس سبيلها أن يسير فيه الأوّلون فيكـون متحرّيّاً بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة ، وأن يكون له جودة إرشاد بالقول إلى شرائع الأوّلين وإلى الّتي استنبطت بعدهـم ممّا احتذى حذوهم ، وأن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب وذلك أن يكون معه الصّناعة الحربيّة الخادمـة والرّئيسيّة ( آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص130) . ويمكن أن توجد الرّئاسة باثنين ، إذا وُجِـدَ اثنان أحدهما حكيم والثّاني فيه الشّرائط الباقية كانا هما رئيسين في هذه المدينة ، ولا يمكـن للمدينة أن تعمّر طويلاً إذا خلت من وجود حكيمٍ يقف على رأسها : " فإن لم يتّفق أن يوجـد حكيم ..لم تلبث المدينة بعد مدّة أن تهلك"(المصـدر نفسه، ص130) .

البنية التّنظيميّة للمدينة الفاضلة:

لكي تحصل المدينة الفاضلة ينبغي أن يوجد الرّئيس أوّلاً،فالعلاقة بين المدينة والرّئيس أشبه ما تكون بعلاقة النتيجة بالسّبب ، والمعلول بالعلّة، من هنا كانت المدينة نتيجةً ومعلولاً لوجود الرّئيس ، من ناحية ثانية ليست جميع المراتب الاجتماعيّة واحدةً في المدينة، الأمر الّذي يجعلها تتفاضل في الخدمة والرّئاسة فيما بينها ،ويعود هذا التّفاضل إلى أهل المدينة أنفسهم :"تتفاضل [ المدينة] بحسب فِطَرِ أهلها،وبحسب الآداب الّتي تأدّبوا بها والرّئيس الأوّل هو الّذي يرتّب الطّوائف ، وكلّ إنسان من كلّ طائفة في المرتبة الّتي هي استيهاله ، وذلك إمّا مرتبة خدمـة وإمّا مرتبة رئاسة " ( السّياسة المدنيّة ، ص83) .

ولكن رئيس المدينة متى أراد أن يحدد وصيّة في أمر أراد أن يحمل عليه أهل المدينة ، أو طائفة من أهل المدينة، فإنّه يوعز إلى أقرب المراتب لينهضهم نحوها ، فيقوم بتعميم ذلك إلى من يليه ، وهكذا حتّى يصل إلى من رُتّبَ للخدمة في ذلك الأمر ، ولا يخفى ما لهذا المبدأ من قيمـة كبيرة ، فهو تجسيد للعمـل بمبدأ الشّورى ، وتكريسٌ لارتباط الرّئيس برعيّته ، الأمر الّذي يجعل المدينة تعمل بانسجام كجسدٍ واحد ، وتبتعد عن الخلافات النّاشئة فيما بينها ، :" فتكون المدينة حينئذٍ مرتبطةً أجزاؤها بعضها مع بعض،ومرتّبةً بتقديم بعض وتأخير بعض "(المصدر نفسه، ص 84) .

وبعبارة أخرى : تحاكي المدينة في تنظيمها الموجودات الطّبيعيّة في الحياة : " وتصير شبيهةً بالموجودات الطّبيعيّة ، ومراتبها شبيهةً أيضاً بمراتب الموجودات،وارتباطهـا وائتلافها شبيهـاً بارتباط وائتلاف الموجودات المختلفة بعضها ببعض .. [ ويكون] مدبّر تلك المدينة شبيه بالسّبب الأوّل الّذي به وجود سائر الموجودات"(المصدر نفسه، ص84) ، وهكذا ينبغي لرئيس المدينة الفاضلـة ألاّ يكـون فيلسوفاً فحسب بل أن يكون نبيّاً على اتّصالٍ بالسّبب الأوّل وبالعقل الفعّال ، من ناحية أخرى تكمـن سعادة المدينة في محاربة الشّرور وزوالها ، وحلـول الخير بنوعيه الطّبيعي والإرادي ، وتلك هي مهمّة الرّئيس مدبّر المدينة : " وبالجملة يلتمس إبطال الشّرّين جميعاً وإيجاب الخيرين جميعاً . وتبقى المعرفة بمبادئ الموجودات القصوى ومراتبها ، والسّعادة والرّئاسة ضرورة لكلّ واحد من أهل المدينة الفاضلة ، والأفعال المحمودة إذا فُعِلَت نيلت بها السّعادة " (أنظر ، المصـدر نفسه ) ، كما أنّه لا تكفي المعرفة بهذه الأفعال دون أن تتعيّن في شكل ممارسات عمليّة،بمعنى ضرورة ربط النّظريّة بالممارسة العمليّة ، فسبيل تحصيل السّعادة لأهل المدينة الفاضلة هو ألاّ يقتصر الجهد على تعلّم الأفعال الّتي بها تُنال السّعادة ، من دون أن تُعْمَل ويأخـذ أهل المدينة بفعلها ( أنظر ، المصدر نفسه ، ص 85 )،والسّبيل إلى معرفة مبادئ الموجودات ومراتبها، والسّعادة ، ورئاسة المدن الفاضلة ، إنّما يتمّ بطريقين التّصوّر أو التّخيّل : " إمّا أن يتصوّرها الإنسان ويعقلها وإمّا أن يتخيّلها " والفرق بين التّصوّر والتّخيّل هو أنه بالتصوّر ترتسم في نفس الإنسان ذواتها كما هي موجودة في الحقيقة ، وأمّا بالتّخيّل فترتسم في نفس الإنسان خيالاتها و مثالاتها وأمور تحاكيها ، ويتمّ ذلك بهاتين المرتبتين ، لأنَّ النّاس ليسوا على مرتبةٍ واحدة ، وأنَّ محاكاة الأشياء تختلف من أمّة لأمّة ، ومن طائفةٍ لطائفة :" فلذلك .. يمكن أن تكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف مللهم وإن كانوا كلّهم يَؤُمُّون سعادة بعينها "وإن كان أكثر النّاس يؤمّون السّعادة بالتّخيّل لا بالتّصوّر ، لأنَّ التّخيّل أيسر لدى العقول من التصوّر إليها ، ناهيك أنَّ الأكثريّة من النّاس هم من ذوي الرّتب الخادمة والعاديّة : " وأكثر النّاس الّذين يؤمّون السّعادة إنّما يؤمّونها مُتخيّلةٍ لا متصوّرة ، والذّين يؤمّون السّعـادة متصوّرة ً ويتقبّلونها ، ويؤمّونها عل أنّها كذلك هم المؤمنون"( المصدر نفسه ، ص 86) . والأمور الّتي تُحاكى بالتّخيّل تتفاضل في الدّرجة ، فمنها ما هو أزيد ومنها ما هو أنقص : " فيكون بعضها أحكم وأتمّ تخيّلاً ، وبعضها أنقص تخيّلاً ، وبعضها أقرب إلى الحقيقة ، وبعضها أبعد عنها .. " ( المصدر نفسه ، ص 86) . ولتأمين السّعادة لأفراد المدينة الفاضلة، يحددّ الفارابي الأشياء الّتي ينبغي أن تكون معلومةً من قبلهم ، وأوّلها معرفة السّبب الأوّل وجميع ما يوصف به ، ثمّ الأشياء المفارقة للمادّة وما يوصف كلّ واحدٍ منها بما يخصّه من الصّفات ، والمرتّبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعّال وفعل كلّ واحدٍ منها ، ثمًّ بمعرفة شيء رابع هو معرفـة الأجسام الطّبيعيّة الّتي تحتها ، كيف تتكوّن وتفسد ، وإنَّ ما يجري فيها يجري على إحكام وإتقان وعناية وعدل وحكمة ، .. ثمّ كون الإنسان وكيف تحدث قوى النّفس، وكيف يفيض عليها العقل الفعّال الضّوء حتّى تحصل المعقولات الأُوَّل ، والإرادة والاختيار ، ثمَّ الرّئيس الأول ، وكيف يكون الوحي، ثمَّ الرّؤساء الّذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات ، ثمّ المدينة الفاضلـة وأهلها والسّعادة الّتي تصير إليها أنفسهم ، والمدن المضادّة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت ، إمّا بعضهم إلى الشّقاء وإمّا بعضهم إلى العـدم ، ثمّ الأمم الفاضلة ، والأمم المضادّة لها ، وهذه المعرفة تتمّ بطريقين ، الأول أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة، والثّاني أن ترتسم فيها بالمناسبة والتّمثيل على النّحو الّذي أشرنا إليه سابقاً .

القول في مضادّات المدينة الفاضلة :

ثمّة مدن مضادّة للمدينة الفاضلة : المدينة الجاهليّة ، المدينة الفاسقة ، المدينة المتبدّلة ، والمدينة الضّالة ، ونوائب المدن . أمّا الجاهليّة : فهي تلك الّتي لم يعرف أهلها السّعادة ، ولا خطرت ببالهم ، وإن أُرشِدوا إليها لم يفهموها ولم يعتقدوها .. والسّعادة هي عندهم هي ما عرفوه من الخيرات تُظَنّ أنّها الغايات في الحياة وهي سلامـة الأبدان، واليسار والتّمتّع باللّذات وأن يكون مُخلى هواه ، وأن يكون مكرماً معظّماً ، فكل واحدة من هذه سعادة عند أهل الجاهليّة ، والسّعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلّها ( أنظر ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص131) ويضادّها الشّقاء ( آفات الأبدان ، الفقر ، وغياب التّمتّع باللذّات .. الخ ) ، وتنقسم المدينة الجاهلية الّتي لا تعرف الخير الحقّ ومن ثمَّ السّعادة الحقّة وإلى مجموعة من المـدن أبرزهـا : المدينة الضّروريّة :وهي الّتي قصد أهلهـا الاقتصار على الضّروري ممّا به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والمنكوح ، والتّعاون على استعادتها . المدينة البدّالة : وهي الّتي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثّروة على اعتبار أنَّ اليسار لديهـم هو الغاية من الحياة . مدينة الخسّة والسّقوط:وهي الّتي قصد أهلها التّمتّع باللّذّة من المأكول والمشروب والمنكوح..وإيثار الهزل واللّعب بكلّ وجه ومن كلّ نحو . مدينة الكرامة : وهي الّتي قصد أهلها المجد والعظمة والشّهرة بين الأمم .ومدينة التّغلّب: وهي الّتي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم ، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم ، ويكـون كدّهم اللّذة الّتي تنالهم من الغلبة فقط . والمدينة الجماعيّة : هي الّتي قصد أهلها أن يكونوا أحراراً يعمل كلّ منهم ما شاء ، وملوك الجاهليّة على عهد مدنها أن يكون كلّ واحد منهم إنّما يدبّر المدينة الّتي هو مسلّـط عليها ليحصل هواه وميله ، وأغراض الجاهليّة تلك الّتي ذكرناها،بيد أنَّ المقصود بالرّئاسات الجاهليّة هو أنَّ كلّ رئاسة جاهليّة إمّا أن يكون القصد بها التّمكّن من الضّروريّ أو اليسار ، أو التّمتّع باللّذات ، أو الكرامة والذّكر والمديح ، أو الغلبة ، أو الحرّيّة ..لذلك صـارت هذه الرّئاسات تُشرى شراءً بالمـال .. والرّئيس الفاضل عندهم هو الّذي يقتدر على جودة الرّويّة وحسن الاحتيال فيمـا يُنيلهم شهواتهم وأهوائهم على اختلافها وتفنّنها،ويحفظهم على ذلك من أعدائهم، ولا يرزأ من أموالهم شيئاً بل يقتصر على الضّروري من قوته فقط .. وأمّا الفاضل الّذي هو بالحقيقة فاضل ، وهو الّذي إذا رأَسَهُم قدّر أفعالهم وسدّدها نحو السّعادة ، فهم لا يرئسونه ( أنظر ، السّياسة المدنيّة ، ص 101) .

وأمّا أصحـاب الشّهوات من تغلب عليهـم القوّة الشّهوانيّة فتستحيل قواه الغضبيّة خادمةً لقوّته الشّهوانيّة : " فلذلك يعظم عندهم أمر النّساء ، ويحسن عند كثير منهم الفسق ولا يرون أنَّ ذلك سقوط وتخاسس إذا كانت نفوسهم ذليلة للشّهوات .. ويرى ما يعيبه النّساء هو العيب،وما يستحسنه النّساء هو الحسن ، ويبتغون في كلّ شيء شهوات نسائهم .. وكثير منهم تكون نساؤهم هُنَّ المتسلّطات عليهم والمستوليات على أمـور منازلهم " ( المصدر نفسه ) .

المدينة الفاسقة : وهي الّتي اعتقد أهلها المبادئ وتصوّرها ، وتخيّلوا السّعـادة واعتقدوها، وأُرشِدوا إلى الأفعال الّتي ينالون بها السّعادة وعرفوها واعتقدوها ، غير أنّهم لم يتمسّكوا بشيء من تلك الأفعـال ، ولكن مالوا بهواهم وإرادتهم نحو شيء من أغراض أهل الجاهليّة ..وجعلوا أفعالهم كلّها وقواهم مسدّدةً نحوها ( أنظر ، المصدر نفسه، ص103) والمدينة الفاسقة هي الّتي تكون آراء أهلها آراء أهل المدينة الفاضلة ، ولكنّ أفعالهـم أفعال أهل المدينة الجاهليّة ، بمعنى عـدم تطابق أقوالها مع أفعالها ( أنظر آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص133)ويتعذّر على واحدٍ من أهل هذه المدينة أن يظفر بالسّعادة بمعناها الحقيقي ، وأنواع هذه المدينة على عدد أنواع المدن الجاهليّة .

المدينة المبدّلة : هي المدينة الّتي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها ، غير أنّها تبدّلت فدخلت فيها آراء غير تلك واستحالت أفعالها إلى غير تلك الأفعال أيضاً( أنظر، السّياسة المدنيّة ، ص33 ) .

المدينة الضّالّة : هي الّتي حوكيت لأهلها أمور غير هذه الّتي ذكرناها بأن نُصِّبَت لهم المبادئ الّتي حوكيت لهم غير تلك الّتي ذكرناها، ونُصِّبت السّعادة لهم غير الّتي هي في الحقيقة سعادة ، وحوكيت لهم سعادة أخرى غيرها ، وسمـت لهم أفعال وآراء لا تنال بشيء منها السّعادة الحقيقيّة .. وتعتقد في الله عزّ وجلّ .. ويكون رئيسها الأوّل ممّن أُوهِمَ أنّه يوحى إليه من غير أن يكـون كذلك ، ويكون قد استُعمِل في ذلك التّمويهات والمخادعات والغرور ( آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص133 ) وجميع ملـوك هذه المدن مضادّة لملـوك المدن الفاضلة ورياستهـم مضادة للرّياسات الفاضلة .

نوائب المدن : النّوائب في المدن الفاضلة هم أصناف كثيرة منهم صنف متمسّكون بالأفعال الّتي تُنال بها السّعادة، بل شيئاً آخر ممّا يجوز أن يناله الإنسان بالفضيلة من كرامة أو رئاسةٍ أو يسار أو غير ذلك فهؤلاء متقنّصين .. ومنهم من يكون له هوىً في شيء من غايات أهل الجاهليّة .. وهؤلاء يُسمُّون المُحَرِّفة .. ومنهم من ليس يقصد تحريفاً ولكن سوء فهم عن قصد واضـع السنّة ونقصان تصوّره لأقاويله يفهم أمـور شرائع المدينة على غير قصد واضع السنّة .. فهؤلاء هم المارقة ، وصنف آخر يكـونون بما يفعلونه من ذلك غير معاندين للمدينة الفاضلة ولكن مسترشدين وطالبين للحق ، ومنهم صنف آخر يزيّفون ما يتخيّلونه ، ومنهم صنف آخر يتخيّلون السّعادة والمبادىء وليس في قوّة أذهانهم أن يتصوّرون أصلاً أو لا يكونون في قوّة إفهامهم أن يتصوّروها على الكفاية ، وبعضهم يظنّ أنَّ الحقّ هو ما ظهر لكلّ واحدٍ وظنّه في الوقت بعـد الوقت ، وأنَّ الحقيقة في كلّ شيء هو به ظان .. وبعضهم يتخيّل له مثل حلم النّائم أو مثل ما يرى الشّيء من بعيد أن هاهنا حقّاً وبعض هؤلاء من الّذين يلتمسون إمّا كرامةً أو يساراً أو غير ذلك ممّا شأنه أن يهوى ، يلتمسون أن يستريحوا ممّا يجدون من مضض الجهل والحيرة ، ربّما أُوهموا إنَّ الغايات هي الّتي يختارونها هم ويؤثرونها ، وأنَّ السّعادة هي هذه ، وأنَّ الباقين مغرورون فيما يعتقدونه ويجتهدون في تحسين الأشياء الجاهليّة وفي تحسين السّعادة . (أنظر ، السّياسة المدنيّة ، ص104، ص105) .

ممّا تقدَّم يمكن استخلاص العديد من النّقاط أبرزها : أنَّ آراء الفارابي السّياسيّة انعكاسٌ دقيق لآرائه الفلسفيّة عن الكون والعالم،وما كتاب"آراء أهل المدينة الفاضلة"إلاَّ رسالة فلسفيّة مكثّفة تحتوي الكثير من الموضوعات كالفيض ، والإرادة ، والنّفس، والسّعادة ، والاختيار ، والوحي ، والقوّة المتخيّلة ، وهذا دليلٌ على أنَّ فلسفة الفارابي السّياسيّة لم تكن معزولة عن منظومة أفكاره الفلسفيّة ، بمعنى أنَّ ما هو سياسيّ في فكر الفارابي يرتكز على ما هو فلسفيّ فيه ، فالسّياسي مرتبطٌ بالفلسفي ارتباطاً جوهريّاً يستحيل الفصل بينهما . النّقطة الأخـرى إنَّ تأثر الفارابي بمحاورة " السّياسة " لأفلاطون المعروفة خطأً بـ " الجمهوريّة " ، لا يعني التطابق في أفكارهمـا السّياسيّة تطابقاً نهائيّاً ، فثمّة تناقض في بعض أفكارهما ، مثل اشتراط الفارابي في رئيس المدينة الفاضلة أن يكون فيلسوفاً وعلى اتّصالٍ بالعقـل الفعّال ، مقابل اشتراط أفلاطون أن يكون رئيس الجمهوريّة فيلسوفاً فحسب . كذلك تصوّر الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون قادراً على الولوج في العالم الرّوحي والاندماج معه، للوصول بأهل المدينة إلى السّعادة الكاملة الّتي لا تدوم إلاَّ بدوام الاتّصال بالعقل الفعّال سواءٌ بطريق التّصـوّر العقلي أو بطريق التّخيّل ، القائمين علـى التّأمّل والإلهام ،وهذا يستدعي الجمـع بين النّبوّة والفلسفة في شخص رئيس المدينة الفاضلة ، في مقابل دعوة أفلاطون إلى ضرورة أن يهبط الفيلسوف من تأمّلاته للمعقولات المجرّدة " المُثُل " إلى عالم الشّؤون السّياسيّة والأشياء المحسوسة .كذلك ينكر الفارابي آراء أفلاطون الّتي تقول بشيوعيّة النّساء والأولاد والثّروة ، لتناقضها مع تعاليم الإسلام .

أيضاً يدعو الفارابي إلى وجود مجلس رئاسة في حال تعذّر وجود شخص واحد يتمتّع بجميع الشّروط والخصال الّتي اشترط توفّرها فيه ، خلافاً لأفلاطون الّذي اشترط في الحاكم أن يكون واحداً من الفلاسفة.من ناحية أخرى تشمل مدينة الفارابي أفراداً من أممٍ ودولٍ مختلفة ، في حين تقتصر جمهوريّة أفلاطون على العنصر اليوناني فحسب، بمعنى أن مدينة الفارابي عالميّة الطّابع فهي لجميع الأعراق البشريّة الّتي تعيش فيها انطلاقاً من روح الإسلام القائم على المساواة بين النّاس كافّة، أمّا جمهوريّة أفلاطون فمحليّة وعرقيّة. وعلى أيّة حال فمردّ جميع الاختلافات بين ذينك الفيلسوفين يعود إلى اختلاف منطلقاتهما الفلسفية ، دون أن يعني بحـالٍ من الأحوال عدم تأثّر الفارابي بأفلاطون في عديدٍ من المسائل المتعلّقة بالعلم المدني أو الفلسفة،مع الإشارة إلى أنَّ الأثر الأكبر في فلسفة الفارابي يعود إلى أرسطو ، وعليه فالفارابي ليس مُطَالباً بالتّطابق التّامّ مع أفلاطون لطالما يقف أرسطو وسط مخيّلته وعقله .


ديمقراطية الفارابي
والفارابي إنما يتحدث هنا عن الديمقراطية وهو يراها مذمومة وإن كانت أفضل مما سواها، فالرئاسة هنا لا ينالها الإنسان الفاضل والكفء لأنها مدينة قائمة على أهواء الشعب، وقد تشترى فيها الرئاسة بالمال، بينما يريد الإنسان الفاضل أن يقود أهله نحو السعادة التي تبدأ طريقها بلجم الأهواء "وأما الفاضل الذي هو بالحقيقة فاضل وهو الذي إذا رأسهم قدر أفعالهم وسددها نحو السعادة فهم لا يرأسونه".

والمدينة الضرورية هي أول مراحل الاجتماع المدني قد اجتمع فيها الناس من وحي فطرتهم لتأمين حاجاتهم الضرورية وفي هذا المجتمع مازالت الفطرة سليمة، واستعدادها أكبر لنمو الفضائل وملكات الخير لدى الناس، فإذا لم يطلها الانحراف وتوافرت لها الأفكار الفاضلة والمربي الفاضل فمن الممكن ببساطة أن تتبدل إلى مدينة فاضلة.

وأما في المدن التي يحكمها الشعب أو التي يسميها مدينة "اجتماع الحرية" فإنها بسبب الحرية تكون أكثر ملاءمة لنمو الناس الخبيرين والفضلاء، ولذا لا يخلو هذا المجتمع من العظماء والمعلمين الفاضلين، بل إن هذه المدن تكون بسبب حرية الفكر والعمل أسرع في نمو الفضيلة، وتكون أجواء هذا المجتمع أكثر ملاءمة من المجتمعات الأخرى لسيادة الفضيلة في المدينة وتنظيم عمل الناس على أساسها.

والحاكم في رأي الفارابي هو إنسان خاص قد تأهل وصار كفءا بفطرته ومن خلال تربيته الفكرية إلا أن الكفاءة والعظمة لا تكون علة تامة لاستقرار المدينة، وإنما رغبة وتضامن الشعب شرط آخر لازم لظهور المدينة الفاضلة، والفضيلة لا تنسجم مع تغلب الحاكم مهما كان.


ابن رشد


ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي القرطبي، ولد سنة 520 ه/ 1126م، وقد اشتهر بالطب والفلسفة والرياضيات والفلك، وتوفي سنة 595 ه/ 1198 ميلادية، وكان فيلسوفا، طبيباً، وقاضي قضاة، ونحويا، لغوياً، محدثاً بارعاً يحفظ شعر، وكان متواضعاً، لطيفاً، دافئ اللسان، جم الأدب، قوي الحجة، راسخ العقيدة، يحضر مجالس حلفاء “الموحدين” وعلى جبينه أثار ماء الوضوء.وهو حفيد ابن رشد المتوفى سنة 520ه/ 1126م. ويسميه الفرنج averroes. وقد ولد في قرطبة سنة وفاة جده. وكان أبوه قاضيا وكان جده من قبله قاضي القضاة، وهو من أسرة كبيرة مشهورة بالفضل والرياسة. درس ابن رشد الفقه والأصول ودرس من علوم الأوائل الطب والرياضيات والفلسفة وتولى القضاء سنوات في إشبيلية ثم في قرطبة، وعاش ابن رشد في بيئة كان فيها لكل العلوم, عند أهل الأندلس, حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم, ما عدا بعض الخاصة, فكانوا لا يتظاهرون بها خوف العامة, فكانت العامة تطلق اسم زنديق على كل من يشتغل بهما.

وقد نشأ ابن رشد في ظل دولة الموحدين, وملكهم يومئذ أبو يوسف يعقوب المنصور بن عبد المؤمن الذي أمر بإبعاده إلى (أليسانة) قرب غرناطة، ثم نفي إلى بلاد المغرب، وتوفي في مراكش عن 75 عاما، ونقلت جثته إلى قرطبة، وبموته تفرق تلاميذه ومريدوه، وقد خلف ابن رشد كتبا بالفقه والأصول واللغة والطب والفلسفة والفلك, ولما كان شديد الإعجاب بأرسطو فقد عني بفلسفته وتولى إيضاحها، وشرح آراء أرسطو في الكون وفسر غامضها. وفي الطب كان ابن رشد أعظم أطباء زمانه فقد كان أول من شرح في كتابه (الكليات) وظائف أعضاء الجسم ومنافعها شرحا مفصلا ودقيقا.
يعد ابن رشد من أهم الفلاسفة العرب. دافع عن الفلسفة وصحح علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وارسطو. درس الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة، قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين عام 1182م فعينه طبيبا له ثم قاضيا في قرطبة.
تولّى ابن رشد منصب القضاء في اشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وكان قد دخل في خدمته بواسطة الفيلسوف ابن الطفيل، ثم عاد إلى قرطبة حيث تولى منصب قاضي القضاة، وبعد ذلك بنحو عشر سنوات أُلحق بالبلاط المراكشي كطبيب الخليفة الخاص.
لكن الحكمة والسياسة وعزوف الخليفة الجديد (أبو يوسف يعقوب المنصور 1184 - 1198) عن الفلاسفة، ناهيك عن دسائس الأعداء والحاقدين، جعل المنصور ينكب ابن رشد، قاضي القضاة وطبيبه الخاص، ويتهمه مع ثلة من مبغضيه بالكفر والضلال ، ولا يتورع عن حرق جميع مؤلفاته الفلسفية، وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم جملة، ما عدا الطب، والفلك، والحساب.
كانت النيران تأكل عصارة عقل جبار وسخط اتهام الحاقدين بمروق الفيلسوف، وزيغه عن دروب الحق والهداية... كي يعود الخليفة بعدها فيرضى عن أبي الوليد ويلحقه ببلاطه، ولكن قطار العمر كان قد فات إثنيهما فتوفي ابن رشد والمنصور في السنة ذاتها (1198 للميلاد)، في مراكش.
مؤلفاته :
وصنف ابن رشد نحو خمسين كتابا في مختلف العلوم منها (التحصيل) في اختلاف مذاهب العلماء, و (الحيوان) و (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) و (منهاج الأدلة) في الأصول. و (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه و (جوامع كتب أرسطاطاليس) في الطبيعيات والإلهيات و (تلخيص كتب أرسطو) و (الكليات) في الطب, و (شرح أرجوزة ابن سينا) في الطب ورسالة في حركة الفلك. و (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) وقد رد عليه الإمام تقي الدين ابن تيمية وناقش أقواله فيها، وترجمت أكثر كتبه, وخاصة الفلسفية, إلى اللاتينية والعبرية والإسبانية, وترجمها المستشرقون إلى الألمانية والإنكليزية والفرنسية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
أكرم الحوراني
وسام التميز
وسام التميز



الدولة : سوريا
عدد المساهمات : 242
نقاط : 494
تاريخ التسجيل : 17/09/2013

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 6:15 pm

http://www.s7aby.com/sitemap/index.php/f-515.html
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
Noor
عضو جديد
عضو جديد



تاريخ الميلاد : 12/03/1997
العمر : 27
الدولة : Algérie
عدد المساهمات : 3
نقاط : 3
تاريخ التسجيل : 10/11/2016

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالإثنين نوفمبر 14, 2016 7:08 pm

Merci
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
sidahmed
عضو جديد
عضو جديد



الدولة : alger
عدد المساهمات : 1
نقاط : 1
تاريخ التسجيل : 26/09/2021

الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Empty
مُساهمةموضوع: رد: الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد   الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد Emptyالسبت نوفمبر 06, 2021 12:44 pm

شكرا جزيلا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الفكر السياسي الاسلامي عند ابن خلدون والفرابي وابن رشد
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى قالمة للعلوم السياسية :: ******** لسا نـــــــــــــــــــــــس ******** :: السنة الأولى علوم سياسية ( محاضرات ، بحوث ، مساهمات )-
انتقل الى:  
1