الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:
ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة ( أنظر، آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص127،ص128،ص129) . الخصلة الأولى : أن يكون سليم البدن ، تام الأعضاء بحيث تكون قواها مؤاتية أعضائها على الأعمال الّتي شأنها أن تكون بها ، ومتى همّ بعضوٍ مّا من أعضائه عملاً يكون به ، فأتى عليه بسهولة . بمعنى أنَّ الجسد منظومةٌ متكاملة إذا اعتلَّ عضوٌ من أعضائه نجـم عنه اضطّرابٌ في القيام بعمل العضـو المعتلّ من ناحية وانعكس اعتلاله على باقي أعضاء الجسد من ناحية أخرى. ناهيك عن أن الرّئيس صورةٌ عن العقل الفعّال وعلى علاقةٍ واتّصال بالسّبب الأوّل، الموجود الكامل ، واجب الوجود ، المنزّه عن كلّ نقص واعتلال ، فلا يجوز أن يعتريه النّقص والاعتلال .
الخصلة الثّانية: أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له فيلقاه بفهمه على نحـو ما يقصده القائل ، وعلى حسب الأمر في نفسه ووجود هذه الخصلة في الرئيس تمليها الضرورة لئلاَّ يخطئ في فهم الآخرين فيخطئ في التّدابير الّتي يلجـأ إليها ، من هنا يعدّ الفهم الصّحيح والقدرة على تفسير العالم والأشياء الموجودة فيه _ بما فيها العلاقات الاجتماعيّة _ أحد أهم الشروط الّتي تقوم عليهـا نظريّة المعرفة ، حتّى يتسنّى التأثير فيه تأثيراً إيجابيّاً يأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الذّاتيّة والموضوعيّة للعالم والمجتمع والأشياء ، ويحول دون الوقوع في الخطأ والضّلال .
الخصلة الثّالثة : أن يكون جيّد الحفـظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه ، وفي الجملة لا يكاد ينساه وهذا يتطلّب وجود جملة عصبيّة سليمة ومعافاة، والغاية من وجود هذه الخصلة، هي حتى يكون الرّئيس على بيّنة في تدبّر القضايا والأحكام فلا يقع في الزّلل .
الخصلة الرّابعة : أن يكون جيّد الفطنة ذكيّاً،إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة الّتي دلَّ عليها الدّليل. وهذه خصلة أساسيّة في الخصال الواجب أن يتمتّع بها الرّئيس فيكون جيّد التّذكّر والانتباه ، لبيداً ذو حاسّة مرهفة تمكّنه من الوصول إلى الشّيء بأقلّ الأدلّة .
الخصلة الخامسة : أن يكـون حسن العبارة ، يؤتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة ، وهذا يعني تطابق اللّفظة مع الفكرة تطابقاً تامّاً حتّى لا يقع التباسٌ في التّعبير والإبانة،لأنَّ من يخونه اللّسان عن حسن نيّة ، يفتح الباب للتّأويل الخاطئ لما يُقال .
الخصلة السّادسة: أن يكون محبّاً للتّعليم والاستفادة، منقاداً له سهل القبول،لا يؤلمه تعب التّعليم،ولا يؤذيه الكدُّ الّذي ينال منه ، لأنَّ العلم زاد المعرفة والمعرفة نور الحقّ الّذي لا ينطفئ ، وبالعلم تتهذّب النّفوس وتصفوا . وبالتّالي يكون الرّئيس على درجة من العلم والمعرفّة تمكّناه من حلّ جميع القضايا والمشكلات الّتي تواجهـه بالمنطق والعقل والحوار ، وتفادي اللّجوء إلى العنف وسفك الدّماء وما شاكل ذلك .
الخصلة السّابعة : أن يكون غير شرهٍ في المأكول والمشروب والمنكوح، متجنّباً بالطّبع للّعب مبغضاً للذّات الكائنة عن هذه . لأنَّ الإسراف في طلب تلك الأمور من شأنه أن يصـرف الرّئيس عن تدبّر أمـور الرّعيّة ويفقده مكانته ومهابته .
الخصلة الثّامنة : أن يكون محبّاً للصّدق وأهله ، مبغضاً للكذب وأهله . الأمر الّذي يُكسِبهُ ثقة الجمهور ومحبّته ، ويزرع المهابة في نفوس مواطنيه جميعاً .
الخصلة التّاسعة : أن يكون كبير النّفس ، محبّاً للكرامة ، تكبر نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، وهي نقطة جوهريّة كون الرّئيس مثلاً أعلى للرّعيّة يتشبّهون به ويقتفون أثره فإن هانت عليه كرامته ستجد أصداء لها في نفوسهم ، وإن عفّت عليه نفسه وكانت الكرامة عنوان شخصيّته ستجد تجليّاتها في كرامتهم طبقاً للمثل الشّائع " أخلاق الرّعيّة من الرّاعي " .
الخصلة العاشرة : أن يكون الدّرهم والدّينار وسائر أعراض الدّنيا هيّنةً عنده ،وهذا تكريسٌ للعادات والأخلاق المتوارثة منذ القدم ، كعادات الكرم والسّخاء ، والإيثار ، وغيرها،حتّى إذا عمَّ هذا المبدأ لم يعد للسّحت مكان ٌ في الأمّة ، ولم يعد أحدٌ محتاج فيها فيتحقّق بذلك التّآزر الاجتماعي والأمن والاستقرار للجميع .
الخصلة الحادية عشرة : أن يكون بالطّبع محبّاً للعدل وأهله ، ومبغضاً للجور وأهلهما ، ثمّ أن يكون عدلاً غير صعب القياد ولا جموحاً ولا لجوجاً إذا دُعي إلى العدل ، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجـور وإلى القبيح . فالعدل خيرٌ والخيرُ مجلبةٌ للسّعادة ، والجورُ ظُلمٌ ، والظّلم مجلبةٌ للشّر والشّر مجلبةٌ للشّقاء .
الخصلة الثّانية عشرة : أن يكون قوي العزيمة_على الشّيء الّذي يرى أنّه ينبغي أن يُفعل _جسوراً عليه، مقداماً غير خائف ولا ضعيف النّفس .( أنظر ، المصدر نفسه ) .
وبالطّبع فإنَّ توفّر جميع هذه الشّروط في شخصٍ واحد ليس بالأمر اليسير :" واجتماع هذه كلّها في إنسان واحد عَسِر ، فلذلك لا يوجد من فُطِرَ على هذه الفطرة إلاّ الواحد بعد الواحد ، والأقلّ من النّاس ، ويكون الرّئيس الثّاني الّذي يخلف الأوّل من اجتمعت فيه من مولده وصباه تلك الشّرائط ، ويكون بعد كبره فيه ستة شرائط مكتسبة هي :أن يكون حكيماً ، وأن يكون عالماً حافظاً للشّرائع والسّنن والسِّيَر الّتي دبّرها الأوّلون للمدينة محتذياً بأفعاله كلّها حذو تلك بتمامها ، وأن يكون له جودة استنباط فيما لا يُحفَظ عن السّلف فيه شريعة ، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذياً حذو الأئمّة الأوّلين ، وأن يكون له جودة رؤية وقوّة استنباط لِما سبيله أن يُعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث الّتي تحدث ممّا ليس سبيلها أن يسير فيه الأوّلون فيكـون متحرّيّاً بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة ، وأن يكون له جودة إرشاد بالقول إلى شرائع الأوّلين وإلى الّتي استنبطت بعدهـم ممّا احتذى حذوهم ، وأن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب وذلك أن يكون معه الصّناعة الحربيّة الخادمـة والرّئيسيّة ( آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص130) . ويمكن أن توجد الرّئاسة باثنين ، إذا وُجِـدَ اثنان أحدهما حكيم والثّاني فيه الشّرائط الباقية كانا هما رئيسين في هذه المدينة ، ولا يمكـن للمدينة أن تعمّر طويلاً إذا خلت من وجود حكيمٍ يقف على رأسها : " فإن لم يتّفق أن يوجـد حكيم ..لم تلبث المدينة بعد مدّة أن تهلك"(المصـدر نفسه، ص130) .
البنية التّنظيميّة للمدينة الفاضلة:
لكي تحصل المدينة الفاضلة ينبغي أن يوجد الرّئيس أوّلاً،فالعلاقة بين المدينة والرّئيس أشبه ما تكون بعلاقة النتيجة بالسّبب ، والمعلول بالعلّة، من هنا كانت المدينة نتيجةً ومعلولاً لوجود الرّئيس ، من ناحية ثانية ليست جميع المراتب الاجتماعيّة واحدةً في المدينة، الأمر الّذي يجعلها تتفاضل في الخدمة والرّئاسة فيما بينها ،ويعود هذا التّفاضل إلى أهل المدينة أنفسهم :"تتفاضل [ المدينة] بحسب فِطَرِ أهلها،وبحسب الآداب الّتي تأدّبوا بها والرّئيس الأوّل هو الّذي يرتّب الطّوائف ، وكلّ إنسان من كلّ طائفة في المرتبة الّتي هي استيهاله ، وذلك إمّا مرتبة خدمـة وإمّا مرتبة رئاسة " ( السّياسة المدنيّة ، ص83) .
ولكن رئيس المدينة متى أراد أن يحدد وصيّة في أمر أراد أن يحمل عليه أهل المدينة ، أو طائفة من أهل المدينة، فإنّه يوعز إلى أقرب المراتب لينهضهم نحوها ، فيقوم بتعميم ذلك إلى من يليه ، وهكذا حتّى يصل إلى من رُتّبَ للخدمة في ذلك الأمر ، ولا يخفى ما لهذا المبدأ من قيمـة كبيرة ، فهو تجسيد للعمـل بمبدأ الشّورى ، وتكريسٌ لارتباط الرّئيس برعيّته ، الأمر الّذي يجعل المدينة تعمل بانسجام كجسدٍ واحد ، وتبتعد عن الخلافات النّاشئة فيما بينها ، :" فتكون المدينة حينئذٍ مرتبطةً أجزاؤها بعضها مع بعض،ومرتّبةً بتقديم بعض وتأخير بعض "(المصدر نفسه، ص 84) .
وبعبارة أخرى : تحاكي المدينة في تنظيمها الموجودات الطّبيعيّة في الحياة : " وتصير شبيهةً بالموجودات الطّبيعيّة ، ومراتبها شبيهةً أيضاً بمراتب الموجودات،وارتباطهـا وائتلافها شبيهـاً بارتباط وائتلاف الموجودات المختلفة بعضها ببعض .. [ ويكون] مدبّر تلك المدينة شبيه بالسّبب الأوّل الّذي به وجود سائر الموجودات"(المصدر نفسه، ص84) ، وهكذا ينبغي لرئيس المدينة الفاضلـة ألاّ يكـون فيلسوفاً فحسب بل أن يكون نبيّاً على اتّصالٍ بالسّبب الأوّل وبالعقل الفعّال ، من ناحية أخرى تكمـن سعادة المدينة في محاربة الشّرور وزوالها ، وحلـول الخير بنوعيه الطّبيعي والإرادي ، وتلك هي مهمّة الرّئيس مدبّر المدينة : " وبالجملة يلتمس إبطال الشّرّين جميعاً وإيجاب الخيرين جميعاً . وتبقى المعرفة بمبادئ الموجودات القصوى ومراتبها ، والسّعادة والرّئاسة ضرورة لكلّ واحد من أهل المدينة الفاضلة ، والأفعال المحمودة إذا فُعِلَت نيلت بها السّعادة " (أنظر ، المصـدر نفسه ) ، كما أنّه لا تكفي المعرفة بهذه الأفعال دون أن تتعيّن في شكل ممارسات عمليّة،بمعنى ضرورة ربط النّظريّة بالممارسة العمليّة ، فسبيل تحصيل السّعادة لأهل المدينة الفاضلة هو ألاّ يقتصر الجهد على تعلّم الأفعال الّتي بها تُنال السّعادة ، من دون أن تُعْمَل ويأخـذ أهل المدينة بفعلها ( أنظر ، المصدر نفسه ، ص 85 )،والسّبيل إلى معرفة مبادئ الموجودات ومراتبها، والسّعادة ، ورئاسة المدن الفاضلة ، إنّما يتمّ بطريقين التّصوّر أو التّخيّل : " إمّا أن يتصوّرها الإنسان ويعقلها وإمّا أن يتخيّلها " والفرق بين التّصوّر والتّخيّل هو أنه بالتصوّر ترتسم في نفس الإنسان ذواتها كما هي موجودة في الحقيقة ، وأمّا بالتّخيّل فترتسم في نفس الإنسان خيالاتها و مثالاتها وأمور تحاكيها ، ويتمّ ذلك بهاتين المرتبتين ، لأنَّ النّاس ليسوا على مرتبةٍ واحدة ، وأنَّ محاكاة الأشياء تختلف من أمّة لأمّة ، ومن طائفةٍ لطائفة :" فلذلك .. يمكن أن تكون أمم فاضلة ومدن فاضلة تختلف مللهم وإن كانوا كلّهم يَؤُمُّون سعادة بعينها "وإن كان أكثر النّاس يؤمّون السّعادة بالتّخيّل لا بالتّصوّر ، لأنَّ التّخيّل أيسر لدى العقول من التصوّر إليها ، ناهيك أنَّ الأكثريّة من النّاس هم من ذوي الرّتب الخادمة والعاديّة : " وأكثر النّاس الّذين يؤمّون السّعادة إنّما يؤمّونها مُتخيّلةٍ لا متصوّرة ، والذّين يؤمّون السّعـادة متصوّرة ً ويتقبّلونها ، ويؤمّونها عل أنّها كذلك هم المؤمنون"( المصدر نفسه ، ص 86) . والأمور الّتي تُحاكى بالتّخيّل تتفاضل في الدّرجة ، فمنها ما هو أزيد ومنها ما هو أنقص : " فيكون بعضها أحكم وأتمّ تخيّلاً ، وبعضها أنقص تخيّلاً ، وبعضها أقرب إلى الحقيقة ، وبعضها أبعد عنها .. " ( المصدر نفسه ، ص 86) . ولتأمين السّعادة لأفراد المدينة الفاضلة، يحددّ الفارابي الأشياء الّتي ينبغي أن تكون معلومةً من قبلهم ، وأوّلها معرفة السّبب الأوّل وجميع ما يوصف به ، ثمّ الأشياء المفارقة للمادّة وما يوصف كلّ واحدٍ منها بما يخصّه من الصّفات ، والمرتّبة إلى أن تنتهي من المفارقة إلى العقل الفعّال وفعل كلّ واحدٍ منها ، ثمًّ بمعرفة شيء رابع هو معرفـة الأجسام الطّبيعيّة الّتي تحتها ، كيف تتكوّن وتفسد ، وإنَّ ما يجري فيها يجري على إحكام وإتقان وعناية وعدل وحكمة ، .. ثمّ كون الإنسان وكيف تحدث قوى النّفس، وكيف يفيض عليها العقل الفعّال الضّوء حتّى تحصل المعقولات الأُوَّل ، والإرادة والاختيار ، ثمَّ الرّئيس الأول ، وكيف يكون الوحي، ثمَّ الرّؤساء الّذين ينبغي أن يخلفوه إذا لم يكن هو في وقت من الأوقات ، ثمّ المدينة الفاضلـة وأهلها والسّعادة الّتي تصير إليها أنفسهم ، والمدن المضادّة لها وما تؤول إليه أنفسهم بعد الموت ، إمّا بعضهم إلى الشّقاء وإمّا بعضهم إلى العـدم ، ثمّ الأمم الفاضلة ، والأمم المضادّة لها ، وهذه المعرفة تتمّ بطريقين ، الأول أن ترتسم في نفوسهم كما هي موجودة، والثّاني أن ترتسم فيها بالمناسبة والتّمثيل على النّحو الّذي أشرنا إليه سابقاً .
القول في مضادّات المدينة الفاضلة :
ثمّة مدن مضادّة للمدينة الفاضلة : المدينة الجاهليّة ، المدينة الفاسقة ، المدينة المتبدّلة ، والمدينة الضّالة ، ونوائب المدن . أمّا الجاهليّة : فهي تلك الّتي لم يعرف أهلها السّعادة ، ولا خطرت ببالهم ، وإن أُرشِدوا إليها لم يفهموها ولم يعتقدوها .. والسّعادة هي عندهم هي ما عرفوه من الخيرات تُظَنّ أنّها الغايات في الحياة وهي سلامـة الأبدان، واليسار والتّمتّع باللّذات وأن يكون مُخلى هواه ، وأن يكون مكرماً معظّماً ، فكل واحدة من هذه سعادة عند أهل الجاهليّة ، والسّعادة العظمى الكاملة هي اجتماع هذه كلّها ( أنظر ، آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص131) ويضادّها الشّقاء ( آفات الأبدان ، الفقر ، وغياب التّمتّع باللذّات .. الخ ) ، وتنقسم المدينة الجاهلية الّتي لا تعرف الخير الحقّ ومن ثمَّ السّعادة الحقّة وإلى مجموعة من المـدن أبرزهـا : المدينة الضّروريّة :وهي الّتي قصد أهلهـا الاقتصار على الضّروري ممّا به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والمنكوح ، والتّعاون على استعادتها . المدينة البدّالة : وهي الّتي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثّروة على اعتبار أنَّ اليسار لديهـم هو الغاية من الحياة . مدينة الخسّة والسّقوط:وهي الّتي قصد أهلها التّمتّع باللّذّة من المأكول والمشروب والمنكوح..وإيثار الهزل واللّعب بكلّ وجه ومن كلّ نحو . مدينة الكرامة : وهي الّتي قصد أهلها المجد والعظمة والشّهرة بين الأمم .ومدينة التّغلّب: وهي الّتي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم ، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم ، ويكـون كدّهم اللّذة الّتي تنالهم من الغلبة فقط . والمدينة الجماعيّة : هي الّتي قصد أهلها أن يكونوا أحراراً يعمل كلّ منهم ما شاء ، وملوك الجاهليّة على عهد مدنها أن يكون كلّ واحد منهم إنّما يدبّر المدينة الّتي هو مسلّـط عليها ليحصل هواه وميله ، وأغراض الجاهليّة تلك الّتي ذكرناها،بيد أنَّ المقصود بالرّئاسات الجاهليّة هو أنَّ كلّ رئاسة جاهليّة إمّا أن يكون القصد بها التّمكّن من الضّروريّ أو اليسار ، أو التّمتّع باللّذات ، أو الكرامة والذّكر والمديح ، أو الغلبة ، أو الحرّيّة ..لذلك صـارت هذه الرّئاسات تُشرى شراءً بالمـال .. والرّئيس الفاضل عندهم هو الّذي يقتدر على جودة الرّويّة وحسن الاحتيال فيمـا يُنيلهم شهواتهم وأهوائهم على اختلافها وتفنّنها،ويحفظهم على ذلك من أعدائهم، ولا يرزأ من أموالهم شيئاً بل يقتصر على الضّروري من قوته فقط .. وأمّا الفاضل الّذي هو بالحقيقة فاضل ، وهو الّذي إذا رأَسَهُم قدّر أفعالهم وسدّدها نحو السّعادة ، فهم لا يرئسونه ( أنظر ، السّياسة المدنيّة ، ص 101) .
وأمّا أصحـاب الشّهوات من تغلب عليهـم القوّة الشّهوانيّة فتستحيل قواه الغضبيّة خادمةً لقوّته الشّهوانيّة : " فلذلك يعظم عندهم أمر النّساء ، ويحسن عند كثير منهم الفسق ولا يرون أنَّ ذلك سقوط وتخاسس إذا كانت نفوسهم ذليلة للشّهوات .. ويرى ما يعيبه النّساء هو العيب،وما يستحسنه النّساء هو الحسن ، ويبتغون في كلّ شيء شهوات نسائهم .. وكثير منهم تكون نساؤهم هُنَّ المتسلّطات عليهم والمستوليات على أمـور منازلهم " ( المصدر نفسه ) .
المدينة الفاسقة : وهي الّتي اعتقد أهلها المبادئ وتصوّرها ، وتخيّلوا السّعـادة واعتقدوها، وأُرشِدوا إلى الأفعال الّتي ينالون بها السّعادة وعرفوها واعتقدوها ، غير أنّهم لم يتمسّكوا بشيء من تلك الأفعـال ، ولكن مالوا بهواهم وإرادتهم نحو شيء من أغراض أهل الجاهليّة ..وجعلوا أفعالهم كلّها وقواهم مسدّدةً نحوها ( أنظر ، المصدر نفسه، ص103) والمدينة الفاسقة هي الّتي تكون آراء أهلها آراء أهل المدينة الفاضلة ، ولكنّ أفعالهـم أفعال أهل المدينة الجاهليّة ، بمعنى عـدم تطابق أقوالها مع أفعالها ( أنظر آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص133)ويتعذّر على واحدٍ من أهل هذه المدينة أن يظفر بالسّعادة بمعناها الحقيقي ، وأنواع هذه المدينة على عدد أنواع المدن الجاهليّة .
المدينة المبدّلة : هي المدينة الّتي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء أهل المدينة الفاضلة وأفعالها ، غير أنّها تبدّلت فدخلت فيها آراء غير تلك واستحالت أفعالها إلى غير تلك الأفعال أيضاً( أنظر، السّياسة المدنيّة ، ص33 ) .
المدينة الضّالّة : هي الّتي حوكيت لأهلها أمور غير هذه الّتي ذكرناها بأن نُصِّبَت لهم المبادئ الّتي حوكيت لهم غير تلك الّتي ذكرناها، ونُصِّبت السّعادة لهم غير الّتي هي في الحقيقة سعادة ، وحوكيت لهم سعادة أخرى غيرها ، وسمـت لهم أفعال وآراء لا تنال بشيء منها السّعادة الحقيقيّة .. وتعتقد في الله عزّ وجلّ .. ويكون رئيسها الأوّل ممّن أُوهِمَ أنّه يوحى إليه من غير أن يكـون كذلك ، ويكون قد استُعمِل في ذلك التّمويهات والمخادعات والغرور ( آراء أهل المدينة الفاضلة ، ص133 ) وجميع ملـوك هذه المدن مضادّة لملـوك المدن الفاضلة ورياستهـم مضادة للرّياسات الفاضلة .
نوائب المدن : النّوائب في المدن الفاضلة هم أصناف كثيرة منهم صنف متمسّكون بالأفعال الّتي تُنال بها السّعادة، بل شيئاً آخر ممّا يجوز أن يناله الإنسان بالفضيلة من كرامة أو رئاسةٍ أو يسار أو غير ذلك فهؤلاء متقنّصين .. ومنهم من يكون له هوىً في شيء من غايات أهل الجاهليّة .. وهؤلاء يُسمُّون المُحَرِّفة .. ومنهم من ليس يقصد تحريفاً ولكن سوء فهم عن قصد واضـع السنّة ونقصان تصوّره لأقاويله يفهم أمـور شرائع المدينة على غير قصد واضع السنّة .. فهؤلاء هم المارقة ، وصنف آخر يكـونون بما يفعلونه من ذلك غير معاندين للمدينة الفاضلة ولكن مسترشدين وطالبين للحق ، ومنهم صنف آخر يزيّفون ما يتخيّلونه ، ومنهم صنف آخر يتخيّلون السّعادة والمبادىء وليس في قوّة أذهانهم أن يتصوّرون أصلاً أو لا يكونون في قوّة إفهامهم أن يتصوّروها على الكفاية ، وبعضهم يظنّ أنَّ الحقّ هو ما ظهر لكلّ واحدٍ وظنّه في الوقت بعـد الوقت ، وأنَّ الحقيقة في كلّ شيء هو به ظان .. وبعضهم يتخيّل له مثل حلم النّائم أو مثل ما يرى الشّيء من بعيد أن هاهنا حقّاً وبعض هؤلاء من الّذين يلتمسون إمّا كرامةً أو يساراً أو غير ذلك ممّا شأنه أن يهوى ، يلتمسون أن يستريحوا ممّا يجدون من مضض الجهل والحيرة ، ربّما أُوهموا إنَّ الغايات هي الّتي يختارونها هم ويؤثرونها ، وأنَّ السّعادة هي هذه ، وأنَّ الباقين مغرورون فيما يعتقدونه ويجتهدون في تحسين الأشياء الجاهليّة وفي تحسين السّعادة . (أنظر ، السّياسة المدنيّة ، ص104، ص105) .
ممّا تقدَّم يمكن استخلاص العديد من النّقاط أبرزها : أنَّ آراء الفارابي السّياسيّة انعكاسٌ دقيق لآرائه الفلسفيّة عن الكون والعالم،وما كتاب"آراء أهل المدينة الفاضلة"إلاَّ رسالة فلسفيّة مكثّفة تحتوي الكثير من الموضوعات كالفيض ، والإرادة ، والنّفس، والسّعادة ، والاختيار ، والوحي ، والقوّة المتخيّلة ، وهذا دليلٌ على أنَّ فلسفة الفارابي السّياسيّة لم تكن معزولة عن منظومة أفكاره الفلسفيّة ، بمعنى أنَّ ما هو سياسيّ في فكر الفارابي يرتكز على ما هو فلسفيّ فيه ، فالسّياسي مرتبطٌ بالفلسفي ارتباطاً جوهريّاً يستحيل الفصل بينهما . النّقطة الأخـرى إنَّ تأثر الفارابي بمحاورة " السّياسة " لأفلاطون المعروفة خطأً بـ " الجمهوريّة " ، لا يعني التطابق في أفكارهمـا السّياسيّة تطابقاً نهائيّاً ، فثمّة تناقض في بعض أفكارهما ، مثل اشتراط الفارابي في رئيس المدينة الفاضلة أن يكون فيلسوفاً وعلى اتّصالٍ بالعقـل الفعّال ، مقابل اشتراط أفلاطون أن يكون رئيس الجمهوريّة فيلسوفاً فحسب . كذلك تصوّر الفارابي لرئيس المدينة الفاضلة أن يكون قادراً على الولوج في العالم الرّوحي والاندماج معه، للوصول بأهل المدينة إلى السّعادة الكاملة الّتي لا تدوم إلاَّ بدوام الاتّصال بالعقل الفعّال سواءٌ بطريق التّصـوّر العقلي أو بطريق التّخيّل ، القائمين علـى التّأمّل والإلهام ،وهذا يستدعي الجمـع بين النّبوّة والفلسفة في شخص رئيس المدينة الفاضلة ، في مقابل دعوة أفلاطون إلى ضرورة أن يهبط الفيلسوف من تأمّلاته للمعقولات المجرّدة " المُثُل " إلى عالم الشّؤون السّياسيّة والأشياء المحسوسة .كذلك ينكر الفارابي آراء أفلاطون الّتي تقول بشيوعيّة النّساء والأولاد والثّروة ، لتناقضها مع تعاليم الإسلام .
أيضاً يدعو الفارابي إلى وجود مجلس رئاسة في حال تعذّر وجود شخص واحد يتمتّع بجميع الشّروط والخصال الّتي اشترط توفّرها فيه ، خلافاً لأفلاطون الّذي اشترط في الحاكم أن يكون واحداً من الفلاسفة.من ناحية أخرى تشمل مدينة الفارابي أفراداً من أممٍ ودولٍ مختلفة ، في حين تقتصر جمهوريّة أفلاطون على العنصر اليوناني فحسب، بمعنى أن مدينة الفارابي عالميّة الطّابع فهي لجميع الأعراق البشريّة الّتي تعيش فيها انطلاقاً من روح الإسلام القائم على المساواة بين النّاس كافّة، أمّا جمهوريّة أفلاطون فمحليّة وعرقيّة. وعلى أيّة حال فمردّ جميع الاختلافات بين ذينك الفيلسوفين يعود إلى اختلاف منطلقاتهما الفلسفية ، دون أن يعني بحـالٍ من الأحوال عدم تأثّر الفارابي بأفلاطون في عديدٍ من المسائل المتعلّقة بالعلم المدني أو الفلسفة،مع الإشارة إلى أنَّ الأثر الأكبر في فلسفة الفارابي يعود إلى أرسطو ، وعليه فالفارابي ليس مُطَالباً بالتّطابق التّامّ مع أفلاطون لطالما يقف أرسطو وسط مخيّلته وعقله .
ديمقراطية الفارابي
والفارابي إنما يتحدث هنا عن الديمقراطية وهو يراها مذمومة وإن كانت أفضل مما سواها، فالرئاسة هنا لا ينالها الإنسان الفاضل والكفء لأنها مدينة قائمة على أهواء الشعب، وقد تشترى فيها الرئاسة بالمال، بينما يريد الإنسان الفاضل أن يقود أهله نحو السعادة التي تبدأ طريقها بلجم الأهواء "وأما الفاضل الذي هو بالحقيقة فاضل وهو الذي إذا رأسهم قدر أفعالهم وسددها نحو السعادة فهم لا يرأسونه".
والمدينة الضرورية هي أول مراحل الاجتماع المدني قد اجتمع فيها الناس من وحي فطرتهم لتأمين حاجاتهم الضرورية وفي هذا المجتمع مازالت الفطرة سليمة، واستعدادها أكبر لنمو الفضائل وملكات الخير لدى الناس، فإذا لم يطلها الانحراف وتوافرت لها الأفكار الفاضلة والمربي الفاضل فمن الممكن ببساطة أن تتبدل إلى مدينة فاضلة.
وأما في المدن التي يحكمها الشعب أو التي يسميها مدينة "اجتماع الحرية" فإنها بسبب الحرية تكون أكثر ملاءمة لنمو الناس الخبيرين والفضلاء، ولذا لا يخلو هذا المجتمع من العظماء والمعلمين الفاضلين، بل إن هذه المدن تكون بسبب حرية الفكر والعمل أسرع في نمو الفضيلة، وتكون أجواء هذا المجتمع أكثر ملاءمة من المجتمعات الأخرى لسيادة الفضيلة في المدينة وتنظيم عمل الناس على أساسها.
والحاكم في رأي الفارابي هو إنسان خاص قد تأهل وصار كفءا بفطرته ومن خلال تربيته الفكرية إلا أن الكفاءة والعظمة لا تكون علة تامة لاستقرار المدينة، وإنما رغبة وتضامن الشعب شرط آخر لازم لظهور المدينة الفاضلة، والفضيلة لا تنسجم مع تغلب الحاكم مهما كان.
ابن رشد
ابن رشد هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي القرطبي، ولد سنة 520 ه/ 1126م، وقد اشتهر بالطب والفلسفة والرياضيات والفلك، وتوفي سنة 595 ه/ 1198 ميلادية، وكان فيلسوفا، طبيباً، وقاضي قضاة، ونحويا، لغوياً، محدثاً بارعاً يحفظ شعر، وكان متواضعاً، لطيفاً، دافئ اللسان، جم الأدب، قوي الحجة، راسخ العقيدة، يحضر مجالس حلفاء “الموحدين” وعلى جبينه أثار ماء الوضوء.وهو حفيد ابن رشد المتوفى سنة 520ه/ 1126م. ويسميه الفرنج averroes. وقد ولد في قرطبة سنة وفاة جده. وكان أبوه قاضيا وكان جده من قبله قاضي القضاة، وهو من أسرة كبيرة مشهورة بالفضل والرياسة. درس ابن رشد الفقه والأصول ودرس من علوم الأوائل الطب والرياضيات والفلسفة وتولى القضاء سنوات في إشبيلية ثم في قرطبة، وعاش ابن رشد في بيئة كان فيها لكل العلوم, عند أهل الأندلس, حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم, ما عدا بعض الخاصة, فكانوا لا يتظاهرون بها خوف العامة, فكانت العامة تطلق اسم زنديق على كل من يشتغل بهما.
وقد نشأ ابن رشد في ظل دولة الموحدين, وملكهم يومئذ أبو يوسف يعقوب المنصور بن عبد المؤمن الذي أمر بإبعاده إلى (أليسانة) قرب غرناطة، ثم نفي إلى بلاد المغرب، وتوفي في مراكش عن 75 عاما، ونقلت جثته إلى قرطبة، وبموته تفرق تلاميذه ومريدوه، وقد خلف ابن رشد كتبا بالفقه والأصول واللغة والطب والفلسفة والفلك, ولما كان شديد الإعجاب بأرسطو فقد عني بفلسفته وتولى إيضاحها، وشرح آراء أرسطو في الكون وفسر غامضها. وفي الطب كان ابن رشد أعظم أطباء زمانه فقد كان أول من شرح في كتابه (الكليات) وظائف أعضاء الجسم ومنافعها شرحا مفصلا ودقيقا.
يعد ابن رشد من أهم الفلاسفة العرب. دافع عن الفلسفة وصحح علماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي في فهم بعض نظريات أفلاطون وارسطو. درس الكلام والفقه والشعر والطب والرياضيات والفلك والفلسفة، قدمه ابن طفيل لأبي يعقوب خليفة الموحدين عام 1182م فعينه طبيبا له ثم قاضيا في قرطبة.
تولّى ابن رشد منصب القضاء في اشبيلية، وأقبل على تفسير آثار أرسطو، تلبية لرغبة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، وكان قد دخل في خدمته بواسطة الفيلسوف ابن الطفيل، ثم عاد إلى قرطبة حيث تولى منصب قاضي القضاة، وبعد ذلك بنحو عشر سنوات أُلحق بالبلاط المراكشي كطبيب الخليفة الخاص.
لكن الحكمة والسياسة وعزوف الخليفة الجديد (أبو يوسف يعقوب المنصور 1184 - 1198) عن الفلاسفة، ناهيك عن دسائس الأعداء والحاقدين، جعل المنصور ينكب ابن رشد، قاضي القضاة وطبيبه الخاص، ويتهمه مع ثلة من مبغضيه بالكفر والضلال ، ولا يتورع عن حرق جميع مؤلفاته الفلسفية، وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم جملة، ما عدا الطب، والفلك، والحساب.
كانت النيران تأكل عصارة عقل جبار وسخط اتهام الحاقدين بمروق الفيلسوف، وزيغه عن دروب الحق والهداية... كي يعود الخليفة بعدها فيرضى عن أبي الوليد ويلحقه ببلاطه، ولكن قطار العمر كان قد فات إثنيهما فتوفي ابن رشد والمنصور في السنة ذاتها (1198 للميلاد)، في مراكش.
مؤلفاته :
وصنف ابن رشد نحو خمسين كتابا في مختلف العلوم منها (التحصيل) في اختلاف مذاهب العلماء, و (الحيوان) و (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) و (منهاج الأدلة) في الأصول. و (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه و (جوامع كتب أرسطاطاليس) في الطبيعيات والإلهيات و (تلخيص كتب أرسطو) و (الكليات) في الطب, و (شرح أرجوزة ابن سينا) في الطب ورسالة في حركة الفلك. و (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) وقد رد عليه الإمام تقي الدين ابن تيمية وناقش أقواله فيها، وترجمت أكثر كتبه, وخاصة الفلسفية, إلى اللاتينية والعبرية والإسبانية, وترجمها المستشرقون إلى الألمانية والإنكليزية والفرنسية.