بحوث وضع الأجندة (ترتيب الأولويات)
Agenda Setting من سنة 1922 إلى يومنا هذا
الأستاذ سي موسى عبدالله
يرجع الباحثون في تاريخ وضع الأجندة إلى أن أول إشارة مباشرة إلى وظيفة وضع الأجندة "ترتيب الأولويات" ظهرت عام 1958 في مقال (لنورتون لونج Norton Long)، إلا أن أفضل تصريح حول هذه الوظيفة ظهر لدى (برنارد كوهين Bernard Cohen) في كتابه "الصحافة والسياسة الخارجية عام 1963" والذي قال بأن الصحافة يمكن ألا تكون ناجحة كثيرا في أن تقول للناس بماذا يفكرون، ولكنها ناجحة إلى حد كبير في أن تقول للقراء عن الأشياء التي يفكرون حولها.
وهناك نص مباشر لم يلتفت إليه الباحثون من قبل حول وظيفة وضع الأجندة حينما اعتبر (برنارد بيرلسون Bernard Berelson) في مقالته المعنونة "الاتصالات والرأي العام" أن وسائل الإعلام تعد المسرح السياسي للمناظرات الجارية، ويرى أن هناك بعض الدلائل بان المناقشات الخاصة حول المسائل السياسية تأخذ مؤشراتها من عرض وسائل الإعلام لهذه المسائل، إذ أن الناس يتحدثون في السياسة متماشين في ذلك مع الخطوط التي ترسمها الصحافة، وعليه حظيت نظرية وضع الأجندة باهتمام عديد الباحثين وتطورت بذلك وأصبح لها اتجاهات منهجية حديثة في عصرنا الحالي، حيث نرتب هذه الاهتمامات في هذا البحث المقسم إلى ثلاث مباحث:
المبحث الأول: نظرية وضع الأجندة بداياتها ومراحل تطورها؛
المبحث الثاني: أبعاد نظرية وضع الأجندة؛
المبحث الثالث: الاتجاهات المنهجية الحديثة في نظرية وضع الأجندة.
المبحث الأول: نظرية وضع الأجندة بداياتها ومراحل تطورها
- المطلب الأول: مفهوم نظرية وضع الأجندة؛
- المطلب الثاني: خلفية تاريخية لنظرية وضع الأجندة؛
- المطلب الثالث: أبعاد نظرية وضع الأجندة.
المطلب الأول: مفهوم نظرية وضع الأجندة
تعد نظرية الأجندة واحدة من الأطر النظرية التي تبحث في تأثير وسائل الإعلام حيث تهتم بحوث "ترتيب الأولويات" بدراسة العلاقة التبادلية بين وسائل الإعلام والجماهير التي تتعرض لتلك الوسائل لتحديد أولويات القضايا السياسية والاجتماعية التي تهم المجتمع.
ويفترض هذا المدخل أن وسائل الإعلام لا تستطيع أن تقدم جميع الموضوعات والقضايا التي تحدث في المجتمع، وإنما يختار القائمون على هذه الوسائل بعض الموضوعات التي يتم التركيز عليها بشدة والتحكم في طبيعتها ومحتواها، هذه الموضوعات تثير اهتمام الناس تدريجيا وتجعلهم يدركونها ويفكرون فيها، وبالتالي تمثل هذه الموضوعات لدى الجماهير أهمية أكبر نسبيا عن الموضوعات التي لا تطرحها وسائل الإعلام، وعملية الانتقاء اليومي لموضوعات قائمة أولويات وسائل الإعلام وأساليب إبراز أو طمس تلك الموضوعات، وتحريكها صعودا أو هبوطا لا تستهدف إثارة اهتمام الجمهور العام فقط، إنما هي عملية تستهدف – أيضا – صانعي القرار السياسي[1].
وقد أشارت العديد من الدراسات الإعلامية أن دراسة العلاقة ين اهتمامات وسائل الإعلام واهتمامات المثقف يعد تطورا في دراسات وضع الأجندة والاتصال السياسي، وبالرغم من ذلك لم تتكرر هذه الدراسات حيث ينصب التركيز على دراسة العلاقة بين أجندة وسائل الإعلام وأجندة الرأي العام[2].
إن مقترب تحديد الأجندة يعد الأكثر ثراءا من حيث عدد الدراسات والأبحاث التي أنجزت وكذلك عدد البلدان التي أعد فيها فرضياته، وإذا كان البعض ينسبون نظرية وضع الأجندة إلى باحثين اثنين MC Combs and D. Shaw لفضلهما في ابتكار التسمية وتحليل الظاهرة بأدوات أكثر دقة، لكن في الواقع جذور هذه النظرية تعود إل العشرينيات من القرن الماضي، وكذلك هناك مرحلتين تميزان هذا المقترب: ما قبل الثمانينات من القرن الماضي وما بعده، وكل مرحلة تعكس السياقات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية التي سادت آنذاك، وأبرز مظاهرها أن دراسات نظرية وضع الأجندة تمت في أنظمة سياسية ديمقراطية مفتوحة وفي عهد ما قبل الثورة الرقمية في قطاع الإعلام[3].
وتحتل دراسات وضع الأجندة أهمية خاصة في المجتمعات الديمقراطية التي تولي عناية خاصة لاهتمامات الرأي العام وتوجيهاته كمداخلات في عملية صنع القرارات ووضع السياسات على كافة المستويات. فيما تهتم الدول غير الديمقراطية بدراسات وضع الأجندة رغبة في إحكام السيطرة على الرأي العام، إذ يتم توظيف وسائل الإعلام لتركيز اهتمام الرأي العام حول قضايا بعينها وكذلك تشتيت انتباه الرأي العام بشأن قضايا أخرى لا يراد له التفكير فيها[4].
يعتبر الثنائي ماكسويل ماكومبس ودونالدشو MC Combs, D. Show من أعطى هذه التسمية لهذا النموذج، ومن لاحظ هذه الظاهرة لأول مرة أثناء الحملة الانتخابية لسنة 1972 بعد أن تمت نفس الملاحظة سنة 1968 خلال الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية؛ مفادها أن الأفراد أثناء الحملة الانتخابية يأخذون القسط الكبير من المعلومات عن وسائل الاتصال الجماهيرية ومنها يكتسبون معلومات جديدة ويصبحون أكثر إدراكا للعوامل الجديدة التي تؤكد عليها وسائل الإعلام أثناء عملية نقل النقاشات حول الإشكاليات المختلفة أثناء الحملة الانتخابية، وبهذا فإن الافتراض الأساسي لهذا النموذج يلخصه "برنارد كوهن Cohen Bernard" في قوله: "قد لا تنجح وسائل الاتصال الجماهيرية معظم الوقت في تحديد ما يعتقده الجمهور، ولكنها ناجحة بصفة مذهلة في تحديد ما ينبغي أن يفكر حوله هذا الجمهور"[5].
ويضيف ماكومبس وشو MC Combs, Show حول دور الجمهور في ترتيب الأولويات "وضع الأجندة" حيث يقولان: "بينما تلعب وسائل الإعلام دورا رئيسيا في تحديد القضايا العامة اليومية، إلا أنها ليست بالكامل المحددة لأولويات أجندة الجمهور إذ هناك تفاعل بين الصحافة ومصادرها التي تؤثر على أولويات أجندة الصحافة، وأهم من هذا وجود التفاعلات بين الصحافة والجمهور التي تؤثر على ما هو مقبول باعتباره أولويات أجندة الجمهور"[6].
ووضع الأجندة كوظيفة تأثيرية لوسائل الإعلام تتمثل علميا في كونها نصيرا أكبرا في صنع الثقافة السياسية للجمهور، بحيث أنها تربط بين تصور إدراك الناس للواقع السياسي وبين الشؤون والاهتمامات السياسية اليومية، ويمكن أن تلعب وسائل الإعلام من خلال وظيفة ترتيب الأولويات – وضع الأجندة – دورا اجتماعيا بتحقيق الاجتماع حول بعض الاهتمامات عند الجمهور التي يمكن أن تترجم فيما بعد باعتبارها رأيا عاما.
وقد حدد ماكومبس وشو MC Combs, Show العوامل التي تؤثر في وضع الأجندة على مستوى الفرد وعلى مستوى وسائل الاتصال[7]:
- فعلى مستوى الفرد: هناك حاجة الفرد إلى التوجه السياسي والتكيف مع الظروف المحيطة، معدل المناقشات الشخصية، مستوى التعرض لوسائل الاتصال ثم اتجاهات الفرد المسبقة؛
- وعلى مستوى وسائل الاتصال: هناك طبيعة النظام السياسي، طبيعة القضايا المطروحة، مستوى تغطية وسائل الاتصال ثم نوع هذه الوسائل، هذه المتغيرات تؤثر على شروط وضع الأجندة والتي من أهمها:
قيام وسائل الاتصال بعمليات انتقاء واختيار مستمر للمضمون الذي تقدمه وأيضا حاجات ورغبات الجمهور والتي تلعب دورا واضحا في وضع الأجندة.
وبالنسبة لعامل نوع الوسيلة فإن معظم البحوث التي أجريت في إطار نظرية وضع الأجندة أيدت تفوق الصحافة المكتوبة على بقية والوسائل.
هذا المفهوم خاص بعلاقة وسائل الاتصال بالجمهور، ويرى أن وسائل الاتصال هي التي تحدد الأولويات التي تتناولها الأخبار فهي تعطي أهمية خاصة لهذه الموضوعات مما يجعلها تصبح من الأولويات الهامة لدى الجمهور، وهكذا فإن الموضوعات التي يراها المحررون ذات أهمية هي التي يتم نشرها حتى لو كانت غير ذلك في الحقيقة، فإن مجرد النشر في حد ذاته يعطي أهمية مضاعفة لتلك الموضوعات بحيث يراها الجمهور ذات أهمية تفوق غيرها من الموضوعات[8].
وبناءا على ذلك تسهم كثيرا في تشكيل الرأي العام ورؤيته للقضايا التي توجه للمجتمع، فمن خلال التركيز على قضية معينة وتجاهل أخرى تحدد وسائل الإعلام أولويات أفراد المجتمع في الاهتمام بالقضايا المتعلقة بقطاعات متنوعة في المجتمع[9].
وضع الأجندة عملية تقوم بها وسائل الإعلام باختيار ما يوصف بأنه أهم القضايا العامة والمختلفة، لكن قيامها بهذه الوظيفة لا يكون بطريقة مباشرة كأن تخبر الجمهور بأن هذه القضية هي الأكثر أهمية، ولكن يكون ذلك من خلال: تكرار تغطية هذه القضية بشكل أكبر مقارنة بالقضايا الأخرى وتخصيص حيز زمني ومساحة أكبر أو بطريقة استعراضية تجعلها أكثر بروزا[10].
وهذا ما حدد (إيفرت روجرز ودرينج سنة 1988) للتمييز بين القضايا والأحداث لبحوث وضع الأجندات الإعلامية وهذا الاختلاف يمكن قياسه من ناحية المدة الزمنية ومدى بروز الموضوع والأهمية الممنوحة له، فوضع الأجندة في غالب الأحيان تقاس من خلال مستوى التكرار.
المطلب الثاني: خلفية تاريخية لنظرية وضع الأجندة
إن الفرضية الأساسية لنظرية وضع الأجندة مفادها أن أثناء عملية صنع الأخبار تقوم وسائل الإعلام باختيار بعض القضايا من بين الكم الهائل الموجود على الساحة لتضعها في مستهل الأخبار، في الوقت الذي لا تكتسي فيه أهمية في أذهان الجمهور وجزء لا يتجزأ من أجندته القائمة، بعبارة أخرى تحديد الأجندة التقليدية (لأنه يوجد شكل حديث لها) يعني أن تأثير وسائل الإعلام في مجال تكوين الرأي العام يتم بتركيز انتباه الجمهور على من؟ وماذا يفكر؟
هذه الظاهرة وفي زمن عدم وجود التلفزيون كان قد أشار إليها Walter Lippman في كتابه Public Opinion [11].
ويرجع بعض الباحثون في تاريخ وضع الأجندة إلى أن أول إشارة مباشرة إلى وظيفة الأجندة "ترتيب الأولويات" ظهرت عام 1958 في مقال "لنورتن لونج" إلا أن أفضل تصريح حول هذه الوظيفة ظهر لدى "برنارد كوهن Cohen Bernard" في كتابه الصحافة والسياسة الخارجية عام 1963.
إلا أن البعض يرجعها لـ "ليبمان Walter Lippman" الذي يرى أن وسائل الإعلام تساعد في بناء الصور الذهنية لدى الجماهير، وفي الكثير من الأحيان تقدم هذه الوسائل – بيئات زائفة – في عقول الجماهير وتعمل وسائل الإعلام على تكوين الرأي العام من خلال تقديم القضايا التي تهم المجتمع" وعند حديثه عن الاستخدامات الرمزية للسياسات أشار "ليبمان" إلى أن السياسات عبارة عن سلسة من الصورة الذهنية التي يتم نقلها من خلال وسائل الإعلام، وتكون هذه الصور الذهنية "بانوراما" متحركة تقع أحداثها في عالم لا يدركه معظم الجمهور العام"[12].
وهناك نص مباشر لم يلتفت إليه الباحثون من قبل حول وظيفة وضع الأجندة حينما اعتبر "برنارد بيرلسون" 1948 في مقاله المعنون "الاتصالات والرأي العام" أن وسائل الإعلام تعد المسرح السياسي للمناظرات الجارية، ويرى أن هناك بعض الدلائل بأن المناقشات الخاصة حول المسائل السياسية تأخذ مؤشراتها من عرض وسائل الإعلام لهذه الرسائل، إذ أن الناس يتحدثون في السياسة متماشين في ذلك مع الخطوط التي ترسمها وسائل الإعلام... فوسائل الإعلام بهذا المعنى ترشد وتعلم الجمهور عما يتحدثون.
وتبعا لهذا النموذج فإن الجمهور لا يتعلم من وسائل الإعلام فحسب المسائل العامة والأمور الأخرى، ولكنه يتعلم كذلك كم تبلغ المسائل من أهمية تبعا للتأكيد الذي تلقاه من قبل وسائل الإعلام[13].
إن أحد المفاهيم الرئيسية في نظرية وضع الأجندة هو الاختيار الذي تقوم به وسائل الإعلام في عملية قبول أو رفض مفردة من المفردات الإخبارية، وهذا المفهوم كان قدا ابتكره Krut Lewin سنة 1947 حول قرارات ربات البيوت بخصوص شراء مواد غذائية، حيث لاحظ أن تدفق المعلومات عبر بعض القنوات التي تحتوى على "مناطق بوابات"، بخصوص ما إذا كان يسمح للمعلومات أو السلع بالدخول، أو التواصل في القناة.
هذه الفكرة طبقها White 1950 في دراسة قرارات محرر القصص البرقية الخبرية في جريدة أمريكية بشأن قبول البرقيات أو رفضها، والتي اعتبرها (القرارات) النشاط الأهم في حراسة البوابة، وعليه فإن نموذج White شكل الأرضية التي انطلقت منها الأبحاث اللاحقة في عملية اختيار الأخبار من البرقيات الخبرية لوكالات الأنباء، وبالرغم من الانتقادات التي وجهت لهذا النموذج من حيث أنه يتجاهل العوامل البنائية التنظيمية في عملية اختيار الأخبار واعتبر المسألة شخصية – التركيز على المحرر – إلا أن White ساهم باسم في مدرسة بحث كاملة حول المبلغين[14].
وضع الأجندة هي ترتيب الأولويات أو وظيفة المفكرة[15] ترجع الأصول النظرية لهذه البحوث إلى ولترليبمان Walter Lippman الذي أسس لها في كتابه الرأي العام سنة 1922 حين رأى أن وسائل الإعلام تساعد في بناء الصور الذهنية لدى الجماهير، وإن كانت غالبا ما تطرح – بيئات زائفة – وتعمل على تكوين الرأي العام بتقديم القضايا التي تهم المجتمع[16].
لكن الباحثون يعتبرون أن أول إشارة مباشرة للنظرية والإقراء بهده الوظيفة لوسائل الإعلام – نظرا لتجاهلها تماما في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين – كانت لـ نورتون لونج Norton Long في مقاله سنة 1958 لوضحها أكثر برنارد كوهن Bernard Cohen، إذ أحياها بعد ذلك بنحو أربعين سنة في كتابه الصحافة والسياسة الخارجية عام 1963 حين أكد وجهة نظر ليبمان بقوله: "أن وسائل الإعلام لا تنجح دائما في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون (الاتجاهات) ولكنها تنجح دائما في إبلاغهم عما يجب أن يفكروا فيه (المعلومات)"، أي أنها تعلم جمهورها وترشده إلى ما يجب أن يتحدث فيه، فهي قادرة على تعليمه مدى الأهمية التي تكتسبها المسائل والقضايا[17].
المطلب الثالث: تطور نظرية وضع الأجندة
تعود الأصول الفكرية لدراسات وضع الأجندة إلى ما كتبه ليبمان Lippmann عام 1922 عن: "دور وسائل الإعلام في إيجاد الصلة بين الأحدات التي تقع في العالم الخارجي والصور التي تنشأ في أذهاننا عن هذه الأحداث".
وبعد أربعين سنة: أي في عام 1963 كتب كوهن برنارد Cohen Bernard عن قوة وأهمية وسائل الإعلام في تحديد الإعلام القضايا التي يهتم بها المجتمع.
لقد عبرا ليبمان وكوهن عن المعنى الذي إنبثقت منه دراسات وضع الأجندة بعد أول دراسة أمبريقية تحمل هذا المصطلح العلمي الجديد عام 1972 (لمكسويل ماكومبس ودونالد شو MC Combs and Donald Show) وتزامنا مع هذه الدراسة الإمبريقية كانا الباحثان (كوب وألدر Cobb and Elder) يطوران أفكار مشابهة عن وضع أجندة السياسة "وهي العملية التي تنتقل بمقتضاها أولويات وسائل الإعلام إلى أولويات السياسة العامة[18]؛ بمعنى أن القضايا التي تحصل على اهتمام وسائل الإعلام في دولة معينة في فترة زمنية معينة تتبناها الدولة باعتبارها سياسة عامة كون وسائل الإعلام الصوت المعبر عن إحتياجات الرأي العام.
فتم اعتبار نظرية وضع الأجندة "أحدث النظريات العلمية في مجال الإعلام السياسي"[19] أما وضع أجندة وسائل الإعلام فلم يحظ بالاهتمام الكافي، وتم قبول أولويات اهتمامات وسائل الإعلام كما هي دون البحث في العملية التي سبق تشكيلها، والتي تشمل كل التفاعلات بين وسائل الإعلام والمصادر الإخبارية وغيرها في إطار من التنافس والتعاون المحكوم بقيم وممارسات وإجراءات معينة.
في عام 1992 كتب Show and MC Combs أول دراسة نشرت عن وضع الأجندة: "تتسع المجالات البحثية لوضع الأجندة يوما بعد يوم، ويتضاعف التقدير العلمي لهذا التوجه البحثي نتيجة استكشافه للأدوار الفاعلة التي تمارسها الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى في حياتنا السياسية والاجتماعية"[20] وقد تعمق الباحثون في اتجاهات بحثية نظرية ومنهجية جديدة خارج نطاق المفهوم الأول لوضع الأجندة الذي كان سائدا في السبعينات.
وإن أهم ما يميز هذه النظرية العلمية هو قدرتها المستمرة على توليد تساؤلات بحثية جديرة بالبحث واستكشاف مجالات وطرق جديدة، ومن هذا المنطلق تميزت نظرية وضع الأجندة بثلاث سمات أساسية هي:
- النمو المستمر للدراسات التطبيقية في مجال وضع الأجندة منذ أن بدأ الاهتمام بها حتى اليوم؛
- قدرتها على تحقيق التكامل بين عدد من المجالات البحثية الفرعية (الاتصال – السياسة – المجتمع)؛
- قدرتها على توليد قضايا بحثية وأساليب منهجية جديدة.
ورغم مرور أكثر من أربعة عقود خلت على قبول الفرضية العلمية لنظرية وضع الأجندة، فإن عددا من الدراسات أغفلت جانب التكامل في العملية الاتصالية، ولم تنطلق من رؤية تكاملية في دراستها لمصادر التأثير.
وعليه يجب دراسة القيمة التكاملية في إطار النظرية من خلال دراسة أكثر من مكون من مكونات المجتمع مثل الصحافة والمثقف العضوي والرأي العام باعتبار أن ذلك يمثل مطلبا حيويا لنضج البحث العلمي في النظرية، كما أن دراسة كل مكون من هذه المكونات على حدة سيحكم عليه بالعجز والقصور.
تعد نظرية وضع الأجندة من النظريات المتكاملة لاهتمامها بدراسة "الاتصال الشخصي إلى جانب الاتصال الجماهيري"[21] فقد أكدت عديد الدراسات أن الاتصال الشخصي (المثقف العضوي) له دور مهم في بنية النظرية إذ يمكن أن يدعم أو ينافس وسائل الإعلام (الصحافة المكتوبة) في ترتيب أولويات الجمهور (الرأي العام)، بحيث يعزز تأثير هذه الوسائل بالنسبة للقضايا التي تتم تغطيتها بتوسع في وسائل الإعلام، بينما يمكن أن ينافس أولويات وسائل الإعلام فيما يتعلق بالقضايا التي تتم تغطيتها بشكل أقل في تلك الوسائل.
في أواخر التسعينات من القرن الماضي اهتم الباحثان (بروسيوس وويمان Brosius and Wiemann) "بالتكامل بين الاتصال الشخصي والاتصال الجماهيري وإعتبرا هذا التكامل فرضية أساسية في نظرية وضع الأجندة ونموذج إنتقال المعلومات على مرحلتين"[22] وتم المزاوجة لقياس التأثير من جوانب عدة بين وسائل الإعلام وقادة الرأي والجمهور سعيا لتحقيق البعدين التفاعلي والتكاملي في نظرية وضع الأجندة لمعرفة من يؤثر في الآخر.
المبحث الثاني: أبعاد نظرية وضع الأجندة
رغم مرور أربعة عقود خلت على قبول الفرضية العلمية لنظرية وضع الأجندة، فإن عددا من الدراسات التي أجريت في إطارها قد أغفلت أبعادها في العملية الاتصالية ولم تنطلق من رؤية تكاملية وتفاعلية في دراستها لمصادر التأثير، حيث كانت هذه البحوث تقوم بدراسة وسيلة معينة وتغفل وسائل أخرى أو تقوم بدراسة جزئية أو قضية معينة وتغفل القضايا الأخرى، مما أدى إلى تضارب نتائج هذه الدراسات وعدم تناغمها.
إذ تعد نظرية وضع الأجندة من النظريات المتكاملة إلى حد كبير نظرا لاهتمامها بدراسة الاتصال الشخصي إلى جانب الاتصال الجماهيري، ودراسة كل مكون من مكونات المجتمع يمثل مطلبا حيويا لنضج البحث العلمي في النظرية، ودراسة كل مكون من هذه المكونات على حدة سيحكم عليه بالعجز والقصور، حيث عمد الباحثان "بروسيوس وويمان Brosius and Wiemann" في أواخر التسعينات من القرن الماضي إلى دمج المزاوجة بين نظريتي وضع الأجندة ونموذج إنتقال المعلومات على مرحلتين قصد تأكيد بعدي التفاعل والتكامل لمعرفة "من يؤثر في الآخر؟" وعليه نقوم بإدراج المطالب التالية في هذا المبحث على النحو الآتي:
- المطلب الأول: نظرية وضع الأجندة والبعد التكاملي؛
- المطلب الثاني: نظرية وضع الأجندة والبعد التفاعلي؛
- المطلب الثالث: وضع الأجندة نظرية إدراك إجتماعي.
المطلب الأول: نظرية وضع الأجندة والبعد التكاملي
يعتبر التكامل بين الاتصال الشخصي والاتصال الجماهيري فرضية أساسية في نظرية وضع الأجندة وأيضا في نظرية إنتقال المعلومات على مرحلتين، حيث قال كل من بروسيوس وويمان Brosius and Wiemann في أواخر عقد التسعينيات من القرن الماضي إلى دمج المزاوجة بين النظريتين والخروج بنموذج جمع بين فرضياتهما أطلقا عليه نموذج "تدفق أولويات المعلومات على مرحلتين" ويقوم هذا النموذج بدراسة اتجاه التأثير من جوانب عدة بين وسائل الإعلام وقادة الرأي والجمهور سعيا منهما لتأكيد البعدين التكاملي والتفاعلي في نظرية وضع الأجندة.
من خلال الجمع بين عملية وضع الأجندة وقيادة الرأي، لإختبار الفرضية القائلة بانتقال الأجندة على مرحلتين من وسائل الإعلام إلى القادة ومنهم إلى الجمهور، وتعتمد هذه الدراسات على مقياس قوة الشخصية للتعرف على قادة الرأي، ويرجع الفضل في تطوير هذا المقياس واستخدامه إلى Weinsman Narmann، ويتكون المقياس من عشرة جمل ويهدف إلى قياس قيادة الرأي العام من خلال تفاعلها مع وسائل الإعلام وتأثيرها في أجندة الجمهور، وقد أختبر المقياس أكثر من مرة في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإسرائيل وأدى إلى ظهور نموذجين"[23].
- الأول هو نموذج المنافسة Competition Model وفكرته أن وسائل الإعلام وقادة الرأي يتنافسان معا في وضع اهتمامات الجماهير؛
- الثاني هو نموذج الاختلافات الشخصية: ويفترض أن التباينات الفردية على المستويات السياسية والاجتماعية والديمغرافية هي الأساس في تأثير وضع الأجندة؛ أي أن وسائل الإعلام لا تحقق نفس التأثير لدى كل الأفراد وبنفس الدرجة والقوة.
يشير ماكومبس ودونالد شو إلى الجانب الآخر للنظرية حيث يتحدثان عن دور الجمهور في وضع أجندة وسائل الإعلام بقولهما أن لهذه الأخيرة دور رئيس في تحديد القضايا العامة اليومية، لكنها ليست المحددة لأولويات الجمهور، نظرا للتفاعل الحاصل بينهما وبين مصادرهما بالشكل الذي يؤثر في وضع أجندتها نفسها، والأهم تلك التفاعلات الكائنة مع جمهورها بحيث تأخذ في اعتبارها ما هو مقبول لديهم[24]
ما يستعرضه لانج ولانج حيال حديثهما ما يسمى بعملية بناء أجندة وسائل الإعلام Agenda Building التي تمثل في ذاتها موضوعا أكثر تعقيدا من مفهوم وضع الأجندة Agenda Setting[25]، إذ يستغرق انتقالها من الطرف الثاني في العملية الاتصالية (الملتقى) إلى الأول (القائم بالاتصال) وقتا طويلا"[26].