الولايات المتحدة و إعادة ترتيب أجندتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط
د. أحمد سليم البرصان
لم يعد خافياً علي أحد رغبة الولايات المتحدة في إعادة ترتيب أجندتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، بهدف الحفاظ علي حيوية مصالحها هناك، والحد من أية مخاطر يمكن أن تهدد هذه المصالح. لذا لم يكن مفاجئاً أن يحدد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في خطابه في مجلس تنمية الديمقراطية ، 6 أكتوبر 2005 ، طبيعة العدو الذي تواجهه الولايات المتحدة في المنطقة بقوله 'إن هذه العناصر المسلحة تسعى لإقامة إمبراطورية إسلامية راديكالية من أسبانيا إلى إندونيسيا'، وذلك في رده علي الرسائل المتبادلة بين زعماء تنظيم القاعدة التي حوت دلالات علي إحياء دولة الخلافة الإسلامية.
وحتي بدون هذه الكلمات، يظل الشرق الأوسط حاضراً في أذهان مختلف القيادات الأمريكية منذ أمد، وهو ما يدفع باتجاه إعادة التفكير كل فترة فيما يمكن أن يكون عليه الحال في هذه المنطقة من أجل ضمان المصالح الأمريكية بها، وهو ما يمكن استعراضه من خلال النقاط التالية:
أولا: الاستراتيجية الدفاعية لعقد التسعينات والنظام الدولي الأحادي القطبية:
تعود الاستراتيجية الأمريكية الراهنة لإعادة تشكيل بنية الشرق الأوسط إلى بداية عقد التسعينات وبالتحديد منذ نهاية عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، وبداية عهد الرئيس السابق بيل كلنتون، حيث قامت وزارة الدفاع الأمريكية مع مطلع عام 1992 بتجميع عناصر وثيقة أطلقوا عليها اسم 'إرشاد التخطيط الدفاعي' وقد كانت تلك هي الوثيقة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وقد اتخذت النسخة رقم 92 أهمية خاصة، وهي التي تقتضي تحرك الولايات المتحدة لقطع الطريق على أية قوة منافسة في أوروبا أو آسيا أو الشرق الأوسط ، بمعنى كما حددت الوثيقة أن تكون الولايات المتحدة هي القوة العظمى الأولى المهيمنة على العالم ، ليس فقط اليوم أو بعد 10 سنوات كما أشارت عند نشرها بل إلى الأبد. ولقد كان وراء تلك الوثيقة آنذاك بول وولفوفيتز الذي أصبح نائب وزير الدفاع الأمريكي في عهد جورج بوش الابن والذي تبنى تنفيذ ما جاء في الوثيقة كما أسهم فيها زلماي خليل زاد السفير الأمريكي حاليا في العراق ولويس سكوتر ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني والذي ثارت حوله في نوفمبر 2005 فضيحة تسريب اسم عملية الاستخبارات الأمريكية زوجة جو ويلسون بسبب كشف زوجها زيف إدعاء إدارة جورج بوش أن العراق حصل على اليورانيوم من النيجر(1).
ولعل ما طرحه صموئيل هنتنجتون في مقالته التي نشرها صيف 1993 في مجلة Foreign Affairs لا تخرج في مضمونها عن تصورات خطة إرشاد التخطيط الدفاع والدعوة لاستراتيجية جديدة تنبه لخطورة منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الإستراتيجية في القرن المقبل وبسبب التحول العقدي والبترول(2).
والجدير بالذكر أن هنتنجتون نفسه كان أحد الذين روجوا من خلال كتاباتهم في مواجهة الخطر الشيوعي في حمى الحرب الباردة ، فيذكر جيمس كورث (3) في دراسة له بعنوان:
Global Threats and American Strategies: From Communism in 1955 to Islamism in 2005 ، أن هنتجتون قام بتحليل الاستراتيجية الأمريكية ومواجهة خطرها في كتابه:
The Common Defense : Strategies Programs in National Politics 1961. ولقد استنفرت نظرية صدام الحضارات المحافظين الجدد وتضخيم خطر صدام الحضارات وبالذات مع الحضارة الإسلامية وضرورة إعادة تشكيل الشرق الأوسط ، ثم طرح شمعون بيرس كتابه الشرق الأوسط الجديد فيما بعد (4) ، ولعل أخطر وثيقة تدعو لبلورة شرق أوسط جديد والذي تبنتها إدارة جورج بوش الإبن وتولي واضعي الوثيقة مناصب حساسة في إدارة بوش وخاصة في وزارة الدفاع الأمريكية هي التي وضعها ريتشارد بيرل ودوجلاس فيث عام 1996 مع مجموعة من المحافظين الجدد والتي قدمت لحكومة بنجامين نتنياهو آنذاك (5 A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm .
والتي كانت تدعو إلى التخلي عن اتفاقية أوسلو وإسقاط النظام العراقي والسوري وإعادة تشكيل العراق على أساس طائفي ، وإعادة تقسيم المنطقة وطمس شخصية الإقليم العربية ، أي إقامة كنتونات سياسة ، تصبح إسرائيل القوة الإقليمية الكبرى التي تسيطر عليها .. ولقد جاءت معظم الأفكار في وثيقة بيرل في الوثيقة التي طرحها أوديد يانون (6 والتي نشرت في مجلة الحركة الصهيونية في عام 1982 تحت عنوان A Strategy for Israel in the 1980s والتي تدعو صراحة لتقسيم الشرق الأوسط. 'بلقنة العالم العربي'
ثانياً: احتلال العراق وميزان القوى الجديد:
أشار الكاتب الأمريكي جيمس مان أن المبرر الحقيقي لغزو العراق يعود إلي ما قبل عشر سنوات أي إلى وثيقة إرشاد التخطيط الدفاعي، وقد كانت إدارة كلينتون قد أهملت ما جاء في الخطة ، وعندما جاءت إدارة جورج بوش الابن تم العمل علي تنفيذ ما جاء فيها لشرق أوسط جديد يخدم المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية ، وقد ثبت زيف إدعاء أسلحة الدمار الشامل ومبرر غزو العراق وتبين مخطط تفكيك الدولة الإقليمية التي لعبت دورا مهما في ميزان القوى.
ويمثل احتلال العراق خطوة أولى في خريطة المنطقة الجديدة، وباعتبار العراق الحلقة الأضعف بسبب الأوضاع الداخلية في العراق وعزلة النظام إقليميا ودوليا ، وعندما جاءت وفي مخططها إسقاط النظام العراقي وقبل أحداث 11 سبتمبر 2001 ، وإنما دفعت الأحداث في إيجاد الظروف الداخلية في الولايات المتحدة لشن الحرب ، وحسب ما أوردة الكاتب الأمريكي مايكل جانسن إن إدارة جورج بوش لاحتلال العراق على ثلاث ركائز : القوة العسكرية الأمريكية ودعم الأكراد وتسامح الشيعة مع الاحتلال الأمريكي في ظل تصفية بعض القوى الإقليمية مثل إيران والكويت حسابها مع النظام العراقي وإسقاطه (7).
كان تصور إدارة بوش ، إن النظام فاقد الشرعية السياسية داخليا وحتى إقليميا ، وأنها في سبيل هندسة الإقليم وتطبيق نظرية الدومنيو نحو محور الشرق الذي بدأت بإسقاط أول حلقاته ' ثم التوجه نحو سوريا ولبنان وإيران ضمن ما أطلقت عليه وزيرة الخارجية الأمريكية رايس ، الفوضى البناءة التي اصطدمت بالمقاومة العراقية وتنبه الشعوب والحكومات العربية إلى خطورة التغيير من الخارج ضمن مفهوم الشرق الأوسط الكبير (
.
إن تطور الأحداث في العلاقات السورية واللبنانية بالتأكيد على الخروج السوري على الرغم أن الوجود السوري في لبنان ككان وخلال ثلاثة عقود بدعم وموافقة أمريكية منذ عهد هنري كيسنجر ، الذي كان يرى أن الدور السوري يحقق الاستقرار في لبنان وصمام أمان من استمرار الحرب الأهلية وحماية للمصالح الأمريكية وفي نفس الوقت هدوء الجبهة السورية -الإسرائيلية .(9)
ثالثاً: جيوبولتيكس الشرق الأوسط والإدراك الاستراتيجي الأمريكي :
لا يمكن فهم الاستراتيجية الأمريكية في إعادة بناء شرق أوسط جديد ، والذي يدخل ضمن استراتيجية الهيمنة ، إلا من خلال معرفة الإدراك الجيوبولتيكي الأمريكي للشرق الأوسط عبر العصور التاريخية ، وفي محاولة للربط بين الحاضر والماضي حول استراتيجية القوى العظمى في المنطقة العربية ، حيث أن موقفها الثابت في عدم إقامة أو وجود قوة إقليمية أو عالمية تهدد الولايات المتحدة . ولا زالت الولايات المتحدة ترى أن احتواء القوة الصين الشعبية وروسيا الاتحادية وحتى الاتحاد الأوروبي مستقبلا يأتي بالسيطرة الشرق الأوسط موقعا وبترولا .
إن ما ذكه قال رينهولد نيبور (1892-1971) Renhold Niebur أحد اشهر رواد النظرية الواقعية في العلاقات الدولية في القرن العشرين ، يفسر السلوك الاستراتيجي من كيسنجر مرورا ببريجنسكي حتى بوش ورامسفيلد إن الذي يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على أوروبة who ever controls the Middle East also controls Europe .
وكذلك يعزز ما نقله الكاتب الفرنسي Marius Peltierعن زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين الإدراك الاستراتيجي الأمريكي إن الطريق إلى باريس تمر عبر المغرب the road to Paris goes through the Maghreb ، ويقصد المغرب العربي، ويظهر أن قول لينين قد ارتبط بثورة الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي ضد الأسبان في منطقة الريف، ولأهمية المغرب العربي الإستراتيجية في التنافس بين القوى الأوروبية وضد الاستعمار الفرنسي التي يعتبرها أستاذ الجيوبولتيكا الأمريكي المعاصر، سول كوهن Saul Cohnالبوابة الخلفية لأوروبا وهذا يفسر القلق الأوروبي في التطورات السياسية على بوابته الخلفية.
إن مفهوم الشرق الأوسط في الدوائر الغربية سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة فيما بعد ، ارتبط بآسيا العربية ومصر ليبيا بالإضافة إلى بلاد فارس، إيران حاليا وإلى حد ما ، في بعض الأحيان تركيا عندما يراد لتركيا أن تلعب دور في الشرق الأوسط كما هو حال حلف بغداد.
ويذكرنا الآن أستاذ النزاعات الدولية الأمريكي مايكل كليرl في مقاله له في مجلة Nation الأمريكية في عددها يونيو 2003، أي بعد احتلال الولايات المتحدة للعراق 'إن الحرب أوضحت أن نقطة الارتكاز المركزية للتنافس الدولي هي منطقة جنوب ووسط أسيا ، أي من أفغانستان والجمهوريات الآسيوية الإسلامية حتى العراق'، الذي اعتبره وليم هملتون أستاذ التاريخ الأمريكي قلب الشرق الأوسط The Heart Land of the Middle East ويتساءل هملتون 'هل احتلال هذا القلب هو السبب الإستراتيجي الرئيسي للغزو؟' ويجيب عن تساؤله بنفسه ، إن احتلال العراق يمثل أهمية إستراتيجية كبرى للولايات المتحدة ؟.
ويعتبر الجغرافي البريطاني هالفورد ماكندر اول من نبه إلى أهمية نقطة الارتكاز الجغرافي
The Geographical Pivot of History في محاضرته في الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية في يناير 1904، لقد وضع إصبعه على شرق أوروبا نقطة الارتكاز الجغرافي والتي أطلق عليها عام 1919 قلب اليابس في أورآسيا ، التي كان الاتحاد السوفيتي يسيطر عليها ، وطرح نظريته المشهورة التي أثرت في الفكر الإستراتيجي في أوروبا وأمريكا خلال القرن العشرين وحتى ألان 'من يسيطر على شرق أوروبا يسيطر على قلب اليابس ومن يسيطر على قلب اليابس يسيطر على جزيرة العالم ومن يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم' ، ويقصد ماكندر بجزيرة العالم القديم أسيا وأوروبا وأفريقيا ، ولقد فهم نابليون أهمية قلب اليابس قبل ماكندر عندما توجه إلى روسيا وكذلك تأثر قيصر ألمانيا وليم الثاني وهتلر وموسليني بأهمية قلب اليابس للسيطرة على أوروبا والعالم .
وقد طرح نيقولاي سبيكمان نظرية حافة اليابسة Rimland والتي اعتبر السيطرة عليها يسيطر على أورآسيا وبالتالي يسيطر على العالم ، ونلاحظ أن حافة اليابس هي الهلال الداخلي عند ماكندر هي الهلال أو قوس الأزمات عند بريجنسكي وهي العالم العربي الإسلامي وتسمية الولايات المتحدة الشرق الأوسط الكبير ، والذي لا زال يشكل السيطرة علية نقطة السيطرة على العالم كما يؤكد الاستراتيجيين الغربيين من ماكندر حتى بريجنسكي مستشار كارتر للأمن القومي الأمريكي ، وبول وولفويتز مهندس احتلال العراق نائب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ومدير البنك الدولي الحالي .
* العراق نقطة الارتكاز الجغرافي أم قلب اليابس
يقول وليم هملتون أن الخبراء الإستراتيجيين في وزارة الدفاع الأمريكية وفي مجلس الأمن القومي الأمريكي، ، قد تأثروا بنظرية ماكندر ، فالعراق عندهم قلب المنطقة العربية الأسيوية، وحسب رأيه ماذا يعني احتلال العراق ، السيطرة على البترول ، وأن تعين أي حكومة تريدها لتتحكم في خطوط المواصلات الإستراتيجية وتطل على الخليج العربي وتتحكم في الهلال الخصيب وتصبح المنطقة حسب رأي هاملتون تحت الهيمنة الأمريكية من القاهرة حتى إسلام آباد ، أي أن تكون المنطقة تحت مظلة السلام الأمريكيPax Americana .
* مصر والهلال الخصيب(نقطة الارتكاز وقلب اليابس):
لا يخرج احتلال العراق عن نطاق قول نيبور ، بأن من يسيطر على الشرق الأوسط يسيطر على أوروبا ، ولكن من الناحية التاريخية أن نقطة الارتكاز الجغرافي العربي إذا أخذنا مفهوم ماكندر هي مصر في الشرق الأوسط، ولذلك كان يتردد في الدوائر الأمريكية لا حرب بدون مصر، في حالة الصراع العربي والإسرائيلي ، ولذلك كان الهدف الإستراتيجي الإسرائيلي عند مناحيم بيغن في كامب ديفيد هو إخراج مصر من معادلة الصراع العسكري بين العرب وإسرائيل في الشرق الأوسط ولقد اخطأ العرب آنذاك في عزل مصر لأنهم وقعوا في الفخ الاسرائيلي.
وإذا أخذنا التاريخ الحديث والمعاصر فان نابليون عندما قام بحملة على مصر والشام 1798-1801 كان يريد أضعاف الإمبراطورية البريطانية من خلال قطع اتصالها مع الهند درة التاج البريطاني وكانت عبقرية المكان المصري في ذهن نابليون وبعدها تنبهت بريطانيا لأهمية مصر الإستراتيجية للسيطرة على الشرق الأوسط .
* نقطة الارتكاز الجغرافي والقلب والأيدلوجيا :
إن دور نقطة الارتكاز مع قلب الشرق الأوسط ارتبط بالأيدلوجيا فقد كانت الفكرة الرابطة من صلاح الدين أو قطز رابطه دينية وكذلك كانت في عهد محمد علي باشا قد تكون توحيد أيديولوجي قومي أو ديني ولكن نلاحظ أيضا أن نقطة الارتكاز الجغرافي كانت لها أهمية ودور مؤثر في القرن العشرين ، دور عدم الانحياز ودعم حركات التحرر الأفريقية ثم القومية العربية كانت مصر نقطة الارتكاز الجغرافي أعطتها دورا رائدا على مستوى العالم الثالث واحد أعمدة دول عدم الانحياز أكسبتها أهمية إستراتيجية في نظر القوى العظمى وكانت حملة العدوان الثلاثي عام 1956 على مصر من خلال رؤية خطر دور نقطة الارتكاز الجغرافي في الجزائر ودعم الثورة الجزائرية أو الوقوف ضد مخططات بريطانيا في منطقة قلب الشرق الأوسط حلف بغداد ودعم حركات التحرر منطقة الجزيرة العربية وأفريقيا وعندما قامت الوحدة بين مصر والشام(1958-1961) استنفرت القوى الغربية الأوروبية والأمريكية وإسرائيل خطر هذه الوحدة خاصة لارتباطها بالمد القومي وهي تدل على وعي إستراتيجي قد تكون اكثر من وعي النخبة السياسة العربية ومبنيا على التجربة الألمانية والإيطالية عندما قامت الوحدة في كليهما وهددت ألمانيا أوروبا بالسيطرة عليها بعد أن كانت الولايات الجرمانية ممزقه فقادت بروسيا حملة الوحدة الألمانية ؟
وإذا نظرنا إلى حرب 1967 وبعض النظر عما قبل حولها، فهي تخطيط إستراتيجي لإحباط دور نقطة الارتكاز الجغرافي العربي لإضعافه وإبعاده عن نطاقه العربي الآسيوي أو الجناح الغربي الأفريقي .
هنري كسينجر ونقطة الارتكاز الجغرافي العربي وإيران :
أعاد هنري كيسنجر الاعتبار للجيوبولتيكا الألمانية بعد أن حلت عليها النقمة بأنها سبب الحرب العالمية الثانية ويعتبر كيسنجر بحق الجنرال هوسهوفر الأمريكي وكان متأثرا بمترنيخ النمسا وزير خارجية النمسا وسياسته في مؤتمر فينا 1815 وسياسة توازن القوى ولذا عندما تولى منصب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي في عهد نيكسون ثم وزيرا للخارجية الأمريكي وضع نصب عينه إخراج الولايات المتحدة من مستنقع فيتنام ثم فتح قنوات دبلوماسية مع الصين الشعبية والتركيز على إستراتيجية توازن القوى لمواجهة الاتحاد السوفيتي .
وكان نيكسون وبإيعاز من هنري كيسنجر قد تبني إستراتيجية للحرب بالوكالة Proxy Forces حسب مبدأ نيكسون وفي الشرق الأوسط اعتبر إيران شرطي الخليج العربي في عهد الشاه، ولكن بحسه الجيوبولتيكي كان ينظر إلى نقطة ارتكاز الجغرافي العربي 'ارض الكنانه' فقد كانت سياسة مصر قائمة على عدم الانحياز واقرب للاتحاد السوفيتي في التعاون السياسي وخاصة بعد حرب 1967 ولذلك كان الهدف الإستراتيجي لكسينجر إبعاد نقطة الارتكاز عن الاتحاد السوفيتي ثم جرها إلى الجانب الغربي فكانت سياسة الخطوة خطوة وخروج السوفيت قبيل حرب أكتوبر 1973 نقطة البداية في الإستراتيجية الإسرائيلية الأمريكية في احتواء خطر نقطة الارتكاز الجغرافي على إسرائيل باعتبار اكبر قوة عربية وتاريخها في جميع الفترات التاريخية يثبت ذلك وهذا ما تحقق فيما بعد تراجع الدور العربي بعد مصر دوليا وإقليميا وفي عدم الانحياز وفي منظمة الوحدة الأفريقية بعد أن كانت مركز ثقل عدم الانحياز وأفريقيا ؟
أما بالنسبة للقلب العربي كما سماه هملتون كما ذكرنا سابقا فان القلب العربي الآسيوي كان قد وقف ضد اجتياح الثورة الإيرانية إلى منطقة الخليج العربي فقد استطاع العراق سواء بقرار سياسي داخلي مستقل أم بإيعاز من إدارة كارتر أن تدخل الحرب لاحتواء الثورة الإيرانية وتأثيراتها ورغم الأنفاق العسكري للدول البترولية فأنها لولا قوة القلب لم تستطيع أن توقف الزحف الثوري الذي كان في عنفوانه ولكن بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية 1988 كان هو الخطر المتمثل الذي سوف يهدد المصالح الإسرائيلية والأمريكية وهذا ما صدر في التقرير عن مركز الدراسات الإستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية قبيل غزو الكويت تحت عنوان Iraq Power and U.S. Security in the Middle East 1990 وكان لا بد من القفز على القلب بعد احتواء نقطة الارتكاز الجغرافي ، ونشهد الآن تفتيت القلب وإنهاء فكرة القومية من القاموس السياسي العربي ، بحل حزب البعث والجيش العراقي وطمس الهوية العربية وهذا تماما ما اتفق عليه في إستراتيجية إسرائيل في الثمانينات 1982 ثم التقرير الإستراتيجي الذي تم تقديمه عام 1996 إلى نتنياهو تحت عنوان استراتيجية إسرائيل عام 2000 ؟
فالتقرير الأول حول إستراتيجية إسرائيل 1982 فهو يؤكد طرحه على تقسيم المنطقة العربية إلى كانتونات سياسية وعلى رأسها العراق إلى ثلاث دويلات اما تقرير 1996 فانه يؤكد صراحة على إنهاء فكرة القومية العربية باعتبارها خطر على التوازن الإقليمي وعلى مستقبل إسرائيل كما كانت فكرة القومية قوة وراء بروز عبد الناصر وشعبيته في العالم العربي والدور القيادي لنقطة الارتكاز الجغرافي فانه لا بد من الانتهاء كليا من هذه الفكرة العقدية في منطقة القلب العربي الإسلامي
رابعاً- مستقبل النظام الإقليمي العربي:
يواجه النظام الإقليمي العربي أزمة حقيقة في ظل المتغيرات الدولية التي تختلف عن مرحلة نشوء النظام وتشكيلة ، في ظل تراجع التيار القومي والتأكيد على دور القطرية، فالدولة التي تعاني من الشرعية السياسية بسبب عدم وجود جذور تاريخية تعطيها الشرعية السياسية حاولت الأنظمة أن تجعل من القطرية وسيلة لشرعية النظام الحاكم بعد غياب دور الارتكاز الجغرافي.
والمشكلة الرئيسة لا القطرية حققت الأمن القومي العربي ولا حتى الأمن للدولة القطرية نفسها بل أن بعض الدول القطرية الصغيرة وجدت في التحالف مع القوى الغربية وسيلة من اجل حماية نفسها في ظل غياب الشرعية والتهديد الداخلي والإقليمي لها ، ولكن هذا التحالف أدى إلى حالة الابتزاز للدولة القطرية الصغيرة فأصبحت تكاليف القطرية والتحالف مع القوى الكبرى مكلفاً اقتصادياً وسياسياً وحتى إستراتيجيا للدولة القطرية ، وهي تواجه ألان أزمة شرعية داخلية وتحدي الأنظمة الحاكمة في وقت كانت هذه الدول متحالفة في السابق مع الأصولية الإسلامية ؟
إن غياب نظام أمني عربي أدى إلى تفكك أمني في المنطقة العربية ، وأن عقد اتفاقات أمنية ثنائية كما أشرنا أو تكتلات من خارج المنطقة أدت إلى توتر ونزاع بين الدول العربية وزيادة الإنفاق العسكري مما انعكس سلبا على واقع الأمن القومي العربي وعدم استقراره.
ونلاحظ في ظل المد القومي أن الدول القطرية البترولية تحالفت مع التيارات الإسلامية للوقوف ضد دولة الارتكاز الجغرافي التي كانت تعمل الأيدلوجية القومية وتهدد الدول القطرية التي تحالف قوى الاستعمار . وحتى في غياب القومية وفشل القطرية والتحالف مع القوى الاستعمارية ، نلاحظ انفصام السلام بين الأنظمة الحاكمة في الدول القطرية البترولية والأصولية والاسلامية.
أن مستقبل النظام الإقليمي العربي و أمنه ودوره العالمي مرتبط بالأمور التالية:-
-1- أن العالم العربي يملك طاقات البشرية والموارد الاقتصادية والموقع الإستراتيجي الذي يجعله يلعب دولاً فعالا في النظام الدولي في حاله استغلال هذه الطاقات والموارد.
-2- أن تعي دولة الارتكاز ا الجغرافي دورها القومي، وأنها بالأيدلوجية القومية والدينية تستطيع أن تستقطب الجماهير العربية في كل مكان كما كانت في فترات تاريخية سابقة ، في وجه مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الشرق الأوسط الكبير التي تريد طمس شخصية الإقليم العربية .
-3- ا ن تعي دولة ارتكاز الجغرافي أن إستراتيجية إسرائيل الإقليمية والدول الكبرى تعي خطورة عبقرية المكان وتحاول احتواء دوره ، وكما قال الأستاذ محمد حسين هيكل أن إسرائيل بما تقوم به في المنطقة وعلى نطاقها المباشر أو الأوسع لم تعد بعيدة عن ذلك الحلم الذي تصوره مؤسس دولتها دافيد بن غور يون وهو حلم يسعى إلى حصر مصر وراء حدودها مع إطلاق يد إسرائيل في الشرق العربي.
-4- أن تعي الدولة القطرية الصغيرة وخاصة البترولية منها خطورة القوى الأجنبية على وجودها على المدى المتوسط والبعيد وان ارتباطها بالارتكاز الجغرافي هو الذي يمكن أن تحقق من خلاله أمنها وهويتها وان تكلفه الاعتماد على دولة قطرية إقليمية تربطها عوامل الدين واللغة والتاريخ أفضل من القوى الأجنبية التي لها تطلعاتها الحضارية والسياسية والاستيراتيجية.
-5- التأكيد على وحدة دولة القلب وهي العراق وعلى عروبتها وإسلامها وخروج المحتل منها . إن تحرك الجامعة العربية من المصالحة بين الأطراف العراقية والحفاظ على عروبة العراق خطوة هامة على صعيد تحقيق وحدة العراق وإن عقد مؤتمر الوفاق العراقي في الجامعة العربية لها دلالتها على دور الجامعة العربية التي تحاول المشاريع الشرق أوسطية الأمريكية والإسرائيلية طمس دورها ، وهذا يقودنا لأهمية نظام أمني عربي وتفعيل المعاهدات التي تمت من خلال الجامعة وتعزيز قناة الإصلاح للجامعة لتحقق أهدافها في ظل المتغيرات الدولية .
-6- لا بد أن تقدم الدول البترولية الدعم والمساعدة إلى دولة الارتكاز الجغرافي والقلب الأسيوي وان محور الارتكاز الجغرافي والقلب هو الذي أعاد الاعتبار لهذه المنطقة عبر التاريخ والذي هزم القوى الأجنبية الطامعة من الغزو الصليبي والمغولي . فإن عائدات الدول البترولية العربية لعام 2005 يبلغ 500 مليار دولار والمملكة العربية السعودية عائداتها للعام 100 مليار دولار وإن حجم الودائع العربية في سويسرا ونيويورك تريليون دولار كما أوردته صحيفة الحياة في عددها 25 يونيو 2004 عن رئس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد .ا
-7- أن الولايات المتحدة متورطة في اكثر من بقعة على نطاق العالم وليست مستعدة لتورط في القلب كما تؤكده الدراسات الإستراتيجية الأمريكية وإذا تفاقمت الأوضاع أو استمرت على نطاقها الحالي ، ومع انحدار شعبية الرئيس بوش لأقل مستوى خلال رئاسته بسبب تفاقم الخسائر في العراق والأزمات الداخلية والفشل في مواجهة الكوارث الطبيعية مثل إعصار كاترينا وفضيحة رئيس طاقم موظفي نائب الرئيس ديك تشيني ، لويس سكوتر ليبي والتي تشبه فضيحة ووتر غيت.
إن الولايات المتحدة تبحث عن وسيلة للخروج من المستنقع العراقي خاصة بعد تصاعد دعوة الانسحاب من قبل زعيم الديمقراطيين في الكونجرس والطلب من الإدارة الأمريكية تقديم تقرير دوري عن الوضع في العراق .
-8- أن تستفيد المنظومة العربية من الصراع الذي بدأ يظهر بين الولايات المتحدة والصين وروسيا الاتحادية ، فلقد أكد بريجنسكي أن المستفيد الأكبر من الغرق الأمريكي في الحرب على الإرهاب كل من روسيا والصين الشعبية فقد تنفست روسيا الصعداء لتحول الغضب الإسلامي عن روسيا بسبب الشيشان باتجاه الولايات المتحدة . إن الولايات المتحدة قد دخلت إلى مناطق نفوذ روسيا في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية بمساعدة وتمويل يهوديين تحت شعار الديمقراطية وإن روسيا تتحرك للرد في منطقة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط .
إن روسيا والصين الشعبية تتحركان الآن من خلال منظمة شنغهاي للتعاون والتي تضم ست دول يضاف إليها كل من إيران والهند بصفة مراقب وقد تلعب الجامعة دورا مع هذه الدول في ظل تزايد الطلب الصيني على البترول .
9- - إن الإستراتيجية الأمريكية الحالية تهدف إلى إيجاد صراع داخلي فى المنطقة العربية تحت شعار الإسلام المعتدل والمتطرف ، وقد تنسحب وتترك القوى القطرية تواجه التحديات الداخلية وقد تتخلى عنها وتفاوض قوى المعارضة، وهذا ما حدث فعلا في حوار بين بعض التيارات الإسلامية مع بعض المسؤولين السابقين من الأميركيين والبريطانيين تحت غطاء أكاديمي أشرف عليه منتدى حل الصراعات الذي أسسه ويديره رجل الاستخبارات البريطاني السابق أليستير كروك بالتعاون مع الدكتور بيفرلي ميلتون إدواردز من جامعة كوينز في بلفاست ، وقد علق مسؤول أمريكي سابق مشارك في الحوار ' كم من إرهابي سابق وطأت قدماه البيت الأبيض' .
إن الولايات المتحدة تحاول أن تستفيد من التجربة مع الصين الشعبية التي استطاعت من خلال الانفتاح عليها قد أدى إلى صراع داخل الشيوعيين أنفسهم بين الصين الماوية والسوفيتية مما خدم المصالح الأمريكية ، وهو ما تحاول أن تطبقه داخل العالم العربي بين تيارات الإسلام السياسي ، لقد علمنا تاريخ أوروبا قول تشرشل في الحرب العالمية الثانية عندما تحالف مع ستالين ضد هتلر ، قولته المشهورة أنني أتحالف مع الشيطان ضد هتلر وفي حالة التهديد المستمر للمصالح الأمريكية والغربية فقد تصل إلى نتيجة تتفق مع السياق التاريخي عبر العصور وهو التحالف مع الطرف القوي حتى وإن اختلف معه الذي يثبت قدرته على التحدي والوجود .
والخلاصة ، أن إعادة فعالية النظام العربي المتدهور وأمنه في النظام الدولي مرتبط من خلال استقراء التاريخ وكما ذكرنا ماكيندر في أوروبا وجزيرة العالم ، فالعالم العربي قد تكون قوة محركة للتاريخ إذا أخذنا قراءة التاريخ ، بأن الارتكاز الجغرافي والقلب الأسيوي العربي هما مفتاح السيطرة على الشرق الأوسط ومن يسيطر عليهما يستطيع أن يتحكم في الشرق الأوسط الكبير وبالتالي يسيطر على جزيرة العالم ، العالم القديم ، وبالتالي يعيد دوره داخل النظام الدولي .
الهوامش :
1- جيمس مان ، المبرر الحقيقي لغزو العراق قديم وعمره 10 سنوات ، الرأي 11 مارس 2004 . وأنظر حول فضيحة بيبي ، Newsweek العربية 8 نوفمبر 2005 .
2 -Samuel Huntington, Clash of Civilization, Foreign Affairs, Summer 2003, pp. 22-49.
3 -James Kurth, Global Threats and American Strategies: From Communism in 1955 to Islamism in 2005, Orbis , Fall 2005, pp.631-648.
4- شمعون بيرس ، الشرق الأوسط الجديد ، ترجمة محمد علي حافظ ، عمان : الأهلية للنشر والتوزيع 1994 .
5 -See this report [http://www.israeleconomy.org/strat1.htm].
6- http:www.theunjustmedia.com/the%20zionist-plan-for-the-middle-east.htm]
7 -Efraim Inbar, The Strategic balance in the Middle East: An Israeli perspective, E-Notes, Foreign Policy Research Institute, Feburaury 4, 2004.
8- مايكل جانسن ، اهتزاز الركائز الثلاثة للاحتلال الأمريكي للعراق الرأي 12 أبريا 2004.
9- حول الفوضى البناءة ، أنظر العدد الخاص من مجلة حوار العرب عدد 12 ، نوفمبر 2005 .
http://www.siyassa.org.eg/ASiyassa/Index.asp?CurFN=excl2.htm&DID=9083