*الأصولية : يوضح "عادل المعلم" كيف ظهر مصطلح الأصولية على يد الصحفي المحافظ " كيرتزلي لوز" الذي كان يعمل في الجريدة المعمدانية the Watch Examiner " " واصفًا بها الذين كانوا على استعداد لدخول المعركة الكبرى من أجل الأصول . ثم زاع صيت المفهوم ليعبر عن وصف لجميع أنواع البروتستانت الأمريكين الذين على استعداد لشن "حرب إكليريكية" ولاهوتية ضد الحداثة في اللاهوت و ضد التغيرات الثقافية التي رحب بها الحداثيون . وأن قوة الأصوليين قد وصلت ذروتها في عشرينيات القرن العشرين ؛ بفضل تحالفها مع البروتستانت المحافظين . كما يوضح علاقاتها بالتيارات الأصولية المسيحية و تحولاتها المهمة.
أما "مارسدن " فإنه يعرف الأصولي باعتبار أنه " إيفانجيليكي مقاتل"، و أن الأصولية نمت من رحم الإيفانجليكية في ق 19، كما يرى أن كلًا من الإيفانجليكية والأصولية ليستا منظمتين قابلتين للتحديد وإنما بداخلهما العديد من التنويعات.
في حين فرق " ميد"، صاحب كتاب : بلد الله ...، بين الأصوليين والإيفانجليكيين . وأنه إذا كانت الأصولية تدل على نوع من البروتستانت المقاتلين ، فإن الإيفانجليكية- بحسبه- تطلق على تحالف أكبر بكثير!
وأكد " مارسدن" على أن الأصولية على عكس ما ينظر لها كمعادية للعقلانية ، يثق أتباعها في فلسفات التنوير. كما اعتبر أن الأصولية " نسخة من المسيحية تطابقت مع عصرها". أما الأصولية على مستواها الأدائي العملي ، ففي الوقت الذي يحسب الأصوليون في الجانب الاقتصادي على الفردية المطلقة ، فإنهم على الجانب الآخر يمثلون من خلال الكنائس الأصولية أحد أهم التجمعات عبر العرقية.
وأشار كتاب" بلاكر" بالأصولية إلى كلٍ من الأصوليات المسيحية (البروتستانتية والكاثوليكية) و الإسلامية ، بينما أغفل ذكرالأصولية اليهودية. وأكد على صعوبة وضع تعريف محدد للأصولية فضلًا عن أنه ليس من الإنصاف وضع الأصوليين المسيحيين جميعًا في سلة واحدة . وداخل هذا الكتاب تم تحديد الخصائص الرئيسة للأصولية ومنها: الرغبة في تدريس نظامهم العقائدي بالمدارس ، و التسلطية ،والتمسك بحرفية الكتاب المقدس . و قد فسر أسباب تنامي الأصولية في العالم بشكل عام والأصولية المسيحية تحديدًا في الولايات المتحدة متتبعًا تطورالصحوة الدينية الكبرى ومرجعًا إياها إلى سببين أساسيين : - الفترات التي يعتصرها التغير الاجتماعي ، و – التعطش للإجابات المبسطة.
أما " ميد" فقد اعتبر أن الأصوليين والمسيحيين الليبراليين والإيفانجليكيين ما هم إلا جزء من التيار التاريخي للبروتستانتية الأمريكية ، و أنهم جميعًا قد تأثروا بالجدل الأصولي الحداثي مع مطلع القرن العشرين . وأن الأصولية انقسمت إلى شعبتين إحداهما آثرت الانفصال عن عالم السياسة والثقافة والأخرى سعت إلى الانخراط في عالم السياسة ورأت ضرورة وجود روابط مع جميع دول العالم ، وهؤلاء عرفوا "بالإيفانجليكيين الجدد" أما الآن فيطلق عليهم "الإيفانجليكيين" فقط.
و كان مما ركز عليه" محمد عارف" في بيان تاريخ الأصولية المسيحية بالولايات المتحدة ، التجارب الثلاث للصحوة الكبرى( حركات الإحياء الديني) : الأولى في ق18قبل الاستقلال الأمريكي ، والثانية في ق19 بعد الاستقلال، واللتان كانتا محدودتيِّ التأثير، والثالثة هى الحالية والممتدة و ذات التأثير المتصاعد منذ بدايات ق20 و التي تحظى بالنفوذ والقوة والعمق في المجتمع الأمريكي.
واختصر "مايكل وجوليا كوربت" قولهما في الأصوليين بإشارتيهما إلى أن " القيم التقليدية" هى القاسم المشترك بين أصوليو أمريكا ، و أنها هى الصيحة التي تحشد جماعات الضغط الأصولية في واشنطن ( ومن المعروف أنها تدافع عن الأسرة التقليدية و الدين التقليدي والاستقامة الأخلاقية مقابل مهاجمتهم لانتشار الفن الإباحي ،والإجهاض، ودخول المرأة ميدان العمل ، والحقوق المتزايدة للشواذ ) وأنهم مثل البيوريتانز القدامى ، يودون أن تكون قيم المسيحية التقليدية أساسًا للقانون المعمول به. ويرون أن النخبة الحاكمة - في السلطة والإعلام والمؤسسات التعليمية – تقر سياسات عامة تفتقر إلى قيم الأغلبية ،وأنه قد آن أوان إعادة قيم "الأغلبية الأخلاقية" .
*البروتستانتية: مما يذكره " عادل المعلم" عنها أنها طائفة أو مذهب مسيحي ظهر في ألمانيا على يد القس " مارتن لوثر" 1516، احتجاجًا على الفساد الذي أصاب الكنيسة الكاثوليكية وقتها ويمثل حجر الزاوية فيها المبدأ القائل بإن الكتاب المقدس صحيح كله ويفسر حرفيا وليس مجازيًا ، وإنه لابد أن يتاح لكل مسيحي أن يفسره ، وللبروتستانتية علاقة وثيقة باليهودية ؛ للتشابه الكبير بين سياقات نشوء و حركة كل منهما ، فكما اضطهد فرعون مصر اليهود ففروا إلى أرض كنعان(أرض فلسطين العربية) هاجر بعض البروتستانت (و هم البيوريتانز أو البيورريتانيون) فارين بمذهبهم هذا إلىأمريكا فعتبروا أنفسهم شعب الله المختارالجديد في أرض الميعاد الجديدة . ولعل الجدير بالذكر في هذا السياق مقولة مرجعية لديهم تنسب إلى " لوثر " : "إن اليهود هم أبناء الرب ونحن الضيوف الغرباء"، كما استعادت البروتستانتية مقولات وعقائد العهد القديم مثل: شعب الله المختار،أرض الميعاد ، هرمجدون ،وبات العهد القديم مرجعًا أصيلًا لديهم وصار قيام إسرائيل - وفق هذا المعتقد- بشارة بقدوم المسيح. و عن تيارات البروتستانتية في ق20 يذكرأنها تباينت بين ثلاثة تيارات فرعية: التيار الإيفانجليكي الذي يرى بعصمة الكتاب المقدس و تأويله حرفيًا، و تيارمحافظ لكن لا يأخذ بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس ، و التيار الليبرالي الذي يرى الاكتفاء بخلقيات الكتاب المقدس و ترجمتها في " الإنجيل الاجتماعي " الذي يعني برامج إصلاح المجتمع .
بينما كان تصنيف "ميد" البروتستانتية - إلى ثلاث تيارات فرعية أساسية هم:الأصوليون ،والليبراليون المسيحيون ، والإيفانجليكيون (أي أنه اعتبر الأصولية فرعًا من البروتستانتية كما سبقت الإشارة).
*البيوريتانز / البيوريتانيون: مع تطورات البروتستانتية في أوربا ، ظهرت جماعة شديدة التدين من البروتستانت عام1555 في انجلترا رفضت أي سلطة أورقابة للدولة على الكنيسة ، وطالبوا بتطهير البروتستانتية من كل الطقوس والعبادات غيرالواردة في الكتاب المقدس . و تطورت أفكارالبيوريتانز وحدثت مواجهات عنيفة بينهم و بين الدولة البروتستانتية في انجلترا إبان حكم الملكة إليزابث ، و تعرضوا للقمع و الاضطهاد حتى هاجروا إلى هولندا ثم إلى أمريكا مع مطلع ق17. هذا وفق ماذكره كتاب "عادل المعلم" من التطور التاريخي لهم . و مما ذكره " الزوجان كوربت" إضافة لرؤيتهم أنفسهم شعب الله المختار الجديد، أنهم كانوا شديدي التعصب ولم يؤمنوا بالتسامح الديني ولا بالتنوع ، و كيف رأوا أن الحرية هى بقاء الآخرين بعيدين عنهم . لكن البيوريتانز تآكلوا مع حلول ق18 ليحل محلهم مذهبان دينيان هما : العقلي ، والإيفانجليكي( أو ما سمي بالصحوة الكبرى وقتها) . و رغم دخول قيم قبول التنوع والتسامح الديني للمجتمع الأمريكي ، إلا أن بعض من آثار البيوريتانية بقيت في الثقافة الجمعية الأمريكي، مثل: اعتبار الولايات المتحدة المدينة الفاضلة –مدينة فوق التل – ذات قدر إلهي ومهمة خاصة بأن تكون مثالًا يحتذى به في العالم أجمع . و الأهم أن هذه الرؤية لم تنعكس فقط في فكر الأصوليين و اليمين المسيحي هناك بل ظهرت لدى الليبراليين في مثل خطاب " كلينتون" الافتتاحي 1997حينما قال :" استرشادًا بالرؤية القديمة لأرض الميعاد ، دعونا نوجه أبصارنا إلى أرض ميعاد جديدة"...
و من إشارات "مارسدن" للبيوريتانية يذكرأنها أحد المصادر القوية للرؤى الثقافية الأصولية والتي غالبًا ما اختلطت معتقداتها الاجتماعية بالفلكلورالأمريكي .
*الإيفانجليكيون: ذكر"عادل المعلم" في كتابه مقدمة في الأصولية المسيحية ...،أنهم طائفة من البروتستانت الأصوليين تتمسك بالتأويل الحرفي للكتاب المقدس، و قد بلغت أوج تألقها بالولايات المتحدة في ق19 ، و يبلغ عددهم حاليًا ما بين 40 : 50 مليونًا في الولايات المتحدة . وهم شديدوا الكراهية للإسلام ومن أهدافهم تحويل المسلمين إلى مسيحيين – بل و السعي إلى تحويل المسيحيين من المذاهب المسيحية الأخرى إلى إيفانجليكيين – و قد ابدوا رغبتهم هذه لبوش الابن قبيل احتلاله للعراق بحجة مساعدتهم لتمكين شعب مقهور من حرية العبادة لكن " بوش" رأى وقتها – ربما لاعتبارات سياسية – أن ذلك أمر يجب تأجيل الخوض فيه وأنه من الضروري تهدئة المسلمين، في حين أبدى إعجابه بالدين الإسلامي. واستكمل" المعلم" إيضاحه في مقدمته –كناشر- لكتاب "محمد عارف" : صعود البروتستانتية ...، ذاكرًا بحجة موثقة نقلًا عن جريدة "الواشنطن بوست" في عددها الصادر في 23 يونية 2005 بعنوان " الإيفانجليكيون يبنون قاعدة في بغداد"، ما مفاده أن جهود الإيفانجليكين لم تنقطع - منذ الاحتلال الأمريكي للعراق- في تحويل كل من المسلمين و الطوائف المسيحية إلى المسيحية الإيفانجليكية مما أثار شكاوى زعماء المسلمين و المسيحيين في العراق، فضلًا عن أن الإيفانجليكيين يسعون لإفساد علاقة المسلمين والمسيحيين في العراق.
يذكر "مارسدن" أنه برغم ما قد يبدو على الإيفانجليكية ظاهريًا من كونها حركة أو موجة متميزة ، إلا أنه يمكننا اليوم أن نحدد ما لا يقل عن أبعة عشر نوعًا من الإيفانجليكية ، تتشارك جميعها في الكثير من العقائد لكنها تتنوع من حيث المواقف الموروثة تجاه السياسة والثقافة على وجه الخصوص .
ويقترب "الزوجان كوربت " من الرأي السابق في قولهم بعدم وجود مجموعة متناغمة من الإيفانجلكيين و تعدد دلالات وصف "إيفانجليكي " في الفكر البروتستانتي ، وأنه يتم استخدام هذا الوصف إشارة إلى طائفة من البروتستانت ذوي التوجه المحافظ للدين دون نزعة عدائية، أو أحيانًا انفصالية، كالتي تميز الأصوليين، الذين يؤمنون بوجود أمرإنجيلي بالعمل من أجل الفقراء والمظلومين داخليَا وخارجيًا ( و لعل هذا هو سبب ونتيجة لاحتلال الإيفانجليكيين السود مكانَا متفردًا في المنهاج الإيفانجليكي) . وقد تحالف الإيفانجليكيون مع الأصوليين واليهود في بعض القضايا ، بينما أيدوا كلًا من البروتستانت الليبراليين والكاثوليك في القضايا الاقتصادية و الاجتماعيةو قضايا نزع السلاح و صنع السلام و ما شابهها .
*اليمين المسيحي الجديد: يخبرنا "الزوجان كوربت" بعودة جذوره إلى الحقبة الاستعمارية ، لكنه بدأ في الظهورفي سبعينيات ق20، أسهم في ذلك وجود توجه ديني محافظ يؤكد صوته في السياسة –أي التقاء الدين بالسياسة- وتعددت التفسيرات حول ظهوراليمين المسيحي االجديد منها اللاهوتي و الاجتماعي والسياسي ، وكيف يعتبر إرثًا للخلاف الأصولي الحداثي وما نتج عنه من انقسامات دينية خيمت على الداخل الأمريكي خلال عقد الخمسينيات من ق20 تراجع على إثرها دورالدين في السياسة الأمريكية، ثم عودة الدين بثقل للتأثيرفي السياسة منذ الستينيات فصاعدًا – لعوامل عدة داخلية وخارجية – فظهراليمين المسيحي الجديد وتوسع في السبعينيات والثمانينيات، فضلا عن توثيق صلته بالحزب الجمهوري، وتعمقت أبعاده المؤسساتية وقاعدته الشعبية في التسعينيات ، وحاليًا يتمتع اليمين المسيحي الجديد برسوخ منظماته ورسوخ عضويتها وامتلاك أدوات العصروالقدرة على حشد الأتباع و كسب الانتخابات ، مع بقاء ثوابت مهمة في ممارسته السياسية يأتي على رأسها : تأييد وضع وبقاء الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم، وهنا تظهر أهم نقاط التماس بين اليمين المسيحي الجديد والعقيدة البيوريتانية التي تأسست الولايات المتحدة على مقولاتها وأهدافها وفي مقدمتها اعتبارهم أن الولايات المتحدة أمة مختارة لتكون مثالًا للحياة الورعة في الدنيا .
وفي فصل أفرده لبيان الصحيح عند اليمين المسيحي الجديد ، يذكر "محمد عارف" أهم خصائص و مميزات ومسارات تطورهذا الرافد من الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة ، ومنها : المرونة و الاستفادة من الأخطاء السابقة ، وفهم آليات عمل النظام الديمقراطي الليبرالي والقدرة على التأثير فيه، وماحققته الحركة من كفاءة في اجتياز منزلقات الاختلافات الدينية التي مثلت نقطة ضعف الأصوليين الدينيين ؛ وذلك لابتكارها صيغة " الحرب ضد عدومشترك" ومن ثم حشدت الكثيرين وراء تحقيق أهداف مشتركة طويلة الأجل.
*الدين المدني الأمريكي :هذا المفهوم ذائع الانتشار والتداول في الداخل الأمريكي يشير" الزوجان كوربت" في بيانهما له ، إلى النموذج الأمريكي في علاقة الكنيسة والدولة ،واللذان يسميانه " نموذج التعاون والمشاركة"؛ نظرًا لتعاون الكنيسة والدولة من أجل تحقيق الأهداف المشتركة بينهما على الرغم من كونهما مؤسستين متوازيتين ومستقلتين عن بعضهما البعض من الناحية المؤسسية. و بشكل عام وأبسط ، وإذا كان أشهر من كتب عنه هو عالم الاجتماع "روبرت بللاه" في الستينيات فنبه إليه عقول عامة الأمريكان ، فالدين المدني كلمة يقصد بها تجسد البعد الديني في مختلف النشاطات و الممارسات العامة في الولايات المتحدة ، وتظهر رموزه ومظاهره في عدد من الطقوس والعادات الأعياد الرسمية للأمة الأمريكية مثل: استهلال الجلسات الحكومية بالصلاة ، استحضار المشاعر و العادات الدينية في الأعياد القومية ، الأغاني الوطنية مثل "فليبارك الرب أمريكا" ، بعض العبارات الدينية المكتوبة على العملة الأمريكية ، وأن بقاء مثل هذه العبارات يعني أن الدين المدني يعد نوعًا من "الكنيسة الرسمية المرخصة"في الولايات المتحدة.
(2 )- التطور التاريخي للأصولية الدينية في الولايات المتحدة:
في هذا الجزء يتم توضيح تناول الكتب التي بين أيدينا للتطور التاريخي للأصولية الدينية وأثارها على النظام السياسي والمجتمع الأمريكي بشكل عام، ولأن لكل كاتب وكتاب منها توجهه ونظرته فإن مناط التركيز وأسلوب التناول قد يختلف على نحو ما سنرى توًا:
يتميز تناول د/ محمد عارف بتقديمه تفسيراً لأسباب تنامي الأثر السياسي للمد الأصولي البروتستانتي الإيفانجليكي والذي كسر قاعدة الارتباط الطردي بين مدى تحقيق الرئيس لازدهار اقتصادي وميل الأمريكان لانتخاب مرشح حزب ذلك الرئيس، بقول آخر: يُرجع "عارف" أسباب عدم فوز مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات2000 (آل جور) خلفًا عن "كلينتون" إلى عوامل "ما وراء الاقتصاد"، أي عوامل تاريخية اجتماعية دينية في تفسير تمرد ناخبيّ الولايات الجنوبية (وهم الأكثر التزاما دينياً وأخلاقياً) ضد الحزب الديمقراطي نتيجة فضائحه الأخلاقية العديدة، مقابل دعم اليمين المسيحي "بوش الابن".
فيبدأ "عارف" القصة من نشأة البروتستانتية في أوربا وهجرتهم إلى العالم الجديد وقيام المجتمع الأمريكي على القيم الدينية البروتستانتية ثم مولد "الأصولية المسيحية" مع الهجرة الثانية للولايات المتحدة في مرحلة التصنيع واحتدام الجدل "الأصولي ـ الحداثي"، ثم كيف غيرَ الأصوليون استراتيجيتهم استجابة للمد والتحدي الليبرالي عبر توظيفهم شبكات الإعلام لصالحهم وإعداد جيل متدين حتى جاء فوز "إيزنهاور" في 1952، فكان تركيزهم بعدها ولمدة نحو عقدين على القاعدة المعرفية والثقافية لمواجهة الليبرالية، لينطلقوا في السبعينيات داخلين عالم السياسة بثقلهم فكان فوز "كارتر" ( ذلك المسيحي الذي ولد من جديد ) 1976 ودعم الإيفانجليكين الجدد للاقتصاديين الراديكاليين.
ثم كيف وسع الجمهوريون من قاعدة تأييدهم الشعبية بإجتذاب مزيد من المنتمين لجناح اليمين المسيحي وتحالف الإيفانجليكين مع بقية الأصوليين من كافة الطوائف وهو ما تبلور في مؤسسة "الأغلبية الأخلاقية" التي أثبتت فاعليتها في انتخابات الرئاسة 1980 بفوز "ريجان"، لكن ترجيحه لأولوية القضايا الاقتصادية على الاجتماعية والأخلاقية ثم حالة الركود الاقتصادي الذي عانته البلاد، حتى نهاية ولاية بوش 1992، الأمر الذي دفع أغلب الأمريكيين ـ حتى الإيفانجليكين منهم ـ إلى انتخاب المرشح الليبرالي الديمقراطي "كلينتون"، لكن رغم إعادة انتخابه إلا أن الأمريكيين الأصوليين والمتدنيين قد أعيتهم فضائحه الأخلاقية بينما وصل المد الأصولي المسيحي مداه رافعًا "بوش الابن" على أكتافه ليحقق استراتيجية اليمين المسيحي في الولايات المتحدة.
لم يغفل "عارف" تخصيص جزء من كتابه لدراسة المضامين الاجتماعية والاقتصادية للأصولية المسيحية بدراسته لأسباب تركز الأصولية في الجنوب الأمريكي، فقدم بحجج إحصائية إثباتًا لما يعانيه أهالي الولايات الجنوبية من مشكلات عدة مثل: تدني مستوى التعليم، انخفاض معدلات الدخل، ارتفاع معدلات الجريمة.
وكان تناول "مارسدن" مؤكدًا على أن تتبع التطور التاريخي للأصولية البروتستانتية والإيفانجليكية يؤكد ويثبت فرضية مفادها أن التدخل الديني في السياسة لا يُعد خروجًا على التقاليد الأمريكية، بل هو تراث أمريكي أصيل وإحياء لتقاليد قديمة متجذرة في خبرة المجتمع والنظام الأمريكي ففي تتبعه في القسم الأول من كتاب: كيف نفهم الأصولية .. لتاريخ الأصولية في الولايات المتحدة يبدأ تنقيبه التاريخي بفترة حكم الإيفانجليكية (من 1865 ـ 1890) ولجوءها إلى تكوين منظمات تنادى بمثاليات وأخلاقيات الأصولية الإيفانجليكية (مثل رفض شرب الخمور...) وبينما عانت الإيفانجليكية من ذبول في الداخل، أينعت المسيحية البروتستانتية من الخارج وبدأت الدعوة بأن الولايات المتحدة هي أمة مسيحية. أما عن تفسير الكاتب لعوامل ثبات المد الأصولي في الولايات المتحدة ـ والذي يرجعه إلى السيطرة الثقافية للأصولية الإيفانجليكية ـ مقابل اجتياح المد العلماني لأوربا. وأنه على الرغم مما اعتصر الأصولية البروتستانتية عمومًا من أزمة فكرية واجتماعية فيما بعد لحرب الأهلية الأمريكية، وما توالى عليها من عوامل ومظاهر الانقسام على إثر الهجرة الكاثوليكية للولايات المتحدة، وظهور المدن الصناعية الكبرى في مرحلة التصنيع، وانفصال فروع العلوم المختلفة عن تعاليم الكتاب المقدس ، إلا أن البروتستانتية أثبتت نجاحًا في المواجهة. وإن كان على مستوى ظاهري شخصي تمثل في ظاهرة ما أطلق عليهم "مارسدن": "الدعاة النجوم" مثل " فيليب بروكس " و" هنري وارد بيتشر ".
ومع مطلع القرن العشرين تجلى الانقسام بين طائفة "البروتستانت الإيفانجليكين" بين تيارين أحدهما " ليبرالي لاهوتي" والآخر "محافظ" وكان لكل فريق منهما ـ بحركاته الفرعية ـ استجابات مختلفة للتغيرات العلمية والاجتماعية. ثم كيف أطُلقت العلمانية من عقالها مع الولايات المتحدة مع دخول الحرب العالمية الأولى، بينما زادت حدة الانشقاقات بين الكنائس وفي خضم ذلك كله ظهر مفهوم الأصولية Fundamentalism في الولايات المتحدة ـ كما سبق الإيضاح ـ وبروز الجدل الحداثي ـ الأصولي. وهنا يرفض "مارسدن" افتراض البعض انتهاء الأصولية ـ باعتبارهم إياها نتاج "ثقافة الأرياف" ـ مع انتشار التعليم، إذ يرى أن فاعلية الأصولية قد زادت على المستوى المحلي، بل وأن الأصولية قد استمدت قوة في مواجهة التيار الحداثي بتحالف الأصولية البروتستانتية مع أصوليات من معتقدات أخرى، وتنظيم حملات منظمة ضد قضايا وأفكار حداثية مثل "الداروينية" ـ وكيف أحسنت الأصولية استغلال التطورات المتلاحقة ؛ فقد استغلوا ظهور الراديو والتليفزيون منذ الأربعينيات، وكذا ظهور قضايا جديدة في المجتمع ليثبتوا قوتهم رغم ما انتابهم من انقسامات متوالية. ثم كيف اندمج الأصوليون في الحياة السياسية بتأسيس "فالويل" منظمة "الأغلبية الأخلاقية" في أواخر السبعينيات، وعلى الرغم من قدرتهم في اجتذاب أجنحة الحزب الجمهوري الذي تأسس على فكرة تنظيم المجتمع وفق المبادئ المسيحية حتى ويعد دخول "ريجان" البيت الأبيض ظلت الأمور تسير بأقل بكثير مما رمت إليه الأصولية الإيفانجليكية من تصور مثالي لأمريكا المسيحية.
في الجزئين الأوليين من كتاب الدين والسياسة في الولايات المتحدة يتناول "الزوجان كوربت" محورين أساسيين لتطور وأثر علاقة الدين بالسياسة في الولايات المتحدة، أولهما حول الدين والتاريخ مما قبل تأسيس الدولة الأمريكية حيث المستعمرات وهجرة البيورتانيين لها وتعدهم إقامة حكم على أساس القانون إلإلهي عرفانًا بنجاتهم إذا اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار الجديد... ثم كيف تتجلى آثار هذه الأفكار في الثقافة الأمريكية عامة وليس فقط لدى الأصوليين حيث ظهرت في خطاب كلينتون الافتتاحي عام 1997 حينما قال: استرشاداً بالرؤية القديمة لأرض الميعاد، دعونا نوجه أبصارنا إلى أرض ميعاد جديدة, ثم بيان أهداف المؤسسين الأوائل فيما يتعلق بعلاقة الفرد والكنيسة والدولة وأن الجميع كانت لديه رؤية للدمج بين الدين والسياسة، لكن اختلفت الرؤى والمذاهب في إعلان الاستقلال في الدستور دون تحديد كنيسة رسمية كحل برجماتي.
وينتقل "الزوجان كوربت" من تناول الإطار الثقافي والديني والسياسي المؤسس للروابط الدينية والسياسة بالولايات المتحدة،ليتناولا آثار الدين والجماعات الدينية على العمل السياسي والحركات السياسية في الولايات المتحدة بعد الاستقلال ثم في الفترة من مطلع تسعينيات القرن العشرين الذي جاء بتغيرات اجتماعية جذرية مثل: حركة الحقوق المعدنية للسود ثم ما تبعها من حركات مماثلة، تداعيات حرب فيتنام على الداخل الأمريكي، التطور التكنولوجي، تعاظم أهمية جماعات الضغط الدينية في واشنطن ... كل هذه التغيرات تتابعت حتى أواخر التسعينيات متضمنة ظهور وتطور اليمين المسيحي الجديد وفق التحولات الثقافية سواء في المجتمع الأمريكي عمومًا أو في داخل جناح اليمين المسيحي, وكيف أن هذه التطورات يتوقع استمرارها في المستقبل, وأن الائتلاف المتزايد بين الجماعات الدينية بعضها بعضا, وبينها وبين الأحزاب السياسية يمثل نمطًا يُتوقع استمراره في النظام الأمريكي, كما يؤكد "آل كوربت" أيضا على ما اعتبراه "حتمية" تتمثل في أن تاريخ وحركة التيارالمحافظ الديني في الولايات المتحدة أكدت على مرونةهذا التيار و قدرته على التكيف ، و أنه يبدوو يتوقع أن يحتل موقعًا جيدًا يؤهله للاستمرار في القيام بدورٍ بارز في الربط بين السياسة والدين في القرن الحادي و العشرين.
وعلي المحور الثاني يتناول "الزوجان كوربت" العلاقة القانونية بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة خلال بيان علاقة الدين بالتعديل الأول للدستور في نهايات القرن الثامن عشر بعد حرب الاستقلال, مؤكدين علي أن بند الكنيسة الرسمية الذي أقر عدم وجود كنيسة رسمية للدولة وأن مسألة الفصل القانوني هذه بين الدولة والدين إنما تعني ألا تقدم الحكومة أي دعم للدين علي الإطلاق, بينما أقرت أحكام المحكمة العليا في هذا الصدد على عدم إمكانية تجنب وجود علاقة بين الدين والدولة, فضلًا عن إقرارها أهمية الدين في حياة الناس وفي الشأن العام للأمة الأمريكية, أما البند الثاني من التعديل الأول للدستور والخاص بحرية الممارسة الدينية ، فإنه بمثابة نوع من التوازن الديناميكي يسمح ببقاء دور كبير ومهم للدين في النظام والمجتمع الأمريكي رغم التنظيم العلماني.
هذا وإذا كانت تغطية "عادل المعلم" لهذا المستوى حول التطور التاريخي للأصولية الدينية في المجتمع الأمريكي, قد اعتمدت بالأساس علي كل من كتابي "مارسدن" و "الزوجان كوربت" (اللذان تم استعراضهما آنفًا ) إلا أن تميز تناوله في هذا الصدد تمثل في إفراده فصلًا عن العلاقة الوثيقة بين الأصولية اليهودية والأصولية البروتستانتية (شعب الله المختار, أرض الميعاد, معركة هرمجدون...) ثم في فصل عن الأصولية المسيحية وبيانه- اعتمادا علي آل كوربت- كيف كان الحل الأنسب لدى المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة عند اختيار الكنيسة المؤسسة هو ألا توجد كنيسة مؤسسة. أي أن فصل الكنيسة عن الدولة في الولايات المتحدة كان مجرد " استراتيجية برجماتية" لتفادي إثارة القضايا الدينية وسط سياق خارجي متربص بدولتهم الناشئة, أو كما يقول "لونجلي" : "إذا كانت الولايات المتحدة ولدت وهي تعتقد أنها شعب الله المختار, فمن الصعب أن نراها في الوقت نفسه باعتبارها علمانية تماما".
· ثانيا: تأثير الأصولية الدينية على المجتمع والنظام الأمريكي:
لم يقتصر تأثير الدين في السياسة داخل الولايات المتحدة على الخبرة التاريخية بل أمتد مع تطور المجتمع الأمريكي وعوامل تغيره ليعود التأثير الأقوى للأصولية الدينية ليطفو على مجمل أبعاد النظام السياسي والمجتمع الأمريكي .
يتابع "الزوجان كوربت" علاقة الديني بالسياسي في الولايات المتحدة ويتنقلان من الأبعاد القانونية والدستورية التي أقُرت وفق التعديل الأول، إلى جزء آخر يتناولان به علاقة وأثر الدين على الرأي العام. مؤكدين على الطبيعة الملتبسة والناقضة لتوجهات الرأي العام الأمريكي تجاه علاقة الدين بالدولة ، والتي قد تصل إلى حد التناقض سواء بين صفوة المجتمع الأمريكي ( علماء السياسة والدين بالأساس) أو بين فئات العامة مع اختلافات نسبية في معدل الميل لتوجه معين لدى فئة منه. حيث وجدا ثمة ارتباط طردي بين الالتزام الديني والتمسك بحرفية الكتاب المقدس وبين كون الشخص يحمل توجهات محافظة سياسيًا وتجاه القضايا غير الاقتصادية لاسيما في القضايا الاجتماعية. في حين أن الذين هم أقل التزامًا دينيًا (بين البيض) هم أكثر ليبرالية سياسيًا.أما بين الأمريكيين السود، فإن إدراكهم لكل من الدين والسياسية ذات اختلافات عميقة عن مثيلاتها لدىالبيض؛ ذلك وفقًا لاختلاف دور الدين في الخبرة والذاكرة التاريخية والاجتماعية للأمريكان السود .,حيث اضطلعت كنيسة السود بمسئولية الانخراط في تحقيق الحرية الكاملة لهم وتقوية مجتمعهم بإنقاذهم من أسر العبودية ثم من الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية (انخفاض مستويات الدخل والتعليم بينهم). وعليه فقد ثبت الالتزام الديني الأكبر لدى السود سواء مسيحيين كانوا أو مسلمين، وأن المسيحيين منهم أكثرهم بروتستانت وإيفانجليكين. وفي السياسة نجد أكثرهم ديمقراطيين ليبراليين رغم توجهم المحافظ فيما يخص القضايا المجتمعية مثل الإجهاض والصلاة في المدارس العامة.
بيد أن علاقة الديني بالسياسي في الولايات المتحدة لا يكفي لتوضيحها ودراستها دراسة توجهات الرأي العام، ولذلك فقد تناول "الزوجان كوربت" مستويات أخرى. ففي الجزء الرابع والأخير من كتابهما يرصدا نتائج المؤثرات الدينية على السياسة على مستويين: جماعات الدينية باعتبارها جماعات مصالح سياسية موضحين أهداف، ووسائل، وأنواع جماعات المصالح الدينية في الولايات المتحدة ، وكيف تميزت بسمات فريدة ومهمة، وبيان آليات عملها ، مع تركيز خاص على جماعة "الائتلاف المسيحي" الممثلة لتيار اليمين المسيحي الجديد في الولايات المتحدة، ويؤكدان على أن واقع خبرة مشاركة جماعات المصالح الدينية في السياسة في الولايات المتحدة لم يشكل أية خطر أو عقبة في عملها الذي يجمع بين التعددية السياسية والدينية. أما المستوىالثاني من نتائج المؤثرات الدينية على السياسة في الولايات المتحدة فهو الجدل حول دور الدين في الحياة العامة، وقد خلُص "الزوجان كوربت" إلى نتيجة مفادها أن كثيرًا من المنظرين لا يريدون وجود جدار عالٍ مطلق للفصل بين السياسي والديني كما لا يريدون هدم الفواصل بينهما.
ثم يخلُص الزوجان " كوريت " إلى نتيجة عامة لكتابهما تنفي إمكانية الجزم بأن الولايات المتحدة الأمريكية دولة علمانية أو حتى دينية (بالمعنى الثيوقراطي)؛ بسبب اختلاط عالميِ السياسة والدين فيها منذ ما قبل بداية تاريخها وحتى وقتنا الراهن. فعلى الرغم من أن مؤشرات علمانية الدولة الأمريكية ( مثل: عدم وجود كنيسة رسمية، وعدم تمويل المنظمات الدينية من أموال الضرائب) إلا أن الأمة الأمريكية "أمة دينية" إذ يتغلغل الدين في المجتمع الأمريكي، ولذلك أيضًا عدة مؤشرات ( لعل أكثرها ملاحظة : أن الكتب الدينية هى الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة ، وأن أغلب مواطنيها متدينون).
يتناول كتاب أصول التطرف ... (تحرير : كيبمرلي بلاكر) المخاوف والأخطار التي يراها مجموعة من الليبراليين العلمانيين في الولايات المتحدة على الديمقراطية الأمريكية ومكتسبات التعديل الأول للدستور – الذي أُقر منذ أواخر القرن الثامن عشر - عدم وجود كنيسة رسمية، وحرية ممارسة الشعائر الدينية كما سبق وأوضحنا ، وأن سمة معاداة التعددية التي بحسب رؤى العلمانيين – هى صفة أصيلة في الأصوليين منذ أدعى أسلافُهم أن الولايات المتحدة هى "أمة مسيحية" ، تمثل خطرًا على النظام الأمريكي وأن الأمر قد زاد سوًء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فيما يتعلق بقضايا العلاقة بين الكنيسة والدولة، والتي منها الجوهري ومنها دون ذلك، أما الأخيرة فيركز عليها الأصوليون لصرف أنظار الناس عن القضايا الجوهرية، ومن ثم فإن حماية لتعديل الأول ليست بالمهمة السهلة خاصة وأن الجهود المبذولة للالتفاف على التعديل الأول يفوق التزام بقية المجتمع بالدفاع عنه. لاسيما وأن هدف اليمين المسيحي – وفق هذه الرؤية – لم يعد يقتصر على إضفاء الطابع المسيحي على الدولة، بل أضحى الأصوليون يرون أن عليهم إلزام من الرب لتحقيق ذلك الهدف. ولا يتوقع أن تتم مواجهة الأصوليين بكفاءة إلا بفهم أهدافهم واستراتيجياتهم ومن أهمها المنظمات مثل: "معبد البناء" و"التحالف المسيحي" الذي كان لديه نفوذ قوي في الحزب الجمهوري بفضل ما يملكه من قدرات إعلامية وتمويلية.
و يخوض الكتاب في أبعاد تأثير أخطار الأصولية على النظام والمجتمع الأمريكي خلال استعراض لذلك الأثر على قضايا محددة مثل: الديمقراطية إذ يرى مؤلفو الكتاب تلهف الأصوليين على السيطرة على عقول الشباب والمجتمع الأمريكي عبر ما يملكونه من وسائل إعلام وتهديدات بالملاحقات القضائية. حيث يضرب المثل بما تمارسه الكنيسة الكاثوليكية من إرهاب ضد أي أراء لا توافقها، ذلك فضلًا عن الغموض الذي يكتنف التمويل الخاص بالمنظمات الأصولية.
ويوضح الكتاب كيف يمثل التعليم هدفًا عرف الأصوليون أهميته فيما يدعم مسعاهم إلى تأييد نظام "الكوبونات الدراسية" الذي يصب في صالح المدارس الدينية على حساب المدارس العامة، علاوة على آلية الحرب الثقافية، وتأييدهم لبعض الرؤساء مثل "ريجان"، بينما يظل الهدف الأساس لدىالأصوليين متمثلًا في رغبتهم في إحلال الحكم الديني محل الديمقراطية. ومن ثم يرى مؤلفو الكتاب ضرورة مواجهة الأصوليين والانتصارعليهم.
وتتجلى أخطار الأصولية على التربية والتعليم، وفق هذا الكتاب، في سعي الأصوليين إلي أدلجة التعليم الذي يتلقاه الأطفال – وهنا يشبه الكتاب الأصولية المسيحية بالأصولية الإسلامية في هذه الجزئية – بهدف إعداد كوادر لا تقيم وزنًا للديمقراطية إلي جانب التسبب في خلق مشاكل كالتعصب وعدم التسامح. كما يتطرق في جانب التربية إلى رؤية الأصولية لطريقة التعامل مع الأطفال، حيث يعزون سلوكهم العنيف ضد الأطفال إلى إقرار الكتاب المقدس بالعقاب البدني. ويستند الكتاب في هذا الادعاء على الأصوليين إلى دراسات تثبت ذلك الأمر. وعلى جانب أخر يشير إلى موقف الأصوليين من بعض القضايا الدراسية كالداروينية والتثقيف الجنسي ومشكلتهم مع دراسة التاريخ إن لم يتفق مع تحيزاتهم، وكيف يؤثِر الأصوليون فرض نظامهم الخاص وأهدافهم باللجوء إلى المدارس الدينية- والتي تزيد فيها احتمالات الانتهاكات – أو اللجوء إلى التعليم المنزلي – الذي يؤدي إلى عدم عمق الخبرة الاجتماعية لدى الناشئة من الأصوليين وقلة مهاراتهم، ومن ثم يكمن الخطر من ذلك كله في جعل أطفال الأصوليين يدخلون عالم الكبار كالعبيد، بحسب زعم الكتاب.
وفيما يخص قضية المرأة فيتناول الكتاب ما تتعرض له المرأة داخل الأسر الأصولية من خضوع، وما تتعرض له الحركات النسائية من عرقلة اليمين المسيحي للمطالبة بالتعديل الذي أجازه الكونجرس الذي يمنع المساواة على أساس النوع.
ويحذر الكتاب من أن هذه المعتقدات يتجاوز تأثيرها الأسر الأصولية ليمتد إلى المجتمع الأمريكي بأسره، وأن موقفهم المحافظ على سبيل المثال من مسألة الإجهاض ينعكس على المجتمع الأمريكي كله بشكل عام. وأن تطبيق معتقدات الأصوليين في المجتمع الأمريكي سيكون له عواقب وخيمة يراها مؤلفو الكتاب متمثلة في: زيادة معدلات الفقر، تدني مستويات التعليم، ارتفاع معدلات الجريمة، ونشوب "حرب قيمية" في الداخل الأمريكي يتصارع فيها كل طرف لفرض قيمه وأخلاقياته. ثم يقدم الكتاب الحل- وفق رؤية مؤلفيه – متمثلًا في "العلمانية". وذلك بوضع برنامج لها تتلخص أهم نقاطه في:1- دعم البحث العلمي.2- دعم المدارس العامة.3- احترام التفكير العقلاني.
ويعتقد مؤلفو الكتاب أن الأصولية قد تتراجع مع خلع بعض أنصارها عباءتها، لا سيما وأن بعض المتدينين يرون فيها خطرًا على الدين نفسه. وفي الأخير يحث مؤلفو الكتاب- علمانيو التوجه- على الانخراط في العمل السياسي لمواجهة الأصوليين، حيث إن الخلاص – بحسبهم – يكمن في الحكومة والمجتمع العلمانيين وإلا ستكون تكلفة الفشل باهظة.
يركز كتاب: مقدمة في الأصولية المسيحية...... لـ عادل المعلم على زاوية أثر الأصولية على اختيار الأمريكيين لمرشح الرئاسة، وأثرها على رؤية الإدارة للمصالح القومية الأمريكية، وعلى توجهات ورؤى رؤساء الولايات المتحدة- فلقد كان فوز" بوش الابن" للمرة الثانية في انتخابات الرئاسة 2004 – وحسبما نشرت مجلة "النيوزويك" الأمريكية في عددها الصادر في 15 نوفمبر2004 والذي خصصت نصفه لتحليل نتائج الانتخابات الرئاسية – بفارق ثلاثة ملايين صوت عن منافسه الديمقراطي "كيري"، وأن غالبية من انتخبوا " بوش" من الملتزمين دينيًا وأخلاقيًا وبالأخص من إلايفانجليكيين. وكانت نتائج استطلاعات الرأي حول اتجاهات اهتمام الناخبين تشير إلي أن 22% من الناخبين وضعوا الأهمية القصوى للقيم الأخلاقية مقابل 19% للإرهاب و15% للعراق. وقد تضمن الكتاب كذلك ترجمة لمقالة مطولة نشرتها مجلة "دير شبيجل" الألمانية في 17/2/2003 ، أي قبيل الغزو الأمريكي للعراق , أكدت هذه المقالة على ربط "بوش الابن" بين المصالح القومية الأمريكية والأصولية على نحو غير مسبوق في الولايات المتحدة، وإن لم يكن هو مبتدعه, حيث سلك سابقوه ذات المسلك بأشكال تبدو مختلفة لكن جوهرها واحد, وعلي سبيل المثال حاول "كارتر" (ذلك الإيفانجيلكي المتدين) تقديم مؤقت لسياسة نشر حقوق الإنسان على سياسة المصالح, كما يوضح "المعلم" في ختام كتابه بشكل تفصيلي التوجه الديني لدى كل من "كارتر" و "ريجان" ثم "بوش الابن", وخلص إلى أن بوش لا يُمثِل استثناءً عن القاعدة بل هو ابن السياق الأمريكي؛ إذ يرى الأمريكان أنفسهم شعب الله المختار الجديد وأنهم - وكما تذكر "مجلة نيوزويك" في تقرير لها في 10 مارس 2003 والذي وردت ترجمته في هذا الكتاب تحت عنوان "بوش والله" – وقتها وصفهم كاتب بريطاني "أمة بروح الكنيسة" يبدو كل رئيس من رؤسائها في بعض الأوقات كراعي الكنيسة, إلا أن إدارة بوش الابن تبدو هى أكثر الإدارات الأمريكية - في التاريخ الحديث -تأسيسًا على عقيدة دينية راسخة, يؤيدها في ذلك قساوسة الحركة الإيفانجليكية الذين يشكلون غالبية أعضاء الحزب الجمهوري.
*ثالثاً: الدين والسياسة الخارجية الأمريكية:
يُسهم الدين في تكوين أفكار ورؤى الأمريكيين عن العالم حولهم وعن مهمة الولايات المتحدة في العالم، كما يؤثر في استجابتهم لما يحدث خارج بلادهم انطلاقاً من رؤيتهم لأنفسهم كأمة مختارة، وكثير ما تسترشد الأحزاب الأمريكية بالمبادئ الدينية لدعم السياسة الخارجية.
فيأتي كتاب: بلد الله.........لـ " والتر راسيل ميد" ليرسم خرائط التيارات البروتستانتية بالولايات المتحدة( الليبرالية المسيحية، الإيفانجليكية والأصولية) وكيف أثرت رؤية كل منها للعالم ولدور الولايات المتحدة في العالم الخارجي في السياسة الخارجية الأمريكية، وذلك إيماناً من صاحب الكتاب في أن الاختلافات اللاهوتية يكون لها تبعات سياسية. وغنيٌ عن البيان أنه ركز علي البروتستانتية لاعتبارها عقيدة الأغلبية في الولايات المتحدة. وقد تمثلت الاختلافات بين تلك التيارات البروتستانتية- وفق تصنيف المؤلف- حول رؤية العالم والسياسة الخارجية فيما يلي :
1- الأصوليون :
لهم رؤية متشائمة إزاء إمكانية قيام نظام عالمي مستنير وسلمي. إذ وضعوا الكتاب المقدس في مرتبة عالية وطالبوا بفصل المؤمنين أنفسهم عن العالم غير المسيحي، ووجهوا اهتمامهم لما يتعرض له المسيحيين في الخارج من اضطهاد. كما كانوا من قبل ضد إقامة" الأمم المتحدة" ،إلى جانب التزامهم بسفر الرؤيا فيما يخص نهاية العالم.
2- الليبراليون المسيحيون:
تفاءل الليبراليون بشأن قيام نظام عالمي مسالم ورأوا الفروق بين المسيحيين وغيرهم بشكل أقل حدة . بل رأوا أن المسيحية هى دعوة بالداخل والخارج، حيث إن الأخلاق واحدة بالعالم. وقد هيمنت هذه الرؤية على المنظور السياسي الدولي بالولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، لكن الليبرالية المسيحية قد واجهت في السنوات الأخيرة خطر الذوبان في العلمانية والانفصال عن المسارات الدينية.
3- الإيفانجليكيون:
وقد مثلوا اتجاها وسطًا؛ً إذ تأثروا بتفاؤل الليبراليين إزاء إقامة نظام عالمي سلمي ورأوا ضرورة تطوير رؤية مسيحية عالمية، وعلى جانب آخر اتفقوا مع الأصوليين حول أولوية العقائد علىالأخلاق ، ويؤمنون بنبوءات الكتاب المقدس حول نهاية العالم ورؤى ما قبل الألفية.
ويمكن القول إن ما يجمع التيارات الثلاثة - على الأقل رسميًا - هو إظهار مشاعر الحب و الرحمة تجاه كل إنسان مسيحيًا أم غير مسيحي.
وينوه الكاتب إلى ما يحدث من تغير في موازين القوى الدينية. الأمر الذي يؤثر علي السياسة القومية الأمريكية وبالتالي السياسة الخارجية, فعلى سبيل المثال وصلت عضوية الكنائس الليبرالية إلى ذروتها في ستينيات القرن العشرين إلا أنه بين عامي 1960-2003 قام المعمدانيون الجنوبيون بضم أعضاء جدد إليهم حتى فاق عددهم غيرهم من الطوائف.
وقد كان لهذه الاتجاهات أثرها على السياسة القومية حيث حصل " بوش" علي 68% من أصوات الإيفانجليكيين في انتخابات الرئاسة عام 2000 وارتفعت النسبة إلى 78% في انتخابات 2004.
وقد كان لهذا النفوذ المتنامي للإيفانجليكية أثره على السياسة الخارجية الأمريكية وقد تجلى هذا في موقفهم من عدة قضايا كالأتي:
1- الدفاع عن حقوق الإنسان وإن لم يتبعوا الأجندة الليبرالية بل كانت الحرية الدينية هى محور اهتمامهم. ويُوجِه الكاتب في هذا الصدد الشكر للإيفانجليكيين لجعلهم " الكونجرس " يمرر " قانون الحرية الدينية العالمية "خلال عقد التسعينيات .
2- تُعد السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل منطقة أخرى يظهر فيها النفوذ الإيفانجليكي وهو ما يُرجِعه الكاتب إلى اللاهوت الإيفانجليكي من رؤية منفردة لدور الشعب اليهودي، ولذلك فإن أي نقد يوجه لهذه السياسات إنما يزيد الإيمان الإيفانجليكي. هذا على عكس الليبراليين المسيحيين الذين يتعاملون مع الشعب اليهودي كأي قومية أخرى.
ويُحاوِل الكاتب تبديد الخوف أو الرعب من السيطرة الإيفانجليكية - الذي تزايد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، تحسبًا لمطالبة الإنفاجليكيين بحرب مقدسة ضد الإسلام - بحجة أن التعدد الديني بالولايات المتحدة يجعل من الصعب على أي تيار منفردًا أن يفرض سلطته. في حين يؤكد وجهة نظره في هذا الصدد بأن التصريحات المعادية للإسلام صدرت من بعض القادة الأصوليين وأنه تم لومهم على ذلك. ويرى الكاتب أيضًا أن الخوف من أن تحبس الإنفانجليكية الولايات المتحدة داخل قوالب جامدة هو مضيعة للوقت.