المثقف العربي والسياسي في الوطن العربي تأثير أم احتواء؟
أ. بن يمينة السعيد
أستاذ مساعد مكلف بالدروس بقسم علم الاجتماع- جامعة محمد بوضياف المسيلة.سنة رابعة دكتوراه benyaminamsila@yahoo.fr
المـقــدمة:
"المثقف" قضية خلافية بين الكتّاب والمفكرين ولا يوجد اتفاق بينهم على تحديد من يمكن أن نطلق عليه "مثقفا" ومن لا يمكن اعتباره كذلك، واختلفوا أيضا بين تصنيفاتهم للمثقفين، ولن ندخل في متاهة جدلهم التي قد لا تنتهي، ولكن سنطرح بعض الأمثلة التي من شأنها أن تساهم في إعادة التفكير عمن يمكن أن يتم اعتباره "مثقفا" من خلال النظرة إلى "المثقفين" من حيث "تفردهم". فالمثقف ليس خالقا، فدوره يكمن في توكيد الاختلاف والفروقات فحيث تكون الفرادة، والفرق، والاختلاف، وحيث تكون الحرية الخلاقة، تكون الثقافة الحقيقية، فالاختلاف طريق إلى الحرية. وبذلك تتركز مهمة المثقف بشكل أساسي على إظهار الأفكار المشيرة إلى الوجود أو التنوير. والتنوير كما عرّفه كانط هو: "خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند الإنسان) خارج قيادة الآخرين. والإنسان (القاصر) مسؤول عن قصوره لأن العلة ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين. لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير".
هنا يعتقد كانط أن المتطلب الوحيد للتنوير هو الحرية، فيبدو أن التنوير فرديا لا علاقة له مباشرة بمشاريع جماعية كبرى، ولا بأفعال تغيير وحركات ثورة. لكن فوكو ربط فكرة التنوير عند كانط بـ"مشروع" الحداثة أو يمكن القول بـ"موقف" الحداثة. وأوجز فوكو مسألة الحداثة "بسؤال الراهنية" و"أشكلة هذه الراهنية". حيث يرى فوكو أن "الثورة"،"مؤشر استحضاري"، لأنها تبرز التأهب المتأصل في الإنسان، وهي "مؤشر استدلالي" لأنها تظهر الفاعلية الحاضرة لهذا التأهب، وهي أيضا "مؤشر توقُّعي"، لأنه لا يمكن مستقبلا نسيان التأهب الذي برز من خلالها حتى ولو كان من الجائر مراجعة بعض من نتائج الثورة فيما بعد. هذا الفهم الفوكوي لقيمة "المؤشر" يؤمّن للثورة أن تكون درسا في التنوير، وللتنوير أن يكون درسا في الثورة.
وبذلك تقوم مقولة فوكو حول التنوير على أن التنوير لم يكن عصرا ولا حقبة، مثله مثل الحداثة، بل شكل التنوير "خروجا" أو "منفذا" أو مقولة في الاختلاف. ووضع شرطان للخروج من نفق "القصور" والدخول في أفق "التنوير".الأول: التحرر من الشروط المؤسسية (روحيا، وأخلاقيا، وسياسيا) بحيث يتم الفصل وبحسم بين موضوعات الطاعة والامتثال" إن وجدت وموضوعات العقل. والثاني ملاشاة الفرق بين ما صكّته "البرغماتية الكانطية" من مصطلح حول الاستعمال الخاص والاستعمال العمومي للعقل. وهو ما يعتقده كانط بأن العقل يجب أن يكون حرا في استعماله العمومي بينما يجب أن يكون خاضعا في استعماله الخاص.
الإشكالية :
شهد التاريخ العربي المعاصر عدة أنماط لعلاقات المثقف ، ومن هذه العلاقات علاقة المثقف بالسياسة وعلاقة المثقف بالمجتمع ، فالمثقف في التجربة العربية المعاصرة لم تفارقه السياسة والمجتمع كمواضيع وثيقة الصلة به يؤثر كل طرف في الآخر ، فكانت السياسة والمجتمع دائمتي الحضور عند المثقف ونالتا اهتماماً نظرياً وفعلاً واقعياً ، فهناك هاجس كبير للمثقف بالسياسة فوفق نظر شريحة من المثقفين إن أفضل طريق لولوج المجتمع والتأثير عليه هو الدخول له من باب السياسة التي تعتبر أكثر الوسائل قدرة على إحداث التغييرات بما تملكه من سلطة ، فالسياسة تحول الفكرة إلى سياسة تطبق على أرض الواقع من خلال وضع الاستراتيجيات واتخاذ القرارات السياسية ، وباعتبار أن السياسة اهتماماً بالشأن العام الذي يصب فعلها في النهاية في المجتمع ، كان دخول المثقف للسياسة عن طريقين : إما طريق مباشر ويأخذ أشكال عدة أهمها الوصول لمنصب سياسي أو التحالف مع السياسي أو الخضوع لرغبة السياسي ، أو طريق غير مباشر وهذا أيضاً يأخذ أشكالاً عدة منها : المعارضة بإجبار السياسي على تمثل رأيه أو تنازل السياسي ليشاركه الغير في إدارة الشأن العام ، وحسب تجربة المثقف لم ينجح كثيراً الطريق غير المباشر بل يمكن القول أنه – بتطبيقه على تجارب عديدة معاصرة -كان تجربة لم تكتمل، وقد يراها البعض أنها أقرب " للفشل " منها للنجاح ، ومن هنا قد يكون من الصعوبة وجود مثقف - على الأقل في منظورنا القريب – يتجاهل أو يتغافل النظر للمجتمع والسياسة.
مما تقدم ، تبرز عدة أسئلة ،منها ما مدى صحة ارتباط المثقف بالسياسة ؟ وكذلك ما مدى صحة دخول المثقف المجتمع من بوابة السياسة ؟ وهل وضع المثقف أكثر جهوده في السياسة دون المجتمع ؟ بمعنى آخر لماذا اتجه المثقف للسياسة ولم يذهب للمجتمع ؟ وهل أصاب المثقف عندما اهتم بالسياسة دون المجتمع ؟
المثقف والسياسي في الفكر الغربي:
عرف الفكر الغربي المعاصر تساؤلات جمة طالت العلاقة المعقدة التي تربط بين الثقافة والقوة، ولن نتمكن من فهم وموضعة التساؤل في سياقه الحقيقي دون أن نمر على أهم التطورات المورفولوجية الملامسة للحساسية التفكيرية الغربية. ذهب الكثير من المفكرين الاحتجاجيين، سواء من مدرسة فرانكفورت مثل أدورنو وهابر ماس أو من نقاد العقل وتفكيكه من أمثال فوكو وديريدا ودولوز إلى تطوير دراساتهم وبحوثهم حول الطابع الأداتي الذي يكتنف العقل الغربي.
ويكاد يجمع هؤلاء على أن المفاتيح التحليلية والأدوات الإجرائية الحصيفة التي يمكن من خلالها مقاربة الحداثة الغربية المتسمة بالعقلانية والأنوار والفردانية لا تخرج من الداروينية والنيتشوية والميكيافلية.إذ يمكن اعتبار الحداثة الغربية بمثابة ردة فعل سيميترية ضد القرون الوسطى المنعوتة بالظلامية والتخلف والاستبداد الديني، ولهذا السبب بدأت ترتسم في الأفق قيم جديدة تحوم على الإنسان بعد أن كانت تدور حول اللاهوت.
ولكن بعد أن جاء نيتشه وبين بأن العالم تحركه إرادة القوة وليست إرادة الفضيلة، وتساير ذلك مع التفسير البيولوجي الدارويني الذي بين بأن أساس الطبيعة هو الصراع وناموسها هو البقاء للأقوى، وبعد أن أتضح البعد الواقعي للنظرية الميكيافلية في المجال السياسي..
بدأت تثار أسئلة ليس فقط حول العقل كما ذكرنا سابقا، بل حول القيم الإنسانية الجديدة التي استعاضها جيل الأنوار في مكان القيم التيولوجية القروسطية، وبعد أن تبلور خطاب استمد وعيا عميقا بالتحولات والانحرافات الجديدة وصل المجتمع الغربي إلى ما يمكن أن نطلق عليه أزمة القيم.
في كنف كل هذا، كيف يمكن لنا أن نحدد تلك العلاقة المعقدة بين المثقف والقوة؟
تبين عدة أنماط من المثقفين في علاقتهم بالسلطة؛ وليس المقصود هنا بالسلطة الأجهزة الحكومية الفوقية فقط بل كل علاقة رمزية قائمة على الهيمنة والنفوذ. فإن كان المثقف الريعي معروفا بتماهيه مع السلطة فإن هناك المثقف من يعد جذريا مناهضا لكل الحيل والألاعيب التي تستخدمها السلطة كاستراتيجيات للهيمنة؛ ولعل أحسن مثال يطلق على هذا النمط من المثقفين جون بول سارتر والكثير من المثقفين الإلتزاميين...
تخلخل نوعا ما هذا النوع من المثقفين بعد أن بين الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بطريقة مجهرية الألاعيب والاستراتيجيات التي تستثمرها السلطة للبقاء؛ خاصة بعدما بين بطريقة ذكية أن المعارضة الجذرية الراديكالية لا تنفي ولا تقضي على السلط الجاهزة بقدر ما تعيد إنتاجها من جديد.
لهذا بدأت في الفكر الغربي صيحات تنادي بنهاية المثقف الملتزم صاحب المشاريع والمدافع عن الأفكار والذاكرة. فانقسم المثقفون إلى تراجعيين:أي الذين أعطوا للمثقف دورا ثانويا في تحريك العالم والتاريخ، وتفاؤليين: أي الذين أرادوا أن يحافظوا على الدور الكبير المنوط بالمثقف كمبدع للمفاهيم بشرط أن يعي جيدا ويرقص مع السلطة دون أن يسقط في شراكها.
من البديهي أن المثقف - في أي مجتمع كان - يمتلك المقومات التي تؤهله لقيادة المجتمع، وهذا ما تجلي منذ دعوة أفلاطون لأن (يكون الفيلسوف علي رأس السلطة السياسية وهي أول دعوة تذكرها كتب التاريخ) (عالم الفكر معن زيادة) ص 2 -ص5.
ومن ثم الدعوة (الواقعية لأرسطو) للعمل التكاملي بين المثقف والسلطة (نفسه) ذلك لأن المثقف يمتلك رؤى ثاقبة، ولديه مقدرة هائلة تؤهله للقيام بالتحليل والتركيب إزاء أي ظاهرة، أو حدث، أو موقف، ولعل رؤاه تتسم علي الغالب بقوة البصيرة، ومقاربة الموضوعية)، كذلك أن المثقف الذي يمضي جل ساعات يومه وهو ينهل من بطون الكتب ، غير موجودة البتة عند غير المشتغل بالثقافة، والجاهل بها، مما يمنحه آفاقاً لامتناهية تدفعه للانحياز إلي ثقافته،ومعارفه ، وسعة مداركه بل وذاته مقارنة مع هذا الآخر (وهذا ما يجعله يتدرج شيئاًَ فشيئاً نحو حب الذات، ثم الشعور بالتمايز عن الآخر، وربما دونيته في مواقع وحالات معينه) وقد يتضخم بالتالي هذا الإحساس لاسيما أمام رفض الآخر له، أو الاستعلاء عليه بـ: المظهر - المال - السلطة - الجماهيرية - مما يدفعه بالتالي إلي مهاوي النرجسية، كرد فعلٍ علي هذا الإهمال والتهميش والاستعلاء غير المسوّغ.إن دراسة متأنية لسايكلوجيا الإنسان المثقف ستؤكد لا ريب أن اختلاف هذا الكائن البشري عن سواه، إنما هو نتيجة لعوامل كثيرة، لسنا هنا بصدد شرحها، ولكن، قد يدخل من ضمنها:
1 - عامل التربية والنشأة.
2 - إن علاقة الكاتب مع أدواته الكتابية تؤثر علي نحو واضح علي سلوكيته حيث أن إدمان القراءة، أو الكتابة، ومتطلباتها عادة من عزلة، وطقوس خاصة تؤثر علي نحو لافت علي علاقته مع المحيط وبل علي ذاته قبل كل شيء فهو ينفر من طقوس الآخرين راغب عنها، يستتفه مشاغلهم، وأساليب وأنماط حياتهم، وتضييعهم لأوقاتهم، ومن هنا فهو يولد عالمه الخاص، عالمه الأثير وكيف لا، مادامت اهتماماته جد مختلفة تماماً عن اهتماماتهم ولعل هذا التمايز كثيراً ما يجعل من الكاتب، ضحية عالمه، ضحية اهتماماته، ضحية ذاته، فهو سريع الغضب، سريع الرضا، الأمر الذي يجعله منكفئاً علي الذات معتكفاً منزوياً.
فإضافة إلي ما سبق ذكره عن الانسلاخ الطبقي، فإن هذا الأنموذج النيتشوي ليس شرطاً أن يكون عاما، ًينضوي في صفة هؤلاء الذين يكتوون بأكثر من نار: نار الأنظمة، الحاكمة ونار الوضع الطبقي ونار قيادات أحزابهم أيضاً، هذه القيادات التي تقع في تناقض صارخ أثناء تعاملها مع المثقف:
إنها تبدي خير تفهم لمقولة لينين في ضرورة استيعاب المثقف فتسرع إلي احتوائه، واعتباره في الغالب لسان حالها، ومثقف المؤسسة، بل وأحد رموزها الذين تتباهي بهم في السراء والضراء، وكثيرا ما تدفع به - تحت هذه الحمية - إلي المقدمة، وهذا ما هو واضح مرهون بتبعية قلم المثقف للمؤسسة، وفي حالات كثيرة للقلة المتنفذة في قيادة هذه المؤسسة.
بيد أنها سرعان ما تتراجع عن هذا الفهم وذلك إزاء تفاعل أبناء المؤسسة بل والجماهير الشعبية مع خطاب هذا المثقف، وتشكيله بالتالي خطراً علي القبضة القيادية المستبدة، التي تري في تألق أي اسم آخر ضمن المؤسسة الحزبية خطرا كبيرا علي حضورها، لا سيما إذا كانت مجترة لماضيها الثقافي بل عاجزة عن مواجهة الطروحات التي يطرحها المثقف ضمن مؤسسته، ناهيك عن قضية خطيرة برأي هذا المؤسسة هي أنها سرعان ما تفقد صوابها فيما لو انقلب المثقف علي ما تراه ركائز لها حتى وان كان ذلك إعادة تقويم شخصيات ما ضمن هيكلها، بعد انجلاء غشاوة ما عن عينيه، أو حتي اتخاذ مواقف مناقضة، نتيجة تغير آرائه.
الإرهاصات الأولى للحديث عن المثقف العربي من خلال علاقته بالسلطة:
التنوير لم يكن عصرا ولا حقبة، وإنما شكل "خروجا" أو "منفذا" أو مقولة في الاختلاف. وأن دور المثقف يكمن في توكيده الاختلاف. وعليه يمكننا القول بأن وجود المثقف العربي التنويري المتفرد لم يقتصر على حقبة زمنية بعينها وإنما وجد في الحقب الزمنية المختلفة: حقبة ما قبل الإسلام، والحقبة الإسلامية، والحقبة التنويرية الذهبية، وحقبة الحداثة، وحقبة ما-بعد الحداثة، وسنتناول نموذجا لمثقف عربي على كل حقبة من تلك الحقب، لنثبت بذلك بأن مشروع التنوير العربي وجد بأكثر من حقبة زمنية ولم يقتصر على حقبه بعينها حيث وجد أينما تشكل الخروج والتفرد والاختلاف، فالاختلاف طريق الحرية، والحرية تتكون من ثلاثة أجزاء وهي خلق حركة، وتحكم باتجاه الحركة، والمحافظة على نفس المثقف سليما معافى حتى بلوغ الغاية، والمثقف العربي إن لم يكن قد حافظ على الجزء الثالث من الحرية في بعض الأحيان، إلا أنه بتفرده وخروجه واختلافه أستطاع أن يؤسس في أكثر من مرحلة مشروع تنوير عربي قوامه تعاقدُ "عقل حر" مع "استبداد مستنير" وهو ما سنبينه من خلال الأمثلة التي سنوردها فيما يلي:
1- حقبة ما قبل الإسلام المثقف "شاعرا صعلوكا":
عنترة العبسي، واسمه عنترة بن عمرو بن شداد بن قراد العبسي وشداد جده غلب على اسم أبيه، يمثل نموذجا للمثقف "الشاعر الصعلوك" في الحقبة ما قبل الإسلام. وقد تصعلك خارجا على عادات القبيلة التي عيرته بلونه الأسود ولم تعترف بنسبه، وممزقا لأعراف القبيلة وقواعدها، وذلك أنه كان ابن أمة سوداء يقال لها زبيبة وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة أستعبده، فنشأ في نجد عبداً يرعى الإبل محُتَقراً في عين والده وأعمامه، لكنه أنه أبى إلا أن يكون الشاعر نفسه ولا شيء سواه فتنبع شجاعته من داخله لا من خارجه ولونه الأسود الذي تحتقره القبيلة، فكان شديداً بطاشاً شجاعاً, كريم النفس كثير الوفاء، وكان يكنّى بأبي المغلس لسيره إلى الغارات في الغلس وهو ظلمة الليل، ويلقب بعنترة الفلحاء.
استطاع بشجاعته أن يحقق حريته التي طالما حلم بها، حينما أغار بعض العرب على عبس وأستاقوا إبلهم فقال له أبوه: كُرّ يا عنترة فقال: العبدُ لا يحسن الكَرّ إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر, فقال له أبوه: كُرّ وأنت حُر, فهب عنترة كالإعصار يدفعه حب الحرية إلى فعل المستحيل. فهزم الأعداء ورد الإبل فادّعاه أبوه وألحقه بنسبه. وبذلك نال حريته، وشارك عنترة في حروب داحس والغبراء، حتى كان الأبطال يخشون نزاله. وأصبحت شجاعته أسطورة يرددها العرب إلى يومنا هذا. أحب عنترة عبلة بنت عمه مالك بن قراد العبسي، وكان عمه قد وعده بها ولكنه لم يف بوعده، وإنما كان يتنقل بها في قبائل العرب ليبعدها عنه. لقد تفرد عنترة بحبه لعبلة وكان هذا التفرد من خلال قصائده ومعلقاته التي لم تكد تخلو من ذكر محبوبته عبلة، وهي سبب تلك المرارة واللوعة اللتين ربما لم تكونا في شعره لولا حرمانه إياها، وأصبح الحبيب الصادق في حبه، وبذلك خلد أسطورة الحب الصادقة إلى يومنا هذا.
إذا كان الشنفرى الشاعر الصعلوك الخارج عن قومه والرافض لهم والباحث عن قوم آخرين غير قومه متفردا بهذا الرفض لقومه، فإن عنترة كان الشاعر الصعلوك الذين رفضه قومه إلا أنه أجبرهم على تقبلهم له وتفرد بكسر عادات قومه وبهذا الإجبار على قبوله. وقد مثّل عنترة (المثقف) مع القبيلة (السلطة) مشروعا ناجحا، فرغم كونه ينتمي إلى طبقة العبيد إلا أنه تفرد عن تلك الطبقة بأن حارب سلطة قبيلته من أجل الحصول على الحرية التي حلم بها دوما وحارب من أجل تحقيقها، فاستطاع أن يكسر حاجزا تقليديا سائدا بالقبيلة بأن أجبر والده على إلحاقه بنسبه رغم أنه ابنا لأمة، لم تكن تسمح عادات القبيلة (الظالمة) يوما بإلحاق أبناء الأمات بالأشراف، وهو ما يعبر عن الصراع الطبقي الذي ثار عليه عنترة وتفرد خلاله عن غيره بما قام به، هذا الصراع الطبقي هو ذاته العامل الاجتماعي وهو أحد العوامل الثلاثة التي أشار إليها يوسف خليف في تفسيره لظاهرة الصعلكة في العصر قبل الجاهلي، فتفسير ظاهرة الصعلكة كانت بسبب ثلاثة عوامل العامل البيئي والعامل الاقتصادي والعامل الاجتماعي.
2- الحقبة الإسلامية :
الحسين بن علي هو نموذج للمثقف التراجيدي الانتحاري في الحقبة الإسلامية الذي يموت من أجل الفكرة من أجل المواجهة. كان يحمل السلم بالعرض ولم يحافظ على الحرية بجزئها الأخير. المثقفون من وجهة نظر جوليان بندا عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة يجب "أن يتحلوا بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، وان يشكلوا ضمير البشرية" ، وفي كتابه (خيانة المثقفين) تعرض إلى المثقف التراجيدي الانتحاري الذي لم يستطع أن يحافظ على نفسه، فخيانة المثقفين بالنسبة إليه ليس تزويرهم لمواقفهم وإنما عدم محافظتهم على أنفسهم وبذلك تتم خسارتهم.
الحسين تربى في بيت النبوة وشهد سنة 35هـ مبايعة والده علي بن أبي طالب بالخلافة ثم خروجه معه إلى الكوفة، وشهد معه موقعة الجمل وصفين. وكانت الحركات الثورية التي أخذت تنشأ منذ السنة الأربعين للهجرة، السنة التي قتل فيها علي(رضي الله عنه)، أرضا خصبة لنشوء كثير من عناصر التحول، وبدأت هذه الحركات في شكل معارضة للحكم الأموي. وبعد استشهاد والده أقام بالكوفة عند أخيه الحسن ورغم أنه لم يعجبه تنازل أخيه الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان وكان رأيه بالقتال، إلا أنه أطاع أخاه وبايع معاوية، ورجع معه إلى المدينة وأقام معه إلى أن مات معاوية سنة 60هـ. لما تولى يزيد بن معاوية الخلافة، بعث إليه الوليد بن عتبة ليأخذ البيعة، فامتنع الحسين عن البيعة وخرج إلى مكة وأقام فيها. وقد تمثلت معارضة الحسين في ثلاثة مبادئ الأول يقوم على أن أهل البيت أولى بالخلافة، والثاني يقوم على أن أصحاب الخلافة من آل أمية يدعون ما ليس لهم ويسيرون في الناس بالجور والعدوان. والثالث أن من لم يغير الجور بالقول والفعل يكون هو نفسه بمنزلة الجائر. ثم أتته كتب أهل الكوفة في العراق تبايعه على الخلافة وتدعوه إلى الخروج إليهم.
كانت معركة كربلاء غير متكافئة، فقد كان جيش الأمويين يزيد بـ (30) ألف عن أنصار الحسين بن علي، لذا فهي مذبحة في وضح النهار. إلا أنه ثار من أجل إصلاح الوضع والإطاحة بحكم يزيد، وبموته نستطيع القول إن الإسلام تجزّأ إلى سنة وشيعة .