المصدر: السياسة الدولية
بقلم:
عمار على حسن البيئة والعلاقات الدولية. مفاهيم واقترابات حديثة
ما يطرأ على ـ البيئة ـ من كوارث طبيعية بحتة، أو كنتيجة غير مباشرة لتدخل البشر، فرض نفسه على العلاقات الدولية، فى شقيها الذى يدور حول الصراع والتعاون وكذلك التباعد والتكامل ـ فالعلاقات الدولية فى أبسط تعريفاتها هى العلميات التى تجرى عبر الحدود، شاملة ما هو سياسى واقتصادى واجتماعى وعسكرى وتقنى ـ وهذه ألوان أو أنواع، للكوارث البيئية المصطنعة والطبيعية نصيب فى كل منها، لأنها فى خاتمة المطاف قضية سياسية، أن أدت إلى توتر أو تفاهم بين دولتين، أو عدة دول، وقد يتطور النزاع حولها إلى صدام مسلح، يفتح قضية البيئة والكوارث المرتبطة بها على الجوانب العسكرية كما أن للبيئة ـ ثمنا ـ اقتصاديا، لارتباطها المباشر بقضايا التصنيع والصيد والزراعة واستصلاح الأراضى، والتنمية المستدامة، أو المستمرة.
ونجم عن هذا الوضع ثلاث مسائل رئيسية، هى:
أ ـ ما فرضته البيئة من تحديات مهمة لنظرية العلاقات الدولية، فى وقت احتلت فيه قضايا البيئة موقعا متقدما على جدول الأعمال الدولى لجيل كامل من الزعماء السياسيين، والمسئولين وصناع القرار، ورجال الصناعة ومهندسيها، والعلماء بمختلف تخصصاتهم، والمواطنين الغيورين على صحة الإنسان، وثراء الطبيعة.
ب ـ ما جرى من توزع الجدل العلمى حول البيئة على مختلف نظريات العلاقات الدولية فالعلماء الذين عكفوا على دراسة هذا الأمر ينتمون إلى مدارس وتوجهات مختلفة، واستغل كل منهم تعقد هذا الموضوع وتشعبه، ليجذب القضية إلى المساحة النظرية التى يقف عليها، مستخدما العديد من الأدلة التى تدعم وجهة نظره، سواء أكان من أصحاب النظرية ـ الواقعية ـ ، أم ـ الواقعية الجديدة، أم ـ التعددية، أم ـ المؤسساتية الليبرالية، أم ـ البنيوية، أم ـ الماركسية الجديدة، أم ممن يطالبون بالمساواة بين الجنسين.
ج ـ وجود همزات وصل بين البشرى والطبيعى فى الكوارث، بل أن العلاقة بين الاثنين تصل إلى حد السببية فى بعض الظواهر فبعض العلماء يرى مثلا أن إعصار كاترينا الذى ضرب الولايات المتحدة الأمريكية نجم عن ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية، وعن عدم مطابقة تخطيط مدينة نيو أورلينز، التى اجتاحها الإعصار، لشروط حماية البيئة، من زاوية تجفيف معظم الأرض الرطبة التى تحيط بالمدينة، والتى كان من شأنها أن تمتص جزءا كبيرا من مياه الفيضان وهذه حالة من حالات الاستخدام البشرى الجائر للطبيعة، والذى يخل بالتوازن البيئى والأيكولوجى، والذى دفع مؤتمرا للأمم المتحدة، عقد بجنيف عام 2004 إلى أن يربط بين تغير مناخ الكرة الأرضية والتحول الحضرى السريع فى دول كثيرة، وبين الكوارث الطبيعية، ويبرهن على ذلك بلغة الأرقام فحتى عام 1990، شهد العالم 261 كارثة طبيعية، تضرر منها نحو 90 مليون شخص وفى 13 عاما فقط، بين 1990 و 2003، وقعت 76 كارثة أضرت 164 مليون شخص وبصفة عامة، يثير اقتحام البيئة لنظريات العلاقات الدولية عدة مسائل مهمة، منها.
1 ـ أنسنة العلاقات الدولية:
وهذه مسألة تبدو طوباوية فى ظل علاقات دولية تجنح إلى التنافس والصراع أكثر مما تميل إلى التعاون والتكامل، ودفع العالم إلى شريعة الغاب وتجد هذه الرؤية ظلها فى ـ القانون الدولى الإنسانى ، الذى لم يكتف بتنظيم علاقات الدول وقت السلم، بل امتد إلى ساحات الحرب، لحماية المتضررين من النزاعات المسلحة وجسد قانونا ـ جنيف ولاهاى ـ هذا الأمر، فالأول يتعلق بحماية فئات معينة من الأشخاص والأموال الثابتة والمنقولة، فى حين ينظم الثانى استخدام وسائل القتال وطرقه وسلوك المتحاربين وكل ما سبق يمثل ـ قانون الحرب ، وهو الحد الذى لم يقف عنده فقهاء القانون الدولى، بل طرحوا مفهوما أكثر تقدما، هو القانون المضاد للحرب، أو منع ـ حق الحرب، باعتبار أن حظر الحرب يجب أن يكون هو الأصل وتسير قضايا البيئة والكوارث الطبيعية على المنوال ذاته، إذ أن الجهود التى بذلت من أجل بيئة نظيفة وآمنة، دارت فى الأساس حول علاقات دولية ـ إنسانية، يتكاتف فيها البشر من أجل مصالحهم المشتركة، ويتعاملون فى الوقت ذاته برفق ورحمة مع الكائنات الأخرى التى تعيش معهم من حيوان ونبات ويدل استعراض الاتفاقيات البيئية الرئيسية متعددة الأطراف على هذا الأمر بجلاء، فالاتفاقية الدولية لتنظيم صيد الحيتان (1946) تمكنت بعد إقرارها بتسعة وثلاثين عاما من تعليق صيد هذا الحيوان النادر لأغراض التجارة، وإقامة محميات طبيعية له وهناك اتفاقية ماربول (1973)، التى تضع قواعد تفريغ النفط وغيره من المواد الضارة من السفن، بما يحمى البحار من التلوث وفى العام نفسه، وقعت اتفاقية لمنع الاتجار الدولى فى الحيوانات المهددة بالانقراض وبعدها بست سنوات وقعت اتفاقية للحد من التلوث الجوى وفى عام 1985 وقعت اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، ثم بروتوكول مونتريال (1987) المتعلق بالمواد المستنفدة من الأوزون وبعد ذلك بخمس سنوات، جاءت اتفاقية الأمم المتحدة حول ـ تغيير المناخ ، تبعها بعد خمس سنوات أيضا بروتوكول كيوتو حول المسألة نفسها وقد أقرت هذه الاتفاقية بالمسئولية التى تقع على عاتق البلدان المتقدمة عن التغير المناخى الذى ينجم عن أفعال البشر، وفى عام 1992، وقعت اتفاقية الأمم المتحدة المعنية بالتنوع الإحيائى، وبروتوكول قرطاج بشأن السلامة فى التقنية الإحيائية ورغم أن هذه الاتفاقيات لم تلق تطبيقا كاملا، وتشهد انتهاكا لبنودها، خاصة من الدول الكبرى، فإن النضال مستمر فى سبيل تنفيذ كل ما حوته، فى سبيل نفع البشرية كافة، وتعزيز الجانب الإنسانى فى علاقات الدول، ودفع الدول الكبرى إلى أن تلتفت إلى توجيه جزء من ميزانياتها الضخمة إلى البيئة، ودرء الكوارث، وإدارة الأزمات التى ينتجها ـ غضب الطبيعة، ومساعدة البشر على التغلب على الأخطار التى تحدق بهم، ومنها الأمراض الخطيرة، بدءا من ـ سارس ـ (الالتهاب الرئوى الحاد اللانمطى) فى آسيا إلى ـ جنون البقر ـ فى أوروبا، إلى ـ الإيدز ـ و أنفلونزا الطيور فى كل أنحاء العالم.
2 ـ تسييس الطبيعة:
ما من شك فى أن حياتنا صارت مسيسة بشكل أو بآخر، فقد أصبحت السياسة متداخلة مع الكثير من سلوكنا وعاداتنا اليومية، وامتد ذراعها، فطوق كل ما كنا نعتقد فى الماضى أنه بعيد عنها كل البعد وعملية تسييس الظواهر الاجتماعية كانت هى الآلية التى ميزت علم السياسة فى القرن العشرين عن القرون التى خلت فقديما، كان هناك فرق واضح بين السياسى والأخلاقى فالإجهاض، مثلا، كان فى القرن التاسع عشر مسألة أخلاقية، وكان وضع الأسرة ومسائل الصحة والتربية بعيدا عن اهتمامات السياسة، باسم احترام الحياة الخاصة أما فى القرن العشرين، فتم توسيع ميدان السياسة، ليشمل كل المسائل السابق ذكرها، وامتدت شبكة التفسير السياسى إلى كافة النشاطات الإنسانية، بل وصلت إلى الظواهر الطبيعية فعدم هطول المطر، أو وقوع الزلازل، يبدو لأول وهلة أمرا بعيدا عن السياسة، لكن إعادة النظر فى هذه المسألة ستقود إلى نتيجة مفادها أن السياسة تقع فى قلب هذه الظاهرة الطبيعية فبعض الناس يعتقدون أن هذه الكوارث نجمت عن غضب الله سبحانه وتعالى على الحكام، لظلمهم وفسادهم وفى كل الأحوال، فإنهم سيلجئون للسلطة لتنقذهم مما حل بهم من خسائر، وعليها أن تستجيب، فى هذه الأوقات الحرجة، حفاظا على الشرعية وضمانا للاستقرار السياسى فى ظل هذا الفضاء العام لتسييس الظواهر، تأتى الكوارث الطبيعية لتلقى بنفسها فى غمار العملية السياسية، فى بعديها المحلى والدولى فهذه القضايا برزت فى نهاية القرن العشرين إلى واجهة الاهتمامات السياسية العالمية، فهى حتى فى جانبها التقنى تستدعى استجابات سياسية وجاء رد الفعل السياسى على ما فرضته البيئة من قضايا فى شكل استحداث أنظمة ومؤسسات للتحكم فى البيئة، وإبرام اتفاقيات عالمية بشأنها، وقيام أنماط عدة من التفاعلات الدولية حولها.
3 ـ إنتاج فاعلون دوليون جدد:
فنظرية العلاقات الدولية التقليدية كانت تنظر إلى الدولة على أنها الفاعل الرئيسى فى النظام الدولى، لكن التاريخ الحديث والمعاصر شهد ميلاد ـ فاعلين دوليين ـ آخرين وكان لقضية البيئة نصيب فى هذا المضمار فخلال عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، ولدت ونمت حركات ـ الخضر ـ والعديد من المنظمات البيئية والصناعية غير الحكومية، وراحت تمارس دورا عالميا فى سبيل الحفاظ على البيئة، جنبا إلى جنب الدول وقد تمكنت هذه المنظمات من إيجاد حالة من المعارضة ضد صيد الحيتان، وامتد نشاطها إلى مقاومة التلوث الإشعاعى والنفطى، وأصبح بعضها، مثل ـ الصندوق العالمى للحياة البرية ـ و ـ المعهد الدولى للبيئة والتنمية ـ ، يقدم النصح للحكومات، بشكل دورى، وتمكن بعضها من الحصول على صفة مراقب فى مؤتمرات الأمم المتحدة حول البيئة، بل أن بعضها يحضر ضمن الوفود الوطنية الممثلة فى هذه المؤتمرات وهذا الحضور الفعال جعل هذه المنظمات تتحدث، شأنها فى ذلك شأن منظمات نظيرة تهتم بقضايا أخرى، عن ـ المجتمع المدنى العالمى.
4 ـ إذكاء جدل ـ "السيادة" و "العولمة":
فما فرضته العولمة قسرا أو بالتراضى، نال كثيرا من المفهوم التقليدى لسيادة الدول، إذ لم يعد بمقدور الأخيرة أن تدعى أن لها حدودا بوسعها أن تمنع تدفق السلع والمعلومات، وأن بإمكانها رفض مطالب مؤسسات ـ المجتمع المدنى العالمى، خاصة تلك المهتمة بحقوق الإنسان والتبشير بالقيم الديمقراطية ولم يعد بمقدر أى حكومة أن تعزل البلد الذى تقوده عن العالم، أو تجرم أى مواطن يتصل بالهيئات الدولية المختصة، أو حتى وسائل الإعلام الخارجية، ليشكو إليها ظلما وقع عليه، أو يناشدها أن تساعده فى دفع ضرر طاله، ولم تمكنه الظروف القائمة والإجراءات المتبعة فى بلاده من أن يدفعه، أو يرفعه عن كاهله ويزداد هذا التصور رسوخا حال تأسسه على أفكار بعض علماء العلاقات الدولية بشأن التفرقة بين ـ الحقوق المدنية وحقوق المواطنة، حيث يكون الفرد مواطنا فى المجتمع الوطنى المتمتع بالسيادة، وهو فى الوقت نفسه مدنى فى المجتمع العالمى ومن هنا، يكون له نوعان من الحقوق، الأول بوصفه مواطنا محليا، والثانى لكونه فردا عالميا، فإذا أضرت حكومته الوطنية بحقوقه العالمية، بات من حق المجتمع الدولى أن يتدخل لحمايته، خاصة أن سيادة أى دولة حسبما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسى جان جاك روسو، هى مجموع سيادة الأفراد الذين يكونون هذه الدولة، وليست سيادة السلطة فقط حسبما تذهب أنظمة كثيرة فى العالم الثالث، تجور على حقوق مواطنيها بدعوى التمسك بالسيادة الوطنية وجاءت قضايا الكوارث البيئية لتضيف زخما جديدا إلى الجدل الدائر حول حدود سيادة الدولة فى ظل تجبر العولمة فالمشكلات البيئية التى تتخطى الحدود تفرض تحديات الأفكار السائدة حول سيادة الدولة، لاسيما أن هذه المشكلات نادرا ما تنتجها سياسات وطنية متعمدة، بل هى فى الأساس تنجم عن تأثيرات جانبية غير مقصودة لعمليات اقتصادية ـ اجتماعية أوسع نطاقا ومع ذلك، فإن البيئة أخف وطأة على سيادة الدولة من قضايا ـ حقوق الإنسان والمواطنة ـ فالاستجابات، حيال ما على البشرية فعله من أجل بيئة نظيفة وطبيعية، أدت فى بعض الأحيان إلى توسيع نطاق سلطة الدولة، وتعزيز مشاركتها المجتمع الدولى برمته هذه الهموم وهنا، تلعب الدولة دوما دور الطرف القانونى فى أى معاهدات دولية حول البيئة، منطلقة فى كثير من الأحيان من تصورها لما يقع فى نطاق سيادتها، وما يجب عليها تقديمه من تنازلات لمقتضيات العولمة ـ 5 ـ رسم حدود القوة:
فالكوارث الطبيعية، خاصة الضخمة، باتت محكا مهما لاختبار حدود القوة، إذ إنها تكون فى كثير من الأحيان فادحة إلى درجة لا تستطيع أى دولة بمفردها أن تواجهها، مهما تكن قدراتها، ومهما تعل مكانتها بل أن جميع دول العالم غنية أو فقيرة، سواسية أمام هذه الكوارث فعلى سبيل المثال لا الحصر، ظهرت الولايات المتحدة هشة إلى حد كبير فى مواجهة إعصارى ـ كاترينا ـ و ـ ريتا ـ وأثارت شفقة حلفائها وأعدائها على حد سواء، الأمر الذى عكسته بجلاء عروض التبرعات فقد وصل الأمر إلى عرض أفغانستان تقديم مائة ألف دولار لمساعدة ضحايا الإعصار، وتصاعدت حملة التبرعات من 5 ملايين دولار للبحرين إلى 100 مليون لقطر و500 مليون للكويت مرورا بمليون دولار لنيجيريا وخمسة ملايين للهند، وانتهت الرحلة إلى ألد أعداء الولايات المتحدة، كوبا وإيران، فالأولى عرضت إرسال ألف طبيب و26 طنا من الأدوية، والثانية أبدت استعدادها لإرسال مساعدات إنسانية لضحايا الإعصار وهنا، تعزز قضية الكوارث الطبيعية الأطروحات التى قدمها العديد من علماء العلاقات الدولية، حين بلغ الغرور منتهاه بالولايات المتحدة الأمريكية، عقب سقوط الاتحاد السوفيتى، فتصرفت فى سياساتها الخارجية على اعتبار أن بوسعها أن تفعل أى شىء منفردة، من أجل تحقيق مصالحها، بما فى ذلك خوض الحرب، وإسقاط الأنظمة الحاكمة التى لا تروق لها فوقتها، خرج باحثون ومفكرون كثيرون، بمن فيهم أمريكيون، وحذروا من عواقب هذا ـ الغرور ـ ، وطرحوا رؤى مغايرة، مفادها أن للقوة حدودا، وأن أى دولة مهما تعل فهى فى حاجة إلى مساعدة الآخرين، بدءا من النصيحة وحتى التعاون فى صورته المادية الظاهرة والموسعة وفى الوقت الراهن يعيد أنصار البيئة إنتاج هذه الرؤية، مؤكدين أن العالم بحاجة إلى التكاتف من أجل التغلب على المشكلات التى تنجم عن الكوارث الطبيعية.
6 ـ المعرفة ركيزة للقوة:
فكثيرا ما تحدث المثقفون والفلاسفة عن أن المعرفة سلطة، وقدمت مدرسة ـ الواقعية التقليدية ـ فى العلاقات الدولية تصورا موسعا حول ركائز قوة الدولة، لكنها لم تعط ـ المعرفة ـ ما تستحقه من اهتمام وجاءت قضايا البيئة لتقدم برهانا عمليا على ما للمعرفة من سلطان، بل وتضفى عليه بعدا دوليا، من خلال ما سمى ـ الجماعات المعرفية، وهى مجموعة الخبراء الذين تتخطى اهتماماتهم وأنشطتهم حدود القوميات، وينحازون إلى المعرفة ويعلون من دورها، دون نظر إلى دولة أو مجتمع بعينه، ويجمعهم فهم مشترك لقضية أو مشكلة، أو استجابات سياسية مفضلة ويزيد من سلطان هذه المجموعة أن بعض جوانب قضايا البيئة ذات طابع تقنى وعلمى معقد من جهة، وأن الكوارث الطبيعية أصبحت مشكلة عالمية، ولا تقتصر على بلد أو إقليم معين، من جهة ثانية.
7 ـ الاهتمام بالتنمية المستدامة:ـ فهذا المفهوم، الذى تستعمله الأدبيات الاقتصادية بإفراط، ولد من خلال المناقشات التى دارت حول البيئة والاقتصاد، وظهر تحديدا فى التقرير الصادر عام 1987 عن ـ اللجنة العالمية للبيئة والتنمية ـ التابعة للأمم المتحدة، والمعروفة بـ لجنة بورنتلاند ـ، ورمى إلى أن تضع الخطط الاقتصادية فى حسبانها عدم الجور على البيئة من جهة، وعلى احتياجات الأجيال القادمة من جهة ثانية، وإيجاد حالة من التوازن بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية وحماية البيئة فالإفراط فى استخدام الموارد الطبيعية، من أجل تلبية الاحتياجات الآنية، يكون على حساب المطالب الآتية، خاصة أن صوحب استعمال الموارد بتلويث للبيئة وتدمير لبعض الثروات الطبيعية، وفتح الطريق أمام حدوث كوارث طبيعية، أو زيادة حجم الأضرار التى تنجم عن أى إعصار أو فيضان أو زلزال أو بركان.
ورغم أن هذا المفهوم لا يزال موضع خلاف بشأن تطبيقه، إلا أنه يشكل علامة من علامات المجتمع الدولى المعاصر، خاصة بعد تشكيل لجنة التنمية المستدامة، التى تعمل مع ـ مرفق البيئة العالمية ـ تحت مظلة برنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى وتتألف هذه اللجنة من ممثلين عن 53 دولة، يتم انتخابهم لولاية تمتد إلى ثلاث سنوات، بطريقة تضمن تمثيلا جغرافيا متوازنا وعادلا، وتعكس فى خاتمة المطاف اهتماما عالميا متزايدا بحقوق الأجيال اللاحقة فى بيئة نظيفة وموارد طبيعية متوافرة بقدر معقول، وقدرة فائقة على درء الكوارث، أو إدارة فعالة للأزمات التى تنشأ إثر الكوارث الطبيعية، التى تشل فى بعض الأحيان الأجهزة العصبية لأى دولة، فتقف حائرة مترددة، أو تتأخر فى عمليات الإنقاذ.
-القمة العالمية المخصصة للتغيرات المناخية.
انتهت أعمال القمة العالمية المخصصة للتغيرات المناخية التى عقدت فى الفترة بين 28 نوفمبر و10 ديسمبر 2005 بمدينة مونتريال فى كندا بنجاح، وذلك بغض النظر عن رفض الولايات المتحدة الأمريكية الانضمام لأى اتفاق ملزم وتعد هذه القمة هى الأولى من نوعها منذ أن دخلت اتفاقية كيوتو حيز التطبيق الإلزامى فى 6 فبراير 2005، والتى تمت صياغتها فى عام 1997 كرد فعل عالمى لأدلة علمية تربط التزايد فى انبعاثات غازات الاحتباس الحرارى بالتغير المناخى العالمى، وقد حضر القمة نحو 200 دولة و2500 مندوب و4500 منظمة غير حكومية و120 وزيرا للبيئة.
وقد وصف ريتشارد كينلى، القائم بأعمال رئيس أمانة الأمم المتحدة المعنية بالتغيرات المناخية، القمة بأنها من أكثر المؤتمرات الخاصة بالتغيرات المناخية التى عقدتها الأمم المتحدة إثمارا حتى الآن، قائلا: هذه الخطة تجدد المسار للتحرك فى المستقبل فى شأن التغيرات المناخية ـ وجاء نجاح القمة ليخلق جوا من التفاؤل حول مستقبل مكافحة الاحتباس الحرارى، حيث نجح المشاركون فى الاتفاق على تمديد اتفاقية كيوتو إلى ما بعد عام 2012 لمواصلة مكافحة الاحتباس الحرارى ومن هذا المنطلق حثت القمة الدول الغنية على اتخاذ قرارات بشأن تعهدات جديدة فى أقرب وقت ممكن، وطالبت 40 دولة صناعية بالحد من انبعاث غازات الاحتباس الحرارى لديها بنسبة 5.2 فى المتوسط خلال الفترة من 2008 وحتى 2012 وقد أعفت قرارات القمة الدول النامية من أية التزامات فى مرحلة ما بعد 2012، حيث تشير تقديرات أمانة الأمم المتحدة إلى أن الدول النامية تسهم فى انبعاث 35% من غازات الاحتباس الحرارى، ولكن حصة الفرد فى تلك الدول تعتبر هزيلة جدا بالمقارنة بالدول المتقدمة وقد وجاء هذا القرار خوفا من أن تؤثر هذه الالتزامات على عملية التنمية الاقتصادية فى الدول النامية وقد تبنى أطراف اتفاقية كيوتو العمل على مساعدة الدول النامية لتخفيف انبعاثاتها لغازات الاحتباس الحرارى وربما كانت القرارات الأكثر أهمية، فيما يخص مكافحة الاحتباس الحرارى هى القرارات المتعلقة بتأسيس نظام للتأكد من التزام الدول بتطبيق اتفاقية كيوتو، وتم على هذا الأساس انتخاب لجنة معنية بهذا، إضافة إلى انتخاب فروع للجان المعنية بتنفيذ وتسهيل تطبيق الاتفاقية وقد وصف وزير البيئة الكندى، ستيفان ديون، نتائج القمة بأنها ـ إنجاز تاريخى يعزز قدرة المجتمع الدولى على التصدى للمخاطر الكارثية للاحتباس الحرارى ـ ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية، وهى أكبر مصدر لانبعاث غازات الاحتباس الحرارى، لم تصدق حتى الآن على اتفاقية كيوتو فبرغم أن إدارة كلينتون قد وقعت الاتفاقية فى عام 1998 ـ وبالتالى ألزمت الولايات المتحدة بخفض انبعاثاتها لغازات الاحتباس الحرارى بنسبة 7% فى الفترة بين 2008 و2012 ـ فإن الرئيس الأمريكى السابق قد فشل فى إقناع مجلس الشيوخ بالتصديق على الاتفاقية وفى عام 2001، سحبت إدارة بوش التوقيع وتمسكت بهذا القرار أثناء القمة العالمية هذا العام، حيث رفض الأمريكيون من البداية اتفاقية كيوتو وأى نقاش حول مستقبل المفاوضات عبر الأمم المتحدة حول التغير المناخى، فضلا عن رفضهم لأى اتفاق يلزم الولايات المتحدة بأية التزامات مادية أو معنوية فيما يخص سياساتها المناخية وقد عبر السيناتور الأمريكى جيمس اينهوف ـ وهو رئيس اللجنة البرلمانية للبيئة والأعمال العامة ـ عن وجهة نظر الولايات المتحدة فى هذا الصدد، عندما قال:
- إن اقتناعى يزداد بأن ارتفاع حرارة الأرض هو أكبر خدعة مورست على الشعب الأمريكى وعلى العالم ـ ، وأكد أن هذه الاتفاقيات متناقضة مع الازدهار والحرية ومن هنا، جاءت أهمية حضور الرئيس الأمريكى السابق، بيل كلينتون، الذى انتقد صراحة السياسة الأمريكية فيما يخص هذا الموضوع، وحثها على الانضمام للاتفاقية وفى مواجهة الانتقادات الشديدة ضد السياسة الأمريكية فى هذا الصدد، تغير الموقف الأمريكى نسبيا، فوافقت الولايات المتحدة على دخول مفاوضات غير ملزمة فى هذا الشأن لكن فى النهاية، جاء نجاح هذه القمة ليؤكد المخاوف المتزايدة من الكوارث الطبيعية، وليعزز أهمية العمل العالمى المشترك من أجل مكافحة مصادر تلك الكوارث، وأهمها التغير المناخى والتزايد فى الاحتباس الحرارى، فمعظم الكوارث الطبيعية تحدث نتيجة لتطرف العوامل المناخية وقد عبر أمين عام الأمم المتحدة عن مخاوفه تجاه تزايد حالات تطرف العوامل الجوية خلال الأعوام القليلة الماضية، وعبر كذلك عن قلقه المتزايد من أن تستمر هذه الظاهرة ومن هذا المنطلق، تعتبر هذه القمة خطوة مهمة تجاه الالتزام الدولى لمكافحة الاحتباس الحرارى، وبالتالى العمل على حماية البشرية من أهم مصدر للكوارث الطبيعية.