العرف والقانون الوضعي
ترتبط غاية القانون بطبيعة الاجتماع البشري المرتبط بطبيعة المصالح فيه، ويقوم الاجتماع البشري على عامل التناقض والتبادل بين المصالح الاجتماعية من ناحية، وعامل التوافق والتناغم والتكامل بين هذه المصالح من ناحية أخرى.
فعامل التناقض والتباين يشكل بطبيعة المعيار الأساسي الذي يميز أطراف المجتمع بعضها عن بعض، نظرا لما يقوم به كل قطاع من قطاعات المجتمع من وظائف تتباين بطبيعتها عن وظائف القطاعات الأخرى نتيجة تباين الخبرات والمصالح والغايات. مما يترتب عن ذلك توزيع المجتمع إلى عدد من الجماعات يكون منها أنشطته الخاصة ومصالحه وأهدافه التي يدافع عنها.
أما عامل التكامل والتناغم، فيشكل المعيار الأساسي الذي يمكن مختلف الجماعات في المجتمع من أن تقوم بوظائفها الاجتماعية بطريقة تؤدي في النهاية إلى تحقيق الغاية الأساسية التي يقوم عليها أمن المجتمع و استقراره، وتحقق له بالتالي أسباب القوة والمتعة والرفاهية. لأن “الناس ما خلقوا ليتفقوا في الأفكار والآراء والمذاهب والسياسات، ولكنهم خلقوا ليتحدوا رغم الاختلاف وليناضلوا في جبهة واحدة نحو هدف واحد يجمعهم. فهل هناك هدف أسمى من الحرية؟”[1]من ثم فالتنظيم الاجتماعي البشري الوضعي في عرضة للتغيير باستمرار، ذلك لأن مدى استقراره إنما يرتبط أصلا بمدى التعاون بين عمليتي الاختلاف والتوافق بين شتى المصالح الاجتماعية فيه.
لذلك نجد “العرف في ميدان الأفعال العادية والمعاملات المدنية له السلطان”المطلق” والسيادة التامة في فرض الأحكام وتقييد أثار العقود، وتحريم الالتزامات على وفق المتعارف”[2] من هناك كانت “وظيفة القانون الأساسية هي تنظيم المجتمع تنظيما يكفل حريات الأفراد ويحقق الخير العام… وينصرف مفهوم القانون إلى “القانون الوضعي” الذي يعني القانون السائد والمطبق فعلا…”[3]
وإذا كان القانون دليلا من أدلة التشريع أقتضته الضرورة الاجتماعية، فإن العرف في المقابل هو أيضا مصدر من مصادر هذا القانون، فرضته الخصوصية المحلية عبر محددات نذكر من بينها:
خصوصية الهوية الوطنية المغربية، التي “يتعين الاعتماد فيها على المحددات الثلاث للهوية، والتي يتدخل فيها العامل اللغوي /اللسني ، والعامل التاريخي، والعامل الجغرافي”[4].
– طبيعة القبيلة المغربية عامة، وأهميتها التاريخية في صنع الحدث المغربي. و”لعل التاريخ العام للمغرب ظل أسير حركيتها. ومن الملاحظ أن صدمة الغرب لم تؤثر في وجودها، فهي حاضرة في الدولة، في المؤسسات، والمخيلة والذهنيات والواقع”.[5]
– اعتبار العرف “أنه القانون الذي يعبر عن الأمل في المساواة دون أن يحطم الحواجز التي تحمي الحرية،”[6] و”الوحدة كصيغة للعقلانية المنظمة لطرق الفعل، و الحرية التي يتصرفون بها داخل هذه الأنظمة العملية على حد “قول فوكو”[7].
لهذا فإفراز وصياغة القواعد يفترض انطلاقا من وجود صورة عقلية لها تستمد من طبيعة الحياة الاجتماعية، وطبيعة النظام السياسي القائم والمنظم لهذه الحياة. ومن هنا ترتبط هذه الصورة بمدى القدرة العقلية للسلطة السياسية المنظمة للمجتمع من استنباط” فكرة القانون وتجديد ” الغاية الاجتماعية له” من ” الضمير الجماعي” الذي تلتئم في نطاقه مختلف الإغراض الاجتماعية المتضاربة في ضمائر المجتمع، من أفراد وجماعات وأعرافهم القائمة أصلا على أساس القبول بمبدأ” الوحدة في أساليب الحياة “إلى جانب المصالح المرتبطة بوحدة المجتمع كحكمة هدفها الأساسي “أن ” نحيا جماعة” مع سائر الموجودات، كما مع باقي الكائنات البشرية كما عبر عنها “لوك فيري”[8].
والحال أن هذا هو ما جعل “أهل القانون يهتمون بالعادات والأعراف واعتبروها لبنات أساسية في إطار المجتمعات المنظمة ، لذلك فالفكر القانوني خصص حيزا واسعا من انشغالاته حول مفهوم العرف من حيث التعريف والنشأة والتطور، ومدى قدرته على فرض سلطته داخل المجتمعات “[9] ونجد أن القانونيين المعاصر يين قد اشترطوا في العرف أن يكون مطابقا للنظام العام والآداب في المجتمع… وأن يتولد في أذهان الناس الشعور بضرورة احترامه، وأن مخالفته تستوجب توقيع الجزاء بصورة قديمة وثابتة، ليصبح بذلك قاعدة قانونية واجبة الاحترام.
وإذا اعتبرنا أن أهم ما يميز العرف هو خاصية الإلزام والامتثال داخل المجتمع، إذ يعتبر احترام هذه الخاصية وإتباعها شيئا أساسيا بين كل الأفراد، ولو بالقوة إذا لزم الأمر. “فما الضرر في العمل بالعرف، فمعظم القبائل لا تزال ترجع إلى العرف، والعرف لا يناقض الشريعة الإسلامية وقبل ذلك فهو مؤسس أولا وقبل كل شييء على تجربة القبيلة وطبيعة العلاقة بين أفرادها، علاقة تقوم على المصلحة”[10] التي استهدفت ” بعد دخول القانون الجنائي الوضعي الفرنسي إلى المغرب بخاصة حين عين المراقب المدني ليؤدي دور النيابة العامة في محكمة الباشا أو القائد”[11].
وبما أنه “كلما ازداد تدخل الحكومة في شؤون المجتمع و الاقتصاد، كلما ازدادت احتمالات تقييد حرية الإنسان والمبادرة الفردية وللامركزية.”[12] وبما أن واجب الفرد الخلقي نحو الدولة، يكمن في أسس التنظيمات القانونية والثقافية والمؤسسات الأخرى، فإن هذا الواجب في هذه اللحظة لا وجود له ما دامت هذه الدولة بمؤسساتها لا تستجيب لطموحه بل وخصوصيته لهذا نجد أن “السلطة المركزية… لا تعكس،عادة تركيبة السكان المتعددة القوميات مما يؤدي إلى حزازات ونزاعات.”[13] ويرجع هذا إلى”أن النخبة التي ورتث الاستعمار لدى شعوب العالم الثالث…تعيش عالة على رصيد حضاري مستورد، وهي مفصولة عن قاعدة الهرم الاجتماعي وهي تشن حربا على التعبير الحر والنقد السياسي”[14] وقد “قال عنها
“جون واتربوري” حول النخبة في أن أغلب عناصر هذه النخبة يجهلون الواقع السوسيولوجي للبلاد ولهم تكوين لايسمح بمعرفة بلدهم إلا من خلال دواتهم وينظرون إلى الشعب في الغالب عبر قوالب جاهزة مأخوذة من الخارج”.[15]
لقد أكد العرف لوظيفته عند إنسان الشمال الإفريقي عامة والمغربي خاصة عبر محطات تاريخية من خلال المساهمة في التوازنات السوسيو- اقتصادية والسياسية القائمة بين الأفراد والجماعات. وهذا ما عبر عنه “دوفوكو” في معجمه حول “أزرف” من أنه يعني: “تقوية بئر من الداخل بالأحجار أو الخشب التقوية من الداخل”.[16] وبذلك تكون وظيفة “أزرف” كقانون وضعي هي الحرص على التقوية المستمرة لآليات التماسك من الداخل والتي تسري في عقلية المجتمع رغم إشكال الاستلاب الفكري والتهميش، مما يستلزم إعادة الاعتبار لهذه الذاكرة المتعددة الأبعاد الحاملة لمظاهر الخصوصية المحلية. مع إدانة أية تراتبية من حيث العادات والأعراف (الحضارة بمفهومها الشامل). وقد شكل ظهور حركة تصحيحية بداية ظهور المطالبة بهذه المطالب. والحركة الامازيغية من بين هذه الحركات التي تطالب “بإعادة كتابة تاريخ المغرب والإنسان الامازيغي عموما… والعمل لأجل إخراج الأساطير التي حاكها أذناب النخبة المدنية من طبيعتها تلك إلى حيز الحقيقة.”[17]
لكن” ينبغي علينا في هذه المراجعة الاننسى حقبة من حقب تاريخنا الحديث ولا نمحوها جميعا… كما علينا أن لا نستأصل طرفا أو نخبة أو نتجاهله، فليس هدف المرجعية التجريح ولا التدمير وإنما الكشف عن عوامل الحركة والتطور والوحدة والتلاحم الفكري والمادي وإبرازها وتعميقها وتوسيعها… ويستدعي هذا الإنشاء الكشف عن المصادر والمنابع الروحية والمادية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تغدي النهضة وإبرازها، كما تستدعي مناقشة الأسس التي قامت عليها التجارب السابقة وتبيان مدى نجاحها أو فشلها في استغلال هذه المصادر وتعبئتها دون تفريط لإنجاز الهدف المطلوب”[18] ولعل العرف واحد من هذه الموروثات الثقافية التي تناسلته المراحل التاريخية للإنسان الامازيغي والمغربي خاصة. وجب علينا محاولة الإحاطة بكامل جوانبه في أفق رسم الخريطة التي استطاع العرف أن ينشط وسطها من مناحي الحياة السياسية والاقتصادية للمجتمع المغربي.
وبعد هذا العرض الخاص بخصوصيات ومواضيع العرف الامازيغي يمكن أن نتساءل ماهي القيمة التي يمكن أن نستخلصها من هذا الإرث؟
وللإجابة هن هذا السؤال لا بد أن نعيد قراءة هذا المورث قصد تأهيله، وأن نستخلص منه ما يمكن أن يفيد ويتلاءم مع أوضاعنا الاقتصادية و الاجتماعية الحالية. ولاشك أن الروح والحكمة التي يتضمنها بعض أحكامه ومبادئه، ستساعدنا على ربط ماضينا باحا ضرنا ومستقبلنا لتجاوز معوقات الاستلاب والتقليد. والاعتماد على عناصر القوة و الرفع من قيمة هذا الإرث الثقافي الذي سيدفع بنا نحو التقدم والإنعتاق من قيود التخلف. وهنا لابد أن نستحضر تجارب أمم سبقتنا في هذا المجال، وكان الإرث التاريخي والثقافي مساعدا لها على النهوض والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولابد أن نستحضر أراء وأفكار تدعو إلى تبني هذا النهج لتحرير طاقات العنصر البشري لأجل رفع مكانة شعبه بين الشعوب. ولهذا سنحاول الآن تناول دور ومكانة العرف في مجالات الحياة البشرية عموما والإنسان الأمازيغي والمغ
بقلم \ said sadek tinghir
——————————————————————————–
[1] غلاب عبد الكريم: “الثقافة والفكر في مواجهة التحدي” دار الثقافة –ط1- البيضاء 1976 ص 121
[2] عمر بن عبد الكريم الجيدي: المرجع السابق : ص129
[3] خالد عبد الله عيد:” مدخل لدراسة القانون ” دار الأمان الرباط –ط الأولى 1987 م –ص 11- 12
[4] التمريتي عبد الرحيم والمرابط عبد السميع: “الحركة الامازيغية وأسئلة المرحلة الراهنة بالمغرب” بحث لنيل الإجازة في الحقوق- كلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية- جامعة محمد الأول- وجدة 2001-2002 ص 4
[5] اللحية الحسن: ” مسارات النخب السياسية بالمغرب- المرجع السابق ص 87
[6] Claude leport.essais sur le politique : 19 -20 siècles,ed. Seuil,1986
[7] حسن أوزال: ” حكمة الحدثين- انطولوجيا الحاصر “( ترجمة وتقديم)- دار وليلي للطباعة والنشر ط1- 2004 – ص 56
[8] حسن أوزال: المرجع نفسه ص 72
[9] استيتو عبد الله: ” التاريخ الاجتماعي والسياسي بقبائل ايت عطا إلى نهاية القرن 19 –رسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب- شعبة التاريخ كلية الآداب بتطوان 1998-1999 ص 235
[10] ايت لفقيه لحسن:” اميلشيل جدلية الانغلاق والانفتاح “مركز طارق بن زياد- الرباط- ط 1-2001 ص 42
[11] هرماس عبد الرزاق :” موقف فقهاء سوس من نظام “اينفلاس” –” القانون والمجتمع بالمغرب ” المرجع السابق ص 71
[12] مورتون أ. كابلان:” المعارضة والدولة في السلم والحرب ” ترجمة سامي عادل-منشورات دار الأفاق الجديدة -بيروت
[13] بطرس باك:” النهج” مجلة تصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ” –العدد 3-1987-ص 204
[14] ابو القاسم سعد الله:” منطلقا فكرة-الدار العربية للكتاب –ليبيا –تونس- ط2- 1982-ص 31
[15] وارتوبوري جون: ” الملكية والنخب السياسية في المغرب “ترجمة عبد الغني ابو العزم، عبد الاحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، مؤسسة الغني للنشر الطبعة الثانية الؤباط 2004ص 252
[16] de foucault, dictionnaire abrégé : touarg- français( dialecte Ahaggar) publié par René bass-et 1,2 alger 1920 p.p .728
[17] التمريتي عبد الرحيم والمرابط عبد السميع: المرجع السابق ص 74
[18] برهان غليون:” اغتيال العقل- محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية دار التنوير للطباعة والنشر-بيروت- لبنان ط 2-1987-ص 17-18