الوظائف | الخطاب |
الوظائف ـ اللواحق | الوظيفة ـ المعيار |
الوظيفة النظرية الوظيفة التحقيبية | الوظيفة التعليمية | الخطاب التعليمي |
الوظيفة التعليمية الوظيفة النظرية وظيفة الفهم | الوظيفة التحقيبية | الخطاب التأريخي |
الوظيفة النظرية | وظيفة الفهم | خطاب التحقيق |
| الوظيفة النظرية وبناء النسق | الخطاب التنظيري |
| | | |
في كل خطاب تظل الوظيفة المعيار هي المهيمنة، بينما تمثل الوظائف المستمدة من الخطابات الأخرى وظائف لواحق تقع في الهامش من هذه التراتبية. وهذا ما يستدعي فهم العلاقة بين هذه الوظائف في إطار ثنائية المركز والهامش. وقد بين " دريدا " فعالية الملحق supplement، إذ من شأنه أن يقلب نظام المركز، وأن يحل محله أحياناً(25).كما يتبين من الجدول الواصف تتقاطع الوظائف في هذه الخطابات وتتداخل. ولعل هذا ما جعل الباحث يخلص إلى وجود "تقاطعات لا لأن هناك موضوعا مشتركا اسمه النقد فقط، ولكن لأن هناك أيضا حضورا لمفاهيم وإجراءات خطابية تقرب بين خطاب وخطاب"(ص81).هذه التقاطعات الخطابية هي التي تبرر وجود علاقة تبادل في الوظائف. ويترتب على هذا التبادل تحول في تراتبية الوظائف. إذ يمكن للوظيفة المعيار في خطاب أن تصبح وظيفة لاحقة في خطاب آخر. لذلك فإن هذه التبادلات والتقاطعات تفرض فهم حدود هذه الخطابات في إطار النسق المفتوح وليس النسق المغلق. ولن يتأتى هذا الفهم إلا بإعادة النظر في مفاهيم التجانس والملاءمة والنسق، حتى لا يتحول البحث في المنهاجية النسقية إلى تكريس للأحادية والمشاكلة والمشابهة والمطابقة، والسقوط فيما يسميه " ليوتار" الأحادية monology والإجماع consensus كمظهرين لوحدة النظام والخطاب(26).إن هذه الظواهر اللاخطية الجزئية التي تخرق وحدة الخطاب وتشوش على تجانسه، لا تقل أهمية عن الظواهر النسقية المنتظمة، وحتى يكتمل التحليل ينبغي البحث عن انتظاماتها خارج المنهاجية النسقية، ورصد امتداداتها لمعرفة آثارها على نسق كل خطاب. فلا يوجد خطاب متجانس وخالص pure. وهذا ما يفسر عملية انتقال المفاهيم والعناصر والمواد من خطاب إلى خطاب آخر، لأن هذه الخطابات ـ كما بينا ـ محكومة بعلاقات تبادل وتضمن. بل إن هذه العملية قد تحدث في الخطاب الواحد، حيث يمكن للخطاب أن تتولد داخله خطابات صغرى، كما هو الشأن في خطاب التحقيق الذي يميز داخله الباحث بين أربعة أصناف، هي:- صنف يحقق في المفاهيم.- صنف يحقق في النظرية. - صنف يحقق في المنهج.- صنف يتوخى بناء النسق، يسميه الباحث بصنف القراءة.هذه التوليدات تكشف دينامية ظاهرة التبادلات والتضمينات بين هذه الخطابات، إذ يمكن لتقاطع خطابين أن يؤدي إلى نشوء خطاب جديد، خاصة وأن هذه الخطابات تقوم بعملية الاقتراض والاستعارة والنقل في المفاهيم والاستراتيجيات.فخطاب التحقيق ـ مثلا ـ يحتاج إلى استعارة مادة نظرية من الخطاب التنظيري. والخطاب التأريخي يحتاج إلى منهج في التحقيب، غالبا ما يستمده من الخطاب التنظيري. وهكذا لا يمكن أن نفسر هذه التقاطعات والتمفصلات بين هذه الخطابات بالقول بأن هذه الخطابات تعاني من" التباس" في حدودها الابستيمولوجية، يمثل مظهرا سلبيا من منظور المنهاجية النسقية، لأن مثل هذه الظواهر الدينامية التي تخرق وحدة النسق وتهجن تجانس الخطاب، ينبغي البحث لها عن انتظامات خارج معايير الابستيمولوجيا الطبيعية ومبادئ المنهاجية النسقية. وفي هذا الاتجاه تقدم نظرية العماء بدائل نظرية لفهم وتفسير انتظام هذه الظواهر.ومن منظور المنهاجية الدينامية يمكن أن نستخلص انتظامات عميقة محايثة لهذه الظواهر الملتبسة، تتمثل في العلاقات التالية :التضمين: ونعني به تضمن inclusion الخطاب لعناصر من خطاب آخر، ويتحقق ـ مثلا ـ عندما يتضمن الخطاب التعليمي عناصر نظرية مستمدة من الخطاب التنظيري. وكذلك الأمر عندما يستمد الخطاب التأريخي مواد نظرية من الخطاب التنظيري. والهدف من هذا التضمين هو خدمة استراتيجية الخطاب الذي انتقلت إليه هذه العناصر المتضمنة.التبادل:ونعني به تبادل الوظائف بين هذه الخطابات، مع ما يستتبعه ذلك من تغيير وتحول في تراتبية هذه الوظائف، فقد تصبح الوظيفة المعيار في خطاب ما بحكم هذا التبادل وظيفة لاحقة في الخطاب الجديد الذي تنتقل إليه، مثلما هي حالة الوظيفة النظرية التي هي وظيفة معيار في الخطاب التنظيري، ولكنها تصبح وظيفة لاحقة في الخطاب التعليمي والخطاب التأريخي. ويؤشر هذا القلب في تراتبية هذه الوظائف، على أنها ليست وظائف قارة وثابتة، بل دينامية وعلائقية.الانتظام الذاتي:ونعني به قدرة الخطاب على تنظيم مكوناته وعناصره التي تبدو متغايرة وغير متجانسة، بحيث يكون في مقدور الخطاب عندما تتكاثر عناصره وتتشعب موضوعاته توليد وإنشاء أصناف جهوية صغرى داخله تنظم هذه الكثرة،إذ يستقل كل صنف بموضوعه ومنهجه وحدوده، وبذلك يضمن الخطاب انسجامه وتماسكه. مثلما هي حالة خطاب التحقيق الذي تنتظم عناصره المتعددة والمتشعبة في أربعة أصناف مستقلة، كل صنف منها يتميز بموضوعه ومنهجه ووظيفته. إنه توليد متدرج يؤدي إلى نشوء أصناف صغرى داخل الخطاب الواحد،و يضمن تشاكل الخطاب واستمرار ديناميته.VI- حصاد المنجز النقدي
بعد هذا التشريح الابستيمولوجي لخطابات المتن النقدي العربي، يتساءل الباحث عن درجة انتظام الخطاب النقدي، ومدى استجابته لاشتراطات النسقية. إن عناصر انتظام الخطاب النقدي تكشف عن وجود مظاهر اختلال وتوتر سلبية تتمثل في غياب التمثل المنهجي للموضوعات والمناهج والمفاهيم والمرجعيات.فعلى مستوى الموضوع النقدي، لا تقدم لنا هذه الخطابات تحديدا دقيقا لمفهوم الموضوع، كما تستوجب معايير المعرفة العلمية، من حيث ضبط مجال الموضوع بدقة ووضوح، لضمان تجانسه وملاءمته. إذ يتسع الخطاب النقدي لموضوعات متعددة ومتباعدة، مثلما يحدث عندما يجمع الخطاب التعليمي بين موضوعات تنتمي إلى التراث النقدي العربي القديم وموضوعات تنتمي إلى النقد الغربي الحديث، أو عندما يخلط بين موضوعات تنتمي إلى البلاغة واللغة والنقد والعروض. ويترتب على هذا الاتساع أن الموضوع النقدي في هذه الخطابات لا يملك مفهوما دقيقا، ولا حدودا ابستيمولوجية واضحة.وعلى مستوى المنهج، تنطلق هذه الخطابات من مفهوم للمنهج يتسم بالاتساع والمرونة وأحيانا بالابتذال، حيث يختزل الناقد مفهوم المنهج إلى مجرد أدوات وإجراءات يستعملها في قراءة النص. ومعنى ذلك أنه لا ينطلق من تصور منهجي ومعرفي يبرر اختياره المنهجي، ويعكس تمثله المعرفي لسياقاته الفلسفية والثقافية والإيديولوجية. وبسبب ذلك، فإن هذه المفاهيم والنظريات التي يستعيرها تظل على مستوى الممارسة النقدية مفصولة عن سياقاتها الثقافية ومرجعياتها المعرفية، وهذا يفسر ما يطبعها من اختزال وتجزيء وإسقاط، لأن الناقد لا يتلقاها في سياقها الكلي، بل يتلقاها بصورة مجزأة وانتقائية وملفقة.تبعاً لهذا الاستعمال الاختزالي يعني المنهج كل أشكال التفكير وأساليب العمل التي يسلكها الناقد في ممارسته النقدية. وهو تصور استعمالي أداتي يفصل المنهج عن الرؤية الفلسفية والمعرفية التي تؤطر مسلماته وحقائقه. إن هذه الصورة الاختزالية للمنهج هي التي تفسر اضطراب المفاهيم في الخطاب النقدي، حيث يكتفي الناقد باستعمال هذه المفاهيم لغايات برغماتية، ولا يعيد إنتاجها وتأويلها داخل السياق الثقافي الذي يحكم رؤيته للعالم.ويعتقد الباحث أن نقل شبكة من المفاهيم والنظريات والأدوات من مرجعيات مستعارة لا يصنع منهجا نقديا، لأن الناقد في هذه الحالة ينطلق من الجاهز الثقافي ولا يبدع منهجه من سياق ثقافته. وإذا سلمنا بهذا المنظور المعرفي والثقافي فإن "المنهج ليس مجموع مبادئ وثوابت وقواعد وإجراءات محددة بل هو تجسد الوعي كفعل إنتاج معرفي مشروط بالتمثل"(27). إن ما ينقص خطاب المنهج في المتن النقدي هو التمثل النظري والمعرفي للمناهج والمفاهيم والمقولات، الذي يكمن في الوعي بالشروط العلمية والسوسيولوجية التي تسمح بالتأويل الثقافي لانتقال المرجعيات والنظريات كفعل معرفي ضروري وحيوي لإنتاجها وإعادة صياغتها سياقيا recontextualisation في الثقافة العربية، بدل الاكتفاء باستعمالها بصورة مجردة عن سياقها الأصلي وسياقها الجديد الذي انتقلت إليه.هكذا يخلص الباحث إلى أن هذه الاختلالات النسقية العلائقية هي السبب في عجز هذه الانتظامات والتشكيلات الخطابية عن تشييد خطاب نقدي نموذجي محكوم بمرجعية واحدة. والنتيجة أن الخطاب النقدي العربي أصبح يعاني من سطوة معيار مزدوج وطباقي، حيث تحيل خطابات نقد النقد والتنظير إلى خطاب سابق يوجد كأصل هو الخطاب التراثي، في أحيان قليلة. وتحيل في أكثر الأحيان إلى خطاب النقد الغربي على مستوى استعارة النظريات والمفاهيم والمناهج. "وبسبب ذلك، يمكن أن نقول إن خطاب النقد والتنظير في الثقافة العربية لا يملك قوة انتظامه الذاتية ولا يملك مرجعية، بل لا يملك فرضيات عمل نابعة من صميم الثقافة العربية ومن صميم الممارسة الإبداعية والفكرية الخاصة به"(ص295).وفي الحالتين معا، ظل الخطاب النقدي العربي مجرد صدى لهذا الصوت: صوت الآخر تارة، وصوت التراث تارة أخرى. وأصبح من الناحية الأنطولوجية يعاني "حالة انشطار كبرى بين مرجعية سابقة تراثية نظر إليها بصفتها مرجعية منتهية مكتملة، ومرجعية قلقة متعددة متغيرة سريعة التحولات يصعب حتى على أصحابها الأصليين السيطرة عليها"(ص296).وما يعمق حالة الانشطار هو وجود معوقات معرفية تشتغل داخل متن نقد النقد والتنظير في صورة تناقضات واختلالات تعيق بناء خطاب نقدي نسقي ينتظم داخل ثقافته وهويته، ويتكلم بصوت الذات وليس بصوت الآخر. وتأخذ هذه المعوقات مظهرين:1 ـ مظهر خطابي: يتمثل في معوقات الخطاب، وهي نزوع التثاقف والتلفيق والتعميم والمقارنة والانتقائية.2 ـ مظهر سلوكي: يتمثل في معوقات الذات، وهي الإقصاء والادعاء والاحتذاء والاعتذار والتحول.وتكمن خطورة هذه المعوقات في أنها تخلق مظاهر توتر واختلال نسقية في التشكيل الخطابي الذي ينظم قواعد إنتاج الخطاب في متن نقد النقد والتنظير، حيث منعته من الانتظام داخل أنساق كلية ومبادئ ملائمة لسياقه الثقافي وخصوصية الإبداع العربي، لأنه في ممارسته النقدية والتنظيرية ظل محكوما بمرجعيات في التنظير مستخلصة من نماذج الأدب الغربي، بمعنى أنه لا يستخلص مبادئه ومعاييره من متن الأدب العربي، ولكنه يسقط عليه هذه المرجعيات المستعارة. الشيء الذي يعمق حالة تعاليه على النص العربي.إذا تأملنا طبيعة هذه الاختلالات النسقية نلاحظ أنها لا توجد على مستوى خطابي واحد؛ منها ما ينتمي إلى بنية الخطاب النقدي، أي أنها ذات بعد خطابي، ومنها ما ينتمي إلى سياق الخطاب النقدي، أي أنها ذات بعد عبر خطابي ومؤسساتي. هذا الفرق المعرفي ينبغي الوعي بحدوده في عملية تشخيص هذه الاختلالات حتى نتمكن من فهم كل نوع منها في المنهاجية الملائمة له، ونتفادى اختلاط المنهاجيات.فإذا كانت الاختلالات النسقية المتعلقة ببنية الخطاب النقدي ذات طبيعة عقلانية ومنطقية مجردة، أي شكلانية، ترجع إلى اختلالات في مبادئ التصنيف وآليات إنتاج المعرفة النقدية وقواعد الاستدلال، وبالتالي تبدو الابستيمولوجيا الطبيعية مؤهلة لمقاربة هذا النوع من الاختلالات، فإنها بالمقابل تبدو قاصرة في مقاربة الاختلالات والعوائق ذات الطبيعة عبر الخطابية والسياقية، لأن هذه الاختلالات هي نتاج وضع سوسيوثقافي "معاكس للخلق والإبداع"(28) بتعبير عبد الله العروي، محكوم بغياب قيمة الإنتاج وسيادة قيمة الاستهلاك.إن المنهاجية الملائمة لمقاربة هذه الاختلالات السياقية هي الابستيمولوجيا الاجتماعية. ففي هذا المجال تبدو الابستيمولوجيا الطبيعية والمنهاجية النسقية قاصرتين، لأن مهمتهما تتحدد ـ أساسا ـ في كشف الشروط العقلانية والمنطقية المجردة والشكلانية المتحكمة في انتظام الخطاب النقدي، "فالمهم بالنسبة للعالم الطبيعي هو وصف العالم كما هو، بدقة متناهية"(29)، ويترتب على هذا التفسير العلمي المجرد أن "اهتمام الابستيمولوجيا المثالية بالأخلاق والأفكار والإيديولوجيا أمر ثانوي (وبالنسبة للأغلبية هو أمر منبوذ كليا"(30). وهذا ما يجعل الابستيمولوجيا الطبيعية لا تعير اهتماما لقضايا الأخلاق والإيديولوجيا والسياق الاجتماعي؛ بالمقابل يبدأ موضوع الابستيمولوجيا الاجتماعية من فحص الشروط الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية التي تحيط بالظاهرة، وبموقع الذات ومصالحها المعرفية.إن جملة من عوائق انتظام الخطاب النقدي مثل التثاقف والهوية وسلوكيات الذات الفاعلة، والترجمة، لا يمكن فهم آثارها وانعكاساتها إلا بموقعتها في سياقاتها الاجتماعية والإيديولوجية والتاريخية. فإذا أخذنا ظاهرة التثاقف التي شكلت عائقا أمام انتظام الخطاب النقدي ـ بنظر الباحث ـ، فإنه لا يمكننا إغفال الجوانب الإيجابية لفعل المثاقفة، حيث شكل في سياق تكون النقد العربي الحديث قوة دينامية دافعة لصيرورة تطوراته وتحولاته، برغم كل السلبيات المحيطة به لأن "الحياة الثقافية والفكرية عادة ما تتغذى من دورة الأفكار هذه، وتستمد منها أسباب الحياة، وسواء اتخذت حركة انتقال الأفكار والنظريات من مكان إلى آخر، شكل التأثير المعترف به أو اللاواعي، شكل الاقتباس الخلاق أو الاستيلاء الكلي، فإنها في كل الحالات تمثل حقيقة من حقائق الحياة، وشرطا مساعدا ومفيدا للنشاط الفكري"(31).). فالأمر لا يتعلق بمجرد رغبة ذاتية للناقد العربي في استعارة المناهج والنظريات من الآخر، بل يعكس حاجة مجتمعية وتاريخية تحكمت فيها شبكة من الإواليات الاجتماعية والحضارية والتاريخية تلخصها إشكالية الذات والآخر في الفكر العربي المعاصر.وإذا قمنا بعملية استقراء لإواليات التلقي في فعل التثاقف وأشكاله وكيفياته في صيرورة النقد العربي، نلاحظ أنها لم تتم بصورة واحدة ونمطية. بل إن هذه الإواليات والأشكال كانت تتغير بتغير حاجات ورهانات المجتمع وتطور المعرفة ووسائل التقنية والاتصال ونقل المعلوميات. فطريقة تلقي" أحمد فارس الشدياق" للفكر الغربي في أواخر القرن التاسع عشر تختلف بالضرورة عن طريقة تلقي طه حسين، أو جابر عصفور. لذلك فإن الحكم بأن المثاقفة شكلت عائقا أمام انتظام الخطاب النقدي العربي، لا يخل من تعميم يلغي بعد المسافة الزمنية كشرط أساسي لبناء فهم منتج وإيجابي لظاهرة تطور فعل المثاقفة وأشكال تلقيها ومظاهر تأثيرها في الفكر العربي المعاصر.لا يمكن إذن أن ننفي الدور الإيجابي للمثاقفة في تحديث الخطاب النقدي العربي على مستوى المرجعيات والنماذج والنظريات، بل إن هذا التغيير يمس مفهوم النقد ووظيفته. فقد تغيرت صورة النقد بشكل كبير في الفكر العربي وحققت جملة من التحولات والبدائل، سواء على مستوى مفهوم النقد ومفهوم الأدب ووظائفهما، حيث أصبح ينزع أكثر نحو العلمية، ويتجه إلى تشييد خطابه في صورة نسق معرفي، حتى ولو كان كما يؤكد الباحث يستعيد منطق تطور النقد الغربي، وبالتالي يتعالى على الإبداع العربي، ولا يعكس حركة المجتمع العربي الذي يستمد منه أسئلته وقضاياه.على خلاف ذلك نعتقد أن النقد العربي منخرط في الدينامية الاجتماعية، لأنه يحترق بأسئلة التنوير والحداثة، ويهدف إلى التشييد الاجتماعي من منظور علمي ومعرفي، وإلى تجذير ثقافة السؤال والاختلاف والحوار والتعددية، حتى ولو كان يستمد بعض آليات خطابه من دينامية المثاقفة. فقد تداخل الفكر العربي بالفكر الغربي بصورة معقدة ومركبة. لذلك لا ينبغي أن ننظر إلى المثاقفة فقط من الجانب السلبي على أنها عائق، لأنها كما بينا تمثل شرطا من شروط دينامية الخطاب النقدي العربي، وليست مجرد عامل خارجي سلبي. والمطلوب هو "التحلي بوعي نقدي، أو بعبارة أخرى دعوة إلى تجاوز مستمر للوعي التلقائي بالذات. لقد تداخل المجتمعان، العربي والغربي، إلى درجة تجعل هذا الأمر شيئا واردا. ما نعني بالوعي النقدي هو استحضار متلازم لسيرورتين تاريخيتين، متحاشيا كل انكفاء وكل انغلاق لتجنب المواقف التبريئية والاستعراضية الرخيصة"(32).يشكل هذا الوعي النقدي شرطا ضروريا كي يتمكن النقد العربي (والفكر العربي) من تخطي عتبة الاستهلاك والتلقي السلبي، واقتحام دائرة الإبداع والإنتاج، حتى لا تتحول المثاقفة إلى "خطاب تمويهي يمكن الوجدان العربي من تقبل وتضمين ما أنجزه غير العرب... بتعقب ما أنتجه الغير"(33). دون وعي نقدي مسلح بشروط التأويل الثقافي لانتقال النماذج والنظريات، وإعادة الصياغة السياقية لها في السيرورة الاجتماعية العربية. ولن يؤتي هذا الوعي النقدي ثماره إلا بمأسسة وسائل المثاقفة وبنياتها المعرفية المتخصصة التي تتحكم في تنظيم وتدبير عملية التبادل الثقافي حسب الرهانات المعرفية والحاجيات الاجتماعية.VII- أخلاقيات النقد
يبدو هذا التقويم لحصاد النقد العربي مستفزا للنقاد، لأنه يرسم صورة سلبية لصيرورة النقد. والباحث واع بخطورة نتائجه وأثر وقعها على انتظارات الفاعلين النقاد "إن هذا العمل لا يطمح أكثر من أن يكون موضع جدل ونقاش؛ وما يقدمه من اقتراحات وآراء، وإن بدت متعسفة أحيانا، فلها الحق في أن تعبر عن نفسها في سياق قل فيه الحوار وفهم الاختلاف"(ص337). فهل يتعلق الأمر "بمدفن للنقد بدلا من الكلام عن متحف للنقد"(34). لا نعتقد ذلك، لأن الأمرـ كما وضحنا ـ يتعلق بتشريح ابستيمولوجي لمتن النقد، تبرره الحاجة المعرفية إلى ضرورة وعي النقد لذاته وخطابه "لأنه دفعه إلى التساؤل حول نفسه، أي حول مناهجه وأهدافه، والأهم من ذلك حول جوهره، والجوهر هو التساؤل الدائم، وبذلك فقط يستحق النقد الأدبي أن يقال عنه أنه في موضع التساؤل"(35).وفي هذا الموقف الاختلافي الذي يتبناه الباحث تكمن القيمة المعرفية المضافة لهذا العمل العلمي، أي في جرأته غير المهادنة التي تتمثل في صراحته المستفزة ومكاشفته القاسية المتجردة من أوهام الذات. على الرغم من أن البعض قد يرى في هذا التشريح القاسي تحاملا وتعسفا مصادرة لمنجزات النقد العربي، خاصة في السياق الثقافي والفكري العربي الذي يقل فيه الحوار والاختلاف وتسود فيه "سياسة المجاملة" وتبادل الخدمات. ولكن الأهم في كل ذلك، أن هذا الموقف الاختلافي يكشف عن موقف جديد يكمل الموقف الابستيمولوجي لخطاب نقد النقد، هو الموقف الأخلاقي ethical الذي يربط الموقف الابستيمولوجي بالمسؤولية الأخلاقية، حيث يحمل الناقد مسؤولية القراءة أمام مجتمع القراء، أو مجتمع الثقافة بشكل عام. فالناقد تبعا لهذا الموقف الأخلاقي مسؤول عن تأويلاته وتفسيراته أمام القراء. ويشكل هذا الموقف الأخلاقي مطلبا حيويا للنقد العربي، كي يتخلص من شرنقة أوهامه وادعاءاته التمويهية.إن ما يحدد أخلاقية النقد هو "أنه يمارس لمصلحة جماعة معينة"(36)، لأنه ـ كما بينا سابقا ـ يرتبط بمؤسسات وقوى اجتماعية (الجامعة، الأحزاب، الجمعيات، الصحافة، المنابر الثقافية، اتحادات الكتاب والأدباء). وهذا ما يجعل الخطاب النقدي متضمنا لمصالح وقيم هذه القوى والجماعات. فالناقد بحكم هذا الموقع مسؤول عن تأويلاته وأحكامه و(رأيه النقدي) أمام مجتمع القراء، لأنه لا يتكلم من فراغ أو موقع محايد، بل يتكلم من موقع محكوم أولا بقواعد الاختصاص المعرفي الذي يشتغل فيه، وثانيا من موقع الجماعة أو المؤسسة التي تشحن خطابه بمصالحها، وبالتالي فإن خطابه يكون مسكونا بهذه التناقضات الاجتماعية والتوترات الإيديولوجية، بوعي أو بدون وعي.إن مهمة الناقد ليست ببساطة مهمة استيطيقية بالمعنى المجرد المثالي، الذي يجعل خطاب الناقد خطابا رومانسيا منفصلا عن توترات الممارسة الاجتماعية، بل على نقيض ذلك، إنه خطاب دنيوي صدامي، مشحون بقوى ومصالح الفهم الاجتماعي، يصدر عن ذات تتموضع في موقع اجتماعي وفي حقل أدبي بمفهوم "بيير بورديو"، لا تتحدد علاقاته ووظائفه في ارتباط بنظام المعرفة والأدب فقط، بل تشتغل ديناميته الاجتماعية من خلال ميزان القوى "بين فاعلين مهتمين بنوع معين من النشاطات؛ أو شكلا مبنيا من الصراعات التي تواجه فيها وحدات في تنافس من أجل رهانات، ومنافع نادرة، ويمكن أن تدخل في هذا التنافس مصادر خاصة أو أنواعا أخرى من رأس المال"(37).هذا التنافس على المنافع والصراع من أجل انتزاع موقع داخل الحقل الأدبي والثقافي، هو الذي ينحرف بالخطاب النقدي عن مهمته المعرفية والمنهجية، ويسقط الناقد ـ في حالات معينة ـ في ممارسات سلبية لا أخلاقية، كأن يتوهم الناقد أن التنظير للأدب والنقد يمنحه شرعية اكتساب سلطة مزيفة في المجتمع وامتلاك سلطة وهمية في الحقل الأدبي والثقافي تخول له حق ممارسة الوصاية على الفاعلين فيه وتوزيع الأدوار والوظائف والخيرات والمنافع. أو حين يدعي الناقد التنظير لمشروع نقدي، فيما هو لا يقوم سوى بعرض وشرح لنظرية مستعارة من النموذج الغربي، وقد يذهب به هذا الوهم إلى حد اقتباس التصورات والحقائق ونسبتها إلى بنات أفكاره دون الإشارة إلى مصادرها الأصلية الأجنبية. وقد يعتقد الناقد أن مشروعه النقدي هو الوحيد الجدير بالأصالة والجدة، وما عداه من خطابات ومشاريع نقدية مجرد تلفيق وتمويه. ويمارس الناقد هذا الإقصاء للترويج لمنهج نقدي على حساب آخر، أو لخلاف إيديولوجي مع أصحابه بحيث "يعمد إلى تجاهل الكثير من الأسماء الحاضرة في الواقع النقدي عندما يؤرخ أو يصنف أو عندما يجادل ويناقش ويحقق"(ص317).تكشف هذه الظواهر والسلوكيات بعض مظاهر الاختلالات اللاأخلاقية في الخطاب النقدي، وهي تبرر الحاجة المعرفية إلى أخلاقية النقد ونقد النقد والتنظير، لتصحيح علاقة الذات بحقل بحثها وعقلنة وشرعنة ممارستها لموضوعها حتى لا تتحكم المصالح الفردية والنوازع الذاتية في أساليب هذه الممارسة وأهدافها. فالخطاب النقدي باعتباره نشاطا ثقافيا تشارك فيه أطراف متعددة: الناقد والنص والقارئ، تقيده مبادئ المعقولية الثقافية والتزامات التعاقد الاجتماعي والمهني، "نعم إن مجال (الخطاب) مجال صراعات، ولكن المبدأ أن الخطاب مجال مفتوح ولا تقيده سوى التزامات الاختصاص، فهو مجال الحرية، ومجال الاختلاف، لكن لا يكفي ذلك. إذ أنه يحتاج إلى نوع من التعاقد إلى يضع كل خطاب مكانه، ويعين له تأثيره ووظيفته وشروط القيام بذلك حتى يعتبر خطابا جديرا بالموقع الذي يتبناه"(38).هكذا، إذا كان الناقد يبرر لنفسه الحق في المحافظة على موقعه داخل الحقل الأدبي الذي يشتغل فيه والدفاع عنه من المنافسين والدخلاء الجدد، ويعتقد أن من حقه أن يأخذ حصته من خيرات ومنافع هذا الحقل، فإنه مطالب أخلاقيا باحترام "الميثاق الذي يلزم به نفسه ويجعل الآخرين يؤكدون معه هذا الميثاق ليصبح ميثاقا مشتركا"(39)، وتتحدد مبادئ والتزامات هذا الميثاق التعاقدي في العلاقات والحقوق التالية:1. مبادئ التعاقد بين الناقد والنص: يمثل النص المادة التي يشتغل عليها الناقد. وهي ليس مجرد مادة جامدة يعزلها الناقد في مختبره ويشرحها بالأدوات التي يشاء دون مراعاة لطبيعة عناصرها. إن النص كائن حي يمثل شريكا استراتيجيا في مشروع القراءة، فهو الذي يدفع الناقد إلى البحث والتساؤل، لذلك يلزم الناقد باحترام حقوقه التي تتمثل في اعتماد أدوات ومرجعيات ملائمة في تأويله. فالناقد ليس حرا في أن يتأول النص وفق رغباته وأهوائه الذاتية، أو يستعمله لأغراض شخصية، لأن النص يفرض شروط تلقيه وحقوق تأويله، "فالنص ليس مجرد أداة تستعمل للتصديق على تأويل ما، بل هو موضوع يقوم التأويل ببنائه في مسار الجهد الدائري [الذي يبذله القارئ ] ويقود إلى التصديق على هذا التأويل انطلاقا مما تتم صياغته كنتيجة لهذا المسار"(40).هذا التعاقد يلزم الناقد باحترام النص لذاته وليس لشخص كاتبه، فلا يحق له الترويج ـ مثلا ـ لنصوص هزيلة محاباة ومجاملة لأشخاصها، أو لتحقيق أغراض شخصية لا علاقة لها بأهداف المعرفة العلمية.2. مبادئ التعاقد بين الناقد والقارئ: يمثل القارئ الطرف المستهلك الذي يتوجه الناقد إليه بخطابه ومنتوجه. وهذا ما يخول القارئ الحق في أن يشترط شروطا في تلقي واستهلاك هذا الخطاب أو الكتاب باعتباره منتوجا، لذلك فالناقد مطالب أخلاقيا باحترام حقوق القارئ المستهلك في الجودة والمعقولية وفرض القيم الحقيقية. فلا يحق للناقد ـ مثلاً "ترويج القيم الزائفة بفرض من لا قيمة له كقيمة مشتركة"(41)، أو استغفال القارئ بممارسة أساليب الادعاء والتعميم والمحاباة في المواقف النقدية والمحافل الثقافية، لذلك "يكون من حق "الآخرين" أي مجتمع القراء والباحثين والأدباء أن يمتعظوا حين تكتب "لهم" خطابات يرون فيها خيانة صريحة لمفهوم النقد ولمطالب الأدب"(42).3. مبادئ التعاقد بين الناقد والمعرفة: وتتمثل في التقيد بالتزامات الملاءمة العلمية la pertinence scientifique،التي تتحدد بحسب "بوبر" من خلال ما يلي:"نمط من البحث العلمي الذي يمكن أن يساهم في حل بعض القضايا العلمية. في علاقة هذا البحث مع أبحاث علمية أخرى في المجال نفسه. وفي علاقته، أيضا، مع أبحاث أخرى في مجالات أخرى"(43).تتحقق الملاءمة العلمية، إذن، بالتزام الناقد (والباحث عامة) قواعد الاختصاص الذي يشتغل فيه، التي تتمثل في احترام معايير إنتاج المعرفة وشروط الممارسة العلمية. ويتحقق ذلك بتعيين موضوع الاختصاص بدقة، وملاءمة أدوات البحث لموضوع الاختصاص، والقدرة على المساهمة في حل بعض إشكالات هذا الاختصاص.وتتدخل الملاءمة العلمية، أيضا، في تنظيم شكل العلاقة بين أبحاث الناقد وأبحاث النقاد الآخرين الذين يشتركون معه في الاختصاص نفسه، أو يشتغلون في اختصاصات مختلفة عنه. وتتحقق بقدرة الناقد على تشييد علاقات تفاعل وتعاون وتبادل الخبرات مع الفاعلين داخل الحقل المعرفي، حتى ولو اختلفوا معه في نوع الاختصاص والرؤية والمنهج والإيديولوجيا. فهو مطالب بتدبير هذا الاختلاف بأساليب الحوار والاعتراف بالآخر والإقرار بنسبية المعرفة، ولا يحق له أن يحول الاختلاف المعرفي إلى سجال إيديولوجي يشخصن الصراع، ويشرع لأساليب الإقصاء والتجاهل والتعالي والعنف، لأن الرهان العلمي هو تشييد معرفة موضوعية ومعقولة، مجردة إلى أقصى حد من النوازع الشخصية والمصالح الفردية.هكذا، فإن ما نقصده بأخلاقية خطاب نقد النقد لا يتعلق ـ كما يرى ميلر "بلحظة أخلاقية ضرورية في فعل القراءة لذاته، لحظة ليست إدراكية ولا سياسية ولا اجتماعية، ولابيشخصية interpersonal، ولكنها أخلاقية على نحو خاص ومستقل"(44)، بل تمثل فعلا ثقافيا يحقق أخلاقيته من مشاركته في الممارسة الاجتماعية، ومن تعاقد أطراف متعددة على مبادئ وقواعد إنتاج هذا الخطاب.بهذا المعنى التداولي لا تظل الأخلاقية مجرد نية مزعومة يرددها الناقد في سره أو في المحافل، أو لحظة قرائية مثالية، مفصولة عن سياقاتها الاجتماعية وتمظهراتها المشخصة في الممارسة الثقافية كما يعتقد ميلر،وإنما تطرح ضمن إشكالية الفعل الثقافي المعقد بأبعاده وعلائقه وأطرافه المتعددة التي تشارك في الاتفاق على مبادئ محددة للمعقولية. ففي كل سيرورة خطابية وثقافية هناك غايات معرفية تقوم بتأطير وتنظيم أشكال ممارستها، حيث تنتهي هذه السيرورة إلى إنتاج قواعد ومبادئ للمعقولية خاصة بهذه الممارسة، تشكل معايير للمقبولية والتصديق والاختيار. وبطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر بقواعد فردية ومبادئ ثابتة غير قابلة للتعديل،لأنها نتاج هذه السيرورة التي تنظم الممارسة الخطابية، ووليدة الاتفاق بين أطراف متعاقدة على ميثاق مشترك،تمليه أهداف وغايات جماعة بشرية، في شروط تاريخية وسياقية معينة، وتكون النتيجة سن معايير اختيار تؤطر هذه الغايات وتنظم أشكال تحقيقها.يتعلق الأمر،إذن، بمبادئ وقيم تتشكل داخل ما يسمى في الأبحاث المعرفية والتأويلية بالمجموعة العلمية والجماعة التأويلية والجماعة المتلقية، لذلك فإن "الفعل الأخلاقي ليس نتاج شرط أخلاقي، أو فعل خاص private يحدث داخل النفس psyche، إنه فعل عام public غير منفصل عن العلاقات التي يشارك فيها المرء. واستنادا إلى هذا المفهوم، الأخلاقية ليست شيئا يملكه الفرد داخله، إنها فعل يكتسب معناه الأخلاقي فقط من مجال محدد في المعقولية الثقافية"(45).تكمن أهمية وقيمة هذا البعد الأخلاقي الجديد في أنه يفتح أمام خطاب نقد النقد ميدانا جديدا هو القيم الإنسانية، حيث لا تنغلق وظيفته على البحث الابستيمولوجي في الشروط القبلية للمعرفة بالمفهوم الكانطي، بل تنفتح على قيم الحياة الإنسانية،و في طليعتها الحرية، وتحرير الإنسان من "علاقات السيطرة.. باختراق " الممتنع الذاتي" للتحرر من سلطة الأفكار ذاتها. والحرية بهذا المعنى هي ممارسة نقدية فاعلة يتركز فيها الاهتمام على أدوات المعرفة وآليات إنتاج الحقيقة، كما ينصب على نمط التفكير وعلى طريقة التعامل مع الأفكار"(46).إن ما يجعل هذه المهمة التنويرية لخطاب نقد النقد ضرورية وحيوية هو الوظيفة التشييدية الدينامية للقيم، حيث يؤكد النقد الثقافي على أن اشتغال المجموعات الاجتماعية يتحدد ويتطور بالقيم، لأنها تعبر عن جملة من الحاجات المؤثرة والموجهة للجماعة، وأيضا الممارسات التي تخترق بدرجات متفاوتة النشاطات الاجتماعية وتتحكم فيها:الاختيارات، الخطط، الأفكار، الأعراف والمؤسسات(47).إنها تغطي جميع مجالات الحياة المادية والرمزية،حيث "تشيد داخل المجتمعات سلاسل مادية متنوعة، توجد مثبتة في القانون والسياسات والفلسفة والتاريخ والأخلاق والدين والعلم والتربية والاقتصاد وآداب الضيافة والبنيات العائلية والجماليات(48). إذن، بقدر ما يهتم خطاب نقد النقد بالكشف عن الشروط الممكنة للمعرفة، واستقصاء عوائق انتظامها النسقي،فإنه يمثل استراتيجية لتحرير الديناميات الاجتماعية من أشكال الهيمنة الرمزية في المجال الأدبي والثقافي ومجال صناعة الرأي العام بوضع القيم موضع النقد والمساءلة على نحو يكشف ما تمارسه من زيف وتضليل وأوهام. ويجدر بنا هنا أن نتأمل مسار إدوارد سعيد،فهو يمثل نموذجا حيا لأخلاقية المعرفة(49). إنه ناقد أدبي متخصص،وباحث أكاديمي، لكنه يزعزع الخطاب المعرفي من برجه الأكاديمي المنغلق في تجريدات نظرية تعلق الخطاب النقدي في ميتافيزيقا الاختصاص التي تمارس إلغاء الواقع والقيم والإيديولوجيا والأخلاق بادعاء التجريد اللامحدود والموضوعية المثالية.ويكشف مسار إدوارد سعيد المنخرط في قضايا الإنسان والحرية والعدالة بدءا بفضح الخطاب الاستشراقي ومؤسسات دعمه الاستعمارية ووصولا إلى تعرية أقنعة الثقافة الإمبريالية الجدل الحيوي بين الوظيفة التنظيرية المتخصصة للخطاب النقدي وبين المسؤولية الأخلاقية التي تربط الخطاب المعرفي بالمضمون التنويري للثقافة، وبذلك "ينتقد سعيد صنمية الاختصاص القائمة على ديالكتيك زائف قوامه رفع المعرفة وإلغاء العارف، إذ تبدو المعرفة حقلا مغلقا ومستقلا في انغلاقه، ويبدو العارف سيدا في حقله المستقل المغلق؛ أي يبدو مختصا بعلاقات الكتابة ومختصا باحترام قواعد الاختصاص كأن العارف نموذج إنساني من نوع خاص لا علاقة له بالنماذج البشرية الأخرى"(50).في هذا الموقف الجدلي بين المعرفة والقيم تتضح أخلاقية الخطاب النقدي،أي في بعده القيمي التنويري،الذي يسمح له بنقد المسلمات السائدة وتفكيك الأحكام المسبقة وتفعيل قيم السؤال والحوار والاختلاف، من أجل خلق ثقافة نقدية تنويرية، وتحرير الإنسان من أشكال الهيمنة والتضليل والتمويه الهوامش
(1) Horace L. Fairlamb, Critical Condition: Postmodernity and Question of Foundation, Cambridge University Press, 1994, p.86
[ltr](2) Roger Webster, Studying Literary Theory, London, Fontana Press, 1993.p.110 [/ltr]
(3) محمد الدغمومي، نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، الطبعة الأولى، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1999.
(4) محمد مفتاح، المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1999، ص.5.
[ltr](5) Roger Webster, Studying Literary Theory, op. cit., p93 [/ltr]
[ltr](6) Jonathan Culler, On Deconstruction, Theory and Criticism after Structuralism, Ithaca and New York, Cornell University Press, 1982, p.220. [/ltr]
(7) د. محمد مفتاح، التشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1996، ص.48.
(
د. محمد مفتاح، النص: من القراءة إلى التنظير، الطبعة الأولى، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2000، ص.49.
[ltr](9) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, Harvard University Press, 1994, p.13.[/ltr]
[ltr](10) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, p.13.[/ltr]
[ltr](11) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, p.14.[/ltr]
[ltr](12) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.86.[/ltr]
[ltr](13) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p :14.[/ltr]
[ltr](14) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Texts, London, SAGE Publications, 2000, p.43, 44.[/ltr]
[ltr](15) Francois Devaliere, Nord Sud: Une Alterite Questionee, Paris, et Montreal, Editions L Harmattan, 1997, p.152.[/ltr]
[ltr](16) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.95.[/ltr]
(17) د. يوسف تيبس، تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير، مجلة عالم الفكر، العدد4، المجلد 30 أبريل/ يونيو 2000، ص.155.
(18) د. يوسف تيبس، تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير، ص:165.
(19) إديث كيرزويل، عصر البنيوية، ترجمة جابر عصفور، الطبعة الثانية، عيون، الدار البيضاء، 1986، ص.178.
(20) تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة سامي سويدان، الطبعة الأولى، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، ص.59.
[ltr](21) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Texts, op, cit., p.139. [/ltr]
(22) محمد مفتاح، المفاهيم معالم، مرجع مذكور، ص.103.
[ltr](23) Umberto Eco, Les Limites de L interpretation, Paris, Bernard Grasset, 1992, p.39[/ltr]
[ltr](24) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Text, op, cit., p.41[/ltr]
(25) جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، الطبع الأولى، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، ص.28.
[ltr](26) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.75. [/ltr]
(27) محمد الدغمومي، النقد والمنهج، ضمن كتاب جماعي النقد الأدبي في المغرب، الطبعة الأولى، منشورات رابطة أدباء المغرب، الرباط، 2002، ص.57، 58.
(28) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1995، ص.248.
[ltr](29) 31 Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.130. [/ltr]
[ltr](30) Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.130. [/ltr]
[ltr](31) Edward W. Said, The World, The Text and the Critic, Harvard University Press, 1982, p.226. [/ltr]
(32) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص.254.
(33) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص.254.
(34) جماعي، النقد الأدبي، ترجمة هدى وصفي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1989، ص.144.
(35) جماعي، النقد الأدبي، ترجمة هدى وصفي، ص:145.
[ltr](36) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, New York, Columbia University Press, 1992, p.12. [/ltr]
(37) د.علي سالم، بيار بورديو، مجلة كتابات معاصرة، العدد 24، 1995، بيروت، ص.94.
(38) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، العلم الثقافي، 22 أبريل 2002، ص.12.
(39) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، ص:12.
[ltr](40) Umberto Eco, Interpretation et Surinterpretation, Paris, Edition Presses, Universitaires de France, 1996,p :59.[/ltr]
(41) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، مرجع مذكور، ص.12.
(42) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، مرجع مذكور، ص.12.
(43) نقلا عن سعيد يقطين، الكلام والخبر، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1997، ص.35.
(44) جي هيليس ميلر، أخلاقيات القراءة، ترجمة سهيل نجم، الطبعة الأولى، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997، ص.10.
[ltr](45) Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.103. [/ltr]
(46) علي حرب، الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكرة، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1995، ص.164.
[ltr](47) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, op, cit., p.12.[/ltr]
[ltr](48) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, op, cit., p.12.[/ltr]
(49) د. فيصل دراج، ادوارد سعيد أو أخلاقية المعرفة، مجلة الآداب، العدد6/7، السنة45، 1995 بيروت، ص.30.
(50) المرجع نفسه. ص.31.