الفگر السياسي الإسلامي أعلامـه ومقاصــده وعوامـل ضعفه
بقلم: د. فؤاد البنا 3-3 في الأحد 15 نوفمبر-تشرين الثاني 2009 01:31:06 ص
لم تقم الدول وتصعد الحضارات في أية أمة ما لم تمتلك فكراً سياسياً مناسباً، وهذا ينطبق على أمة المسلمين.. سنسعى في هذا المبحث إلى معرفة معنى الفكر السياسي الإسلامي ونشأته، والطواف بسرعة على أهم أعلامه، ووضع العناوين الهامة للمقاصد التي يسعى لتحقيقها،مع الانعطاف قليلاً على عوامل ضعفه في العصر الحديث..
رابعاً: عوامل ضعف الفكر السياسي الإسلامي:
أبدأ هذه الفقرة بالإشارة إلى أن عدداً من المستشرقين وتلامذتهم من بعض مثقفي المسلمين ذهبوا إلى إنكار وجود فكر سياسي عند المسلمين، وهذا كلام مردود، فقد أقام الإسلام أعظم الدول في العالم حضارة وثقافة وأخلاقاً وقوة، وظهر عشرات الأعلام في الفكر السياسي،وألفت عشرات الكتب في هذا المضمار،كما رأينا نماذج لذلك ولذلك لا نستطيع القول أن الفكر السياسي الإسلامي بخير تماماً، فهناك ضمور وضعف في هذا الفكر إذا قارناه مثلاً بالفكر التربوي أو الاجتماعي ، فضلاً عن الفقه الشعائري الذي ألفت فيه آلاف الكتب، بينما لم نر حتى الآن إلا عشرات الكتب في الفكر السياسي فماهي العوامل التي أدت إلى مثل هذا الضعف؟
1ـ الانحراف المبكر عن الشورى الراشدية:
جاء في بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحيحة أن عرى الإسلام ستنقض عروة عروة، وأن أول عروة ستنقض هي الحكم،وبالفعل فإن أول انحراف حدث كان في منهج الحكم، حين انتقلت السلطة من دائرة الشورى الراشدية إلى دائرة الملك الوراثي، هذا العامل لم يسمح للفكر السياسي بالتطور الطبيعي.
ومثل كل العلوم في هذه الفترة المبكرة من تاريخ أمة المسلمين، كانت العلوم أقرب إلى الفعل منها إلى الفكر، أو أقرب إلى التطبيق منها إلى التنظير، وكانت الأمور واضحة ومستوعبة، بحيث لم تظهر كتابات تأصيلية في هذا السياق، في تلك الفترة المبكرة.
وفي غفلة من الأمة، وذات تصدع سببه تداعيات اغتيال عثمان بن عفان واقتتال شيعة علي وشيعة معاوية وصلت السلطة إلى بني أمية، ونتيجة عوامل عديدة التف حول معاوية عدد ممن داروا مع العصبيات والمصالح أكثر من دورانهم حول الإسلام بينما من بقي من الصحابة كانوا في اطراف الدولة فاتحين أو في قلب المجتمع معلمين ومربين، مما أدى إلى نصيحة معاوية بأن يوصي بولاية العهد لابنه يزيد بحجة الحرص على وحدة الأمة حتى لا يحدث نزاع، فبدأ الانحراف بسيطاً، لكنه مع كر الليالي وفر الأيام تحول إلى ملك وراثي.
وعندما بدأت الكتابات وتدوين العلوم، كانت السلطة قد أصبحت ملكية، وزاد الأمر سوءاً أن الكتابات السياسية تأخرت أكثر من تدوين العلوم الأخرى،حيث كانت الوراثة قد تعمقت بأعراف ومبررات، وصارت ذات تقاليد متجذرة وسط الناس، وأصبحت لها ثقافة واسعة، تطوع لصنعها المنافقون والأعاجم وأصحاب النيات الطيبة من الجهلة، مما أثر على صياغة هذا العلم، مما أشرنا إليه من قبل من خلط بعض رموز الفكر السياسي في كتبهم ومباحثهم بين ماهو كائن في الواقع المعيش، وما يجب أن يكون وفقاً لنصوص الشرع ومقاصده.. لقد نجحت مجاميع من المنتفعين والجهلة في نزع أسنان الشورى وزرع أنياب الاستبداد، مما كان له تداعيات عميقة وبعيدة المدى على الفكر السياسي الإسلامي.
2ـ الانفصال بين العلماء والأمراء:
يكاد أن يتفق كثير من علماء الأمة أن أولي الأمر في أمة المسلمين هم الأمراء والعلماء،فهم الرأس لجسم هذه الأمة، هذا الرأس انقسم إلى قسمين عندما انتقل قطار الدولة الإسلامية من سكة الخلافة الراشدة إلى سكة الملك الوراثي.. لقد قام عدد من العلماء باحتجاجات، وصلت القوة ببعضها إلى حد الخروج المسلح، حيث قاد أهل المدينة ثورة ضدالأمويين ، وقاد عبدالله بن الزبير ثورة، ومثله فعل الحسين بن علي وزيد بن علي بن الحسين وغيرهم، وقد كان العلماء هم وقود هذه الثورات التي خرجت تطالب بعودة الشورى والحريات..
هذه الثورات ووجهت بقمع شديد من قبل الأمويين وجيوشهم، مما أدى إلى ابتعاد العلماء عن الأمراء وتوجس الأمراء من العلماء، ومن ثم بدأت محاولات الأمويين وأنصارهم لترويض العلماء وتحييدهم، وتشجيعهم للابتعاد عن القضايا السياسية والاجتماعية والاهتمام بالقضايا المرتبطة بإصلاح الفرد سواء ارتبط الأمر بالكتابة والتأليف أم بالدعوة والحركة ،ولذلك اتسع الفقه الفردي على حساب الفكر الجماعي، إذ ألفت آلاف الكتب في الفقه الشعائري حتى كاد أن يموت من التخمة، بينما عانى الفكر السياسي من الندرة.
أما من تجرأ وواجه الحكام فقد تعرض لصنوف الأذى المختلفة، وعلى المدى البعيد تعمقت الهوة واتسعت بين الأمراء والعلماء، بحيث مالت الكتابات السياسية القليلة إلى الفكر السلطاني وإن لبس ثوب الفكر الإسلامي.
ومع مرور القرون تعملق الشعائري إلى حد الدوار، وتقزم في المقابل الفكر السياسي إلى حد اقترب من الانحطاط في القرون المتأخرة، بحيث تطوع بعض علماء الفكر السياسي لتأليف كتب أشبه ماتكون بكتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيللي، أي أنها انحازت مع الحكام ضد المحكومين.
3ـ الخلط بين الثوابت والمتغيرات:
كلما ابتعد الزمن عن عصر تنزل الوحي، كان الجهل بتعاليم الإسلام يزداد، ولأن الانحراف أو ظهوره كان في الجانب السياسي، فقد كان الجهل بالإسلام أوضح مايكون في هذا المجال.. ولا شك أن الخلط بين الثوابت والمتغيرات كان أهم نتائج الجهل بمنهج الإسلام السياسي، حيث جاء محسوبون على العلم للتنظير في قضايا سياسية، خلطوا عند كتابتهم بين ماهو ثابت واجب الأخذ وماهو متغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية والإنسانية.. ولذلك ظهر من يقول لا يجوز تحديد مدة ولاية الإمام لأن الخلفاء الراشدين لم تحدد مدة ولاياتهم، ومثل ذلك ظهر من يقول لا يجوز تفتيت السلطة إلى ثلاث مؤسسات، ولا يجوز اشراك العامة في الانتخابات عبر صناديق الاقتراع، ولايجوز كتابة دستور ولا تأسيس أحزاب ولا صحف، ولا ممارسة المعارضة بالصورة المدنية القائمة اليوم، ولا يجوز للحاكم أن يقدم استقالته بحجة أن عثمان بن عفان رضي الله عنه رفض ذلك....الخ
ولما كان العمل السياسي مرتبطاً بأكثر مجالات الحياة وأسرعها تغيراً، فإن دائرة المتغيرات في هذه المنطقة كثيرة، ومع ذلك فإن خلط المتأخرين بينها وبين الثوابت أدى إلى جمود الفكر السياسي.
ولو ألقينا نظرة بسيطة إلى تاريخ الخلافة الراشدة وهو لا يزيد عن ثلاثة عقود، في بيئة بسيطة وغير معقدة، سنلاحظ كيف ظلت القيم ثابتة وهي الشورى والحريات وحقوق الناس، بينما تغيرت الآليات والطرائق مرات عدة في هذه المدة البسيطة.. وسنضرب مثلاً بسيطاً بطريقة انتخاب الخليفة، فإن من يقرأ الكيفية التي تم بها انتخاب أبي بكر الصديق لن يجدها تتكرر عند انتخاب عمر، لتختلف هذه الطريقة عند انتخاب عثمان، ولتصبح مختلفة تماماً عند اختيار الإمام علي، لكن حريات الناس واختيارهم الذاتي كانتا حاضرتين في كل هذه الآليات وبهذه الطريقة جمع الصحابة بين ثبات المقاصد والكليات وتغير الطرائق والآليات وبهذا تفوقوا على العالم وجسدوا سمو هذا الدين وحققوا قوته وصنعوا مجده وعندما اختلف منهج التلقي والتنزيل تم الخلط بين الثوابت والمتغيرات، مما أدى إلى جمود الفكر السياسي الإسلامي في كتابات مفكريه وعلمائه مع استثناءات قليلة لا تلغي القاعدة وإنما تؤكدها.
4ـ بروز فقه الطوارئ
أشرنا قبل قليل إلى أن تحول السلطة إلى ملك وراثي على يد الأمويين أدى إلى ظهور ثورات عدة، لكن هذه الثورات لم تستكمل شروط نجاحها، وواجهها الأمويون بقمع شديد، مما أدى إلى سقوط المئات من العلماء على أيدي السلطات،وإلى تشديد الأمويين قبضتهم على الشعوب، وزيادة تضييقهم على العلماء والمصلحين، فرأى عدد من علماء المسلمين في تلك المراحل السكوت عن انحرافات الحكام مادامت كثير من أحكام الإسلام باقية في جوانب أخرى،ليس كحكم لازب إلى قيام الساعة ولكن كضرورة مؤقتة من أجل تجنب الفتنة.
وعلى المدى البعيد تحول هذا الاستثناء إلى قاعدة عامة عند بعض العلماء،مما أدى إلى شيوع الاستبداد وتمكن المستبدين من مقاليد الأمور، وهذا بالطبع عامل آخر من عوامل ضعف الفكر السياسي الإسلامي.
لقد كانت إحدى وسائل الطمأنة للحكام من قبل بعض العلماء عدم الخوض في المسائل السياسية وعدم تأليف الكتب في هذا الشأن،وكان واضحاً عند هؤلاء العلماء أن هذا الأمر ضرورة، غير أن المتأخرين اعتبروا ذلك من علامات الالتزام بمنهج أهل السنة.
هذا المناخ لم يساعد على نمو الفكر السياسي وتطوره بالشكل المأمول.. ومما زاد الطين بلة أن عدداً من الحركات التي زعمت الثورة ضد الاستبداد، وصلت إلى انحرافات عقدية كثيرة ومارست انحرافات عملية أكيدة كالشيعة والخوارج والحشاشين والقرامطة،فقد عاثوا في الأرض فساداً، مما زاد من تحفظات كثير من العلماء ضد الكتابات والأنشطة السياسية، وهذا ساهم في اضعاف الفكر السياسي.
5ـ تسلل علل الأمم الأخرى:
الإسلام دين عالمي، دخل فيه البشر من كل أعراقهم آتين من أديان وثقافات وبيئات شتى، وقد عانت كل الأمم تقريباً من تقديس حكامها وشخصنة رموزها السياسية، إلى حد أن الاستبداد وصل ببعضهم إلى حد تقديس الحكام وتأليه بعضهم.
هذه العلل الحضارية نقلها كثير من الأعاجم إلى المسلمين العرب الذين ليس لهم تراث سياسي، لأن الإسلام عندما ظهر كانوا قبائل مفككة بلا وازع من ثقافة ولاجامع من نظام سياسي.
هذا الفراغ الذي لم يملأه التأصيل المبكر، ملأه الأعاجم بجانب فقه الطوارئ ، وكلها مثلت كوابح أمام انطلاق الفكر السياسي الأصيل الذي يراعي حقوق الإنسان ووحدانية الله وعمارة الأرض ليصبح هذا الأمر عاملاً آخر من عوامل ضعف الفكر السياسي الإسلامي.
ü أستاذ الفكر الإسلامي السياسي
بجامعة تعز
الهوامش:
(46 - صحيح ابن ماجة
1/747).
(47 - المغنى : 12/266 لابن قدامة. ـ عن الرحيلي في التكفير وضوابطه (264) . كما نقل الإجماع على ذلك ابن المنذر(122) والنووي في الروضة 1728. كله بواسطة الرحيلي .
(48 - صحيح مسلم : 1/121ـ 122).
(49 - مسند الإمام أحمد (4/24) رقم : (16344).
(50 - السلسلة الصحيحة : (3/418) رقم : (1434).
(51 - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية : (4/515) (هامش : 2).
(52 - التكفير وضوابطه (287- 288) للشيخ الرحيلي.
(53 - الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه (229-230). للشيخ عبد الرزاق بن طاهر معاش.
(54 - ضوابط التكفير ( ص232). للشيخ عبدالله بن محمد القرني.
(55 - صحيح مسلم (4/ 1672)كتاب التوبة،الحض على التوبة والفرح بها.رقم (2747).
(56 - إكمال المعلم (8/245).للقاضي عياض . والتكفير وضوابطه: ص256 للرحيلي.
(57 - معالم التنزيل: (5/46).
(58 - انظر ضوابط التكفير ( ص276 ) وما بعدها.
(59 - نواقض الإيمان القولية والعملية (75) ، وانظر الجهل بمسائل الاعتقاد ص 328 .
(60 - المسائل الأصولية أو العلمية هي مسائل الاعتقاد ، والمسائل الفرعية أو العملية هي مسائل الأحكام ، وابن تيمية رحمه الله لا ينكر أصل التقسيم ، وإنما ينكر التفريق في الحكم بين من أخطأت أحد القسمين .
(61 - مجموع الفتاوى (19/ 207) .
(62 -معالم السنن :(4 / 277) .
(63 - منهاج السنة : (5/ 239-240) .
(64 - التكفير وضوابطه: ص 293 عن العواصم والقواصم .
(65 - الإرشاد ص 207 بواسطة التكفير وضوابطه ص 294 .
(66 - وقد تقدم كلامه كاملاً ، وهو في الاستغاثة : (1/ 383 - 385.
(67 - الاستغاثة :(2/619).
(68 - الاستغاثة (ج 1 ص 89 - 90) .
(69 - الهدية السنية جمع وترتيب الشيخ سلمان بن سحمان (34 - 35) بواسطة الجهل بمسائل الاعتقاد ص 436 - 437 .
70 - الدرر السنية (1/468).