جزائر ما بعد العائلة الثورية : وقفات أساسية حول مستقبل الدولة الجزائرية
كتبهاحسين بلخيرات
يستدعي الحديث عن مستقبل الدولة الجزائرية استعراض جملة من الأبعاد والتي تكونت نتاج تراكمات سياسية واقتصادية وتاريخية واجتماعية وثقافية تطورت خلالها الدولة الجزائرية إلى غاية الوصول إلى صورتها الراهنة , وليس الهدف من هذا المقال أن يكون تحليلا لبنية وفاعلية الدولة الجزائرية في الوقت الراهن بقدر ما يتعلق مضمونه باستحضار خطاب المستقبل في التحليل السياسي الجزائري ونقطة التحليل الأساسية تتعلق بجملة من الإشكاليات التي يطرحها وضع الدولة الجزائرية في مرحلة ما بعد العائلة الثورية ويكتسب ذلك في الحقيقة أهميته لارتباطه بالعوامل التالية:
أولا- أن هذا الوصف فيه من التحيز ما يكفي لكي يجعل استخدامه غير دقيق , ذلك أن هذا المفهوم ارتبط بتلك النخبة الثورية التي شكلت الرصيد السياسي لممارسة الحكم في بلادنا منذ الاستقلال , بتسويغ من فكرة الشرعية الثورية, ولذا فان استخدام مفهوم العائلة الثورية يخضع في الحقيقة لعامل التسييس وليس بالاحتكام إلى الواقع التاريخي.
ثانيا- أن المقصود بالعائلة الثورية ذلك الجيل الذي شكل الرصيد التاريخي والسياسي لنظام الحكم والنخبة السياسية منذ الاستقلال وبالتالي فان توجهات الدولة الجزائرية عبر مراحل تطورها المختلفة قد عكست وجهات النظر لهذا الجيل حتى وان كانت هي نفسها غير متناسقة ومتصادمة في كثير من الأحيان ومع ذلك فان هذا الجيل هو الذي شكل محور السلطة بمعناها السياسي والاجتماعي عبر كل المراحل التي تطورت فيها الدولة الجزائرية منذ الاستقلال .
ثالثا- أن الحديث عن جزائر ما بعد العائلة الثورية هو تصور واقعي لمرحلة قادمة لكونه يرتبط بصورة طبيعية بحتمية بيولوجية تشير إلى أن هذا الجيل يشارف على فنائه وبالتالي فان الرصيد السياسي للدولة الجزائرية الذي صنعه هذا الجيل سيكون محل مراجعة , وهذا يستدعي ضرورة البحث عن أفضل السبل من اجل ضمان استمرارية الدولة الجزائرية دون تجاهل ونكران الأفضلية التاريخية لهذا الجيل ولكن بالتوافق مع طموحات الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
رابعا- أن الجدال السياسي الأساسي في الجزائر والذي لازم باستمرار تطور الوضع السياسي الجزائري منذ الاستقلال حول أحقية هذا الجيل في أن يكون محور السلطة بمعناها الاجتماعي والسياسي والذي يعكس تصورات متضاربة حول طبيعة الدولة الجزائرية وبنيتها وفاعليتها , وبالتالي فان مضمون هذا المقال هو خطاب تأسيسي لنقاش عام حول هذه الأبعاد في مرحلة ما بعد الفناء البيولوجي لجيل الثورة , وبقدر ما يحمل هذا المقال تصورا بسيطا لذلك فانه يرجى أن يكون فاتحة لنقاش جاد حول مستقبل الدولة الجزائرية خلال هذه المرحلة .
وبقدر ما تشكل العوامل السابقة عناصر تبريرية لضرورة توظيف خطاب المستقبل في التحليل السياسي الجزائري فإنها تمثل من جهة مقابلة رهانات كبرى تستدعي التوقف ومحاولة القيام بجهد تنظيري تأسيسي يكون في مستوى هذه الرهانات , ورغم أن مستقبل الدولة الجزائرية لا يرتبط فقط بتأثيرات ما بعد فناء جيل الثورة فان أهمية هذا الطرح مستمدة من احتكار هذه الجيل كما شرحت سابقا للرصيد السياسي للدولة الجزائرية منذ استقلالها وبالتالي فان البحث في العلاقة الفناء البيولوجي الحتمي لجيل الثورة وبين مستقبل الدولة الجزائرية هو احد المسارات المهمة في استشراف هذا المستقبل .
على هذا الأساس فان هناك أهمية قصوى لتحديد مجموعة من العوامل التي نراها ضرورية بما كان من اجل حماية الدولة الجزائرية داخليا وخارجيا مستقبلا , فإذا كان جزائر ما بعد جيل الثورة تعني تصورا مختلفا لكيفية إدارة الدولة والحكم والمجتمع فان الانتقال من المرحلة الراهنة إلى تلك المرحلة المستقبلية يستدعي كما أرى مراعاة مجموعة من العوامل :
أ- سلامة الانتقال الاجتماعي للسلطة : فالسلطة كظاهرة لا تحمل أبعاد سياسية خالصة إنما تتعدى ذلك إلى مجموعة من المضامين الاجتماعية , فالحقيقة فان المضامين الاجتماعية للسلطة تظهر أكثر ما تكون حين تكون التركيبة الاجتماعية للمجتمع هي التي تشكل أساس السلطة كممارسة سياسية , أو حين يشكل جيل اجتماعي معين الرصيد السياسي لهذه الممارسة كما هو الحاصل في الجزائر مع جيل الثورة منذ استقلال البلاد , ومن المهم ملاحظة انه رغم حدوث تحولات كبرى في السياسة الجزائرية , فان ذات المسوغات المرتبة بالشرعية الثورية لا تزال تشكل الأساس التبريري لهذه التوجهات . فإذا كان جيل الثورة من الناحية السياسية الرافد الأساسي لمن يمارس السلطة , فان هذا الجيل من الناحية الاجتماعية قد مارس نوع من الوصاية على الأجيال الأخرى , وبالتالي فان الحديث صار عن نوع من الحراك الجيل السلبي القائم على فكرة الوصاية السلطوية الاجتماعية .
وهذا ما يجعل أن تكون إحدى الرهانات الكبرى لمستقبل الدولة الجزائرية أن يتم التفكير في ضمان سلامة الانتقال الاجتماعي للسلطة من جيل الثورة إلى الأخرى مع مراعاة الاعتبارات التالية :
* أن يتم التأسيس لفكرة الشرعية بعيدا عن فكرة السياقات التاريخية التي ولدت منطق الشرعية الثورية كأساس تاريخي للممارسة السلطة في الجزائر.
* التركيز على مسار التمكين السياسي للأجيال الأخرى والتي تملك كامل المقومات للممارسة سياسية فعالة بعيدا عن النمط الكاريكاتوري الموجود حاليا .
* ضمان عدم تأثير الانتقال الاجتماعي للسلطة في نشوء نوع من الطبقية , بحيث يتم التركيز على التوريث السلبي لممارسة الحكم بدل النتائج الايجابية للتمكين السياسي .
ب -تجنب الاصطدام بين الجزائر التاريخية والجزائر السياسية: هذا العامل ذو أهمية قصوى من زاويتين اساسييتين : الأولى – أن تاريخ الثورة وبالتالي الصورة الاجتماعية والسياسية للجيل الذي صنعها والي شكل فيما بعد الرصيد السياسي للدولة الجزائرية قد اخترق بعامل التسييس ولازلنا نشاهد بين الحين لأخر نوع من المحاكمات التاريخية لقادة تاريخين اتهموا بالخيانة المتأخرة وأثير حولهم سجالات سياسية وتاريخية طويلة , وإذا كان هذا قد ارتبط منذ الاستقلال بصراعات سياسية , فان يخشى أن يتحول في مرحلة ما بعد جيل الثورة إلى نو ع من التنكر التاريخي وتصبح ممارسات الجزائر السياسية التي يحكمها توجهات نظام الحكم آنذاك نتناقض في صورة هذا التنكر التاريخي مع الجزائر التاريخية ورصيدها الثوري .
والنقطة الثانية ترتبط بالأولى من حيث أن الرصيد السياسي لجيل الثورة بالرغم من الممارسات الخاطئة التي عرفها فانه قد ساهم في حفظ الهوية الوطنية بجوانبها الثلاث , ولذا فان عدم الاهتمام بتجنب الصدام بين الجزائر التاريخية والجزائر السياسية في المستقبل من المرجح جدا أن يكون له تأثيرا سلبيا على تفجر نوع من الصراعات القيمية التي تدور حول الهوية, وإذا كان عنصر التسييس قد بولغ فيه في الممارسة السياسية لهذا الجيل بهدف تسويغ الشرعية الثورية كمبرر أساسي لممارسة الحكم , وأن الانقلاب على هذه الشرعية سيكون إحدى التحولات الأساسية في جزائر ما بعد جيل الثورة فان ذلك يجب أن لا يكون مبررا لتفجر الصدام بين الجزائر التاريخية الحافظة للهوية والمشكلة لرصيد سياسي ذو أهمية بالغة خاصة بالنسبة إلى صورة الجزائر الخارجية , وبين الجزائر السياسية في تلك المرحلة التي تكون معالمها كما يفرضها نظام الحكم وتوجهات المجتمع آنذاك, ومن التأثيرات السلبية لتسييس ثورة كانجازتارخي هو حصر المرجعية التاريخية للفرد الجزائري في هذا الانجاز بالارتباط دائما مع تسويغ فكرة الشرعية الثورية , ولذا فان إحدى الجوانب الأساسية في تجنب الاصطدام بين الجزائر السياسية والجزائر التاريخية هو ضرورة الاهتمام بتعميق المرجعية التاريخية للفرد الجزائر بعيدا عن الاكتفاء الحصري بانجازات ثورة التحرير.
ج- تعميق التفعيل الديمقراطي : فجملة هذه العوامل مرتبطة ببعضها البعض و إذا كانت إحدى التحولات المهمة في تلك المرحلة هي انتفاء فكرة الشرعية الثورية لان الطرف المسييس لها قد صار مغيبا , فان البديل السياسي المنطقي لذلك هو الاهتمام بضرورة التفعيل الديمقراطي , أي أن ممارسة الحكم يجب أن يقوم على ممارسة ديمقراطية حقيقية , وهذا في الحقيقة إحدى التوجهات المهمة التي يجب التركيز عليها في جزائر ما بعد العائلة الثورية , فالديمقراطية في تاريخ الجزائر المستقلة اصطدمت بشكلين مختلفين لنظام الحكم , الأول كان سائدا منذ الاستقلال إلى غاية نشوب الأزمة الأمنية وقد كانت آليات ممارسة الحكم بالنسبة إليه تتمحور كلها حول فكرة الشرعية الثورية , والثاني كان نظام الوصاية العسكري الذي فرضته اندلاع الأزمة الأمنية وقد كانت ممارسة الحكم فيه تقوم على التوظيف المستمر لفكرة الامننة , والتمسك بالشرعية الثورية كإطار شرعي دعائي , وفي الحالتين لم يكن من الممكن تطبيق توجهات ديمقراطية حقيقية , وإذا كان نظام الوصاية العسكري قد دخل في مسار التفكك منذ وصول الرئيس بوتفليقة إلى السلطة , فان جهود التفعيل الديمقراطي لا تزال تصطدم بفكرة الشرعية الثورية , ولذا فان احد الجوانب المؤثرة في مأمونية مستقبل الدولة الجزائرية يتعلق بتطبيق الديمقراطية وفقا لأسسها الحقيقية مادام أن العوامل التاريخية التي حالت دون ذلك في تاريخ نظام الحكم الجزائري لن تكون متوفرة آنذاك
كما قلت في بداية هذا المقال فان مستقبل الدولة الجزائرية لا يتعلق فقط باختفاء وظيفة العائلة الثورية في تشكل الرصيد السياسي والاجتماعي لها , وإنما هناك جملة من العوامل الأخرى وفي جميع المجالات , ومع ذلك فان هذا العامل له تأثيرات واسعة في تحديد مستقبل الدولة الجزائرية , ولذا فهو يحتاج إلى مناقشة مستفيضة , ليس في شكل كتابات منعزلة وإنما في إطار نوع من الحوار المجتمعي والذي تضمن طرح ومناقشة كل الإشكاليات المتعلقة بهذه المسألة والوصول إلى وجهة نظر أعمق حول مستقبل الدولة الجزائرية التي يبدو النقاش حولها محصورا بين الإهمال والتجاهل