و هكذا، في ظل النظر إلى الدول كوحدات مستقلة ومنعزلة عن بعضها البعض واقتصار التفاعل فيما بينها على أضيق نطاق. كان من الميسور الفصل بين ما يعد من الشؤون الداخلية للدول، و بين ما هو دولي أو خارجي، غير أنه بمرور الزمن أخذت هذه الفكرة تتراجع تدريجيا تحت ضغط التفاعل المتزايد فيما بين الدول سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، بحيث لم يعد ينظر إلى الحدود الإقليمية كحاجز أو كعائق يحول دون التفاعلات الدولية بسبب ظهور فاعلين جدد في العلاقات الدولية من غير الدول، فعلى المستوى الدولي تزايد دور المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية، وعلى المستوى العبر وطني برزت الشركات متعددة الجنسيات وكارتلات المخدرات والجريمة المنظمة، أما على المستوى تحت وطني فلا يمكن إغفال دور المجتمع المدني وخاصة الأقليات والجماعات الإثنية، التي تطالب بمزيد من الحقوق والمشاركة والاستقلال. ويلخص عــالم الاجتماع الأمريكي دانييل بل "Danial Bell" هذا الوضع في عبارته الشهيرة :" الدولة أصبحت أصغر من أن تتعامل مع المشكلات الكبرى وأكبر من أن تتعامل بفعالية مع المشكلات الصغرى".(5)
"The State is becaming too small to handle really big problems, and too large to deal
effectively with small ones."
وكل هذه المتغيرات تفرض بالضرورة إحداث تغيير جذري في بنية الدولة الوطنية للتحول إلى "الدولة الشبكية"، لأن الشبكات المالية و التجارية والتكنولوجية والإعلامية والثقافية هي التي أصبحت تحدد الواقع القائم في العالم، وقد أدى ذلك إلى ظهور الفكرة التي عرفت بسياسات الترابط "Linkage Politics" بمعنى الترابط بين الأوضاع الدولية العالمية و بين الأوضاع الداخلية المحلية أو العكس.
وتبرز نقطة الاختلاف الرئيسة بين الدولة الوطنية والدولة الشبكية، أن الأولى ترتبط بإطار إقليمي محدد تمارس فيه نشاطها، في حين أن الثانية لا تقوم على إطار إقليمي محدد لأن العولمة أدت إلى إعادة توزيع القوى بين الدول والأسواق والمجتمع المدني، ومن ثم وجدت الدول من يشاركها في القيام بأدوارها الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والأمنية، وذلك من خلال رجال الأعمال والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني و وسائل الإعلام وغيرها.
ومع هذا التحول في فواعل العلاقات الدولية لم يعد من المجدي علميا وواقعيا تركيز الاهتمام على الدولة فقط كموضوع مرجعي للأمن، لأن الدولة وسيلة لضمان أمن الفرد بضمان بقائه وتحقيق رفاهيته، ولا يمكن أن تكون هي المعنية وحدها بالأمن. فحماية الكائن البشري، أو الجماعة الإنسانية بصورة شاملة تجعل الهدف الأساسي هو البحث عن وسائل واستراتيجيات لضمان الأمن العالمي الشامل(Global Security ) والأمن الإنساني( Human Security) لذلك يركز المشروع النقدي في الدراسات الأمنية على مفهوم الأمن الإنساني.
ب/تغير على مستوى مصادر التهديد:
لاشك أن تحقيق الأمن الداخلي والحفاظ على الأمن الخارجي من الوظائف التقليدية للدولة والتي كان ينظر إليها فلاسفة السياسة كمهمة مركزية للدولة وكان الاعتقاد السائد لدى العديد من السياسيين الممارسين أن الواجب الأسمى للدول هو تولي هذه المهام بفاعلية. و قد ارتبط مدلول الأمن بمفهوم الخطر و التهديد، فلا نستطيع تعريفه إلا في مجال داخلي ودولي محدد وبذلك فهو يمثل المحصلة النهائية لمستوى ودرجة التحصين لكيان الدولة من الداخل والخارج. وبقي مفهوم الأمن محافظا على أهميته الجوهرية في عصر العولمة بكل أبعاده سواء الداخلية أو الخارجية وليس ذلك غريبا ففي كل العهود والأزمنة كان للاقتصاد، الحروب والسياسة روابط ضيقة ومتقاربة(6).
إلا أن الجديد في هذا المجال يتمثل في القضايا والإشكالات الجديدة التي تواجه الدولة في عصر العولمة، الأمر الذي يفرض تطوير المهمة الأمنية للدولة وتحديث أساليب أدائها. وفي هذا المجال يمكن الإشارة إلى بعض القضايا الجديدة وما تتطلبه من أدوار أمنية للدولة على المستويين الداخلي و الخارجي:
01- التعرف على أنواع الجرائم التي تهدد الأمن الوطني كالجرائم الاقتصادية و منها غسيل الأموال التلاعب بالبورصة والفساد الإداري. ووضع مخطط علمي وعملي للتعامل معها حيث أن الآثار الناتجة عن مثل هذه الجرائم على أمن الدولة لا تقل عن التهديدات الخارجية ويدخل في هذا الشأن الجرائم الممكن حدوثها من خلال التجارة الإلكترونية والجريمة الدولية وتجارة المخدرات ودفن النفايات النووية و الكيميائية ... الخ. وهكذا نجد أن مجالات الوظيفة الأمنية قد اتسعت وتعقدت بصورة غير مسبوقة، حيث أن مثل هذه الجرائم تهدد الأمن الوطني للدولة من زوايا مختلفة.(7)
02- مقاومة التطرف و الإرهاب، حيث أن ظاهرة التطرف والإرهاب تعد من الظواهر الخطيرة التي تهدد الأمن الوطني. وعلاج هذه الظاهرة لابد وأن يجمع بين الأساليب الأمنية، الاقتصادية الاجتماعية والنفسية، وعلى هذا الأساس أصبحت محاربة الفقر إحدى أدوات الأمن. ودعم التنمية عاملا مهما للاستقرار.(
03- فيما يتعلق بمفهوم الأمن الخارجي والذي يدور حول الحفاظ على سلامة إقليم الدولة براً بحرا وجوا، ومنع تعرضها للعدوان الخارجي و توفير القدرة اللازمة للتصدي له، هذا بالإضافة إلى الدفاع عن مصالح مواطني الدولة في الخارج، هذا المفهوم للأمن الخارجي لم يعد قاصرا على هذه الجوانب التقليدية. فاختراق إقليم الدولة لم يعد يتم بالوسائل العسكرية المباشرة و إنما يتم بوسائل تكنولوجية متطورة، من خلال الأقمار الصناعية وغيرها من وسائل جمع المعلومات الحديثة ويتم كذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه " الأساليب الذكية " التي تدور حول تحليل البيانات الإستراتيجية للدولة والتعرف على كيفية إدراك صانع القرار السياسي للواقع السياسي الذي يعمل في إطاره داخليا وإقليميا وعالميا. ومن هنا فإن تحقيق الأمن الوطني على هذا المستوى لم يعد يتم من خلال الأساليب العسكرية وحدها، وإنما من خلال أساليب جديدة تعتمد على العلم والمعارف المتطورة.
وفي هذا السياق أصدر اتحاد العلماء الأمريكيين بيانا جاء فيه: "...إن العالم لم يعد يدار بالأسلحة بعد الآن أو الطاقة أو المال، إنه يدار بالأرقام والأصفار الصغيرة...إن هناك حربا تحدث الآن...إنها ليست لمن يملك رصاصا أكثر إنها حول من يسيطر على المعلومات، ماذا نسمع أو نرى؟ كيف نقوم بعملنا ؟ كيف نفكر ؟ إنها حرب المعلومات." (9) وهكذا يضاف إلى مدلولات الأمن الواسعة مدلول جديد اسمه " الأمن المعلوماتي"، يفرض على الدولة أخذه بعين الاعتبار في هذا القرن الذي تؤدي التكنولوجيا فيه دورا أساسيا .
04- وفي مجال الأمن الخارجي كذلك تبرز قضية التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول لاعتبارات إنسانية وقد أخذ هذا النمط يتخذ شكل النزعة الإنسانية المسلحة المتجسدة في بعث جيوش متعددة الجنسية لفرض احترام حقوق الإنسان في دول مختلفة.
وبذلك يقوم مبدأ التدخل الإنساني بوظيفة تبريرية توفر غطاء الشرعية الدولية لتدخل الدول الكبرى – وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية – في الشؤون الداخلية للدول الصغرى، مما يعد انتهاكا لمبدأ السيادة الوطنية. وهذا ما يعكس التحول الذي يشهده العالم من التركيز على مفهوم السيادة إلى التركيز على الأمن الدولي كما تتصوره القوى الكبرى.
وهكذا يتضح جليا أن التهديد العسكري الخارجي المتعلق بالحدود والأطماع الترابية وغيرها لم يصبح هو مصدر التهديد الوحيد لأمن الدولة ( كما يفترض أنصار التيار الواقعي).(10) فالدولة أصبحت تواجه أنماطا عدة من مصادر التهديد - كما رأينا- من قبيل تجارة المخدرات عبر الحدود، الجريمة المنظمة، انتشار الإرهاب الدولي، وانتشار الفقر والأوبئة والتلوث البيئي إضافة إلى الجرائم العالمية و الاتجار بالإنسان وأعضائه، والتي أصبحت من المشاكل المستعصية خاصة على الدول الفقيرة، ونخص بالذكر هنا تجارة الأطفال والنساء، وبيع مختلف أعضاء جسم الإنسان من كلى وغيرها.
و الأكيد أن القوة العسكرية لا تصلح كأداة لمواجهة تلك الأنماط من مصادر التهديد الذي تفوق آثاره المدمرة آثار التهديد العسكري المباشر. ورغم ذلك مازالت حكومات كثيرة تنفق على حماية مواطنيها من هجوم عسكري خارجي غير واضح المعالم ما لا تنفقه على حمايتهم من أعداء موجودين بينهم دائما كالفقر والأمراض والأخطار الحقيقية الأخرى التي تهدد الأمن البشري كل يوم.
3.
الأمن الإنساني: من أمن الوسائل إلى أمن الأهداف.
برز مفهوم الأمن الإنساني في النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين كنتاج لمجموعة التحولات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة فيما يتعلق بطبيعة مفهوم الأمن ونطاق الدراسات الأمنية. ويمكن تتبع جذور مفهوم الأمن الإنساني في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1945 الذي كان تركيزه منصبا على إرساء بعض القواعد الكفيلة بحماية حقوق الإنسان، وبالتالي تحقيق الأمن الإنساني. تلى ذلك بعض المبادرات المحدودة لطرح مفهوم الأمن الإنساني، إلا أنه لم يكن لها صدى كبير ودور مؤثر في طرح المفهوم على أجندة العلاقات الدولية. ففي عام 1966 ظهرت نظرية سيكولوجية كندية باسم "الأمن الفردي Individual Security" ومع بداية السبعينيات بدأت تظهر مجموعة من التقارير لبعض اللجان ومنها جماعة نادي روما واللجنة المستقلة للتنمية الدولية، واللجنة المستقلة لنزع السلاح والقضايا الأمنية. وقد أكدت تلك اللجان في تقاريرها على أهمية تحقيق أمن الفرد. وركزت على ما يعانيه الأفراد في كافة أنحاء العالم من فقر وتلوث، وغياب للأمن الوظيفي في سوق العمل، ومن ثم ضرورة دفع الاهتمام نحو مشاكل الأفراد.(11)
وكان أول استعمال رسمي لمفهوم الأمن الإنساني سنة 1994 في تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.(12) والذي يعتبر أول من " نظر" لمفهوم الأمن الإنساني وأدخله بقوة في الدراسات الأمنية الموسعة وفي الاهتمامات الدولية، وتعميم استخدامه متجاوزا بذلك المنظار التقليدي (الواقعي). ويعد هذا التقرير اليوم مرجعية مفهومية في هذا المجال. (13)
ويرتكز مفهوم الأمن الإنساني بالأساس على صون كرامة الإنسان، و تلبية احتياجاته المعنوية بجانب احتياجاته المادية، والاقتراب الرئيسي هنا هو أن الأمن يمكن تحقيقه من خلال اتباع سياسات تنموية رشيدة، وأن التهديد العسكري ليس هو الخطر الوحيد الذي يتربص بالإنسان، ذلك أنه- التهديد- يمكن أن يأخذ شكل الحرمان الاقتصادي، وانتقاص المساواة المقبولة في الحياة وعدم وجود ضمانات كافية لحقوق الإنسان الأساسية. فتحقيق الأمن الإنساني يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وصون حقوق الإنسان وحرياته، والحكم الرشيد، والمساواة الاجتماعية وسيادة القانون.
وفي هذا السياق جاء في تصريح للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان عام 1999: " إن الكائن الإنساني هو مركز كل شئ، وحتى تصور السيادة الوطنية فهو منشأ من أجل حماية الفرد، والذي يعد سبب وجود الدولة وليس العكس، وإنه من غير المقبول رؤية حكومات تسلب حقوق مواطنيها تحت حجة السيادة." (14)
أما فريديريكو مايور Frédérico MAYORالمدير السابق لليونيسكو فيرى أن: " الأمن الإنساني يلتبس مع الحماية والدفاع عن الكرامة الإنسانية، ويعود إلى الأمم المتحدة ترقية جميع أبعاده، التي لايمكن فصلها عن حقوق الإنسان العالمية وغير القابلة للتجزئة." (15)
ويذهب أحد الأوائل المنظرين لمفهوم الأمن الإنساني وهو وزير الخارجية الكندي ليود أكزورتي Lioyd Axworthy إلى تعريف الأمن الإنساني على أنه " يعني حماية الأفراد من التهديدات سواء كانت مرفوقة بالعنف أم لا، فالأمر يتعلق بوضعية أو بحالة تتميز بغياب المساس بالحقوق الأساسية للأشخاص، بأمنهم وحتى بحياتهم." (16)
وجاء في تقرير اللجنة الدولية المعنية بالتدخل وسيادة الدول الصادر سنة 2001 أن الأمن الإنساني يعني :" أمن الناس وسلامتهم البدنية ورفاههم الاقتصادي والاجتماعي، واحترام كرامتهم وقدرهم كبشر، وحماية حقوق الإنسان المملوكة لهم وحرياتهم الأساسية." (17)
وإجمالا فإن هناك مكونين أساسيين للأمن البشري هما: التحرر من الخوف و التحرر من الحاجة.
ففي البلدان المتقدمة، يشغل الطرف الأول، أي التحرر من الخوف حيزاً كبيراً من تفكير الناس هناك، فهم يشعرون أن ما يهدد أمنهم هو خطر الجريمة و حرب المخدرات و انتشار نقص المناعة المكتسبة و تدني مستوى التربة و ارتفاع مستويات التلوث. أما في البلدان الفقيرة، فيحتاج الناس إلى التحرر من التهديد الذي يمثله الجوع و المرض و الفقر و عدم وجود المأوى. و أكثر المشاكل موجودة في البلدان النامية حيث يعيش أكثر من ثلث السكان تحت خط الفقر، و يعيش أكثر من مليار إنسان من سكان العالم على دخل يومي يقل عن دولا ر واحد. (18)
أما أهم عناصر الأمن الإنساني، فهو ما يسمى بالأمن الشخصي، ففي الأمم الفقيرة كما في الأمم الغنية تتعرض حياة الإنسان بدرجات متزايدة لتهديدات تأخذ أشكالاً عدة مثل:
- تهديدات من الدولة (التعذيب البدني و الملاحقة نتيجة اعتناق آراء مخالفة للرأي السائد...).
- تهديدات من جماعات أخرى من المواطنين (التوتر العرقي...).
- تهديدات من أفراد أو عصابات ضد أفراد آخرين أو ضد مجموعات أخرى (الجريمة و العنف
في الشوارع..).
- تهديدات موجهة ضد المرأة (الاغتصاب و العنف المنزلي...).
- تهديدات موجهة إلى الأطفال (إساءة معاملة الأطفال...).
- تهديدات موجهة إلى النفس (الانتحار و إدمان المخدرات...).
ولا شك أن مفهوم الأمن الإنساني قد حظي بقوة دفع شديدة في السنوات الأخيرة، ولعل من إرهاصات دمجه في السياسات الخارجية تبني بعض الدول للمفهوم كجزء من أجندة سياستها الخارجية ومنها اليابان وكندا، حيث وضعتا المفهوم كأحد الأهداف الأساسية في سياستهما للمساعدات والمعونات الخارجية وشروط وأوجه توظيفها ليتم توجيهها لمشروعات بناء القدرات الذاتية للأفراد والمجتمعات المحلية لتوفير مقومات الأمن الإنساني بما ينعكس على تحسين نوعية الحياة للبشر في مساراتهم اليومية.
وقد حدد تقرير التنمية البشرية لعام 1994 أربع خصائص أساسية للأمن الإنساني هي:
*
الأمن الإنساني كوني يخص كل البشر وفي كل أرجاء المعمورة، في الأمم الغنية والفقيرة. لأن هناك عدة تهديدات مشتركة لكل البشر مثل البطالة، المخدرات، التلوث وانتهاكات حقوق الإنسان، وقد تختلف حدتها من منطقة لأخرى في العالم ولكنها موجودة كلها وبصور متنامية.
*
مكونات الأمن الإنساني متكاملة يتوقف كل منها على الآخر، إذ أن تعرض هذا الأمن للتهديد ليس حبيس الحدود الوطنية للدول، بل يمس كل الأمم والشعوب.
*
الوقاية المبكرة أسهل وأقل تكلفة من التدخل اللاحق في صيانة الأمن الإنساني ذلك أن التصدي لتلك التهديدات أقل تكلفة في بداية منشئها منه في المرحلة اللاحقة.
*
الأمن الإنساني محوره الإنسان وهو يخص نوعية حياة البشر في كل أرجاء المعمورة.(19)
وهناك عدد آخر من الأسس أو الدعائم التي يقوم عليها المفهوم التي تناقشها الأدبيات المختلفة، ومنها (20):
- الأداة الفاعلة في تحقيق الأمن الإنساني هي ما يطلق عليها القوة اللينة المتجسدة في التنمية البشرية وتحقيق الديمقراطية. ومن ثم، يمكن تحقيق الأمن الإنساني من خلال التغيير الهيكلي بدلا من الأداة العسكرية.
- إذا ما تم استخدام القوة لتحقيق الأمن الإنساني في مناطق النزاع أو في الأنظمة الاستبدادية الشرسة فهذا لا بد أن يتم بطريقة قانونية، وجماعية، وتحت مظلة المنظمات الدولية. فالدول والمنظمات الإقليمية والدولية (الحكومية وغير الحكومية ) يجب أن تتفاعل معًا لتشكيل قواعد العمل في مجالات الأمن الإنساني؛ إذ لا تستطيع دولة بمفردها مواجهة مصادر تهديد الأمن الإنساني.
- أي سياسة اقتصادية أو أمنية لصانع القرار يجب أن تشتمل على بعد اجتماعي، ويركز مفهوم الأمن الإنساني على أن السياسات العامة ينبغي أن تركز على مواجهة كافة أشكال الاضطهاد والاستبعاد.
- إذا كان تحقيق الأمن وفقا للمنظار التقليدي يعد مباراة صفرية، فإن تحقيق الأمن الإنساني يعد مكسبًا لجميع الأطراف من أجل التنمية البشرية المتوازنة والأمن الجماعي طويل المدى.
- رغم أن المفهوم يتجاوز النظرة التقليدية لأمن الدولة، فإنه لا يعني تهميش دور الدولة ففي التحليل النهائي الدولة هي المسئولة عن توفير الأمن للمواطنين خاصة في ظل تعقد مصادر تهديد أمن الأفراد في ظل العولمة.
والملاحظ أن مفهوم الأمن الإنساني يحدث تمييزا بين أمن الدول وأمن الأشخاص على أساس أن الأول لا يحقق الثاني؛ فأمن الدولة رغم أهميته لا يعدو إلا آن يكون جزءًا من أجزاء البناء الأمني المتكامل. بمعنى أن أي نظام عالمي آمن ومستقر يبنى أمنيًا من أسفل (الأفراد) إلى أعلى (العالم). ومن ثم، فإن أمن الدولة مجرد مساحة وسيطة. وهذا يعني أن الأمن الإنساني يجمع بين البعدين المحلي والعالمي للأمن. فهو كوني البعد مثله مثل الأمن البيئي. أي على أساس ترابط أمن الشعوب والدول متبنيا بذلك مقاربة تعاونية لتحقيق الأمن الشامل.(21)
بيد أن مفهوم الأمن الإنساني لا يحل محل الأمن الوطني للدولة، وإنما يرى أن الدولة تهتم أكثر بقضايا الأمن الخارجي بتفضيلها أمن " الوسائل" على أمن " الأهداف"، فالدولة هي الوسيلة أما الفرد فهو الهدف والغاية. وإذا طرحنا السؤال التقليدي في الدراسات الأمنية وهو: من يجب تأمينه؟ فإن المقاربة النقدية في الدراسات الأمنية ومن خلال مفهوم الأمن الإنساني ترجح أمن الهدف على أمن الوسيلة.
والخلاصة أن مفهوم الأمن الإنساني جاء نتاجا لمجموعة التحولات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة وسجل بوضوح تجاوزا نظريا لمضامين الأمن التقليدية، التي كانت تتخذ من الدولة موضوعا مرجعيا لها. ليصبح الإنسان(الفرد) الموضوع المرجعي الأساسي للأمن. غير أن الحديث عن الأمن الإنساني كتصور نقدي للأمن بمضامينه التقليدية لا يعني قطيعة حقيقية مع أمن الدولة أو ما يعرف بالأمن الوطني، فالدولة هي المسؤول الأول على تأمين وضمان أمن الأفراد وبالتالي المقاربة الأمنية لعالم ما بعد الحرب الباردة لا بد أن تقوم على التعاون مع الدولة وعبرها وليس بالتناقض معها.