المحاضرة السابعة عشر :
مبادئ الرؤساء الأمريكيين وأثرها في تاريخ العلاقات الدولية
1- مبدأ مُونرْو Monroe Doctrine
مبدأ مونرو بيان أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو(1758-1831م) في رسالة سلّمها للكونجرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823م. وبوصفه رئيسًا لبلاده، قاد مونرو الولايات المتحدة أثناء الفترة المعروفة باسم عصر المشاعر الطيبة،نادى مبدأ مونرو بضمان استقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي بغرض اضطهادهم، أو التّدخّل في تقرير مصيرهم. ويشير مبدأ مونرو أيضاً إلى أن الأوروبيين الأمريكييّن لا يجوز اعتبارهم رعايا مستعمرات لأي قُوى أوروبية في المستقبل. والقصد من هذا البيان هو أن الولايات المتحدة لن تسمَح بتكوين مستعمرات جديدة في الأمريكتين، بالإضافة إلى عدم السماح للمستعمرات التي كانت قائمة بالتوسع في حدودها.
ومن المحتمل أن مبدأ مونرو لم يأت بفائدة تذكر للولايات المتحدة من وجهة النظر التجارية؛ لأن أوروبا استمرت في الحصول على النصيب الأكبر من تجارة أمريكا اللاتينية، والتي حصلت بريطانيا على أكثرها. كما أن المبدأ لم يحسن العلاقات بين الولايات المتحدة وأقطار أمريكا اللاتينية أيضاً. إن الدول التي يفترض أن تحميها هذه الفلسفة قد استاءت من الطريقة التي فرضت بها الولايات المتحدة استعلاءها عليها؛ فقد تخوفت هذه الدول من هيمنة الشمال أكثر من تخوفها من أي دولة أوروبية.
وفي أوائل القرن العشرين الميلادي، أعطى الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت حياة ومعنىً جديدين لمبدأ مونرو؛ فقد أشار إلى أن الضعف والممارسَات الخاطئة في أي من الدول الأمريكية الصغيرة ربما تغري الدول الأوروبية بالتدخل.
ظهر للرئيس روزفلت أنَّ الدول الأوروبية لها مايبرِّر مُحاولتها حماية أرواح مواطنيها وممتلكاتهم أو جمع الديون المُستحَقَّه لهم. لقد أكد روزفلت أنَّ الدّفاع عن مبدأ مونرو يتطلّب من الولايات المتحدة منع هذا التّدّخل المبرَّر؛ وذلك عن طريق التّدخّل بنفسها. وتحت هذه السياسة، سياسة العصا الغليظة أرسلتْ الولايات المتحدة جيوشها إلى جمهورية الدُومينيكان فى عام 1905م، وإلى نيكاراجوا عام 1912م وهاييتي عام 1915م.
وعموما، فقد اتبع الرئيس ودرو ولسون سياسة روزفلت، ولكنه وعد بأن الولايات المتحدة لن تستولي بالقوة مرة ثانية على موطئ قدم إضافي. كما أبدى أيضاً التحفظ في التعامل مع الثورة المكسيكية التي أخذت مجراها أثناء فترة رئاسته. وكان في إمكانه استخدام تفسير روزفلت لمبدأ مونرو بتبرير الاحتلال الكامل للمكسيك، ولكنه اتبع سياسة الانتظار الحَذِر .
عَملت الولايات المتحدة على تحسين علاقاتها مع دول أمريكا اللاتينية( سياسة حسن الجوار )بعد الحرب العالمية الأولَى (1914م - 1918م). وقد قام الرئيس هربرت هوفر بجولة النّوايا الحسنة في أمريكا الجنوبّية قبل تولّيه الرئاسة
أعلن الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت سياسة حسن الجوار في مستهل فترة رئاسته. وقال: إن جميع الأمريكيين يجب أن يساهموا في دعم مبدأ مونرو، وبالتالي أصبح الدّفاع عن نصف الكرة الغربي واجباً جماعياً. وأثناء فترتي إدارة هوفر وروزفلت سحبت الولايات المتحدة قواتها تدريجياً من الدول الأمريكية الصغيرة التي احتلتها، وتنازلت عن امتيازاتها الخاصة التي تحصلت عليها. ونتيجة لسلسلة من الاتفاقات التجارية المتبادلة، استمرت الولايات المتحدة في تخفيض حواجز التعرفة العالية التي فعلت فعلتها في الإبقاء على عزلة الأمريكيين.
خلط كثير من النّاس في الولايات المتحدة ـ غالباً ـ بين مبدأ مونرو ومبدأ الانعزالية، أو الابتعاد عن الشؤون العالمّية، التي أشار إليها جورج واشنطن في خطاب وداعه عام 1796م. وفي الحقيقة فإنَّ مونرو قد ردد في رسالته سياسة البلاد في الابتعاد عن الشؤون الأوروبية، ولكنه استخدمها لمجرد دعم حجته بأن الدول الأوروبية يجب أن تبتعد هى الأخرى عن الشؤون الأمريكيّة. ولذلك لا يمكن اعتبار مبدأ الانعزالية جزءًا من مبدأ مونرو، وما حدث، هو أنّ الانعزالية كانت السّياسة التي اتّبعتها حكومة الولايات المتحدة في الوقت الذي أعلنت فيه فلسفة مونرو.
2- مبدأ ترومان Truman Doctrine
تصريح شامل بشأن السياسة الخارجية صدر عن الرئيس ترومان وشكل إطار استراتيجية الحرب الباردة لمدة تزيد على عشرين سنة. لقد استند ترومان في مبدئه على المقولة التي اطلقها:"نخدم انفسنا بخدمتنا للآخرين". وقد بدأ كخطاب موجّه إلى جلسة مشتركة للكونغرس بتاريخ 12 مارس 1947، أعلن فيه ترومان، في معرض طلب مساعدة لليونان وتركيا بمبلغ 400 مليون دولار، أنه "يجب أن ترمي سياسة الولايات المتحدة إلى دعم الشعوب الحرة التي تقاوم الإخضاع من قبل أقليات مسلّحة أو ضغوط خارجية". وقد طلب ترومان وحصل على أكبر برنامج أمريكي ثنائي لتقديم المساعدة الحكومية في تاريخ أوقات السلام. وعلاوة على ذلك فقد تم النص على إرسال قوات عسكرية إلى أوروبا وبذلك تولت الولايات المتحدة مسؤولية رئيسية للدفاع النشط عن شرقي البحر الأبيض المتوسط في أوقات السلم. وقد شكل هذا الخطاب المثير وما ينطوي عليه من آثار سياسية ثورة في سياسة الولايات المتحدة في أوقات السلم. وكان تخلّياً واضحاً عن التقليد الانعزالي العريق وشكّل سابقة لبرامج مساعدة الولايات المتحدة الاقتصادية والعسكرية عبر العالم. ومع أن الاتحاد السوفياتي لم يُذكر صراحة فقد كان يفترض على نطاق واسع، وبحق أن "الشعوب الحرة" و"المناهضة للشيوعية" مترادفان. وقد نص المبدأ على أن الولايات المتحدة ملتزمة على نطاق عالمي بمقاومة انتشار الشيوعية وبالتدخل، بقوة السلاح، إذا دعت الحاجة، في أي "منطقة مُهدَّدة". ومع أن ترومان ذكر اليونان وتركيا صراحة، فسرعان ما اتضح أن المبدأ لم يعرف حدوداً جغرافية عامة. وقد تمثل البعد الاقتصادي لاستراتيجية احتواء الشيوعية على النطاق العالمي بمشروع مارشال (Marshall Plan)، وكلاهما يشكلان، كما قال ترومان، "نصفي جوزة واحدة". وقد جادل النقاد بأن التعميمات الايديولوجية الكاسحة التي تضمنها المبدأ، لا سيما التقسيم المُبسَّط للعالم إلى دول "خيّرة" ودول "شريرة"، حال دون تمييز جيل من صانعي القرارات الأمريكيين لحركات قومية حقيقية تستند إلى الجماهير الشعبية وأدى إلى تقديم مساعدة الولايات المتحدة لأنظمة ذات سجل مخيف في مجال حقوق الإنسان لمجرد أنها كانت تعارض الشيوعية في العلن. لذا فإن مأساة فيتنام تعزى مباشرة إلى مبدأ ترومان. أما على الصعيد الداخلي فإن هذا المبدأ يمثل أول تأكيد بعد الحرب لـ "الرئاسة الامبراطورية"؛ فقد كان الكونغرس يُحاط علماً بالسياسة ولا ُيستشار بشأنها. ونتيجة هذه السابقة، أصبح الكونغرس بحكم المساهم السلبي في صنع السياسة الخارجية الأمريكية حتى، عشية هزيمة فيتنام الساحقة، أعاد تأكيد سلطته بمقتضى قانون صلاحيات الحرب لعام 1973. فالمنطلقات الفلسفية والايديولوجية التي قامت على أساسها سياسة الولايات المتحدة ظلت لمدة ربع قرن في معزل عن المساءلة العلنية أو الجادة من جانب السلطة التشريعية. فتصريحات ترومان العَقَدية أصبحت منطلقات إيمانية، مقبولة من قبل الجميع تقريباً، وجديرة بالاعتماد ولا يتطرق إليها الشك. وقد كانت، على حد قول أحد المعلقين، بمثابة "إعلان أمريكي للحرب الباردة"" ومن هذا المنطلق فقد كانت نبوءة حققت ذاتها.
3- مبدأ آيزنهاور Eisenhower Doctrine
في عام 1957م اقترح أيزنهاور سياسة وافق عليها الكونجرس عرفت بـ مبدأ آيزنهاور منحت بموجبه مساعدات عسكرية ومالية لكل دولة شرق أوسطية تحاول الانعتاق من ربقة الأنظمة الشيوعية.
رسم برنامجه السياسي الذي تحدد بالخطوط التالية:ـ
1 ـ ما وقف عنده ترومان لابد من إكماله. سواء فيما يتعلق بالأساليب الأميركية التي تخدم واشنطن مباشرة، أو ما يختص بعلاقاتها الخارجية.
2 ـ نجاح ترومان في أوروبا الغربية من الضروري توسيع دائرته ونقل تجربته إلى المناطق التي تهم أميركا.
3 ـ أخطاء ترومان لا ينبغي تركها دون علاج، فالأساس ثابت في السياسة الأميركية وإنما طريقة التطبيق هي موضع النقاش.
يفيد مبدأ أيزنهاور، بأن على الولايات المتحدة أن تتحمل مسؤولية ملء الفراغ في الشرق الإسلامي، وذلك عن طريق تقديم المساعدات الاقتصادية والعسكرية الضخمة لدوله. كما تضمن هذا المبدأ، إمكانية الولايات المتحدة على التدخل العسكري في الشرق الإسلامي ـ دون رجوع رئيس الجمهورية في قرار التدخل إلى الكونغرس ـ في الحالات الضرورية. وقد حدد مبدأ أيزنهاور الحالات التي تستوجب تدخلا عسكريا من قبل الولايات المتحدة بحالتين:
1 ـ في حالة تعرض إحدى الدول في الشرق الإسلامي لخطر او تهديد شيوعي.
2 ـ في حالة تعرض أحدى الدول المهمة بالنسبة للمصالح الأميركية إلى أزمات داخلية تهدد كيانها السياسي.
4- مبدأ جونسون Johnson Doctrine
ويعرف أحياناً باسم مبدأ جونسون – مان وقد وضعه في 1965 الرئيس جونسون ونائب وزير الخارجية لشؤون أمريكا اللاتينية ت. سي. مان (T. C. Mann). ينص هذا المبدأ على أن تقديم الدعم فقط إلى تلك الدول في أمريكا اللاتينية التي لديها حكومات تمثيلية (أي التي يتم تشكيلها من خلال الانتخابات العامة) سوف يتوقف ويحل محله بتعهد مفاده أن الولايات المتحدة سوف تساند من الآن فصاعداً أي حكومة في أمريكا اللاتينية التي تعتبر مصالحها متوافقة مع مصالح واشنطن. وقد وضع هذا المبدأ عشية التدخل العسكري في جمهورية الدومينيكان فكان بهذا المعنى بعثاً لتفضيلات سياسة دالس – آيزنهاور بالنسبة لأمريكا اللاتينية. وكان غرضها العام إعادة تأكيد استعداد الولايات المتحدة لمحاربة "الخطر الواضح والقائم الناجم عن قيام الشيوعيين بالاستيلاء على السلطة بالقوة".
5-مبدأ نيكسون Nixon Doctrine
كان يعرف بالأصل باسم مبدأ غوام (Guam), حيث إنه جرى التعبير عنه بشكل موجز أول الأمر في عدد من التصريحات غير الرسمية في غوام في الفلبين في يوليو 1969. ومع أن هذه التصريحات عن دور الولايات المتحدة العالمي في المستقبل كانت مبهمة وغامضة نوعاً ما, إلا أنها لقيت تغطية إعلامية على نطاق العالم ثم جعلت إدارة نيكسون هذه المبادئ التوجيهية للسياسة مبدأ رئاسياً متكاملاً. وقد صرح هنري كيسنجر (1979) بأن خطاب الرئيس عن فيتنام بتاريخ 3 نوفمير 1969 ردد هذه المواضيع عن عمد بغية ضمان تسمية المبدأ باسم الرئيس وليس المكان الذي تم الإعراب فيه عنه. وقد تضمن المبدأ من حيث الأساس ثلاثة مواضيع رئيسية للسياسة.
1- تعهد بأن تحافظ الولايات المتحدة على جميع التزامات المعاهدات القائمة.
2- وعد "بتوفير درع واق" في حال قيام قوة نووية بتهديد حليف أو أي دولة أخرى تعتبر الولايات المتحدة بقاءها هاماً بالنسبة لمصالحها.
3- في الحالات التي تنطوي على عدوان غير نووي، وعدت الولايات المتحدة بتقديم مساعدة عسكرية واقتصادية مشروطة بشرط هام مفاده "نتوقع من الدولة المعرضة مباشرة للخطر أن تتولى المسؤولية الأولى في توفير القوة البشرية من أجل الدفاع عن نفسها."
ينبغي النظر إلى المبدأ في سياق الرغبة بالانسحاب من فيتنام, وكان الغرض الرئيسي منه إعادة تأكيد أولوية التزامات الولايات المتحدة العالمية وفي الوقت نفسه تجنب المزيد من الاشتراك النشط في حروب برية في المستقبل في مناطق العالم الثالث. وقد سبق مبدأ نيكسون مباشرة مقال نيكسون (1966) المعنون "آسيا بعد فيتنام", حيث تم التمهيد فيه لمبادرتي السياسة الرئيسيتين للإدارة الجديدة: التأكيد على تطوير الأنظمة الأمنية الإقليمية الوطنية والتقارب مع الصين. على أن القليلين هم الذين يشكون بأن المهندس الرئيسي لمنظور السياسة الجديدة، من منظور فلسفي وفكري أوسع، هو الدكتور هنري كيسنجر. فقد تشكلت أفكاره المركزية من دراساته للدبلوماسية الأوروبية في القرن التاسع عشر, ولذا فقد كانت تستند إلى مفاهيم ميزان القوى، تعددية الأقطاب، التعددية، الوضع الراهن، التغيير المنتظم ومقاومة الثورة. وقد تضمن، بشكل خاص، مفهومه عن "النظام الشرعي" و"هيكل السلام المستقر" إعادة تقييم جذرية للمفاهيم التقليدية ثنائية المحاور وشديدة العضلية للولايات المتحدة والمتصلة بوسائل الاحتواء كما جرى التعبير عنها في مبدأ ترومان. وهكذا فقد تم، في المبدأ الجديد، تغيير صيغة الوسيلة – الغاية، مع أن الأهداف الإجمالية لاحتواء الخصوم الرئيسيين وتعزيز مصالح الولايات المتحدة على نطاق عالمي ظلت كما هي. فيجب العمل على تحقيق الاحتواء من خلال التفاوض متعدد الأقطاب بدلاً من المواجهة المباشرة ثنائية الأقطاب. فمن الواضح أن الأساس المنطقي لمبدأ نيكسون كان إرجاع المرونة العملية للسياسة الخارجية الأمريكية بعد المغامرة الكارثية في فيتنام، والقيام في الوقت نفسه، بإعادة توزيع أعباء الالتزامات الأمنية العالمية التي كان على الأمة أن تدعمها.
6- مبدأ كارتر Carter Doctrine
يشير إلى خطاب الرئيس كارتر الذي ألقاه في يناير 1980 عن حالة الاتحاد (State of the Union Address) والذي أعلن فيه أن "أي محاولة من جانب قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج سوف تعتبر اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة وأنه سيتم صد مثل هذا الاعتداء بأي وسائل ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية". وكان هذا التصريح رداً مباشراً على التطورات التي حدثت في إيران عام 1979 (سقوط الشاه وحلول آية الله الخميني مكانه) والاجتياح السوفياتي لأفغانستان في السنة ذاتها.
وقد اعتبرت الواقعتان تهديداً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة في منطقة الخليج – حيث إن إمكان الوصول إلى النفط والميزة الاستراتيجية يمثلان دوافع أساسية. بموجب مبدأ كارتر أعلنت الولايات المتحدة على الملأ عزمها على الدفاع عن الخليج وبذلك فقد أزالت كل شك بشأن نواياها بعد الغموض الذي اكتنف مبدأ نيكسون ومزاج عدم التدخل الذي ساد بعد الهزيمة في فيتنام. وكانت مبادرة السياسة الرئيسية التي أفرزها المبدأ هي تكوين قوة تدخل سريع مهيأة للتوجه إلى المنطقة في حالة وقوع هجوم. كما أنها تضمنت تجدد جهود الولايات المتحدة لتأمين قواعد أو حقوق إقامة قواعد يمكن منها نشر قوة التدخل السريع المذكورة. وقد اعتبر الرئيس كارتر ومستشاره للأمن القومي زبيغنيو برجنسكي(Zbigniew Brzezinski) أن الاجتياح السوفياتي لأفغانستان خاصة خطر كبير يتهدد الأمن الإقليمي. وكانت أفغانستان تعتبر خطوة نحو الهيمنة السوفياتية في الخليج. كانت الميزتان المتمثلتان بإمكان الوصول إلى موانئ المياه الدافئة والسيطرة على جزء رئيسي من إمدادات العالم من النفط، تعتبران دافعين تاريخيين للسياسة الخارجية السوفياتية، والتي كان السوفيات مصممين على تحقيقها. كانت اللغة التي صيغ بها مبدأ كارتر تذكر بمبدأ مونرو، في حين أن محتواه وإيمانه الضمني بنظرية الدومينو نسخة منبثقة عن سياسة الاحتواء للرئيس ترومان. وقد كانت أهميتها بصفة عامة أنها رغم إعلان الرئيس كارتر عن تصميم إدارته على إعادة بعد أخلاقي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية (ولا سيما بشأن حقوق الإنسان)، فإن السياسة الواقعية للعالمية الأمريكية التي تقوم عليها بقيت غير منقوصة.
7- مبدأ ريغان Reagan Doctrine
وهو مصطلح يستعمل لوصف السياسة الخارجية لإدارة ريغان من 1980 إلى 1988. ولم يتم قط نشر هذا المبدأ كسلسلة متكاملة من المبادرات السياسية كما كان الحال في مبدأ ترومان أو مبدأ نيكسون، بل انبثق من كتابات مؤيدي ريغان في الجناح اليميني للحزب الجمهوري وفي بيانات فرق البحث (think tanks) مثل مؤسسة التراث (Heritage Foundation). وقد تم تعميم المصطلح نفسه عام 1985 من قبل تشارلز كروثامر (Chasles Krauthammer) من مجلتي تايم (Time) ونيو ريبابليكان (New Republican). يكمن جوهر هذا المبدأ في الزعزعة الفعّالة لدول منتقاة مستهدفة تُتهم باتباعها سياسات وايديولوجيات ماركسية – لينينية ومؤيدة للاتحاد السوفياتي. وقد كان ريغان مصمماً منذ توليه منصبه في البيت الأبيض على إيقاف التوسع الملاحظ لقوة السوفيات التي حدثت أثناء ما يسمى "بعقد الإهمال" في سبعينيات القرن العشرين. وهكذا كان السبب الكامن وراء هذا المبدأ هو مواجهة هذا التوسع عن طريق رفع حدة المواجهة في الحرب الباردة إلى مستوى جديد من الشدة. وقد انعكس ذلك في لغة ريغان وبرنامج إعادة التسليح وتدخلات منتقاة في العالم الثالث.
ولقد كانت أفغانستان ونيكاراغوا هدفين محددين للزعزعة ضمن نطاق مبدأ ريغان. في الحالة الأولى كان الهدف المباشر، المتجلي في جرّ الآلة العسكرية السوفياتية إلى حالة مشابهة لنمط حرب فيتنام، في مصلحة أمريكا. وعلى المدى الطويل ظلت أفغانستان مجتمعاً مستقطباً ذا التزام شبه فطري بالعنف وسياسة أمراء الحرب. في نيكاراغوا شكّلت الزعزعة الفعالة لنظام ساندينيستا (Sandinista) خلفية لدبلوماسية مبادلة المخطوفين بالأسلحة التي قادها نظام الأمن القومي، وكانت النتيجة ما يسمى بفضيحة إيران غيت (Irangate). ولدى مواجهة سياسة ريغان إطلاق مبدأ غورباتشوف، فقدت الكثير من قوتها الدافعة نتيجة تحرك القوتين العظميين بشكل ثابت باتجاه الانفراج خلال السنوات الأخيرة لريغان في البيت الأبيض.
7- مبدأ كلينتون Clinton Doctrine
كان بيل كلينتون، بوصفه الرئيس الأمريكي الأول الذي جاء بعد الحرب الباردة وبعد فترة سياسة الاحتواء، كان حريصاً منذ بداية فترة إدارته (1993 – 1997) على إرساء قواعد مبدئه الخاص بالسياسة الخارجية، أي مجموعة من المعتقدات والأسس أو المبادئ التوجيهية التي تتم الاستنارة بها في رسم السياسة الخارجية وتنفيذها. على أنه رغم أن الخطوط العريضة لهذا المبدأ وردت في وثيقة الأمن القومي المعنونة "استراتيجية للعمل والاتساع" فإن الأحداث والتطورات الموروثة من إدارتي بوش – ريغان (ولا سيما مشكلة يوغسلافيا سابقاً وكوريا الشمالية والعلاقات مع الصين بعد حادثة ساحة تيانانمن) قد امتصت التقدم بشأن مبادرات جديدة في السياسة الخارجية. لذلك كان لابد من البحث عن مبدأ أمريكي جديد في الأمور الخارجية في فترة إدارته الثانية (1997 – 2001). بناء على وثيقة الأمن القومي لعام 1994 والتي تظل أوضح بيان لموجبات السياسة الخارجية للولايات المتحدة حتى ذلك الحين، تقوم استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة على ثلاثة "أعمدة": المحافظة على السيطرة العسكرية العالمية، تحقيق ازدهار اقتصادي متواصل، وتعزيز ديمقراطية السوق الحرة في الخارج. لذا فخلافاً لخط أساس الاحتواء إبان الحرب الباردة ورفيق الطريق المتمثل بالردع، فإن هذا التوجيه الجديد للسياسة لا ينطوي على التزام مفتوح بالتدخل العسكري. فهو لا يتوخى تعهداً على غرار تعهد كينيدي بـ "تحمل أي عبء ودفع أي ثمن". بل على العكس، بما أن هذا التعريف الجديد للمصالح مبعثه الحرص على الأسس الاقتصادية للأمن القومي وحتمية انتشار ديمقراطية السوق الحرة، فإن مهمة تخطيط السياسة الأساسية ستكون تحديد الأولويات والاختيار.
يعتبر غياب الاتحاد السوفياتي بوصفه الدولة العظمى الثانية، والانهيار المفاجئ للاقتصادات الموجهة والنشوء العالمي للأسواق الحرة في أوائل تسعينيات القرن العشرين، يعتبر نافذة جديدة تطل على فرصة للتغلغل الأمريكي النشط. ويعتبر فريق كلينتون ذلك فتح المجال أمام الولايات المتحدة لمراجعة الامتداد المفرط الأفولي/ الامبريالي الذي كان يقضّ مضجع الرأي العام الأمريكي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. فمن هذا المنطلق يجب على هوس الأحلاف العسكرية، وهو من السمات المميزة للاحتواء والتوسع المفرط، أن يفسح المجال لـ "هوس الأحلاف التجارية"، ولا سيما مع الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الوسطى والشرقية وأمريكا الجنوبية ومناطق آسيا – المحيط الهادئ.
ذلك هو جوهر مبدأ كلينتون. إن غرضه هو الاحتفاظ بالهيمنة العالمية، وهدفه رفع شأن الأسواق الحرة وهدم جدران التعرفة وفتح الأبواب أمام المشاريع الأمريكية والخبرة والمال الأمريكيين. وفي حين أن التداعيات الاقتصادية للاحتواء كانت تدور حول دبلوماسية الدولار – برامج مساعدة خارجية ضخمة موجهة حكومياً كثيراً ما كان هدفها الوحيد إنقاذ الأنظمة الرجعية – فإن هذا المبدأ الجديد لا ينطوي على مثل تلك التكاليف المالية أو تكاليف حقوق الإنسان. وكل ما كانت تقتضيه "دبلوماسية بيغ ماك" التي وضعها بيل كلينتون، هو الالتزام بتعزيز صادرات الولايات المتحدة والتقيد الصارم بإنفاذ مبدأ التجارة الحرة العالمية. والباقي تتكفل به السوق. وطالما تم الاحتفاظ بالسيطرة العسكرية (وهي من الناحية العملية القدرة على خوض والانتصار في حربين إقليميتين في ذات الوقت)، فإن الانكفاء غير الطبيعي الذي يعود إلى خمسين سنة عن أولوية التجارة في الشؤون الخارجية يكون قد انتهى. وكما كان عليه الحال في الماضي، فإن العودة إلى الوضع الطبيعي تعني أن الأعمال الأمريكية هي، مرة أخرى، عوائد جغرافية اقتصادية وليس جغرافية سياسية لدفع الاعتبارات السياسية.
يقوم مبدأ كلينتون، من الناحية الفكرية، على أساس مقولة بسيطة (لكن مثيرة للجدل)، وهي نظرية كانط (Kant) القائلة إن الديمقراطيات لا يحارب بعضها بعضاً – أو كما فسرها أحد المحللين بسخرية: "لم يسبق قط لبلدين فيهما مطعم ماكدونالد أن حارب أحدهما الآخر". وهذه النظرية الليبرالية/ الديمقراطية الكلاسيكية للسلام هي ركن أساسي لدى المفكرين الأمريكيين المعنيين بالسياسة, ومن الواضح أنها تشكل الخطاب الفلسفي الذي يدعم En-En. وهي الأساس المنطقي الذي تقوم عليه توسعة الناتو وشراكة السلام وغير ذلك من تدابير التعاون مع روسيا. إن توسعة الضمان العسكري الأمريكي شرقاً يحول "خارج المنطقة" إلى "داخل البيت" ويشجع نضوج شبه ديمقراطيات منتقاة إلى أعضاء كاملين في الاتحاد السلمي، في خاتمة المطاف. إن ربط أمن الولايات المتحدة بانتشار الديمقراطية ليس بالأمر الجديد. كان أشهر دعاته الرئيس وودرو ويلسون، وهو من جوانب عديدة المعلم الفكري لبيل كلينتون (وإن لم يكن، بالطبع، معلمه الأخلاقي). إن الفرق الرئيسي بين الويلسونية ذات الطراز القديم والكلينتونية ذات الطراز الحديث لا يكمن في درجة الالتزام بأفكار السلام الليبرالية، بل بطريقة تنفيذها المفترض. فبالنسبة لويلسون، كما بين في نقاطه الأربع عشرة، فإن هذا كان يقتضي استراتيجية فعالية عالمية غير متمايزة و، إذا لزم الأمر، من طرف واحد، وفي واقع الأمر كانت تقتضي الالتزام بخوض الحرب من أجل جعل العالم مكاناً مألوفاً للديمقراطية. أما بالنسبة لكلينتون فإنه يعني تعددية أطراف "جازمة" ولكن اصطفائية: تشجيع انتشار منطقة السلام الديمقراطية من خلال الانخراط البنّاء ومن خلال، وهذا أمر حاسم، تقاسم الأعباء. إن مماهاة كلينتون لمصالح الولايات المتحدة بنجاح الديمقراطية لا ينطوي بالضرورة على حملة صليبية ضد "مثيري المشاكل". على أن حق مجابهتهم مُصان. إلا أن ما تنطوي عليه بالفعل هو الاعتقاد بأن الأمن المطلق لا يمكن أن يتحقق إلا بالانتصار التام للديمقراطية. وهكذا فإن ويلسونية كلينتون الجديدة يجب رؤيتها أيضاً كوصفة للتدخل. إلا أن زمان ومكان وكيفية التدخل في هذه الحالة يجب البت به على أساس كل حالة على حدة طبقاً لحساب متعقل للمصلحة والقوة. لذا فإن السياسة الأمريكية في منطقة الاضطرابات غير الديمقراطية متفاوتة إلى حد كبير. فالدول المارقة تقاوم بحزم في حين تمت مشاركة وملاينة الخصوم المحتملين (روسيا، اوكرانيا، الصين) بينما يتم تجاهل الدول المحيطية والمتقاعسة (افريقيا جنوب الصحراء) إلى حد بعيد، على الأقل إلى أن تظهر علامات نهضة ملموسة.
في حين أن "المشاركة - والاتساع" ويلسونية الروح من دون شك فإنها من الناحية العملية تحمل طابعاً تشرشلياً مميزاً. فهي من منطلق جغرافي نسخة معدّلة من فكرة "الدوائر الثلاث" المتعلقة بالسياسة البريطانية الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية. في هذه الحالة، يرى مبدأ كلينتون أن الولايات المتحدة هي "البلد الذي لا يمكن الاستغناء عنه" عند تقاطع ثلاث دوائر متداخلة للقوة العالمية – أوروبا، آسيا – المحيط الهادئ ونصف الكرة الغربي. فضمن هذه المناطق من السلام الديمقراطي تقوم تدابير الأمن الجماعي على أساس زعامة غير منازعة للولايات المتحدة وتقاسم الأعباء. وتعد الولايات المتحدة، من الناحية الدستورية، الأولى بين أقرانها (Primus inter Pares) في نظام حكم جديد ومتعدد الأقطاب وآخذ في الاتساع. فهو يضم في ضمانه الأمني جميع الأعضاء ولكنه يشجع حيث أمكن مبدأ التابعية (subsidiarity). ويتوقع من اللاعبين المحليين حل المشاكل المحلية ضمن سياق ضمان أمريكي شامل (مثال ذلك البوسنة). وهذا الدور هو بالنسبة للرئيس كلينتون دور الحارس الليلي وليس دور الشرطي العالمي
8- مبدأ بوش وإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي
عبارة عن تطبيق هذه المفاهيم على السياسية الأمريكية في العالم؛ فالسياسة الخارجية الأمريكية تسعى إلى صنع السلام العالمي والذي يقوم على الدول الديمقراطية الحرة التي تفتح المجال للحريات وخاصة الحرية السياسية والاقتصادية ، وأبرز مصادر التهديد للسلام والأمن العالمي هو "الإرهاب"، والذي احتاجت الولايات المتحدة إلى عقد من الزمان لتستطيع إدراك ماهيته ، التي تتطلب استراتيجية أمنية جديدة – وهي بالطبع التي نقرأها الآن – تقوم على إدراك تغير طبيعة ووسائل ومصادر التهديد ، وأخطر ما في الأمر هو تقاطع التكنولوجيا ( امتلاك الأسلحة الفتاكة ) والراديكالية، من هنا برز مفهوم الدول المارقة، التي تسعى لامتلاك التكنولوجيا لتهديد الأمن، والمنظمات الإرهابية التي تتكون من الاف الإرهابييين المنتشرين في العالم. بالإضافة إلى ما سبق فهناك الدول الفاشلة والهشة – يقابلها مفهوم الحكم الجيد – والتي توفر شروطا سياسية واقتصادية واجتماعية تشجع على الإرهاب .
هذه الأخطار الجديدة لا تناسبها استراتيجية الردع ( التي سادت في الحرب الباردة ) وإنما تحتاج إلى استراتيجية " الضربة الوقائية" التي تتعامل مع التهديد الأكيد قبل تنفيذه وتحبطه قبل تحققه ، ومما يساعد على نجاح هذه الاستراتيجية سعي الولايات المتحدة إلى بناء الأحلاف والعلاقات لإقامة شبكة دولية ضد الإرهاب .
يقوم مفهوم السلام العالمي وفق الرؤية الأمريكية على المجتمعات والدول الحرّة التي تؤمن بالقيم المشتركة من الانفتاح والحرية السياسية والاقتصادية ، وتسعى لتعميم حالة السلام على أرجاء العالم ، وتشير الوثيقة إلى توجه الدول العظمى اليوم بما فيها روسيا والصين إلى القيم الرأسمالية، والشراكة في الحرب على الإرهاب .
[i]