يظنّ كثيرون خطأً أنّ السياسة هي فن المراوغة والحيلة والدهاء, أو القدرة على المناورة والتلاعب, وعدم كشف الحقائق والأوراق .. وغير ذلك من فنون وتكتيكات معروفة.
والحقيقة أن ما أشرنا إليه من أشكال وأساليب ليست هي السياسة بدلالاتها الجوهرية, بل أنها بعض الوسائل المتّبعة في الوصول إلى الأهداف والغايات والاستراتيجيات السياسيّة.
ومن الأمور المؤسفة أن السياسة كعلم إنساني شديد الأهمية والتأثير تعرضت إلى أضخم وأخطر وأسوأ ألوان التشويه والانحراف على مدى آلاف السنين من تاريخ الحضارة البشرية وتكوينات المجتمع المدني, إلى درجة أن العُرف الشائع عن السياسة أنها فنٌّ وليست نسقاً معرفياً وعلماً قائماً بحدّ ذاته, له مكوّناته وبنيته وطرائقه البحثية والاختبارية, ونظرياته, وتطبيقاته العملية في هذه البيئة المجتمعية أو تلك.
وقد يكون من الضروري, بل من الواجب الحتمي أن تعنى دورية متخصصة بشؤون الفكر السياسي مثل مجلّتنا هذه بالتعريفات والمصطلحات وتحديد المعاني والدلالات السياسية, حيث يمكنها من خلال ذلك كلّه تكوين رأي عام مستنير, يدرك أبعاد المفاهيم والألفاظ المتداولة في الفكر السياسي, ويتمكن من استخدامها الصحيح والعلمي بأماكنها المناسبة, دون شطط أو مبالغة أو فجاجة وجهالة.
أولاً: معاني كلمة «سياسة»
جاء في «لسان العرب» لابن منظور أن «السَّوْس» تعني الرياسة, حيث يقال ساسوهم سَوْساً, وإذا رأّسوه قيل: سَّوسوه وأساسوه. وساسَ الأمرَ سياسةً: قام به. ويقال: سُوِّسَ فلانٌ أمَر بني فلان, أي كُلِّف سياسَتهم. وقال الجوهريُّ: سُسْت الرعيةَ سياسةً.
ويقال: فلان مُجَّربٌ قد ساسَ وسييسَ عليه, أي أَمَر وأُمِّرَ عليه.
والسياسة: القيام على الشيء بما يُصلحه(1). والمقصود بالأمر في التراث السياسي العربي هو أمر الناس وشؤونهم. وقد شاعت لفظة «أمر» لتدلّ بصفة عامة على الحكم والسلطان والدولة.
وقد تطوّر المعنى الاصطلاحي لكلمة «سياسة» في الاستعمال إلى السياسة الإلهية, والسياسة الخاصة, والسياسة العامة.(2)
وعرفت السياسة المدنية بأنها «علم بمصالح جماعة متشاركة في المدنيّة.. سميت بها لحصول السياسة المدنية, أي مالكية الأمور المنسوبة إلى البلدة بسببها, وفي بعض الكتب يسمّى علم السياسة, والحكمة السياسية, والحكمة المدنية, وسياسة الملك, وفائدتها أن تعلِّم كيفية المشاركة التي بين أشخاص الناس, ليتعاونوا على مصالح الأبدان, ومصالح بقاء النوع».(3)
وذكر الدكتور جميل صليبا في معجمه الفلسفي أن السياسة مصدر ساس, وهي تنظيم أمور الدولة, وتدبير شؤونها. وقد تكون شرعية أو تكون مدنية. فإذا كانت شرعية جاءت أحكامها مستمّدة من الدين, وإذا كانت مدنيّة كانت قسماً من الحكمة العملية, وهي الحكمة السياسية, أو علم السياسة.
وأضاف: موضوع علم السياسة عند قدماء الفلاسفة هو البحث في أنواع الدول والحكومات, وعلاقتها بعضها ببعض, والكلام على المراتب المدنية وأحكامها, والاجتماعات الإنسانية الفاضلة والرديئة, ووجوه استبقاء كل منها, وعلّة زواله, وكيفية رعاية مصالح الخلق وعمارة المدن وغيرها.
أما الفرق بين السياسة النظرية السياسة العملية, فإن الأولى تعنى بدراسة الظواهر السياسية المتعلقة بأحوال الدول والحكومات, وهي مختلفة عن الظواهر الاقتصادية, والإدارية, والقضائية, والثقافية, على حين أن الثانية تعنى بأساليب ممارسة الحكم في الدولة لرعاية مصالح الناس اليومية وتدبير شؤونهم وأحوالهم.
ويطلق على كل عمل مبني على تخطيط سابق كسياسة التنمية الاجتماعية, أو سياسة التنمية الاقتصادية, أو سياسة التعليم, أو سياسة الصحة, وغيرها.
والسياسي, هو المنسوب إلى السياسة, نقول: هذا أمرٌ سياسي, وهو الأمر المدني المشترك بين المواطني الخاضعين لقوانين واحدة. ومنه الاقتصاد السياسي, والحقوق السياسية, السلطات السياسية.
وإذا أطلق لفظ السياسي على من يتولى الحكم في الدولة دلَّ على نوعين من الرجال: أحدهما رجل الدولة, هو الذي يقيم الحكم على سنن العدل والاستقامة, والثاني رجل الحكم الماهر في الانتفاع بالظروف المحيطة به لتحقيق مآربه السياسية.(4)
وقد عَّرف «معجم ليتره» السياسة عام 1870 بقوله: «السياسة علم حكم الدول».
وعرفها «معجم روبير» عام 1962 بقوله: «السياسة فن حكم المجتمعات الإنسانية».
إن التقريب بين هذين التعريفين اللذين يفصل بينهما قرن من الزمان أمر هام. أنهما كليهما يجعلان الحكم موضوع السياسة. ولكن التعريف الحديث يشمل حكم الدول وحكم المجتمعات الإنسانية الأخرى فكلمة الحكم تعني عندئذ, في كل جماعة من الجماعات, السلطة المنظمة ومؤسسات القيادة والاكراه. إن الاختصاصين يتجادلون في هذا. فبعضهم ما يزال يرى أن السياسة هي علم الدولة من حيث أن الدولة هي السلطة المنظمة في الجماعة القومية. ولكن أكثر الباحثين يرون أن السياسة هي علم السلطة المنظمة في الجماعات الإنسانية كافة(5).
وليس لهذا الجدال من شأن . ذلك أن الذين يعِّرفون السياسة بأنها علم السلطة عامة يعترفون هم أنفسهم بأن السلطة تبلغ في الدولة أكمل صورة, وأتم تنظيم, وأن من الواجب أن تُدرس في هذا الإطار خاصة.
أما في الجماعات الأخرى فهي جنين. ومع ذلك فإن تعريف السياسة بأنها «علم السلطة» يتفوق على التعريف الآخر تفوقاً أساسياً. لأنه وحده يسمح بالتحقق من صحة فرضيته الأساسية. فحين ندرس السلطة في جميع الجماعات دراسة مقارنة, نستطيع أن نكشف الفروق بين السلطة في الدولة والسلطة في الجماعات الأخرى إذا كان في هذه الجماعات الأخرى سلطة.
أما إذا اقتصرنا على دراسة السلطة في إطار الدولة وحده, دون مقارنة بينهما وبين السلطة في غير ذلك, لم نستطع أن نتحقق من صدق الفرضية التي نكون قد فرضناها عن وجود فرق في الطبيعة بين الشيئين.
ويقترح بعضهم أن نفرق بين الجماعات الصغيرة والجماعات الكبيرة.
إن التنافس على السلطة في الجماعات الصغيرة إنما يقوم بين أفراد. والسلطة نفسها في هذه الجماعات الصغيرة ضعيفة التنظيم, تشبه أن تقوم على ذلك التفريق البدئي بين «الحاكمين» و« المحكومين», بين الزعماء والأعضاء. أما في الجماعات الكبيرة فإن الصراع السياسي يتناول طوائف اجتماعية , وفئات وسيطة تنشأ في داخل المجتمع الكلي , كما يتناول أفراداً. والسلطة في هذه الجماعات الكبيرة تنظيم محكم البنيان بعضه فوق بعض درجات. إن من علماء الاجتماع من يقصرون السياسة على دراسة هذه السلطة المعقدة التي تعمل في الجماعات الكبيرة, ويبعدون منها تحليل الزعامة في الجماعات الصغيرة.
والواقع أن الظاهرتين أوثق ارتباطاً من أن تستطاع دراسة كل منهما على حدة. إن هناك, في مجالس الوزراء, وفي لجان الإدارة, وفي مجالس قيادة الأحزاب, وفي كل مستوى من مستويات حكم الجماعات الكبيرة , فئات صغيرة لا يمكن أن يُشكَّ في أن السلطة فيها سياسية. وإنما ينبغي أن نميز بين مستويين من التحليل, أولهما التحليل « الميكرو سياسي» الذي يجب أن يتم على مستوى العلاقات بين الأفراد, وهي علاقات قائمة على الاتصال الشخصي, وثانيهما التحليل «الماكرو سياسي» الذي يجب أن يتم على مستوى المجموعات الكبرى التي لا وجود فيها للاتصال الشخصي, وإنما حَّلت فيها محل الاتصال الشخصي صلاتٌ بالواسطة, أو علاقات إدارية أو اتصالات مسرحية مصطنعة (مصافحة الوزير, الخطاب الذي يذيعه رئيس الدولة بالتلفزيون), فيجب أن يتم البحث على هذين المستويين في آن واحد معاً. ثم إن الانتقال من أحد هذين المستويين إلى المستوى الآخر يثير مشكلة هامة.
ويختلف التعريفان اللذان جاء بهما ليتره وروبير في نقطة أخرى: فالأول يعد السياسة علماً, والثاني لا يعدها إلا «فناً». وقد يخيل إلينا من النظرة الأولى أن عكس هذا أقرب إلى طبيعة الأمور. فالعلم السياسي في أيامنا هذه علم تعترف به جامعات العالم كلها تقريباً. إن له كراسي وأساتذة وطلاباً وأموالاًَ ترصد للبحث. وفي كل عام تُطبع عدة آلاف من الكتب أو المقالات فيه. على حين أن الناس لم يكادوا يبدأون الكلام فيه منذ قرن: بين عامي 1859 و1872 فقط إنما أبدل جانه عنوان كتابه الضخم «تاريخ الفلسفة السياسية في علاقاتها بالأخلاق» فأحلَّ « العلم السياسي» محل « الفلسفة السياسية». وما من مؤسسة جامعية كانت تعترف بهذا العلم الذي لم يكن له مكان في هيكل المعرفة. فكأن تطور التسمية سار في عكس اتجاه التطور العلمي.
ومع ذلك كان التطوران متطابقين. لقد وضع ليتره تعريفه في نهاية ذلك القرن التاسع عشر الذي كان الناس فيه يعتقدون بأن العلم سيتيح دراسة جميع العلاقات الإنسانية, لا الظاهرات المادية أو البيولوجية فحسب؛ في ذلك العهد الذي كان الناس فيه ينتظرون قيام «العصر الوضعي» الذي بشر به أوغوست كونت . فإذا بتطور العلوم الاجتماعية نفسها يؤدي اليوم إلى الحِّد من تلك المطامح. إن ما نملكه اليوم من الوفرة والاتقان. ولكننا ندرك اليوم, في الوقت نفسه, الحدود التي يقف عندها استعمال هذه الأدوات وهي حدود ضيقة. صحيح أن السياسة في عام 1964 أقرب إلى العلم منها في زمان ليتره. ففي وسع رجال الدولة في هذه الأيام أن يستعملوا احصاءات كثيرة, ودراسات تسبر الرأي العام, وأن ينتفعوا بطرائق شتى في قيادة الجماهير, وأن يستخدموا آلات حاسبة الكترونية, وما إلى ذلك, بل إن رجال الدولة ليستعملون اليوم هذه الأمور كلها فعلاً. ولكننا نعلم اليوم أن قطاع هذه «السياسة العلم» أصغر من قطاع « السياسة الفن» التي تستند إلى أمور غير دقيقة ولا يمكن حسابها, أمور حدسية لا عقلية.
وعبث أن نؤمِّل أن يغطي القطاعُ الأولُ القطاع الثاني في يوم من الأيام تغطية كاملة, وأن تصبح السياسة علمية كلها . إن القرارات السياسية لا تعتمد على معلومات موضوعية فحسب, بل تعتمد أيضاً على أحكام تعميمية بصدد الإنسان والمجتمع. وليس يبدل من الأمر شيئاً أن لا تكون هذه الأحكام التقييمية مستقلة عن أوضاع أصحابها, وأن تكون تعبيراً عن طبقتهم الاجتماعية أو مصالحهم الشخصية. إن الحرية ليست أبداً حرية اختيار لا تحدده أسباب: إن الحرية هي حرية اختيار تحدده أسبابٌ عاشها صاحبها. ولأن يكون هنالك مسافة بين الأهداف التي تنادي بها والأهداف التي ترمي إليها فعلاً, ولأن تغطي هذه الأهداف الثانية بتلك الأهداف الأولى تمويهاً , فليس ينفي هذا أن الاختيار السياسي إنما تحدده غاية. والعلم السياسي هام جداً لأنه يفضح التغطيات ويكشف عن التمويهات ويستطيع أن يوضِّح الأسباب الحقيقية ا لتي حددت الاختيار. لكنه لا يستطيع هو أن يختار.
وبمقدار ما تعتمد السياسة هذا الاعتماد على اختيار والتزام, تصبح مفاهيمها نسبية, فهذه المفاهيم تعرَّف على أساس مذاهب تقييمية معينة, فلا تعني في كل منها عين ما تعنيه في سائرها. إنك تستطيع أن تصوِّر وجه السياسة الماركسي, أو وجهها اللبرالي, أو وجهها المحافظ, أو وجهها الفاشستي, إلخ. ولكن ليس للسياسة وجه «موضوعي» تماماً, لأنه ليس هنالك سياسة موضوعية تماماًَ. إن في وسع العلم السياسي أن يفصل العناصر الموضوعية عن العناصر التي ليست موضوعية, وأن ينقد بذلك كل مذهب من المذاهب. وفي وسع العلم السياسي أن يحدد درجات ارتباط المذاهب المختلفة بعصر معيَّن, وأن يحدد تطورها. وفي وسعه أيضاً إذا هو قابل هذه المذاهب بعضها ببعض, أن يكمل بعضها ببعض وأن ينقد بعضها ببعض: كما يستطيع المرء أن يقرِّب بين عدد من الصور الفوتوغرافية المأخوذة لشيء واحد من جهات مختلفة بغية الحصول على تصور أكمل لهذا الشيء الذي تظل رؤيته المباشرة مستحيلة.
وراء جميع المذاهب التقييمية وجميع الأحكام الخاصة, نجد موقفين أساسيين على وجه العموم . فالناس منذ أن فكروا في السياسة يترجحون بين تأويلين متعارضيين تعارضاً تاماً. فبعضهم يرى أن السياسة صراع وكفاح, فالسلطة تتيح للأفراد والفئات التي تملكها أن تؤمن سيطرتها على المجتمع وأن تستفيد من هذه السيطرة. وبعضهم يرى أن السياسة جهد يُبذل في سبيل إقرار الأمن والعدالة, فالسلطة تؤمن المصلحة العامة والخير المشترك وتحميهما من ضغط المطامع الخاصة. الأولون يرون أن وظيفة السياسة هي الابقاء على امتيازات تتمتع بها أقلية وتُحرم منها الأكثرية. والآخرون يرون أن السياسة وسيلة لتحقيق تكامل جميع الأفراد في الجماعة, وخلق « المدينة العادلة» التي سبق أن تحدث عنها أرسطو.
والانتماء إلى هذا الرأي أو ذاك يحدده الوضع الاجتماعي بعض التحديد. فالأفراد والطبقات المُضْطَهَدَة المحرومة الفقيرة البائسة لا يمكن أن ترى أن السلطة تكفل الأمن والنظام حقاً, وإنما ترى أن السلطة تخلق صورة كاريكاتورية للأمن والنظام, تتقنع بها سيطرة أصحاب الامتيازات: فالسياسة في رأيها صراع. والأفراد والطبقات المترفة الغنية الراقية ترى أن المجتمع منسجم وأن السلطة تحقق أمناً ونظاماً صادقين: فالسياسة عندها اندماج وتكامل. وكثيراً ما يستطيع أصحاب الرأي الأخير أن يقنعوا أصحاب الرأي الأول بأن الصراعات السياسية سيئة مؤذية خبيثة, وأن المشتركين فيها لا يهدفون إلى غير المصالح الأنانية بأساليب مشبوهة. وبذلك يستطيع أصحاب الرأي الأخير أن يخرجوا خصومهم من المعركة فيكفلوا لأنفسهم ربحاً عظيماً. إن كل « إبعاد عن السياسة» ينفع النظام القائم, ويشجع الجمود , ويقوِّي نزعة المحافظة.
على أن هذين الموقفين لا يعبّران طبعاً إلا عن جزء من الواقع. فالمحافظون, حتى أكثرهم تفاؤلاً, لا يستطيعون أن ينكروا أن السياسة, ولو كان هدفها تحقيق التكامل الاجتماعي, قلَّما تبلغ هذا الهدف على نحو مرض. إن هؤلاء المعياريين المثاليين يصفون السياسة بما يجب أن تكون. أما خصومهم فهم أقرب إلى الواقعية يصفون السياسة بما هي. لكنهم لا يستطيعون هم أنفسهم أن ينكروا أن الصورة التي يرسمونها مسرفة في حلكتها. فالحكام, حتى أكثرهم اضطهاداً وأقلهم عدلاً, يحققون وظائف ذات نفع عام, في الميادين التقنية على الأقل, ولو لم يكن ذلك إلا تنظيم مرور السيارات, وتشغيل مصلحة البريد والهاتف والبرق, وتأمين الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية وغيرها.
ونقول على وجه العموم أن ماهية السياسة وطبيعتها الخاصة ودلالتها الحقيقية هي أنها دائماً وفي كل مكان ذات وجهين. إن صورة «جانوس», في الأساطير الإغريقية تظهره كإلهٍ ذي وجهين, هي التي تمثل الدولة حقاً: إن صورة «جانوس» هذه تعبّر عن الواقع السياسي العميق. فالدولة (والسلطة القائمة في أي مجتمع بوجه عام) تقوم في كل زمان ومكان بوظيفتين في آن واحد, فهي أداة سيطرة بعض الطبقات على الطبقات الأخرى, تستعمله الطبقات الأولى لتحقيق منافعها على حساب منافع الطبقات الأخرى, وهي في الوقت نفسه أداة لاقرار نوع من النظام الاجتماعي, وتأمين نوع من تكامل الأفراد في الجماعة لمصلحة المجموع. وتختلف نسبة هذين العنصرين باختلاف العصور والظروف والبلاد, لكنهما يوجدان معاً في جميع الأحوال. ثم أن العلاقات بين الصراع والتكامل معقدة. إن كل إنكار للنظام الاجتماعي القائم هو صورةٌ ومشروعٌ لنظام اجتماعي أعلى وأصدق. إن في كل صراع صبوة إلى تكامل وجهداً من أجل تحقيق حلم التكامل. وكثير من الناس يرون أن الصراع والتكامل ليس وجهين متعارضين, بل هما عملية كلية واحدة, فالصراع يؤدي بطبيعته إلى تكامل, والتعارضات تتجه بتطورها نفسه إلى زوالها وإلى قيام « المدينة» التي يتحقق فيها الانسجام.
إن الليبراليّين الكلاسيكيين يرون أن التكامل يولِّده الصراع أثناء تطوره: فالظاهرتان متصاحبتان. فالتنافس يؤدي إلى انتشار الانتاج على أوسع مدى, وإلى توزيع الثمرات على أحسن وجه: إنه يؤدي في كل لحظة إلى أفضل اقتصاد ممكن. والتنافس السياسي يؤدي إلى نتائج مماثلة: فبفضل هذا التنافس السياسي يصل إلى الحكم أفضل الناس وأكثرهم كفاءة وأحسنهم, فيحكمون لتحقيق مصلحة المجموع. إن الانسجام السياسي, الذي لا يعكره إلا أناس شاذون منحرفون مرضى, يوازي « الانسجامات الاقتصادية». ويرى الماركسيون من جهتهم أن الصراع هو محِّرك تطور المجتمعات, وهو يؤدي حتماً إلى زوال التعارضات وقيام مجتمع بلا نزاعات. ولكن هذا التكامل لا يظهر إلا في خاتمة المطاف من تطور طويل, لا يظهر إلا في مستقبل بعيد. ففي كل مرحلة من المراحل يتحقق تكامل جزئي, يتحقق«مركب» مايلبث أن يصبح مصدراً جديداً لتناقض وتعارض. والانسجام السياسي يتطور على نحو إيقاعي إلى أن يبلغ من التاريخ خاتمة المطاف(6).
من ناحية أخرى, فقد عرَّفت «الموسوعة الفلسفية» الروسية السياسة: بأنها المشاركة في شؤون الدولة وتوجيهها. حيث تتضمن السياسة مشكلات بنية الدولة وإدارة البلاد والمجتمع والطبقات, ومسائل الصراع الحزبي.. الخ. فالمصالح الأساسية للطبقات الاجتماعية المختلفة (والمتصارعة) والعلاقات الناشئة بين الطبقات المتناحرة تنعكس بصورة وأوضاع مواقف مباشرة وغير مباشرة في السياسة. كذلك تعبّر السياسة عن العلاقات بين الأمم والدول (السياسة الخارجية). وتنشأ العلاقات بين الطبقات, وبالتالي بين سياساتها عن وضعها الاقتصادي وأفكارها السياسية.
وفي حين أنّ المؤسسات القائمة على أساسها تشكل «البنية الفوقية», لكن ذلك لا يعني أن السياسة هي نتيجة سلبية أو حتمية للاقتصاد. لأن السياسة كي تكون قوة تحول كبيرة ينبغي أن تعكس بطريقة صحيحة وموضوعية حاجات الحياة المادية للمجتمع. ويقوم علم السياسة الحقيقي على قوانين التطور الاجتماعي, التي تتلاءم مع مصالح المجتمع.(7)
وبدورها ركّزت «الموسوعة السياسية»(
, التي أعدّها مجموعة من الباحثين والمتخصصين العرب على حقيقة أن السياسة تشكّل مركز الحياة العامة للمجتمعات البشرية, ولهذا كثرت فيها التعريفات والاجتهادات, حيث أصبح نشوء السياسة ممكناً بعدما تخطى الإنسان مرحلة العيش البدائي, وبعدما أدرك ضرورة الحياة الاجتماعية.
فالسياسة (بحسب الموسوعة) هي فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السلطة أو الدولة , وأوجه العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وفي تعريف أكثر دقّة وشمولاً يمكن القول بأن السياسة هي النشاط الاجتماعي, الفريد من نوعه , الذي ينظم الحياة العامة, ويضمن الأمن ويقيم التوازن والوفاق ـ من خلال الشرعية والسيادة ـ بين الأفراد والجماعات المتنافسة والمتصارعة في وحدة الحكم المستقلّة على أساس علاقات القوة , والذي يحدّد أوجه المشاركة في السلطة بنسبة الإسهام والأهمية في تحقيق الحفاظ على النظام الاجتماعي وسير المجتمع.
وفي تعريف آخر (للموسوعة السياسية): السياسة هي النشاط الاجتماعي المدعوم بالقوة المستندة إلى مفهوم ما للحقّ أو للعدالة لضمان الأمن الخارجي والسلم الاجتماعي الداخلي للوحدة السياسية, ولضبط الصراعات والتعدد في المصالح ووجهات النظر للحيلولة دون الإخلال بتماسك الوحدة السياسية, باستخدام أقل حد ممكن من العنف. وفي تعريف ثالث: هي علم دراسة المصالح المتضاربة وانعكاسها على تكوين السلطة والحفاظ على امتيازات الطبقة الحاكمة.
وفي تعريف رابع هي الجهد لإقامة النظام والعدل, وتغليب الصالح العام والمصالحة الاجتماعية المشتركة في وجه ضغوط المصالح الفئوية.
مع الإشارة هنا إلى تعريف السياسة بطريقة نقدية أو ساخرة, كقول دزرائيلي: «إن السياسة هي فن حكم البشر عن طريق خداعهم», أو القول بأنها «فن تأجيل تأزم المشكلات والمعضلات», إلى القول بأن «السياسة هي صراع أقليات منظمة», إلى قول نابليون بونابرت: «بأن السياسة هي تنظيم الجماهير المستعدة للتضحية في سبيل المُثل».
وتضيف «الموسوعة السياسية»: مهما يكن من أمر تنوّع تعريفات السياسة فإن المؤكد هو أنها من حيث كونها الوسيلة الاجتماعية الوحيدة للتنسيق والتوفيق بين المطالب السياسية والاجتماعية اللامتناهية للفئات والجماعات الاجتماعية وبين الموارد المتناهية والمحدودة للمجتمع عن طريق الكوابح وتنمية مشاعر التضامن الاجتماعي وحفظ السلم والاستقرار, فإنها شكلت , تاريخياً, الأرضية الأساسية الضرورية للتمدن والحياة الاجتماعية المتقدمة.
لقد لامست السياسة جميع الجوانب الأخرى للحياة الاجتماعية, وأقامت المناخ الملائم للحفاظ عليها وتنميتها, ومن هنا جاء قول الفيلسوف اليوناني ورائد علم السياسة أرسطو, بأن: السياسة هي علم السيادة و« سيدة العلوم» . فهي «سيدّة» كممارسة أنها تعنى بالمسائل الحيوية في المجتمع, مثل تحديد حقوق المواطن وواجباته الاجتماعية, ووجهة الثقافة وقضايا السلم والحرب.. إلخ. وهي « سيدة العلوم» كدراسة وأفكار تعنى بتوضيح المفاهيم (العدل, الحرية, الحق...), وتحديد الغايات والوسائل والخيارات, ومقارنة البدائل.. وبالتالي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في اعتماد الخيارات والحكم عليها.
أما بشأن العلاقة بين الممارسة والفكر, تقول « الموسوعة السياسية»: إنّ التفريق بين الممارسة والنظرية , بين العمل والفكر في السياسة مسألة لا تخلو من الصعوبة والتصنّع بدرجة أكبر مما يبدو للوهلة الأولى. فالسياسي يحمل, بطريقة أو بأخرى وبدرجة أو بأخرى, نظرة أو مفاهيم أو نظرية سياسية تحدّد له ملامح مسار عمله السياسي. كذلك فإن عالم السياسة يستند في جهوده ونظراته إلى الأعمال السياسية السابقة, ويقدّم خطة عمل مقبلة مستمدة من الواقع السياسي ومتوجهة إليه في آنٍ معاً.
وقد سعى عدد من العلماء والفلاسفة والدارسين للسياسة نحو إقامة أنظمة سياسية مثالية (جمهورية أفلاطون, المدينة الفاضلة..الخ), وتركوا أعمق الأثر في تاريخ الفكر السياسي وبالتالي في التاريخ السياسي, مثل أرسطو, أو جمعوا بين الممارسة والفكر السياسي مثل العلاّمة العربي وعالم الاجتماع والسياسة الأشهر عبد الرحمن بن خلدون رائد فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع السياسي, أو عملوا مستشارين للحكام مثل ماكيا فيللي (صاحب كتاب «الأمير») وغيرهم. وقد ذهب أفلاطون في جمهوريته (كتاب الجمهورية) إلى أنه من الضرورة بمكان كبير أن تنشأ مؤسسة عليا خاصة لتدريس علم السياسة وتدريب رجال الدولة, لأن قيادة الدولة هي العلم الأعلى والمسألة الأهم في المجتمع. أما أرسطو فقد ذهب إلى القول بضرورة إيجاد علم السياسة, نظراً لأن ذلك شرط من شروط اصلاح النظام.
ويرى بعضهم أن السياسة هي فن القيادة أكثر مما هي «علم الحكم». فالسياسة قائمة قبل انبثاق العلوم, وأهم الساسة في التاريخ لم يتعاطوا السياسة (وحتى عن غيرها من العلوم الاجتماعية) صفة «العلم» لصعوبة تطبيق الطرق العلمية على أبحاثها ونظرياتها وأفكارها في الاختبار والسيطرة والقدرة على التنبؤ, إضافة إلى عدم وجود إجماع بين العلماء بشأن القوانين والاستنتاجات الخاصة بهذا العلم. وعلى الرغم من أنّ العملية السياسيّة ـ الاجتماعية متطورة ومتغيرة أبداً, ومن تضمّن السياسة اعتبارات وعناصر غير عقلانية تماماً, واحتوائها لعوامل قيمية ـ معنوية (العدل ,الحرية, الحق, الواجب,) وحدسية, فإن علوم السياسة الحديثة تستخدم الوسائل والعلوم الاحصائية والاختبارية والمعلوماتية والنفسية والمقارنة والتاريخية.. للتحقق من الملاحظات والاستنتاجات وقياس اتجاهات الرأي العام, وبعض علاقات وبُنى الاجتماع السياسي. وبالطبع فإن استخدام مثل هذه المناهج العلمية لم يحوّل السياسة إلى علم «موضوعي» تماماً, ومع ذلك فإن السياسة, كما يشير موريس دوفيرجيه, علم معترف به في معظم الجامعات كعلم مستقل له أساتذته وكتبه ومناهجه المقررة, وعشرات الكتب والمؤلفات السنوية المندرجة تحت تصنيفه.
ويتصل علم السياسة بالعلوم الطبيعية (الإنسان حيوان يعيش في محيط جغرافي ويعتمد في بقائه على الموارد الطبيعية ومشتقاتها) وبالعلوم الاجتماعية, لأن السياسة هي جزء من حياة الإنسان الاجتماعية متفاعلة مع الأجزاء الأخرى, وبعلم التاريخ لأن التاريخ هو من وجهة معيّنة سجل الأحداث السياسية وتطور المؤسسات والفلسفات السياسية.«فالسياسة هي ثمرة التاريخ», والتاريخ هو جذر علوم السياسة. كما أن السياسة متصلة أيضاً بعلم الأخلاق والفلسفة, لأن هناك منحىً نمطياً وقيمياً وأخلاقياً في الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان المنظومة الاشتراكية) «الاقتصاد السياسي», لأن الاقتصاد يشكّل لبّ نشاط الدولة (قوانين الملكية, والنقود, والضرائب والتجارة, والأجور, والنقابات, والخدمات العامة, ومشاريع التنمية, والضمانات الاجتماعية, الإنفاق العام..إلخ). كذلك فإنّ الاتجاهات الأكاديمية المعاصرة تشدّد على أهمية علم النفس الفردي والجمعي والسلوكي في فهم وإدراك اتجاهات الأفراد والجماعات والمجتمعات, بغية التنبؤ بردود أفعالهم إزاء هذه المسألة السياسية أو تلك, وعلى أهمية علم الاجتماع وارتباطه العضوي والمباشر بعلم السياسة إلى درجة نشوء علم الاجتماع السياسي.