نظريتا التبعية والتطور اللامتكافئ
دفع الواقع المأساوي بعديد من المفكرين الذين اهتموا بموضوع التنمية في بلدان العالم الثالث إلى دراسة وتحليل معوقات التنمية في هذه البلدان، والخروج ببعض الطروحات النظرية التي تعالج طبيعة علاقة البلدان المتخلفة بالنظام الاقتصادي العالمي، ومحاولة طرح بعض التصورات للخروج بهذه البلدان من مأزق التخلف الراهن.
تصور بوب سانكليف. ناقش الكاتب بوب سانكليف موضوع التنمية في دراسة كتبها تحت عنوان الإمبريالية والتصنيع في العالم الثالث مؤكدًا على أهمية استقلال عملية التصنيع في البلدان النامية، بحيث لا تصبح فرعًا لصناعة اقتصاد آخر، وإنما يجب أن تنطلق فكرة استقلال التصنيع من أصوله وقواه المحركة، وأن تنبع وتصان من قوى اجتماعية واقتصادية في داخل البلد المصنع. ويحدد سانكليف خصائص التصنيع المستقل فيقول: "وللتصنيع المستقل خصائص بارزة إضافة إلى الأسواق، منها ما يتعلق ببيئة الإنتاج الصناعي، فالصناعة لا يمكن اعتبارها مستقلة تمامًا ما لم يحتو البلد المعني داخل حدوده على مجموعة متنوعة من الصناعات، من بينها صناعات السلع الرأسمالية الاستراتيجية اقتصاديًا. وتتعلق السمة الأخرى للاستقلال بمصدر تمويل الصناعة المحلية، فرأس المال الأجنبي يتوقع منه عادة تقويض الاستقلال".
أما العنصر الآخر في مفهوم الاستقلال الاقتصادي فإنه يرتبط بالتكنولوجيا. فالتقدم التكنولوجي المستقل المتمثل في القدرة على نسخ وتطوير وتكييف التكنولوجيا المتلائمة مع موارد البلد هو أحد الشروط الرئيسية للتصنيع. أما الشرط الآخر فيتمثل في القدرة على تطوير التكنولوجيا بشكل تتمكن فيه الصناعة المحلية من تلبية طلب السوق الداخلية، وهذا بدوره يتطلب زيادة في رؤوس الأموال، ومقدرة على منافسة المنتجات الأجنبية.
ويقارن سانكليف بين الظروف التي حدثت فيها عملية التصنيع في الدول الغربية وبين تلك التي حدثت في العالم الثالث، فيشير إلى أن أوروبا قد استطاعت بناء وتعزيز صناعاتها من خلال نهبها للجزء المتخلف من العالم، بتحويل رأس المال الكامن مستخدمة إياه في تمويل الصناعة الأوروبية، وفي نفس الوقت قامت الإمبريالية الأوروبية بالاستيلاء على الأسواق. أما في البلدان المتخلفة فقد كان على رأس المال أن يتنافس على الأسواق ليس مع الإنتاج الحرفي التقليدي وغير الكفؤ فحسب، بل أيضًا مع إنتاج أكثر المشاريع الصناعية تطورًا في البلدان الرأسمالية المتقدمة، ولذلك، فإن الصناعة في البلدان المتخلفة تواجه صعوبة بالغة ليس في اقتحام الأسواق المحلية فحسب، حيث لا تتوفر وسائل حماية كافية، بل تواجه صعوبة أكثر من ذلك في اقتحام الأسواق الأجنبية، وبخاصة أسواق الدول الرأسمالية المتطورة التي من البديهي الافتراض أن يكون تركيب أنظمة التعرفة فيها مصممًا لصالح الرأسماليين أنفسهم. يضاف إلى ذلك أن من الضرورة إدراك أن جانبًا كبيرًا من تجارة البلدان المتخلفة ليس سوى تحويل للسلع بين فروع متكاملة عموديًا لمنشآت دولية، وبذلك فإنها، والحالة هذه، هو مجرد معاملة في داخل المنشأة، ولذلك فإن ضررها أكثر من نفعها، لكونها تؤدي إلى تقليص الفائض الإجمالي للبلد المتخلف، إذ إنها تتم بأسعار تحويلية لا يكون في الغالب بينها وبين أسعار السوق القائمة للمنتجات أية صلة.
تصور أندريه فرانك. عالجت أطروحات الكاتب أندريه جندر فرانك في نظريته عن التخلف علاقة المركز الذي هو النظام الغربي الرأسمالي بالتوابع التي هي دول العالم الثالث، فأشار إلى أن واقع التخلف الراهن لبلد ما، ما هو إلا النتيجة التاريخية للعلاقات الاقتصادية وغير الاقتصادية المستمرة بين هذا البلد وبين البلدان الصناعية المتقدمة حاليًا. كما أشار إلى أن هذه العلاقات تشكل جزءًا جوهريا من بنية وتطور النظام الرأسمالي على صعيد العالم كله، فالنمو السريع الذي تم في الدول الغربية حصل على حساب نهب ثروات شعوب البلدان المتخلفة.
وهكذا ربط فرانك موضوعيًا بين سيطرة الرأسمالية الاحتكارية والإمبريالية في البلدان المتقدمة، وبين التخلف الاجتماعي والاقتصادي في البلدان النامية، داحضًا الفكرة الخاطئة القائلة بأن تنمية البلدان والمناطق الأكثر تخلفًا لن تتم أو تحفز دون أن تتسرب إليها رؤوس الأموال والمؤسسات والقيم... من المتروبولات (مراكز) الرأسمالية الدولية والوطنية. موضحًا أن الآفاق التاريخية المستندة إلى تجارب البلدان المتخلفة توحي بعكس ذلك، إذ لا يمكن حدوث التنمية الاقتصادية للبلدان المتخلفة إلا بفك ارتباطاتها بالقوى الإمبريالية، والحيلولة دون تمكين رؤوس الأموال الأجنبية ومؤسساتها وقيمها من التسرب.
والحقيقة أن فرانك في تحليله هذا قد رفض النهجين الماركسي "الأرثوذكسي" والرأسمالي "الروستوي" في مفهوم التنمية في البلدان المتخلفة، حين اعتبر العلاقة مع النظام الرأسمالي العالمي عاملاً رئيسيًا من معوقاتها.
تصور سمير أمين. ناقش الكاتب سمير أمين هذه القضية من زاوية أخرى، فقد لاحظ أن جميع الدول على اختلاف اتجاهاتها، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية فإنها مرتبطة بدرجات مختلفة بنظام تجاري ومالي عالمي، فالجميع يخضع لسوق عالمي واحد، هو السوق الرأسمالي العالمي بما في ذلك الاتحاد السوفييتي (سابقًا) ودول أوروبا الشرقية الاشتراكية، على الرغم من أنها ليست جزءًا من النظام الرأسمالي العالمي. فالنظام الاقتصادي العالمي يعتمد على التراكم، وتمديد العملية الإنتاجية التي هي ركيزة أساسية في علاقات نظام الإنتاج الرأسمالي، وربما ينطبق ذلك أيضًا على طبيعة الإنتاج الاشتراكي السائد الآن.
ولهذا ر فض النظر إلى وضع التخلف السائد في العالم الثالث على أنه مشابه للتخلف الذي كان سائدًا في العالم المتقدم قبل مرحلة التصنيع، فالتخلف السائد الآن، كما يراه أمين، يرتبط تاريخيًا بعلاقة بلدان العالم الثالث بالنظام الاقتصادي العالمي، فهو إذن ليس مجرد حالة اعتيادية، ولكنه النتيجة المباشرة للعلاقة التجارية غير المتوازنة بين البلدان المتخلفة والدول الصناعية المتقدمة.
وقد توافقت تحليلات أرغيري إيمانويل مع آراء سمير أمين في وجود علاقة غير متكافئة بين المركز والمحيط، معتبرًا أن التخلف السائد في بلدان العالم الثالث هو النتيجة الطبيعية لتأثير أشكال الإنتاج الرأسمالية، وأسلوب هذه الطبقة في التعامل التجاري القائم على تحطيم الصناعات الحرفية في البلدان المتخلفة، وعدم تمكينها من بناء بدائل عنها، بحيث يتم الاعتماد كليًا على استيراد البضائع من المركز الذي هو العالم الصناعي المتقدم. وفي أحسن الحالات فإن محاولات التصنيع في بلدان المحيط التي هي الدول المتخلفة لا يسمح لها أن تتجاوز بعض الصناعات الاستهلاكية الخفيفة، بحيث تكون النتيجة المنطقية لهذا السلوك هي ربط هذه البلدان بالنظام الاقتصادي الرأسمالي.
أما المفكر البرازيلي دوس فقد عرَّف التخلف الراهن على أنه الحالة التي يكون فيها اقتصاد بلد ما متأثرًا وتابعًا لحالة اقتصاد بلد آخر بحيث يكون الأول ضحية للنمو الاقتصادي في الثاني، وتكون العلاقة بينهما غير متكافئة، فيستطيع القوي التأثير على الضعيف.
تلك كانت خلاصة سريعة جدًا لآراء أهم المدارس التي اهتمت بدراسة موضوع التنمية في العالم الثالث، المعروفة الآن في العلوم السياسية والاجتماعية بنظرية التبعية ونظرية التطور اللامتكافئ.
وبالإمكان، من خلال هذه القراءة السريعة أن نسجل أن هذه المدارس قد استطاعت أن تقدم تصورًا أعمق وأكثر دراية لطبيعة المشاكل التي تواجه العملية التنموية في البلدان المتخلفة، يمكن تلخيصه في أن هذه المدارس عالجت موضوع الاقتصاد في البلدان المتخلفة ليس كوحدة مستقلة وإنما عن طريق ربطه بالنظام العالمي، داحضة النظرية القديمة للعلاقات الدولية القائلة بتجانس وتكافؤ العلاقات بين الدول، وأن الصراع بينها هو أشبه بصراع بين فريقي كرة قدم، حيث يمتلك كل فريق أدواته واستراتيجيته الخاصة، دون النظر بعمق إلى أن هذا التنافس هو منذ البدء تنافسًا غير متكافئ.
كما غيرت هذه النظريات من طبيعة الفهم السائد سابقًا عن العلاقة بين البلدان الصناعية المتقدمة والبلدان المتخلفة من علاقة توافق وانسجام وتكامل، إلى اضطهاد وصراع وقسر، كمحركات أساسية في الاقتصاد السياسي، مشيرة إلى الإمبريالية كمرحلة عصيبة ومقيدة لانطلاق التنمية في بلدان العالم الثالث.
ومن جهة أخرى أثبتت نظريتا التبعية والتطور اللامتكافئ بالتحليل وعن طريق الدراسة العلمية أن ثبوت نظرية اقتصادية أو برنامج عمل تنموي في بلد ما ولحقبة تاريخية محددة، لا يعني بالضرورة إمكانية نقل هذه النظرية أو هذا البرنامج إلى بلد آخر أو مرحلة مغايرة. فما هو صالح الآن قد لا يصلح للغد، وما يمكن تطبيقه في هذا البلد قد لا يمكن تطبيقه في البلد الآخر.
إضافة إلى ذلك دحضت هاتان النظريتان التصور الماركسي القديم للتغيرات التاريخية والاجتماعية، حيث أثبتت عدم إمكانية نشوء طبقة عمالية منتجة في بلدان العالم الثالث نتيجة للعلاقات غير المتكافئة مع النظام الرأسمالي العالمي، ولذلك اعتبرت انتظار نشوء هذه الطبقة أمرًا غير منطقي وغير صحيح، وأن الخيار الوحيد أمام شعوب العالم الثالث لتحقيق تقدمها وتطورها هو في فك ارتباطاتها بالنظام الاقتصادي العالمي، وانتهاج سياسة اقتصادية مستقلة.
وأخيرًا، فقد دحضت هاتان النظريتان أيضًا الأفكار العنصرية التي تمسك بها بعض المفكرين الغربيين والقائلة بأن مصدر فقر دول العالم الثالث هو اتصاف شعوبه بالكسل والخمول، والتزام هذه الشعوب بقيم ومعتقدات خاطئة. فقد ربطت هذه النظريات، كما رأينا، بين علاقة التخلف في بلدان العالم الثالث وبين النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي السائد.
العالم العربي والتنمية
كما هو الحال في العالم الثالث كان العالم العربي منقسمًا أيضًا بين النموذج الرأسمالي والنموذج الاشتراكي للتنمية.
وقد بدأ النموذج الاشتراكي حين طبقت مصر بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر النهج الاشتراكي كخيار للتنمية بدأ بقانون الإصلاح الزراعي الذي ألغى الإقطاع وجزأ الحيازات الزراعية الكبرى إلى حيازات صغيرة تم توزيعها على المواطنين الراغبين العمل في الزراعة، وما لحق ذلك من تأميم المنشآت الخاصة ووضعها تحت إدارة الدولة وإشرافها. وحذا حذو مصر عدد آخر من الدول العربية كسوريا والعراق والجزائر. وفي هذا الأثناء أخذت بعض الدول العربية الأخرى بتطبيق نموذج قريب من النموذج الرأسمالي للتنمية كالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي ولبنان والمغرب. ومع الفرق الكبير بين النموذجين إلا أن غالبية الدول العربية سواء القريبة من الرأسمالية أو الاشتراكية بدأت وضع خطط مركزية للتنمية سواء الخطط الخمسية أو العشرية. ومع هذا بقيت الإنجازات التنموية محدودة في البلدان العربية إلى ما بعد 1973م، متأثرة بقيمة الموارد المالية والصرف الكثير على المجهود الحربي الذي تطلبته تلك المرحلة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. فبعد عام 1973م وقطع إمدادات البترول عن الغرب بسبب حرب أكتوبر قفزت أسعار البترول إلى معدلات غير مسبوقة، وتكون لدى العديد من الدول العربية عائدات مالية ضخمة مكنتها من تحقيق إنجازات كبيرة خلال العقدين الماضيين تمثلت في تحسين مستويات المعيشة لمواطنيها، فزاد نصيب الفرد من الدخل وكذلك من الخدمات الاجتماعية والتعليمية والصحية. إضافة إلى التحسين الكبير في البنية التحتية لهذه الدول.
ومن ناحية أخرى، أدت الفوائض في موازين مدفوعات الدول البترولية إلى تراكم احتياطات رسمية وأصول أجنبية كبيرة جعلت على عاتق هذه الدول مسؤوليات كبيرة تجاه الدول العربية الأخرى الأمر الذي أدى إلى قيام هذه الدول بإنشاء مؤسسات جديدة لتمويل عملية التنمية في الدول العربية الشقيقة والدول النامية بشكل عام (صناديق التنمية). كما عمدت بلدان الفائض العربية إلى زيادة مساهمتها في العديد من المؤسسات الإقليمية والدولية بالإضافة إلى استقبال أعداد كبيرة من العمال الوافدين من الدول العربية والبلدان النامية الأخرى مما أدى إلى تدفق تحويلات هؤلاء الوافدين بالعملات الصعبة إلى بلدانهم مما ساهم بدوره في دعم موازين مدفوعاتها الخارجية.
وفي الوقت نفسه سعت الدول العربية غير البترولية إلى تطوير مواردها الاقتصادية الذاتية من الصناعة والزراعة والتجارة الخارجية والسياحة، وجعلتها موردًا أساسيًا لخططها التنموية التي حققت الكثير من النتائج الإيجابية، والتي كان يمكن أن تكون أفضل مما هي لولا التقلبات السياسية التي شكلت عائقًا في كثير من الأحيان. وحاليًا تسعى كثير من الدول العربية، حتى ذات المنحنى الاشتراكي تقليديًا، وتحت ضغط متطلبات التنمية من ناحية، والعولمة الاقتصادية من ناحية أخرى، إلى خصخصة قطاع الاستثمار، وقطعت شوطًا بعيدًا في ذلك، مما أدى إلى تحول التنمية إلى مشروع مشترك بين القطاعين العام والخاص في كثير من تلك الدول.