ونتسكيو بين فصل السلطات وإقامة التوازن بين القوى السياسية
أبريل 4, 2012
على عتبة عَدن.. مقالات في السياسة أضف تعليقاً
مونتسكيو بين فصل السلطات الثلاث و إقامة التوازن بين القوى السياسية :
تكاد تكون من المسلمات في الفكر السياسي الديمقراطي ضرورة التوازن بين السلطات الثلاث و أنها الأساس الذي يبنى عليه صرح الديمقراطية _وبالتالي العدالة_ وهذه الفكرة لم تكن حاضرة بكثافتها هذه قبل الفيلسوف الفرنسي شارل بارون دي مونتسكيو _ 1689 – 1755 -ونجد بذورها لدى الفيلسوف الانجليزي جون لوك , كان هدف مونتسكيو واضح فهو يهدف إلى ((الفصل بين سلطات الحكومة الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية حتى تبقى في أيدي مختلفة فإذا اجتمعت اثنتان أو كلها في نفس الأيدي فإن السلطة تكون متمركزة بصورة كبيرة )) (1) ومخيفة , و تطبيق هذه النظرية في الولايات المتحدة الأمريكية على أيدي الآباء المؤسسين الذين كانوا مفتونين بمونتسكيو ونظريته (2) رفع ثمن أسهمها في سوق النظريات السياسية وأصبحت الحلم الذي تشرئب إليه أعناق الطامحون للديمقراطية و الطريق الذي يريد تعبيده الحالمون بالعدالة , ونشأت مدرسة كاملة من الحقوقيين في نهاية القرن التاسع عشر والعشرين الذين سيجعلون قضية الفصل بين السلطات ضرورة ملحة وأنه هو المثل السياسي الأعلى لدى مونتسكيو (3), ولا عجب في هذا فإن النظريات السياسية حينما تُطبق وتنجح سترنو إليها القلوب و تصبح نتائجها الرائعة أكبر دعاية لها وستسعى الشعوب الأخرى لمحاولة إعادة إنتاجها في وطنهم , و أما فشلها أمضى سلاح ينحرها في العقول فمع أن الشيوعية قد تكون من أكثر الأفكار تماسكا وإغراء بين صفحات الكتب وظلت الشعوب لفترة طويلة تطمح إليها لكن حينما طبقت بالشكل التوتاليتاري في الإتحاد السوفيتي و تم ارتكاب كثير من الجرائم بسببها في البلدان المختلفة جعلها فكرة باهتة و عجوز شمطاء ليس هناك شعب لديه الاستعداد لأن يدفع مهرها مهما كان رخيصا والعكس من ذلك الرأسمالية التي كانت منذ القرن التاسع عشر وهي تتلقى ضربات نقدية قاسية وكثر المبشرين بدنو أجلها _ليس أولهم ماركس وليس آخرهم سيد قطب _ ومع ذلك لازلت متماسكة ولازلت بعد كل تلك العمليات الجراحية الدقيقة التي قامت بها تستطيع الوقوف وإبراز نفسها كالقامة الأطول بين كل النظريات السياسية الأخرى .
وعودا على صديقنا مونتسكيو ونظرية الفصل بين السلطات فنقول : إن مونستيكو في الحقيقة لم يكن يتحدث عن الفصل بين السلطات بالطريقة التي نعرفها الآن بل كان يتحدث عن وجود ثلاث قوى داخل جسد الدولة وهذه القوى لا ينبغي أن تكون منفصلة بل هي مندمجة فهو يقول ((بما أن الهيئة التشريعية مكونة من جزئين فإن أحدهما يجر الآخر وسيرتبط الإثنان بالقوة التنفيذية التي سترتبط هي نفسها بالتشريعية )) (4) ويقول في موضع آخر ((إن السلطات الثلاث هي موزعة و مندمجة )) (5)
إذا نسب نظرية الفصل بين السلطات إلى مونتسكيو مجرد أسطورة وإنما كان فيلسوفنا الفرنسي يريد فقط أن يوجد توازن بين القوى السياسية في المجتمع والموجودة في زمنه بين “النبلاء – الغرفة العليا في البرلمان” و “الملك – السلطة التنفيذية” و “الشعب – الغرفة السفلى في البرلمان” والقضاء إنما هو مجرد جهة تتلو الأحكام (6) وليست قوة تستطيع كبح الظلم كما ستكون المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية , ومن المفارقة أن يكون مونتسكيو هو المسؤول الأول عن هذا الفهم الخاطئ لنظريته لعدم فهمه للدستور الإنجليزي الذي وقع في شباك غرامه حينما كان ماكثا للجزر البريطانية بين العامين 1729 و 1730 وفي تلك الفترة كانت سلطة البرلمان تزداد قوة و أصبح من حقها مساءلة وزراء الملك بل وأكثر من ذلك سيكون من حقها فيما بعد أن يكوَّن المجلس التشريعي الوزارة ويعين رئيس الوزراء ولكن تحليلات مونتسكيو كانت على دستور عام 1689 الذي كان في طريقه إلى المقبرة(7)
ومن هنا نفهم مدى التشوه الذي ولد في السياسية الأمريكية من خلال محاولة تقليد الدستور البريطاني عبر فهم مونتسكيو له وحُولت السلطة التنفيذية إلى سلطة مخالفة للسلطة التشريعية ومنصب الرئيس الأمريكي هو من أقوى المناصب في عالم السياسة المختلفة و أكثرها نفوذا وسطوة فالرئيس الأمريكي مسؤول فقط أمام الشعب وليس أمام الكونجرس , وليس من حق البرلمان مسائلة الرئيس الأمريكي أو سحب الثقة من حكومته كما في الدول البرلمانية مثل بريطانيا و تركيا وإنما من حقهم فقط عزله وتوجيه الاتهام له بشروط صعبة أبرزها توجيه “تهمة” إلى الرئيس بالأغلبية البرلمانية ثم يجتمع مجلس الشيوخ _الغرفة العليا في الكونجرس_ على شكل هيئة محلفين ويتولى رئيس المحكمة العليا رئاسة هيئة المحكمة ويجب أن يصدر قرار بإدانة الرئيس من قبل الثلثين في مجلس الشيوخ , ولم يوضع في هذه الوضعية إلا رئيسين هما أندرو جونسون الذي لم يكن يفصله عن قرار الإدانة سوى صوت واحد (
, وأيضا الرئيس بيل كلينتون الذي اتــُهم بالتزوير لكن استطاع النجاة بسهولة و أما نيكسون ففر من الرئاسة قبل توجيه الاتهام له من قبل مجلس النواب, ومن حق الرئيس الأمريكي أن يستخدم الفيتو ليبطل تشريع البرلمان , ولن نجانب الصواب لو قلنا أن الآباء المؤسسون لم يضعوا الرئيس الأمريكي مقابلا لرئيس الحكومة البريطاني وإنما وضعوه في مقابلة الملك “الملك جورج الثالث” وما ينبغي أن تكون عليه سلطاته _كما تصورها الملك جورج الثالث نفسه _ (9)
وفي المقابل فإن مونتسكيو يقول بصراحة إن سيطرة السلطة التشريعية على السلطة التنفيذية هو خطر ويؤدي إلى الاستبدادية الشعبية و العكس ليس صحيحا فإن سيطرة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية بالإمكان معها أن تستمر الحياة وتحافظ على اعتدالها ((إذا شاركت القوة التشريعية في التنفيذية فإن الملكية ستكون هالكة )) (10) ولا حاجة لأن نرد على هذا الإدعاء فإن معظم الدول الديمقراطية الآن تتبنى النظام البرلماني حيث تتشكل الحكومة من السلطة التشريعية المنتخبة و على العكس تماما حينما تسيطر السلطة التنفيذية الغير منتخبة على السلطة التشريعية فإن هذا يؤدي إلى كون البرلمان مجرد ديكور في العملية السياسية لا أكثر , فالفصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية يكاد أن يكون غير ممكنا _حتى في أمريكا من الممكن أن يفوز حزب الرئيس بالبرلمان _ وله تبعاته السياسية التي تثبط العملية التنموية لكن من الضروري جدا ومن الملح جدا أن تكون لدى السلطة التشريعية القدرة على مراقبة السلطة التنفيذية و يجب تفعيل دور المعارضة في ذلك و أن تكون السلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية حتى وإن كانت التنفيذية تشكل أغلبية البرلمان فمع أن حزب كاميرون هو الذي يسيطر على مجلس العموم البريطاني لكن مجلس العموم استطاع أن يجلبه ويضعه على كرسي الاستجواب على خلفية فضيحة مردوخ , وعلى كل حال يجب ألا ننظر إلى السلطات الثلاث بأنها تغني عن سلطة “المجتمع المدني” فسلطة المجتمع المدني أهم من هذه السلطات الثلاث كلها بل هذه السلطات هي نتاج للمجتمع المدني أصلا وامتداد له و حينما يقوم المجتمع المدني بالضغط على أحد السلطات ستتحرك الأخرى لإسقاطها كما رأينا في الكويت وفي أمريكا قبل إقالة الرئيس نيكسون .وربما يسقط السلطتين التنفيذية والتشريعية وهذه القوة لا يملكها غيره
وبشكل عام إن الفساد قد يلحق في السلطة التنفيذية وفي السلطة التشريعية لكن يبقى الحصن الأخير للديمقراطية يحتشد في مؤسسة القضاء , والقضاء هو الذي حافظ على النظام الديمقراطي الأمريكي مؤخرا وتقديم نفسه في العقود الأخيرة كقوة تستطيع مبارزة القوة التنفيذية والتشريعية مجتمعة ً و تؤكد الحقوق الدستورية المكفولة للجميع , وضرورة بقاء هذه القوة مطهرة من درن السياسيين و يستطيع المواطن الوصول إليها , وسأجري مقارنة بين دور المحكمة العليا في أمريكا و الدستورية في مصر وبين المجلس الأعلى للقضاء و رثاء البعض له حينما تولى مهامه وزير العدل في وقتٍ لاحق إن شاء الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ديفيد لورنتال “تاريخ الفلسفة السياسية ” ص :86 . ط :المجلس الأعلى للثقافة .
2- انظر حنة أرندت “في الثورة” ص :213 . ط المنظمة العربية للترجمة
3- لوي ألتوسير “مونتسكيو السياسة والتاريخ ” ص :88 . ط الفارابي .
4- م ن . ص : 90
5- م ن . ص :90
6- من . ص : 91
7- عزمي بشارة “المجتمع المدني دراسة نقدية ” ص : 108 . ط مركز دراسات الوحدة العربية.
8- انظر لاري إليونز “نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية” ص :176 . ط :الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة .
9- عزمي بشارة م س . ص : 108
10- لو ألتوسير “مونتسكيو السياسة والتاريخ” ص : 92 . م س.