ب- مستوى البناء الأمني:
للمستوى الأمني أهمية بالغة في تحقيق الاستقرار والأمان داخل المجتمع فدونه أو نسبية تحقيقه تحول دون انخراط "المنظمات غير الحكومية" في عمليات بناء السلام في باقي المجالات نتيجة لصعوبة تحقيق ذلك في ظل تردي الأوضاع الأمنية. وتتباين المساهمات التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية في هذا المجال من عمليات المصالحة الوطنية بين مختلف أفراد المجتمع إلى تعزيز المرحلة الانتقالية بالاتجاه نحو دولة ديمقراطية قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعتبر عمليات المصالحة الوطنية من أولى العمليات التي تُطبّق في بيئة ما بعد النزاع لاسيما إذا تعلق الأمر بالنزاعات ذات الطابع الإثني، وبذلك تعتبر عملية التوفيق بين الأطراف التي كانت متنازعة وتعزيز قيم التسامح والمحبة ضرورة ملحة من أجل ارساء الأمن، والقضاء على الأحقاد والضغينة التي قد يُكنّها بعض الأفراد بالرغم من انتهاء النزاع. يعتبر ذلك من صميم مهام "منظمة الإغاثة للكنيسة النرويجية" NCA، والتي ساهمت مساعي إنهاء العنف وتحقيق المصالحة الوطنية بين جميع الأفراد في دولة مالي، التي تواجدت بها منذ سنة 1984. 45
كما تجدر الإشارة إلى مساهمة منظمات أخرى في تحقيق المصالحة وبعث قيم التسامح بين الأطراف المختلفة في الدين، أو العرق، أو اللغة وهو ما جسدته منظمة World Visionالتي نفذّت مشاريع عديدة تعاملت مع تعزيز السلام من خلال اقامة علاقات مع المجتمعات المحلية وقادتها. فعلى سبيل المثال تواجدت هذه المنظمة في كوسوفو منذ سنة 2000 وأسست "مجلس السلام والتسامح"CPT والذي تألف من 19 متطوع يمثّلون الأرثوذوكس، الكاثوليك، والمسلمين. وقد هدف هذا المجلس إلى بناء قيم الثقة والأمن، واقامة روابط التواصل بين المجموعات المختلفة من أجل تعزيز التماسك الاجتماعي.46
وتعتبر غانا من بين الدول التي لعبت فيها "المنظمات غير الحكومية" دورا بارزا في عمليات المصالحة الوطنية، حيث أنه وبمجرد عزم الحكومة المنتخبة ديمقراطيا سنة 2001 تعزيز المصالحة الوطنية، وعقب هذا الإعلان بدأت منظمات المجتمع المدني في التشاور داخليا لتحديد ملامح الدور الذي يمكن أن تقوم به "المنظمات غير الحكومية" في غانا، وقد أدرك مركز غانا للتنمية الديمقراطية بضرورة تحويل الأجندة السياسية التي أعلنت عنها الحكومة إلى أجندة وطنية يشترك فيها الشعب ويكون له صوت فيها، كما لم يقتنع المركز بأن الحكومة لديها الدراية الكافية بالمزايا والعيوب المتعلقة بالعديد من آليات العدالة الانتقالية، ورأى أنها يمكن أن تستفيد من المعلومات والتوعية التي تستطيع "المنظمات غير الحكومية" تقديمها. وقد أجرى المركز مشاورات أولية على المستوى الشعبي ومع المجتمع المدني التي تمخضت عن تشكيل ائتلاف المجتمع المدني للمصالحة الوطنية الذي ضمّ ما يقرب 25 منظمة غير حكومية وهيئة دستورية، وتولى مهام تنسيق شؤون الإئتلاف،52 وبذلك لعب هذا الإئتلاف دورا حيويا في وضع الإطار النظري للعدالة الانتقالية من خلال فسح المجال للمشاورات الشعبية، والمجال الإعلامي، كما أجرى الإئتلاف بحوثا تجريبية ومقارنة، وعقد مؤتمرا دوليا على مدى يومين حول العدالة الانتقالية، الذي تمخض عنه صياغة إعلان من 12 نقطة يُبين الكيفية التي ينبغي أن تتعامل بها الحكومة مع قضية المصالحة الوطنية.
من جهة أخرى، يُعتبر تعزيز الديمقراطية من أهم العمليات التي تُعنى "المنظمات غير الحكومية" بتحقيقها في هذه المرحلة، وتعتبر مساهمة مركز الموارد في برايزرن في كوسوفو خير مثال على ذلك The Resource Center In Prizren، حيث نفّذ هذا المركز الذي هو عبارة عن منظمة غير حكومية محلية في كوسوفو سنة 2002 وبالتعاون مع ثمانية منظمات أخرى مشروع أطلق عليه "رصد عمل المنتخبين الرسميين لضمان الشفافية والمساءلة على الناخبين"، وقد تجلى الهدف الرئيسي في تعزيز الديمقراطية والذي تم تنفيذه من خلال عدد من الأنشطة من بينها مراقبة اجتماعات الجمعية البلدية وكذلك عمل الإدارات والمديريات البلدية، بالإضافة إلى توفير المعلومات للمسؤولين المنتخبين حول القضايا ذات الإهتمام بالنسبة للمجتمع المحلي، وتنظيم مناقشات عامة مع المسؤولين المنتخبين والتحقق من أن الاجتماعات التي تم الإعلان عنها قد حضرها عدد كاف من المواطنين.47 ومن الإسهامات في هذا المجال نذكر أيضا مبادرة "المؤسسة الأهلية لأيرلندا الشمالية"، التي ساهمت في مرحلة بناء السلام في إيرلندا الشمالية، أين نشطت في المجتمعات المحلية وفي الأحياء الإيرلندية وعملت على تحفيز الحوار بين جميع المقيمين سواء كانوا لاجئين أو سكان أصليين، كما دعت مختلف الجماعات للتعبير عن فهمهم حول النتائج التي يتوقعونها من عملية بناء السلام.48
III- معوقات تفعيل عمل المنظمات غير الحكومية في بناء السلام:
بالرغم من الوظائف التي تقدمها المنظمات غير الحكومية في بيئة بناء السلام والتي تستهدف مختلف شرائح المجتمع وتمس شتى القطاعات، إلا أن الدور التي تؤديه يبقى نسبيا إلى حد ما وذلك إنما راجع لوجود تحديات تتعرض لها "المنظمات غير الحكومية" والتي يكون مصدرها داخليا أي بنية المنظمة والعلاقات البينية بين مختلف مكوناتها ووظائفها، كما قد يكون مصدر هذه التحديات والمعوقات خارجيا وهو ما تفرزه البيئة الخارجية أي بيئة عمل هذه المنظمات. وسنحاول في هذا الجزء من المقال تسليط الضوء على أهم المعوقات التي تحد من عمل "المنظمات غير الحكومية" في بناء السلام عبر ثلاثة محاور أساسية: التمويل والموارد البشرية، الخصوصية المجتمعية والشرعية المنظماتية.
1- التمويل والموارد البشرية:
يُشكل كل من التمويل والموارد البشرية عنصرين حيويين في عمل "المنظمات غير الحكومية"، إذ أن حدوث خلل في أي منهما من شأنه التأثير على فعالية المنظمة وقد يؤدي في الكثير من الأحيان إلى توقف مشاريع بكاملها، ضف إلى ذلك امكانية توقف نشاط المنظمة لاسيما إذا ارتبط الأمر بشح أو انعدام التمويل لها.
ويُمثل المال عنصرا أساسيا دونه لا تستطيع المنظمة تقديم مختلف خدماتها بسبب استخدامه في تمويل مجمل المشاريع الخدماتية، بالإضافة إلى استخدامه لأغراض عديدة كإقامة المنشآت وتجهيزها ودفع أجور العاملين، وهو ما أكدته الباحثة Sarah Michaelمن خلال اقتراحها لإجراء يمكنه التخفيف من التأثيرات السلبية للتحديات المالية التي تواجهها "المنظمات غير الحكومية" التي تنشط في مجال الأمن الإنساني، من خلال زيادة عدد عقود التمويل وتمديد فترتها بدلا من سنة واحدة، حيث أن وجود عدد محدد من عقود التمويل وقصرها يُؤدي بالمنظمة إلى تقليص مشاريعها والتخلي عن مشاريع أخرى،49 كما ركز الباحث Annour Ebrahimعلى دور التفاعلات التنظيمية لعلاقات الاعتماد المتبادل بين NGOsوالممولين، حيث ناقش أنه وإلى جانب مركزية التفاعلات المالية التي تشمل الموارد المالية أو ما يُعرف برأس المال الاقتصادي، توجد التفاعلات الرمزية أو رأس المال الرمزي الذي يتضمن السمعة والمكانة.50
وتجد العديد من المنظمات نفسها في حلقة صراع بين مصادر التمويل الخارجية التي تُشكّل في الغالب المصدر الرئيسي لتمويلها وبين السياسات والأهداف التي تُريد هذه الجهات تمريرها عبر غطاءات ممثلة في العمل الإنساني الذي ترعاه "المنظمات غير الحكومية" ما يجعلها المستهدف من السخط الشعبي الرافض لتلك السياسات والمشاريع. ولعل الوضع في البوسنة والهرسك سابقا يشكل صورة واضحة لهذا الطرح، وهو ما ناقشته الباحثة "مارتينا فيشر" حينما أكدت أن التمويل غير المنسق للمنظمات غير الحكومية قد أدى إلى ظاهرة تعرف في المنطقة بـ"رهاب المشاريع" Projectomania، فبالرغم من أن "المنظمات غير الحكومية" أسست سوق عمل جديد إلا أنها سوق مصطنعة تعتمد اعتمادا كليا على التمويل الدولي الخارجي والحضور الدولي المستمر، بالإضافة إلى أن معظم المنظمات كانت أسيرة أنظمة معقدة فيما يتعلق بكتابة التقارير والتقييمات والطلبات، الأمر الذي أعاق ممارستها لأنشطتها. كما صممت بعض المنظمات أهدافها ومهامها وفق مصالح المانحين وليس وفقا للإحتياجات الإنسانية، وهو ما أدى إلى فقدان الكثير من المنظمات لصلتها بالمجتمع.51
ضف إلى ذلك أن "المنظمات غير الحكومية" ركّزت جهودها التمويلية في المقام الأول على المناطق المدنية والمدن الصغيرة وتجاهلت المناطق الريفية. وبذلك فقد تزامن ذلك مع تجاهل "المنظمات غير الحكومية" لفواعل المجتمع المدني المحلية الرئيسية التي تأثرت بالسياسات العرقية، وبقيت المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية ومختلف فواعل المجتمع المدني كالنقابات العمالية والمنظمات المتخصصة والدينية واتحادات المحاربين القدامى منقسمة ومنظمة على امتداد خطوط السياسة العرقية، وهو ما وضحته بشكل كبير الحملات الانتخابية لسنة 2006 حينما قامت مجموعة من "المنظمات غير الحكومية" الممولة من الحكومة كمنظمات المحاربين القدامى بدعم الحملات الانفصالية أو الحملات السياسية القومية.52
ومن جهة أخرى، وبالإضافة إلى التمويل، يطرح موضوع الموارد البشرية تحديا كبيرا للمنظمات غير الحكومية، إذ تعاني المنظمات في بعض الأحيان من نقص المورد البشري بسبب تفضيل الكثير من الناس فرص عمل أكثر استقرارا مقارنة مع الوظائف الشاغرة في "المنظمات غير الحكومية". كما تُشكل سلامة الموظفين تحديا آخر للمنظمات غير الحكومية حيث توازن NGOsدائما بين مقتضيات المشاريع وسلامة الموظفين، ووفقا لبعض الإحصائيات فإن عدد حوادث العنف ضد العاملين في المجال الإنساني ما بين سنة 2000-2009 ارتفع إلى 103 %، وأن عدد الضحايا ارتفع إلى 117 % بين عام 1997-2009. وفي أفغانستان تم قتل خمسة أعضاء من منظمة أطباء بلا حدود، حيث على أنه وعلى أثر هذه الحادثة قررت المنظمة الإنسحاب من أفغانستان سنة 2004. كما أودت أعمال العنف في نيجيريا التي أعقبت انتخابات 2011 بحياة أكثر من 100 شخص عامل بالمنظمات غير الحكومية53.
2- الخصوصية المجتمعية:
تشير الخصوصية المجتمعية إلى الموروثات الاجتماعية والمميزات الثقافية التي يتميز بها كل مجتمع، وتمثل هذه المكونات مجتمعة هوية كل مجتمع. كما تلعب العادات والتقاليد والأعراف دورا في تثبيط عمل العديد من "المنظمات غير الحكومية" التي وفي إطار عملها في بناء السلام، تقوم بنشر أفكار وجلب عادات غريبة وبعيدة كل البعد عن عادات وتقاليد شعوب الدول المتدخل فيها تحت شعار الحرية والمساواة، وهو ما يتنافى والقناعات المجتمعية المحلية. ولذلك تلقى هذه المنظمات في غالب الأحيان الرفض من قبل المجتمع بعدم التعاون معها أو التطوع فيها، كما قد تحاول هذه المنظمات تكييف نشاطاتها بما يتناسب والخصوصيات المجتمعية إلا أن ذلك لا يغير الكثير في الواقع نتيجة ترسّخ أفكار ترفض الطرف الآخر الممثل في المنظمات غير الحكومية.
وبالإضافة إلى العادات والتقاليد يلعب الدين دورا مهما في عمليات بناء السلام إذ يجمع بين دور مزدوج بحيث يتجلى الدور الأول في اسهامه بدرجة كبيرة في تشكيل عقبة حقيقية تمثل تحديا كبيرا لعمل "المنظمات غير الحكومية" خاصة في المجتمعات التي كان فيها الدين السبب الرئيسي للنزاع، أما الدور الثاني فيتمثل في الصبغة الدينية للمنظمة والتي تشكّل جدارا منيعا بينها وبين المجتمعات المستهدفة بعمليات بناء السلام.حيث قد تشجع"المنظمات غير الحكومية" الإنقسام الطائفي والعرقي داخل المجتمعات من خلال تدعيمها لشريحة دون أخرى بمجرد مشاركة هذه الأخيرة لديانة المنظمة وهو ما يؤدي إلى بروز هذه الشريحة على حساب الجماعات الأخرى من خلال استهدافها بالمساعدات وتخصيص الحصة الأكبر لها من الدعم وعمليات إعادة البناء، وهو ماجسدته منظمة التنظيم البرتقالي المحلية في أيرلندا التي وفي إطار تدخلها في عمليات بناء السلام انحازت إلى الجماعات البروتستانتية دون غيرها نتيجة خلفيتها المذهبية البروتستانتية.54 وتُمثل النيبال كذلك احدى الأمثلة الحية أين اتهمت عديد "المنظمات غير الحكومية" بدور تبشيري في اطار عملها في بناء السلام بعد انتهاء الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد من 1996-2006، حيث تجلى العنف بين الهندوس والمسيحيين في العديد من الهجمات على الكنائس، وأشارت العديد من الجهات أن "المنظمات غير الحكومية" قامت بتمويل الفئات المهمشة والضعيفة في المجتمع مما أعطاها قوة ونفوذ غير متناسبين وأدى في الكثير من الحالات إلى العنف55.
3- الشرعية المنظماتية:
يثير الحديث عن مدى شرعية المنظمات غير الحكومية في عمليات بناء السلام الكثير من الجدل، لاسيما ذاك الذي يركز على مدى قبول المنظمة من قبل الشعب داخل المجتمع ومدى نزاهة واستقامة أعمالها، ويشار إلى مفهوم الشرعية على أنه أمر حيوي للمنظمات غير الحكومية لأنها تساعد في فهم الطرق المتعددة الأوجه التي من خلالها يُبرّر الجمهور سلطة NGOs، والتي يستند قبولها في المجتمع على التوقعات المجتمعية.56 وتشير الأطر المستخدمة لتقييم شرعية المنظمات غير الحكومية إلى كونها مسيّسة للغاية وقابلة للتغيير في الكثير من الأحيان، واستنادا إلى النظرية التنظيمية وبالأساس عمل Suchmanنجد أن NGOsتعتمد على أربعة أنواع من الشرعية والتي نذكرها فيما يلي57:
أ. الشرعية المعيارية: وتقوم على المعايير والقواعد المقبولة والمرغوب فيها والقيم.
ب. الشرعية المعرفية: قائمة على الأهداف والنشاطات التي تتناسب مع الظروف الاجتماعية الواسعة، منها ما هو مقبول أو مناسب أو مرغوب فيه.
جـ. الشرعية البراغماتية: وتُشير إلى مطابقة الخدمات للمطالب أو الشراكة أو تلقي التمويل الخاص.
د. الشرعية التنظيمية: وتعني الإلتزام بالقوانين واللوائح التنظيمية.
وبذلك ينظر لشرعية المنظمات غير الحكومية على النحو الذي تحدده قدرة "المنظمات غير الحكومية" للتوافق مع الخطابات السائدة على الساحتين العالمية والمحلية، وقدرتها على التفاوض حول التناقضات التي تنشأ بين هذين العالمين. وفي مجال بناء السلام توجد العديد من الخطابات المناهضة للمنظمات غير الحكومية التي عادة ما تستند إلى اعتبار "المنظمات غير الحكومية" وسيلة في يد الحكومات الأجنبية من أجل التأثير على السياسات الوطنية الداخلية وتشكيل ملامح دولة ما بعد النزاع بما يتماشى ومصالحها الخاصة. وتتوقف كذلك شرعية "المنظمات غير الحكومية" على مدى متانة القاعدة الجماهيرية المساندة لها وايمانها بأهدافها، والمشاركة التطوعية في برامجها التي تعد ضمانا لديمومتها واستمراريتها.
من جهة أخرى، فإن "المنظمات غير الحكومية" غالبا ما تواجه المعارضة من التيارات السياسية التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، حيث يمكن لهذه المعارضة تقويض شرعية "المنظمات غير الحكومية" المحلية والحد من تأثير عملها من خلال اتهامها بدعم بعض التيارات السياسية وسعيها نحو تحقيق مصالح سياسية. كما تجد بعض الجهات المانحة من السهل تنفيذ استراتيجياتها من خلال العمل بشكل وثيق مع النخب والمنظمات غير الحكومية المحترفة التي توجد مقراتها في المدن الكبرى، إلا أن هذا التعاون المتقارب يؤدي إلى التقليل من شرعية "المنظمات غير الحكومية" عبر زيادة الانتقادات الشديدة لها بكونها بعيدة كل البعد عن الواقع المحلي، ويتم استخدامها من قبل الجهات المانحة لتقويض سيادة الدولة. في سيريلانكا مثلا، وفي الفترة الممتدة من 2006-2008، والتي تميزت بتقلبات سياسية كثيرة، أدى تفاعل "المنظمات غير الحكومية" مع عملية السلام المدعومة دوليا إلى تضرر سمعتها وساهم في خلق ردود فعل أوسع نطاقا ضد التدخل الدولي. وبذلك فقد عانت سيريلانكا من أزمة مصداقية خلال فترة التحول السياسي من الحرب إلى السلم. ولم تكن النيبال بعيدة عنها إذ عانت الأخرى من نفس الأزمة حينما قامت الأحزاب السياسية بمراقبة وتنظيم قطاع المنظمات غير الحكومية واستعمالها كقنوات لتسهيل الوصول إلى الموارد58.
وإلى جانب الطرح السابق المتعلق بعدم مصداقية "المنظمات غير الحكومية" وسعيها نحو تحقيق مصالح سياسية. هناك طرح آخر، وهو الذي يدافع عن هذه المنظمات ويحاجج بأن تدني أو فقدان "المنظمات غير الحكومية" لشرعيتها ما هو سوى انعكاس لتحكم القوى السياسية والعسكرية بها، وتقوم حجة هذا الإتجاه على أن عملية بناء السلام يتدخل فيها العديد من الفواعل كالدول، المنظمات الإقليمية والدولية والتي تعمل بالتعاون مع الحكومة المحلية و"المنظمات غير الحكومية" المحلية والدولية، كما ينخرط كل من الجيش والحكومة في بناء السلام واعادة البناء من أجل تحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. ويستوجب هذا التدخل التعاون مع "المنظمات غير الحكومية" ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى فرض ممارسات عليها، حيث ينظر الجيش إلى "المنظمات غير الحكومية" على أنها شريك منفذ Implementing Partnerوهو ما يطرح اشكال لها بصفتها منظمات مستقلة، محايدة، وغير متحيزة تعمل وفق مبادئها الخاصة59. كما أنه حتى وإن كان تعاون هذه المنظمات مع الجهات الحكومية أو الجيش قائم على أساس احترام حيادها، فإن شرعية "المنظمات غير الحكومية" تتدهور عند أفراد المجتمع الذين يحكمون مسبقا بتواطئها مع الجيش أو أي جهة رسمية كانت. في أفغانستان مثلا، كثيرا ما تمّ النظر إلى "المنظمات غير الحكومية" على أنها متحالفة مع الجيش وكثيرا ما هاجمت "حركة طالبان" هذه المنظمات باعتبارها أهدافا مشروعة. وبالمثل وضعت في الصومال قيودا عديدة على نشاطات "المنظمات غير الحكومية"، ويرجع ذلك لفقدان الثقة بها وببعثات UNO، وبعثة أتلانتا الأوروبية60.
إلا أنه وبالرغم مما تم عرضه فهناك منظمات غير حكومية ترفض الشراكة –نسبيا- مع الجيش أو الأحزاب السياسية وتحاول الحفاظ على استقلاليتها حيادها، ويتعلق الأمر بمنظمات عريقة كـ"منظمة أطباء بلا حدود"، "منظمة الصليب الأحمر"، و"أوكسفام". لكن النقطة التي يجب التنويه إليها في هذا الخصوص هي أن وجود منظمات تعمل وفقا لمبادئ متقبلةٍ عالميًا لا يعني استبعاد احتمالية تواطئ منظمات غير حكومية أخرى في تنفيذ أجندات سياسية أو استراتيجية معينة.
خاتمة:
تساهم "المنظمات غير الحكومية"، في إطار ما اصطلح على تسميته بالمسار الثاني للدبلوماسية، بشكل فعال في مجال بناء السلام سيما وأنها تنشط في مجالات مختلفة وعلى مستويات متعددة، أين تقدم خدمات متنوعة تتلاءم والإحتياجات المجتمعية لفترة ما بعد الحرب. ومما لا شك فيه، أنه وبالرغم من تعقد عمليات بناء السلام وتشابكها تحرص "المنظمات غير الحكومية" على أن تكون سباقة ومميزة في تدخلها من خلال اهتمامها بالفرد كوحدة تحليل ومركز اهتمام رئيسي لها، وذلك يتأتى من قناعتها بأن الفرد هو الفاعل والمستهدف من عمليات بناء السلام. إلا أنه وبالرغم من عملها هذا تعترض "المنظمات غير الحكومية" مجموعة من المعوقات التي تحد من نشاطها وتعرقله والتي ترتبط أساسا بحجم ومدى تدفق التمويل لها ومرجعيته، بالإضافة إلى مدى قبول مجتمعات ما بعد النزاع لها والتي تترجم في نسبية شرعيتها واصطدامها بخصوصيات مجتمعية محلية التي تتعارض في الكثير من الأحيان مع الوصفات التي تقدمها "المنظمات غير الحكومية" وتتبناها. ولذلك تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في الرؤية التي تحكم الاستراتيجية التدخلية لهذه المنظمات، ومراجعة آليات العمل، بما يساهم في تذليل العقبات التي تم تسجيلها، بغية تحسين أداء المسار الثاني للدبلوماسية بشكل عام.
الهوامش:
1- Markus Ledrerand Philip Muller, “Challenging Global Governance: Critical Perspective”, Workshop at Harvard Law School, Harvard, CPOGC, 2003, p 12.
2- أحمد طيبي، الحاكمية الرشيدة (مصر: دار المعرفة الجامعية، 2004) ص ص. 12-13.
3- Boutros Boutros –Ghali, “An Agenda for Peace, Preventive Diplomacy, Peace Making and Peace Keeping Document”, A/47/277-S/24 1111, New York, Department of Public Information, United Nations, 1992, accessed: 22/11/2013.
4- David Roberts, Liberal Peacebuilding and Global Governance Beyond The Metropolis (New York: Rootledge, 2011), p. 7.
5- رياض الداودي، تاريخ العلاقات الدولية: مفاوضات السلام، معاهدة فرساي، ط. 5. (دمشق: منشورات جامعة دمشق، 1998)، ص. 39.
6- Melanie Green Berg and others, “Peace Building 2.0: Mapping the Boundaries of an Expanding Field”, USA Institute of Peace, 2012, p. 9.
7- Boutros Boutros-Ghali, Op.cit.
8- Michael W. Doyle- Hunjoon- Madelene O’Donnell and Lara Sitea, “Peacebuilding: What is in a Name?”, Global Governance, vol. 13, NO.1, 2007, p. 44.
9-Melanie Green Berg and others, Op.cit., p. 13.
10- زياد الصمادي، "حل النزاعات، نسخة منقحة للمنظور الأردني"، برنامج دراسات السلام الدولي، جامعة السلام التابعة للأمم المتحدة 2009-2010، ص.6.
11- جون بيليس وستيف سميث، عولمة السياسة العالمية، ترجمة مركز الخليج للأبحاث، ط. 1 (الإمارات العربية المتحدة: مركز الخليج للأبحاث، 2004)، ص. 428.
12- ايمانويل كانت، مشروع السلام الدائم، ترجمة عثمان أمين (القاهرة: مكتبة الأنجلومصرية، 1967) ص ص. 37-45.
13- جون بيليس وستيف سميث، المرجع السابق، ص. 429.
14- Oliver P. Richmond,“NGO’s and Emerging of Peace Making: Post Westphalian Approach”, Annual Convention of International Study Association, Los Angeles, see: Columbia International Affairs Online.
15- Johan Galtung, “Violence, Peace and Peace Research”, Journal Of Peace Research, Vol. 6, No. 3, 1996, p. 183.
16- زياد الصمادي، المرجع السابق، ص. 13.
17- John Burton, Conflict: Resolution and Prevention(London: Macmillan Press Ltd, 1990), p. 35.
18- ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية سنة 2007 من طرف مجاب إمام.
19- Francis Fukuyama, State Building Governance and World Order in the Twenty-First Century(New York: Cornell University Press,2005), p. 7.
20- تقرير الأمين العام بالأمم المتحدة، 17 جوان 1992، ص. 13، لمزيد من التفاصيل أنظر الوثيقة A/47/50.
21- مروة نظير، "عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة: التطور المفاهيمي والعملياتي"، الحوار المتمدن، 3168، 28 أكتوبر 2010، تم تصفح الموقع يوم 12/12/2013:
>
22- تقرير الأمين العام بالأمم المتحدة، المرجع سابق، ص. 8.
23- هشام حمدان، نظام حفظ الأمن والسلم الدوليين خلال الحرب الباردة –دراسة في القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة- (لبنان: ناس للطباعة والنشر، 2000)، ص. 75.
24- عادل زقاغ، "ادارة النزاعات الإثنية لفترة ما بعد الحرب الباردة: دور الطرف الثالث" (مذكرة ماجستير في العلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة، 2003)، ص. 25.
25- Jonathan Blais, “Consolidation de La Paix et Approche globale : Vers Une Intégration Des ONG?”, p.6.
<[url=http://www.peacebuild.ca/Blais-Vers une approche globale.pdf]www.peacebuild.ca/Blais-Vers%20une%20approche%20globale.pdf[/url]>
26- Jonathan Blais, Op. cit., p.8.
27- غادة علي موسى، "اعادة النظر في استراتيجيات الأمن الإنساني في المنطقة العربية" (ورقة بحث قدمت في المؤتمر الدولي: "الأمن الإنساني في الدول العربية"، عمان، الأردن، 14-15 مارس 2005)، ص. 17.
28- Simona Florea, “The Role of NGOs in Post Conflict Reconstruction: A Partnership with The United Nations” (Master’s Thesis, Webster University, Geneva, July 2005), p. 62.
29- Ibid., p. 44.
30- David P. Forsythe, Human Rights in International Relations (New York: Combridge University, 2006), p. 89.
31- Elisabeth Rehn and Ellen Johnson Sirleaf, Women, War And Peace: The Independent Experts’ Assessment on the Impact of Armed Conflict on Women and Women’s Role in Peace-building (New York: Remlitho Inc, 2002), p. 20.
32- Jeanne Dambendzet et Autres, La Place Et Le Rôle Des Femmes Dans La Société Congolaise 1960-2010 Bilan Et Prospectives (Paris : L’Harmattan, 2011), p. 54.
33- Richard Bowd and Annie Barbara Kwanha, “Understanding Africa’s Contemporary Conflicts: Origins, Challenges and Peacebuilding”, Institute For Security Studies, 2010, p. 243.
34- شيلبي كواست، "النوع الاجتماعي وأثره في اصلاح قطاع العدالة"، مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، 2008، ص. 70.
<[url=http://www.dcaf.ch/.../Gender Tool 4 Ar.pdf]www.dcaf.ch/.../Gender%20Tool%204%20Ar.pdf[/url]>
35- Max Stephenson and Laura Zanotti, Peacebuilding through Community- Based NGOs Paradox And Possibilities (USA: Virginia Kumarian Press, 2012), p. 22.
36- ريتشيل بلاكمان، "بناء السلام في مجتمعاتنا"، مؤسسة تيرفند للتنمية، 2003، ص. 49.
37- المرجع نفسه، ص. 49.
38- “Elections, Paix & Sécurité en Afrique De L’Ouest”, Gorée Institute, Sénégal, 2010, p. 84.
39- تم تمويل هذه العملية من قبل مؤسسة Friedrich Ebert Foundation، وقد انطلقت العملية في 01 مارس 1999.
40- Elections, Paix & Sécurité en Afrique De L’Ouest, Op.cit., p. 85.
41- Henry F. Carey and Oliver P. Richmond, Mitigating Conflict The Role Of NGOs (England: Frank Cass Publishers, 2003), p. 64.
42- Elections, Paix & Sécurité en Afrique De L’Ouest, Op.cit., p. 86.
43- Mamadou Ndiaye, “E. Gouvernance Et Démocratie En Afrique : Le Sénégal Dans La Mondialisation Des Pratiques” (Thèse Pour Le Doctorat En Sciences De L’Information Et De La Communication, Université Michel De Montaigne, Bordeaux 3, 2006), p. 103.
44- Ambrose James and Frances Fortune, “Des Elections Crédibles En Sierra Leone”, Les Etats Fragiles, N. 32, Décembre 2007, p. 12.
45-Philippe Ryfman, LaQuestion Humanitaire, Histoire, Problématique, Acteurs et Enjeux De L’Aide Humanitaire Internationale, Op. cit., p. 95.
46- Simona Florea, Op.cit, p. 62.
47- "لجان تقصي الحقائق والمنظمات غير الحكومية: العلاقة الأساسية، مبادئ "فراتي" التوجيهية للمنظمات غير الحكومية العاملة مع لجان تقصي الحقائق، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، 2004، ص. 15.
48-Simona Florea, Op.cit, p. 62.
49- Sarah Michael, “The Role Of NGO In Human Security”, Working Paper No. 12, Hauser Center For Non Profit Organizations, Harvard University, 2002, p. 20.
50- Annour Ebrahim, NGOs and Organizational Change: Discourse, Reporting, and Learning (New York: Combridge University Press, 2003), p. 52.
51- Martina Fischer, “Civil Society in Conflict Transformation: Strengths and Limitations”, The Berghof Handbook II, Barbara Budrich Publishers, 2011, p. 295.
52- Ibid., p p. 300-301.
53- Bernard C. Nwaiwu, “Critical Management Challenges Facing NGOs- Examing The Impact Of Legitimacy and Human Ressource Issues On NGO Effectiveness”, Working Paper 1.4, CEDE Trust Fund, 2013, p p. 4-5.
54- Roberto Belloni, “Shades Of Orange And Green Civil Society on The Peace Process In Northern Ireland”, in Social Capital And Peace Building Creating And Resolving Conflict With Trust And Social Networks, The author: Michaelene Cox (London: Routledge, 2009), p p. 14-18.
55- Mark Owen and Anna King, “Religious Peacebuilding and Development In Nepal”, Report and Recommendations For The Nepal Ministry Of Peace and Reconciliation, 2013, p. 7.
<[url=http://www.winchester.ac.uk/academicdepartments/theology/Research/Documents/Religion and Peacebuilding in Nepal Report.pdf]http://www.winchester.ac.uk/academicdepartments/theology/Research/Documents/Religion%20and%20Peacebuilding%20in%20Nepal%20Report.pdf[/url]>
56- Bernard C. Nwaiwu, Op. cit., p. 3.
57- Mark Suchman, “Managing Legitimacy: Strategic and Institutional Approaches”, Academy Of Management Review 20, p. 580.
58- Jonathan Blais, Op. cit., p. 15.
59- Ibid., p p. 14-15.
60- Ibid., p.15.