" الديـــن والشرعيّــة والعنــف "
لا يزال الدين يسبغ الشرعيّة على كثير من المجتمعات والمؤسّسات المعاصرة. وليست ظاهرتا "عودة الدين" و"الخروج من الدين" إلاّ وجهين من وجوه هذا الواقع. ومن وجه آخر، تشي كلّ القرائن والوقائع بأنّ "الشرعية"، في أشكالها المختلفة، وبخاصّة الدينية والسياسية منها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنف "المشروع". يثير واقع الحال هذا جملة من الأسئلة المركزية في مقدّمتها: كيف تتحدّد العلاقة بين الديني والسياسي في زمننا الراهن؟ وما نوع الشرعية التي يسبغها الدين على الدولة؟ وما طبيعة العنف الذي يقرّه الدين ويتمتّع بالشرعية؟
وفضلا عن ذلك، يمكن السؤال في هذا الموضوع عن أيّة علاقة ممكنة أو حاصلة بين الثالوث: الدين والشرعيّة والعنف؟ هل من الممكن الكلام على الدين في جوهره وفي مفهومه دون ارتباط بالشرعيّة والعنف، أحدهما أو كليْهما؟ هل يوجد فعلا تلازم في المطلق بين الدين والشرعيّة والعنف؟ وما هو نوع ذلك التلازم: أَهُوَ بنيوي أم سياقي متلبّس بسُنن التاريخ وإكراهاته، وبتحوّل الدين إلى مؤسّسة منغرسة في النسيج الاجتماعي؟
إنَّ علاقةَ الشرعية السياسية بالدين في حاجة الى فحص نقدي. ذلك أن السياق الثقافي والمجتمعي العربي اليوم، يشهد كثيرا من الالتباسات النظرية والأزمات الواقعية المرتبطة بهذه العلاقة. ومعلوم بأنّ الدين، من منظور أنثروبولوجي، هو تعبير عن أكثر أشكال التمثّـلات الثقافية الرمزية التي تُضفي قيمة الشرعية على السلوك الفردي والجمعي، وذلك بما يوفره الدين من مسندات لاهوتية.
ومسألة الشرعية، بمدلولها السياسي الحديث، معطى للتواضع والاتفاق الجمعي، غير أنها في لحظة الحراك السياسي، تكون محلّ جدل وصراع، بالمدلول العام للصراع؛ أي ليس فقط السياسي، بل حتّى المعرفي. وفي سياق ذلك، يتحوّلُ الدين - كمحدّد من محدّدات الرؤية الثقافية - إلى مرجع لتأسيس السلطة وامتلاكها.
ونقدّر أنّ إشكاليّة "الدين والشرعيّة والعنف" يمكن التطرّق إليها على الأقلّ من أربعة منظورات، على ما بينها من تعالق وتقاطع، هي التالية:
1- المنظور الفكري:
عرفت الشرعية، في تشخّصها، في النظرية السياسية الحديثة والمعاصرة، تحوّلات جوهرية أشدّها تلك التي تؤسّس الشرعيّة على إقرار المواطن واختياره، وذلك هو الخيار الديمقراطي. لكنّ الشرعية، كي تحافظ على نفسها، سيّجت نفسها بحقّ استخدام العنف. والسؤال الذي يثيره هذا الوضع هو التالي: ما هي المعايير التي تميّز العنف الشرعي من العنف غير الشرعي؟ لأنّ للعنف مظاهر عديدة، من بينها: الحرب العادلة، أو الحرب الصراعية، أو "الإرهاب" المرعب، ومنها ما هو مادي وما هو رمزي، ومنها العنف الثوري وما يتعلّق بمسألة الثورة والفكر الثوري (بورديو، هابرماس، دريدا، بودريير..). وقد عُنِيَ الفكر المعاصر عناية كبيرة بهذه القضايا الحيوية ونجمت، في مسائل الدين والشرعية والعنف، نظريات واتجاهات متباينة، أبرزها:
- التيار الجماعتي Communitarian (تشارلز تايلور، مكنتير، مايكل فالتسر...)؛
- التيار الليبرالي (جون رولس، يورغن هابرماس...)؛
- التيار الليبرالي الجديد (روبرت نوزيك، فريدمان ملتون، فريدريك فون هايك)؛
- مدرسة فرنكفورت (أدورنو، ماركوز، والتر بنجامن)؛
- التيار الظاهراتي الوجودي (مرلو بونتي، سارتر..)؛
- التيار الناقد للشمولية (حنه أرندت، ليو ستراوس، سارتر، ميشيل فوكو، أنطونيو غرامشي..)
وفي الفكر العربي المعاصر، تناول عدد من المفكّرين العرب مسائل الدين والشرعية والعنف من منظورات مختلفة، في حدود التطوّرات والأوضاع الدينية والسياسية والاجتماعية الراهنة (محمد أركون، محمد عابد الجابري، فهمي جدعان، ناصيف نصار، عبدالله العروي، علي حرب، عزمي بشارة، حسن حنفي، رضوان السيّد، الطيب تيزيني، عبدالوهاب المسيري...).
2- المنظور الفلسفي:
أدرك روّاد الفكر السياسي العربي المعاصر عمق إشكالية الوصل بين الديني والسياسي، وكان علي عبد الرازق من أوائل من قال بضرورة الفصل، حيث أكّد وجوب انتزاع مقوّم الشرعية الدينية للسلطة السياسية، داعياً إلى تأسيس الشرعية على التعاقد المجتمعي؛ أي يجب استعادة السيادة والمرجعية للأمةِ والشعب، وتحرير الدين من السلطة وجدليّاتها. وبالمقابل كانت أطروحة الوصل، المعبّر عنها بنظرية الحاكمية، ذات نفوذ وجاذبية. وعلى أساسها قامت تيارات الإسلام السياسي.
لكنّ الأنموذج النظري الذي قدّمته تلك التيارات لم يكن قادرا على التناغم مع شروط الاجتماع المعاصر، حيث أظهر الوصل بين الدين والسياسة العديد من الإشكالات؛ إذ بدا الفاعل السياسي متّخذا الدين أساسا لبناء شرعيته، وتسويغ ممارسته به؛ فحوّله إلى أداة أيديولوجية لمواجهة الخصوم. وليس هذا مخصوصا بالسياق العربي الإسلامي، بل إنّ التجارب التاريخية أكدت في سياقات أخرى، خطر الالتباس بين السطلة الزمنية والدين. ولم تكن الفلسفة السياسية في إطار بنائها لنظرية العقد الاجتماعي، إلاّ رغبة في رفع هذا الالتباس.
لقد دافع جون لوك، وروسّو، وحنه أرندت، وراولز، وهابرماس... على الرغم من اختلاف مشاربهِمْ الفلسفية والنظرية، وتباين سياقاتهم التاريخية والثقافية، على ضرورة بناء الشرعية على أساس القانون والمساواة والعدالة. وجعل مدار الدين في منأى عن الاحتكار والصراع السياسي في الفضاء العمومي. وكان الناظم المعرفي لكثير منهم هو إدراك خطورة الوصل بين الدين والسياسة، إذ إن ذلك يجعل من السياسي مالكا للحقيقة المطلقة، ممّا يشرعن إقصاء مخالفه. ويترتب على هذا، ليس فقط وصل الدين بالسياسة، بل احتكار أساس الشرعية، ممّا يؤسس للإقصاء والعنف. وهذا ما يدعونا إلى التفكير النقدي لتفكيك تلك العلاقة.
فكيف ينبغي مقاربة ثلاثية الدين والشرعية والعنف مقاربة فلسفيّة؟ وكيف تسهم الفلسفة في إيضاح إشكالية الدين والسياسة، وما يرتبط بها من ظواهر وقضايا؟ وكيف يمكن بناء الشرعية في المجال العربي الإسلامي، مع تحييد الدين عن الصراع السياسي؟ وأي دور يمكن للدين أن يقوم به في المجال العمومي، في بنية الدولة الحديثة؟
3- المنظور السياسي الاجتماعي:
تكتسب العلاقة أو البراديغم دين- شرعيّة- عنف في ميدان الدراسات الاجتماعيّة والسياسيّة في عالمنا الراهن، أهميّة خاصّة. فكما أنّ الشرعيّة تقع في منطقة تقاطع الديني والسياسيّ بوصفهما ظاهرتين اجتماعيّتين، حتّى لتعدّ من أهمّ المفاهيم السياسيّة والاجتماعيّة في علميْ السياسة والاجتماع، فإنّ العنف بدوره يحظى بنفس الأهميّة، بما أنّه إفراز لنزاع المصالح الاجتماعيّة الذي يجري في المستويات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وأداتها في الوقت نفسه. هذا ما تقرّره مختلف مقاربات ظاهرة العنف منذ ستينيات القرن العشرين، ولا تنقلب عليه حتّى وهي تحاول تلقيحه بمعطيات جديدة تخرجه من التفسير الثنائيّ التعبيري الأداتي. فإذا أضفنا إلى هذه المعطيات التعالق الأكيد بين الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ الذي كشفته الإبستمولوجيا المعاصرة، في سياق اكتشافها لترابط مستويات الظاهرة الإنسانيّة، يبدو الحديث عن الدين والعنف والشرعيّة موضوعا سياسيّا واجتماعيّا بامتياز.
وإزاء دخول العالم منذ ستينيات القرن العشرين في سياق تاريخي مختلف، يدرج في ساحتي الفعل الاجتماعي والسياسي محدّدات جديدة، حملتها العولمة النيوليبراليّة، فإنّه يجوز الحديث عن براديغم جديد للدين والعنف والشرعيّة. ففضلا عن تعدّد معنى العنف، وتعقّد مدلولاته، ومقارباته حدثت في المستوى القيمي قطيعة مع الأيديولوجياّت الثوريّة التي كان يجري من خلالها تفسير معنى العنف، حسب الثنائيّة الأداتيّة والتعبيريّة، إذ نظر إليه أداة لنزاع المصالح الاجتماعيّة، أو تعبيرا عنها.
كما أنّ التصنيف الثلاثي الفيبري للشرعيّة (كاريزما، عقلانيّة، تقاليد)، الذي يعتبر الدولة الشكل المعاصر للهيمنة المشروعة، ما انفكّ منذ السبعينيات يتعرّض إلى تشكيك متزايد في قيمته الاختباريّة من قبل علماء الاجتماع والفلاسفة على حدّ سواء. وينضاف إلى ذلك تعقّد علاقات التداخل بين العاملين الدينيّ والسياسيّ، وتزايد نظريّات القطع مع الحتميّة العلمانيّة، المؤكّدة لاستمرار حيويّة العامل الدينيّ، وقدرته على التمفصل مع السياسيّ المعلمن في الظاهر.
كلّ هذه المعطيات، إذا ما أضفنا إليها في المستوى السياسيّ العربي والإسلاميّ الراهن الحرب المعلنة بين الدين والدولة على الشرعيّة، حيث يكون العنف وسيلة وهدفا في الآن نفسه، تبدو الحاجة إلى تفكير جديد في العلاقة دين- عنف- شرعيّة مؤكّدة.
ولئن كانت الدولة حلاّ شرعيّا لعنف أصليّ، أو لحرب الكلّ ضدّ الكلّ، كما يقرّر أحد منظّريها الكبار الإنجليزي توماس هوبس (ت1679م) (Thomas Hobbes)، وكذلك كان الدين كما يقرّر بيتر برجر، مواجهة للفوضى بصفته عكسها المريع، أو كما يؤكّد الفيلسوف وعالم الأنثربولوجيا الفرنسي روني جيرار(و 1923م) (René Girard) حلاّ لأزمة التقليد، وقد تنازعا على هذا الدور تاريخيّا، ومازالا كذلك، لا سيما في الدول العربيّة الإسلاميّة، فما السبيل إلى إيجاد توافق بينهما على الشرعيّة، والعنف، لتوقّي تكرار صدام الشرعيّتين التاريخي القديم بينهما؟
إنّ هذا التساؤل يدعمه في الخطاب السياسي الاجتماعي للعالم العربيّ الإسلاميّ المعاصر أنّ الدين يعبّر عنه بالشرع، بمدلولين: قانونيّ دستوري يوافق معنى الشرعيّة، وقيمي مقاصدي، يوافق معنى المشروعيّة، ومن هنا تتصوّر علاقته بالسياسيّ، إمدادا له بالمشروعيّة، أو نزاعا له على الشرعيّة، ومن هنا أيضا يكون صراعه له على معنى العنف والقوّة، وبواسطتهما.
فما السبيل إلى إيجاد نوع من التماثل بين التعريفات الدينيّة والسياسيّة الإسلاميّة، للشرعيّة والمشروعيّة، تزيل مخاطر تحويل العنف إلى قوّة، وتحويل القوّة إلى عنف؟ وما هي المعطيات الواقعيّة، والقيميّة التي يتعيّن اعتبارها في كلّ تفكير جديد في معنى الشرعيّة والعنف، وعلاقتها بالدولة والدين؟ ما نوع المقاربات الجديدة الممكنة لمعالجة هذا الموضوع الإشكالي، لتطابق أنجع مع معطيات الواقع بمختلف مستوياته الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة؟
4- المنظور الديني الفقهي:
لعلّ من أبرز مستويات الترابط بين الثالوث الدين والشرعيّة والعنف هو المستوى الفقهي؛ فالمنظومة الفقهيّة، الشاملة لأحكام العبادات والمعاملات، هي التجسيد الحيّ والعملي للدين في حياة الناس، وهي القيّمة على شؤون تعبّدهم وعلى أحوال معاشهم. بعبارة أخرى، إنّ الفقه هو المُنجَز التاريخي للدين في مكوّن أساسيّ منه هو الأحكام، سواء ما ورد منها، بشكل صريح، في النصّ الديني (القرآن والسُنّة) أو ما استُنبط منه من أحكام فقهيّة بواسطة آليّات شتّى، استخدمها الفقهاء في تقرير أحكام بشريّة اعتبروها، عن قصد أو عن غير قصد، أحكاما إلهيّة مُلزِمة لا يجوز التخلّي عنها تحت أيّ ظرف كان.
إنّ من وظائف الفقه هو العمل المستمرّ على أن يُذعِن المسلمون لشبكة واسعة من الأحكام الفقهيّة تدّعي لنفسها الانسجام بين مكوّناتها وعناصرها. ومن ثَمّ، فإنّ الدين، من منظور فقهي، يحتاج دوما إلى ضرب من الشرعيّة، حتّى تكون أحكامُه نافذة في الواقع الاجتماعي، وهي شرعيّة احتكرها الفقهاء على امتداد التاريخ الإسلامي، وقَبِل أصحاب السلطة السياسيّة بذلك بِحُكْم ما قام بين الفريقيْن من مصالح مشتركة ومن تبادل للمشروعيّات (الحُكم السياسي يحتاج إلى مشروعيّة دينيّة، ليَسود مثل الحُكم على المعارض السياسي بالرِدّة استنادا إلى فتوى فقهيّة، والحُكم الفقهي قد يتطلّب سَندا سياسيّا ليُنَفّذ).
على أنّ هذه الشرعيّة الواسعة التي كانت بأيدي الفقهاء، تراجعت بشكل كبير بعد استئثار الدولة الوطنيّة الحديثة بصلاحيّات التشريع وبالتحكّم، بقوّة الدساتير الوضعيّة خاصّة، في مؤسّسات الدولة وأجهزتها. ولا يذهبنّ في البال أنّ الدين، حسب المنظور الفقهي، استُخدم فحسب لتبرير نوع من الشرعيّة التي يستدعيها الاجتماع، وما يتولّد منه من أقضية ونوازل وحوادث، وإنّما وُظّف أيضا لممارسة العنف المُقَنَّـن. وكم هو بليغ قول بعضهم: "إنّ الدين مَثَلُه مَثَل السكّين يصلح لاقتسام الخبز، مثلما يصلح للقتل". فالدين، حين يَتَمأْسَسُ أوّلا، ويُختزل في قوالب من الأحكام الفقهيّة الثابتة أو الباتّـة ثانيا، وتُقرَأ نصوصه من قرآن وسُنّة وتُؤوّل بطريقة موجَّهة لا تعير اهتماما للسياقات التي أفرزتها ثالثا، فإنّه يستحيل أداة لتشريع العنف بكلّ ضروبه: العنف المادّي والعنف اللفظي والعنف الرمزي.
ولئن كان للعنف الذي يُمارس باسم الدين شكلُه الظاهر والجليّ، فإنّ له أيضا شكله الخفيّ؛ فهو يتستّر وراء مقالات فقهيّة عديدة تكرّس إجمالا سيادة قيم الذكورة، وهذا ما تشفّ عنه مثلا أحكام الإرث والقَوامَة والتكليف والشهادة...إلخ.
وغير خاف أنّ العلاقة بين الدين والشرعيّة والعنف لَهِيَ، من منظور فقهي، علاقة مزدوجة: فهي من جهة علاقة تنازع ونفي (الشرعيّة تعطّل العنف الظاهر، والعنف يقوّض الشرعيّة)، وهي من جهة أخرى علاقة تسخير (حاجة العنف إلى مشروعيّة دينيّة، واستناد الشرعيّة إلى عنف خفيّ يُبَرّر بأحكام الضرورة وبالتمسّك بحرفيّة أحكام النصّ الديني وبالخشية من خرق الإجماع والخوف، ولو على صعيد المتخيّل الجمعي فقط، من تصدّع وحدة الأمّة).
إنّ كلّ ما سبق قوله يُحوج إلى إعادة النظر في المبرّرات الضمنيّة والصريحة التي تؤلّف، من وجهة نظر الفقه الإسلامي، بين الثالوث: الدين والشرعيّة والعنف. ومن ثمّ ينبغي السؤال مجدّدا: هل العنف من مقتضيات الدين ومن ضروراته؟ وإلى أيّ حدّ يصحّ القول، إنّ خاصيّة الإقصاء التي تميّز الفكر الديني عموما هي المولّدة للعنف الذي يتسرّب إلى الأحكام الفقهيّة وإلى الضمير الديني عموما؟ وإلى متى سيستمرّ الفقه، في جانب من إنتاجه وعبر مؤسّسة الإفتاء خاصّة، في تشريع العنف باسم الدين في زمن شاعت فيه مقالات حقوق الإنسان وكونيّة القيم ونسبيّة الحقيقة ومركزيّة الإنسان؟