III- الجوانب الإدراكية في صنع القرارتدفع دراسة علاقة الإدراك بصنع القرار نحو التطرق إلى الجوانب الإدراكية ، ولقد كانت هذه الجوانب محط اهتمام دارسي العلاقات الدولية وعلم النفس السياسي ، وبرز هناك سعي من أجل تطوير الدراسة النفسية للمعرفة التي يتيحها الإدراك من خلال التركيز على قدرات الإدراك ومجال تطورها ، ومقارنتها والتعامل معها بنظام المعالجة الإلكترونية،إلا أن دمج حجم معتبر من مثل هذه المعلومات لا يمكن أن يفصل عن ما يسمى الفعل التصوري Act of Conceptualization والذي يقوم به الأفراد ، ويتسم بديمومته وكونه عملا لاشعوريا ، وسياق هذا التصور وصيرورته تتم بصورة آلية ، وتكون ما يسمى بالخريطة الإدراكية * Cognitive Mapأو منظور العالم Vision of World ، وعلى هذا الأساس فإن دراسة الإدراك تمر عبر دراسة هذه الخريطة الإدراكية أولا، ليمكن الانتقال إلى الشق الثاني من هذه الجوانب وهو المتعلق بسوء الإدراك1 الخريطة الإدراكية تمثل الخريطة الإدراكية موضوعا مشتركا بين عدة علوم ، فعلماء النفس ركزوا أبحاثهم حولها من خلال مسألة التعلم Learning، أما علم الاجتماع فيركز على مسألة التكيف مع المجتمعAdaptation في حين ركز علم الأنثروبولوجيا على التأقلم الثقافي Acculturation، أما بالنسبة للعلوم السياسية فالمفهوم يوظف في التعامل مع موضوع صنع القرارThe Decision Making.عند تناول موضوع الخريطة الإدراكية بالدراسة لابد من المرور بما يسمى الخريطة المفاهيمية أو خريطة المفاهيم Map of Concepts، وذلك من منطلق أن تحديد المفاهيم هو القاعدة التي يستند إليها الإدراك عموما ، وتتشكل على أساسها الخريطة الإدراكية.
أ- الخريطة المفاهيمية
يتم التعامل في هذه الخريطة مع جملة المفاهيم التي تمت بصلة للموقف، والتي تعبر عن قضايا تتصل بهوية كل طرف ومطالبه وتطلعاته، وتندرج هذه المطالب والأهداف ضمن سياقات تاريخية وفكرية معنوية يتشبث بها كل طرف ويقرنها بالوجود المادي والمكانة المعنوية.إن محورية المفاهيم وتفسيرها والتركيز على أهميتها، يجعل دلالتها تظهر في ثنايا القرارات ،وتعكس رؤية القادة وتصوراتهم وقناعاتهم إزاء تلك المفاهيم ودرجة استيعابهم لها، حيث يجعل هؤلاء القادة هذه المفاهيم بمثابة الخطوط الآمنة ، والأطر التي تصاغ فيها المطالب وتحدد عبرها الالتزامات، وفي الآن ذاته تقييم الأداء ، والتعرف على درجة النجاح والالتزام بالأهداف المقصودة والمبادئ.إن ما يتصل بصنع القرار من مفاهيم يمتد بمعناه ليشمل انساقا مفاهيمية كالوحدة و التضامن، والعداء والكراهية ، والمنافسة والتحالف ، لذا فإن توظيف المفاهيم في قرارات الأزمة يقود لاكتشاف مدى وزنها وتأثيرها في الخريطة الإدراكية والقدرة على تفعيلها في مسار الأزمة.ب- آليات الخريطة الإدراكيةينشئ كل فرد خريطة إدراكية هي مجموع توقعاته للعلاقة بين السلوك والنتائج وتتضمن هذه الخريطة جملة العقائد والاستعدادات المعرفية ، ولقد تمت الاستفادة من نظريات علم النفس في التعامل معها --كمفهوم يدخل حقل العلوم السياسية- مع نشأة علم النفس السياسي، والدراسات التي تطرقت إلى الخريطة الإدراكية للساسة – وهي على قلتها –بقيت محتفظة بالمفاهيم الأساسية التي توظف في ميدان علم النفس، وهي: المثير والاستجابة ، الصورة وآليات التعلم .
بناء على تلك تتشكل الخريطة الإدراكية للفرد عبر سلسلة من الخطوات تتمثل في الآتي:ب-1- الانتباه الانتقائي Selective Attention
حيث أنه عملية يقوم بها الفرد في مواجهة مجموع الحوادث الكثيرة التي تقع ، وهي الحوادث التي تأتي ككتلة واحدة ، وكخليط غير منتظم، لذا يسعى الفرد إلى محاولة فهمها والإحاطة بحيثياتها ، فيتم انتقاء بعض الحوادث التي ينطبع في ذهن الفرد أن لها الأولوية ، أو أنها الأحداث الأساسية.
ب -2- استقبال المؤثرات الحسية Receptionيتم توظيف الحواس في نقل المعلومات التي خضعت للآلية السابقة، وهذا النقل يحدث من البيئة الخارجية إلى الدماغ، و يتم هذا عبر الجهاز العصبي الذي يمثل قناة الاستقبال والنقل والترجمة.
ب- 3-عملية تنظيم وترجمة المعلومات الحسية إلى مغزى عقلي : Organization تتم هذه المرحلة في ذهن الفرد من خلال تحويل المؤثرات الحسية ودلالاتها العصبية إلى مضمون جديد هو المضمون العقلي، ويمكن الحديث عن المعلومات المستقبلة بآلية الرسالة Message حيث يترجم الأفراد الرسائل التي يتلقونها استنادا على عنصرين:
- ما يعتقدون أن الرسالة تعنيه، وهنا يظهر بوضوح إضفاء الدلالات العقلية.
- مصدر الرسالة، حيث تنشط آلية الذاكرة بالنسبة للفرد (عنصر الماضي والتجربة).
ب-4- التحويل Transformation
تحدث هذه العملية بعد الحصول على مضمون عقلي للمعلومات، فيتم إضفاء التصورات على هذه المعلومات المترجمة، واختزال الفروق وفق الآليات التالية4-1القرب والتجاور proximityيتم ذلك من خلال اختزال الفروق بين العناصر أو الأحداث القريبة من بعضها البعض بعامل التجاور4-2التجانس homogeneouslyينظر في عملية التحويل إلى العناصر المتشابهة على أنها تتميز عن غيرها، وهذا التجانس ينطبع في ذهن الفرد من خلال إطار النظام السياسي أو العلاقات الاجتماعية ، بما في ذلك الإطار الثقافي.4-3الاستمرارية continuityتتجلى هذه الآلية من خلال النظر إلى الظواهر والأحداث من خلال سياقها الزمني وامتداداتها التاريخية، أو المكانية ، وانعدام القطيعة بينها أو فيها أثناء هذه الامتدادات4-4المصير المشترك The same destinationينصرف هذا العنصر إلى كون الظواهر التي تتحرك في اتجاه واحد لها نفس المصير.ب-5-الاختيار:Selection تمثل العملية التي يتم فيها الانتقال من المجال الذهني إلى المجال المادي الملموس ، وهي لا تحدث دفعة واحدة ، وإنما تسبقها خطوات تمهيدية تشمل تنظيما للمعلومات بعد تحويلها إلى معطيات ذات دلالة عقلية، ثم يتبع ذلك التصنيف Categorization من خلال وضع هذه المعطيات في فئات ، ثم المقارنة Comparison، ثم التعميم Generalization الذي يعد قاعدة للحكم والاختيار، و يكون على شكلين:
1- الاختيار الوصفي استنادا على ما يصل صانع القرار من معلومات.
2- الاختيار التجريبي استنادا للتجربة السابقة.
2- جوانب الخريطة الإدراكيةتعبر هذه الجوانب عن الجوانب الأكثر حضورا في دراسة أثر الإدراك على عملية صنع القرار.أولا- إدراك الموقف: عند الإشارة إلى الموقف فإن لابد من الإشارة إلى علاقة مترابطة بين:
- أ -إدراك الموضوع Subjectيمثل الموضوع والذي يعبر عنه في دراسة الإدراك بالدافع Motivationأو الحافز stimulus بؤرة اهتمام صانع القرار، وهو الذي يستمد منه الأحكام الأولية، فتوجه من خلال الانتباه إلى الذهن، وتتم محاولة فهم هذا الموضوع أو المحافظة عليه أو تغييره، وهذا الموضوع يعطى دلالة عقلية ، ويتم إضفاء قيم حسابية عليه تتعلق بالأهمية ، الكسب والخسارة ، العلاقة بالخصم ، أجزاء الموضوع ، وكونه يقرن بحد زمني يتيح التصرف أم أنه مستعجل، وهناك نوعان من الحوافز :
- حافز داخلي Internal stimulus هو الحافز الذي تحركه مطالب أو ضرورات داخلية، كأن ينظر إلى حالة التطور الاقتصادي للدولة على أنها حافز للتوسع الخارجي.
- حافز خارجي External stimulus وهو الحافز الذي ينشأ في البيئة الخارجية للدولة، ويؤثر على إدراكات صانع القرار ، فزيادة تسلح دولة مجاورة يثير اهتمام ومخاوف الدولة الأخرى.ب- إدراك الذات.
يبدأ إدراك الذات من خلال تعريف معطى لها يجيب عن التساؤل: من أنا ؟إن تعريف الذات يكون من خلال إدراك التميز عن الآخر، وقد يكون تعريف الذات خاضعا لاعتبارات عرقية ، وقد يكون تعريفا نابعا من خصائص لغوية أو دينية أو جغرافية أو إيديولوجية . ويتبع التساؤل الأول تساؤلات فرعية من قبيل : ماذا أريد ؟، ماذا أستطيع، وما الذي أسعى إليه؟، كيف أختار وكيف أحقق ذلك ؟ ماذا يمكن أن يحدث؟ ما الإمكانيات المتاحة لي للفعل ورد الفعل؟
يرتبط إدراك الذات بالصورة الإيجابية لها ، وهي الصورة التي يتمسك بها كل طرف.ج - إدراك الخصم و إدراك الحليف
يعمد صانع القرار عند استقباله الحافز من البيئة الخارجية إلى وضعه في إطار معادلة من طرفين : الخصم والحليف ، من يكون معه ، ومن يكون ضده ، ويتأرجح تصنيف المحايد بحسب علاقته بالخصم ، ومن خلال طرفي هذه المعادلة يتشكل الإدراك ويتضح تأثيره على العملية القرارية .
ج-1 إدراك الخصم يتضمن إدراك الخصم جانبا من الخريطة الإدراكية يتعلق بما يسمى صورة العدو Enemy Image، وهو ما يحيل الاهتمام للأفكار السلبية الشائعة التي يحملها الأفراد والمجموعات عن معارضيهم.
يمكن الإشارة إلى أن صورة الخصم يمكن أن تتراجع حدتها ودرجة وضوحها ، وقد تحدث حالة من التوافق الظرفي يتم التغاضي فيها عن حقيقة الاختلاف والصراع ، وذلك نتيجة تسويات مفروضة أو مصالح مشتركة تهيئ لها تهديدات من طرف ثالث.ج -2 – إدراك الحليفيبرز التحالف أو التقارب كأحد أوجه الإدراك بانسجام المصالح أو الاشتراك في مواجهة تهديد معين، ويدفع هذا التقارب إلى تكوين صور متبادلة تتسم في أغلبها بالإيجابية، وذلك من خلال:
- الثقة Confidence: ويعززها الماضي الإيجابي لعلاقات التعامل بين أطراف التحالف.
- مطالب الحليف : وذلك من حيث حجمها وواقعيتها ، وهذه المطالب قد تنعكس إلى أحكام سلبية يستخلصها الطرف الأخر.- العلاقة مع الطرف الثالث : وهنا يبحث صانع القرار -من خلال تتبع هذه العلاقة- عن ما يعزز ثقته بالحليف، فإذا كان مؤشر العلاقة بين الحليف والطرف الثالث سلبيا انعكس ذلك على إدراكه، من خلال تأكده بأنه يحظى بحليف يشاركه التصورات عن الطرف الثالث ، ويؤكد في الآن نفسه طبيعة الأحكام التي استخلصها عن ذلك الطرف.- المصير المشترك: يمنح التحالف إدراكا متماثلا لدى أطرافه أنهم شركاء في العائدات والخسائر باعتبار أنهم اتفقوا على هدف محدد، وهذا الإدراك يمنح حالة من الاطمئنان والثقة بين الطرفين3- البيئة النفسية والبيئة العملية كتعبير عن الخريطة الإدراكية يمكن التمييز في إطار دراسة السياسة الخارجية بين عالم صانع القرار الإدراكي الحسي والسياق غير المدرك حسياً الذي تجري فيه هذه العمليات السيكولوجية، وهذا العامل السياقي الأخير هو المقصود بمصطلح "البيئة/ الوسط العملية/ العملي". ويطلق مصطلح البيئة السيكولوجية على الشكل الأول
وقد أدخل فكرة البيئة العملية الزوجان سبراوت Harold and Margaret Sprout، ،في حين أن بريشر Brecher استخدم التمييز بين البيئتين في دراساته المتعلقة برسم السياسة الخارجية في إسرائيل في السبعينات، والمواءمة بين البيئتين تسمى الاتساق الإدراكي Cognitive consistency ويكون هذا الاتساق بين النظرية والمعطيات حيث يميل الأفراد إلى رؤية ما يريدون رؤيته ، ولاستيعاب وصول المعلومات إلى الصور السابقة تحدث عملية تصفية Filtration ،وهناك نمطين من الاتساق الإدراكي:
1- اتساق إدراكي عقلاني Rational Cognitive consistency حيث ديمومة نمط السلوك تفترض تقليل تعقيد البيئة، فلصانعي القرار فرضيات حول البيئة الدولية وحول الفاعلين الآخرين، ومن خلالها يتم استنتاج التوقعات، والمعلومات القادمة ستكون مدركة ومصنفة من خلال موشور هذه الفرضيات .
2- اتساق إدراكي غير عقلاني Irrational Cognitive consistency ، و الذي يشير إلى دافع داخلي نحو الميل لتفادي صراع المصالح من خلال اللجوء إلى المقايضة في سبيل ما يعتقد أنه ضروري للانسجام مع محيطه والتماسك في الموقف، و هذا الدافع قد يقود إلى ما يسمى الإدراك غير الناضج Premature Cognitive حيث يفهم الحافز ويستوعب عبر فهم أولي ، مما يقود نحو صور محدودة للنوايا، ويطرح أيضا في إطار التعامل مع هاتين البيئتين مفاهيم تحدد انطلاقا من الفروق بينهما:
1- التنافر الإدراكي Cognitive Dissonance وهو محاولة الجمع بين وضعيات إدراكية متناقضة ، ففي الوقت الذي يسعى فيه صانع القرار إلى وضع فإنه يمارس نقيضه.
2- الانحياز الإدراكي Cognitive Biases ،وذلك من خلال ممارسة عملية تصفية للمعطيات Filtration والانحياز للمعلومات التي تؤيد ما يعتقد صانع القرار أنه الحقيقة.
3- الاندفاع الإدراكي Cognitive Impulsiveness وذلك من خلال غمر الفرد بالنتائج والمعلومات الفورية، فينشأ لديه إدراك متسرع للبيئة .
إن أفضل إدراك للبيئة العملية هو اعتبارها تقييداً أو تحديداً لما يمكن أو لا يمكن لصانعي السياسة أن يفعلوه، ومع أنه لا يمكن اعتبارها ذات صلة في وقت اتخاذ القرار، فإن أثرها سيكون واضحاً في مرحلة التنفيذ، فإذا بدأت البيئة العملية عندئذ في الانتقال إلى ما هو سيكولوجي عبر عملية التغذية الارجاعية feedback فعندها يجب أن يكون السلوك التكيفي ممكنا، فيمكن إجراء التعديل والتصحيح و يتحقق الترابط بين الوسطين، ومن جهة عكسية فإن عدم توفر التطابق بين البيئتين يؤدي إلى الإدراك الخاطئ ، أو ما يعرف بسوء الإدراك.4- سوء الإدراك عند الحديث عن سوء الإدراك فإن الدراسة تشمل: الأشكال والأسبابأ- أسباب سوء الإدراكتتعدد الأسباب المؤدية إلى سوء الإدراك إلا أنه يمكن إدراج أهم هذه الأسباب على النحو التالي1- الأنماط السلبية من الشخصية: * يقترن سوء الإدراك إلى حد كبير بشخصية صانع القرار، وهناك أنماط سلبية للشخصية أهمها:الشخصية التسلطية ،الشخصية ذات العقل المنغلق ،الشخصية الغوغائية.2- التصورات الخاطئة عن الخصم :وذلك من خلال ما يكونه صانع القرار من صور ذهنية عن الخصم سواء في تصرفاته أو ردود أفعاله وتوقع خططه والإمكانيات المتاحة له ، ومستوى التأييد الذي يحظى به أو المعارضة ضده، ويمكن القول أن الصراع الدولي لا يكون بين الدول بقدر ما يكون بين الصور المنحرفة التي قد تكونها الدول عن بعضها البعض3- التشبث بقناعة معينة :
يكون هذا التشبث عبارة عن إصرار صلب بصحة الموقف ،حتى ولو برزت مؤشرات تناقضه ، ويفرز هذا التشبث سعيا لتأويل مجريات الأحداث لتتطابق مع القناعات4- التنازع الداخلي : Decisional conflict
ينتج هذا التنازع نتيجة الميول المتضاربة لصانع القرار، فيصبح رهينة تنازع داخلي نابع من البناء السيكولوجي، ومن الضغوط المختلفة عليه من قبل قوى لا يستطيع السيطرة عليها ،أو توجيهها وفق إرادته، وهو ما يولد قدرا من التوتر ومن التشكك يدفع إلى تشتيت الانتباه وتجاوز حقيقة الأزمة وأبعادها،5- فداحة المجازفة :
يبرز ذلك حين يراهن صانع القرار أثناء قيامه بتصرف على ملل الآخرين أو عدم اهتمامهم ، وعلى أمل تمرير هذا التصرف مع مرور الوقت وتجنب العقوبة،أو على إحداث انشقاق في صفوف الخصوم.6- الطرد التلقائي للمعلومات:
يكون هذا الطرد للمعلومات غير المرغوب فيها عبر الإعاقة الذاتية للمعلومات، فيتم الرفض الفكري لكل المعلومات التي تعارض تصورات صانع القرار، وقد يكون هذا الطرد من طرف صانع القرار نفسه من خلال استبعاد جزء من المعلومات التي تقدم إليه أو التقليل من أهميتهاإن نزعة الطرد الآلي للمعلومات غير المرغوب فيها يمكن تعريفها بما يسمى منطق الحالة النفسية Psycho-logic حين يميل صانع القرار إلى تقبل المعلومات التي تتفق مع ميوله، ويتجاهل ما يتعارض معها، وذلك ضمن ما يوصف أيضا في إدارة الأزمات بالإفلاس القرائني Contextual Fallacy.7- الثقة التامة في الخصم والاطمئنان للنوايا المعلنة من الخصم وتصديقها: تمثل هذه الحالة حالة من الانخداع بالوقائع الآنية ، دون التفكير باحتمالات الغدر والمفاجأة ، وتؤدي إلى تدني مستوى التأهب والاحتياط منه ، ولعل مثال ذلك ميثاق عدم الاعتداء بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي عام 1939م.8- التعود على موقف معين وعادات متكررة من الخصم :
يفتح هذا التعود هامشا من الارتخاء وعدم الأخذ بالمؤشرات التي تشير إلى خلاف الوضع والصور المستحضرة لدى صانع القرار.9- المجاراة لأسباب شخصية بين القادة :
ترتبط المجاراة بمفهوم العناد والمكابرة ، فبسبب عنادهم وتصلبهم الشخصي تتراجع قدرتهم على قراءة الواقع، فلقد اعتبر هتلر حصار ستالينغراد وإسقاطها مسألة شخصية بينه وبين ستالين رغم نصائح مستشاريه بوجوب تجنيب الألمان كماشة الجيش الأحمر.10- سياسة حافة الهاوية : Brinkmanship
تطبق هذه الإستراتيجية في الأزمات لإجبار الخصم على القيام ببادرة استرضائية، ويقوم الأساس الذي تستند إليه على التلاعب بأخطار العنف المشتركة – التي يفترض أنه ما من أحد من الطرفين يريد حصولها – من أجل إجبار الطرف الآخر على التراجع ،و تعتمد في إنجاح هدفها على إدراك الطرفين أن الحرب ستكون بالتأكيد أسوأ النتائج، إلا أن ما يغيب عن إدراك صانع القرار أنه في بعض الحالات فإنه لا يمكن السيطرة على درجة التصعيد ، وبذلك ينجرف الطرفان إلى المواجهة ، وتمثل أزمة صيف 1914م تجسيدا لسوء إدراك القادة النابع من استعمال هذه الإستراتيجية.11- السلامة الجسدية والعقلية لصانع القرارتؤثر الحالة الصحية أو النفسية لصانع القرار على إدراكه لطبيعة الموقف والبدائل المتاحة للتصرف ، وعجز صانع القرار عن إدراك الواقع كما هو كائن قد يكون بسبب مرض عضوي، أو أمراض الشيخوخة أو التكوين النفسي المريض ، أو الانهيار العصبي وتدني القدرات العقلية بسب اضطراب في العقل أو بسب الإدمانب- أشكال سوء الإدراكأ- التعميم:
رغم أن قاعدة التعميم هي : لا تعمم قبل أن تستقرأ ، إلا أن التعميم عندما يأخذ مسارا متسرعا ،أو غير منظم فإنه يؤدي إلى سوء الإدراك الذي قد يظهر من خلال عدة نواح:أ-1- التدرج: ويكون ذلك من خلال الإصرار على أن حالة سلبية واحدة ستنقل العدوى - خاصة في حالة الإيديولوجيا، إما من خلال الاعتناق الإرادي أو الإجبار- إذا لم يتم الإسراع في محاصرتهاأ-2- الاعتقاد أن الطرف الأخر كتلة واحدة متجانسة وموحدة ، وبالتالي يتم التصرف بنفس السلوك إزاءه، --- أ-3 - معالجة مناطق العالم بنفس المنهج والإستراتيجية باعتبار أنها تنتمي لإطار جغرافي وثقافي معين وهو ما يعبر عنه بمصطلح الإفلاس المناطقي Regional Fallacy ، فأمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط أو شرق أسيا أو شمال إفريقيا أو وسطها مثلا قد تمثل مناطقا جغرافية أو مناخية متشابهة ، لكنها في المقابل مناطق ذات خصائص دينية وعرقية وثقافية وتاريخية متباينة . يوجد نوع أخر من التعميم هو الاعتماد على مفاهيم ذات دلالة محددة يتصرف صانع القرار وفقها، ليتم على أساسها التعميم، كقرن الإرهاب بالمسلمين، ويعبر عن هذا بالإفلاس الاستدلالي Inferential Fallacy.ب- تفكير المجموعة Groupthinkتمثل ظاهرة تفكير المجموعة أحد الأشكال الشائعة لسوء الإدراك ، وأول من ميزها كمؤثر على عملية صنع القرار هو ايرفينغ جانيس Irving Janis حين قصد بها نمطا من التفكير يقوم به الأفراد حين يشاركون في مناقشة موضوع ما، فيكونون مجموعة شديدة التماسك يتغلب فيها حرص الأعضاء على الإجماع على حرصهم على تحليل البدائل المتاحة تحليلا واقعيا-IVالنموذج الإدراكي لصنع القرار برزت محاولات تنظيرية تعتمد نماذجا هدفها ضبط تأثير الإدراك على العملية القرارية ككل ، ويبرز في هذا الإطار النموذج الذي قدمته مجموعة البحث في جامعة ستانفورد Stanford وهو النموذج المسمى بالنموذج الوسيط للحافز والاستجابة The Mediated-Stimulus Response Model.إن الحافز في هذا النموذج هو واقعة تحدث في البيئة الخارجية، و قد تكون واقعة مادية أو تصرفا لفظيا، أما الاستجابة فإنها سلوك تقوم به الدولة ، وكلا العنصرين : الحافز والاستجابة هو سلوك موضوعي يؤثر كل منهما في الأخر، فبعد أن يدرك صانع القرار الحافز فإنه يعبر عن نواياه وخططه واتجاهاته إزاءه تعبيرا معينا ، ويؤدي هذا التعبير إلى سلوك محدد يدخل بدوره كحافز للدولة الأخرى ، وبذلك يصبح الإدراك هو العملية الوسيطة بين الحافز والاستجابة.في إطار نموذج أكثر شمولية لصناعة القرار بدلالة الإدراك قدم كل من روبرت بيلينغس Robert S. Billings ماري لو شالمان Mary Lou Schaalman ، توماس مالبرن Thomas W. Milburn نموذجهم الإدراكي، القائم على العناصر التالية: [1]إثارة الأحداث والإحساس بالمشكلة : Triggering events and sensing the problemيتمحور هذا العنصر حول فكرة أنه يجب إدراك إثارة الحدث كحالة مستحضرة ومقيمة ، أي ذات وجود واقعي وفعلي ، وذلك في مقابل المعرفة المسبقة بالحالة التي يجب أن تكون عليها الأوضاع ، وهذا في نسق معين، وهذا الاستحضار هو الذي يمكن من إدراك حقيقة المشكلة ، وباعتبار أن صنع القرار يتحتم عليه أن ينطلق أولا من تمييز المشكلة،فإن إدراك المشكلة كما تم إيضاحه سابقا ، يحدث عندما يتم إدراك وجود فجوة أو تناقض بين الحالة القائمة والتي هي الواقع ، والحالة المرغوبة والتي تعبر عن الأهداف أو كيف يجب أن تكون الأشياء ، وهذه الحالة هي الحالة الحدية النهائية التي يتعامل معها صانع القرار.
يقدم ويليام باوندس Pounds William .F المعايير المستعملة للمقارنة في إدراك مشكلة ما ، وهذه المعايير هي على النحو التالي:[rtl]المعايير التاريخية: Historic standards[/rtl]
[rtl]تتجسد هذه المعايير من خلال الإطلاع على أحداث ماضية أو معايشتها سابقا، ومن خلال هذا الإطلاع أو المعايشة تتم المقارنة، حيث تقيم الأحداث الجارية مقابل الأحداث الماضية.[/rtl]
[rtl]ب- معايير التخطيط: Planning standards[/rtl]
[rtl]تقترن هذه المعايير بعنصر التخطيط وهو العنصر الذي يعتمد على التقديرات والأهداف،في بناء الأحكام وتوقع النتائج ، وحين يحدث ما يخالف هذه التقديرات والأهداف يتم إدراك الوضع كمشكلة.[/rtl]
[rtl]ج-معايير الرفض والاعتراض: objection standards [/rtl]
[rtl] تتعلق هذه المعايير بالأفراد وتطلعاتهم، فهؤلاء الأفراد يقدمون طلبات يرجون تحقيقها وإشباعها، أو تكون لديهم رغبة في التغيير من خلال السعي إلى أن يصير الوضع مخالفا لما هو عليه.[/rtl]
[rtl]د-المعايير التنظيمية جدا: extra-organizational standards[/rtl]
يتم استنتاج هذه المعايير من خلال مراقبة سلوك وأداء المنظمات الأخرى ، وهذه المراقبة تنصب على الأداء الوظيفي والنجاحات المحققة ، أو الخسائر و الاختلالات التي قد تواجه هذه المنظمات.[rtl]
قيمة الخسارة الممكنة value of possible loss[/rtl]
يعد حجم التناقض بين الحالة العادية والحالة القائمة المقرر الأساسي لقيمة الخسارة المحتملة، إلا أن ما يترتب على المشكلة خاصة من أضرار هو أكثر وضوحا في معرفة قيمة الخسارة الممكنة.[rtl]احتمال الخسارة: probability of loss [/rtl]
يمثل احتمال الخسارة عاملا ذا تأثير نفسي مهم في الخريطة الإدراكية للأفراد ،وذلك من حيث كونه يؤثر على الصور المستمدة من الأحداث ، وعلى الأحكام التي يعطيها الفرد كتبرير لتصرفاته ، ومن المؤكد بحسب التجارب التاريخية أن درجة إدراك الأزمة تنخفض ، إذا تم إدراك أن الخسائر التي تخلفها الأزمة هي خسائر غير محتملة الحدوث، ففي أزمة صيف 1914م وهي الأزمة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت أراء الاقتصاديين أن الأزمة لن تؤدي إلى حرب لطبيعة المبادلات الاقتصادية الكثيفة بين الدول الأوروبية، في حين أن الساسة خاصة البريطانيين والفرنسيين اعتقدوا أن الحرب لن تقع لأن ميزان القوى ليس في صالح الألمان وحلفائهم.[rtl]تتميز قيمة الخسارة الممكنة عن احتمال الخسارة في الجانب الذهني، وذلك من خلال حسابات الكسب، ففي الحالة الأولى تحدث تهيئة نفسية للخسارة ، وذلك من خلال اقتناع صانع القرار أن للأزمة تبعات وأنه بالقرار الذي سيتخذه عليه أن يتحمل جزءا من الخسارة ، وعند ترسخ هذا الاقتناع ، ينتقل العمل إلى التفكير بالآليات الكفيلة بتخفيض هذا القدر من الخسارة ، أما احتمال الخسارة فيشير إلى حالة من عدم الوضوح في النتائج ، الناجمة عن خيار ما ، ويكون القرار على شكل مراهنة على الظروف ، أو على خصائص الأزمة .[/rtl]
[rtl]
ضغط الوقت Time Pressure [/rtl]
يمثل هذا الضغط عنصرا ضروريا للاستجابة ، وإذا لم يحدث فإن المشكلة المدركة ستترك للمستقبل ، ويتم الاعتقاد أن نتائجها السلبية بعيدة ، وبذلك فإنه بشكل آلي سيساء إدراكها، ولا تتم الإحاطة بتأثيراتها السلبية، وانطلاقا من كون ضغط الوقت يتبلور في عدة نماذج تبعا لمراحل عملية صنع القرار، فإن ذلك سيفرض ردا سلوكيا محددا، سواء كان ضغط الوقت وظيفيا أو غير وظيفي.أثناء تعريف الموقف قد يكون هناك ضغط وقت ناتج عن الاعتقاد أن المشكلة ستسوء إن لم تعالج بسرعة ، فتضاف بذلك نتائج سلبية أخرى قد تحجب الحلول الممكنة .
إن هذا النوع من ضغط الوقت قد يكون وظيفيا ، إذ أنه يجبر صانع القرار على معالجة أزمة خطيرة بسرعة أكبر ، وذلك لأن الاشتغال سيقتصر على الأزمة، ويدفع ضغط الوقت إلى محاولة التخفيف من المسؤوليات من خلال إلقاء الواجبات الروتينية على الآخرين ، كما أنه يكون أكثر وضوحا حين لا يوجد حل فعال وكاف، وفي الآن ذاته لا يرى الوقت المتاح كوقت كاف يتم فيه البحث والتشاور أكثر،و هذا يؤدي إلى اليقظة العالية ، كما قد يؤدي أيضا إلى هبوط في قابلية توظيف البيانات وإلى حالة من الهلع النفسي.
التصحيح العاطفي* Emotional Inoculation أضاف إيرفينغ جانيس و مان Janis and Mann آلية جديدة إلى النموذج الإدراكي ، وذلك من خلال ما أسمياه التصحيح العاطفي ، وهذه الآلية تعمل وفق الشكل التالي :
حين يكون الحدث السلبي متوقعا مقدما فإن هناك وقتا للبحث عن المعلومات ، وإيجاد المعلومات المطمئنة، أما عندما يكون الحدث مفاجئا فليس هناك من الوقت الكافي لإيجاد مثل هذه المعلومات، وتكون النتيجة ردة فعل سلبية وإدراكا لأزمة أعظم ، فيتم اللجوء مجددا إلى التوقع (ماذا سيحدث؟) ،إن هذا التوقع يحدث تصحيحا عاطفيا على النحو التالي :
- يسمح التوقع الجديد بالبحث عن النتائج الإيجابية الإضافية للمساعدة في التعويض عن النتائج السلبية، فعلى سبيل المثال تدهور العلاقات مع دولة قد يؤدي إلى توقع خسائر في العائدات الاقتصادية يتدخل التصحيح العاطفي، فينشأ تصور بأن الدولة حققت منافعا كبرى من إنهاء ارتباطاتها الاقتصادية مع الدولة الخصم ، من ذلك الإشارة إلى التزامات سابقة كانت ضارة بمصلحة الدولة ومنحت الأزمة الفرصة للتنصل منها ، ويعزز هذا التصور بحقائق ومعطيات لم تكن معروفة سابقا.
- تغير القيمة المرتبطة بالنتائج، فالسمة السلبية لحالة تدهور العلاقات هو استياء المتضررين من هذا التدهور خاصة فئة رجال الأعمال، إلا أنه من خلال التصحيح العاطفي يخفض الاهتمام بهذا الاستياء باعتباره استياء موجها نحو البيروقراطيات وليس ضد سياسة الدولة.
- الاستدلال بحدوث أمر مماثل عند الخصم، فمثلا حدوث أزمة في الإمداد بالطاقة نتيجة تدهور العلاقات بين دولتين ، هو حدث يدفع نحو الشعور بآثاره السلبية كتراجع القدرات الإنتاجية للمؤسسات، إلا أن التصحيح العاطفي يتدخل فيتم توجيه الاهتمام نحو فكرة أن الطرف الأخر سيتضرر من فقدان العائدات التي كان يتحصل عليها ، وأنه سيفقد ثقة المتعاملين وسينهار قطاعه الاقتصادي .
يمكن القول أن هذا النموذج يصوغ إلى حد بعيد معالم الجانب الإدراكي في صنع القرار خاصة خلال الأزمات ، من حيث كونه يلم بعناصر الأزمة وبالآليات النفسية في إدارة الأزمة ، ويضع الحالات التي قد يصادفها صانع القرار ونمط الاستجابات الممكنة.
*الموساد
MUSSAD اختصار لتسمية : موساد ليتافيا كاديم ميوشاريم ، بما يعني خدمة المعلومات والمخابرات .أنظر أمين هويدي ،
التحولات الإستراتيجية الخطيرة : زلزال عاصفة الصحراء وتوابعه ( القاهرة : دار الشروق ، ط01، 1998).ص196.
* هناك ترجمات ثلاث لمصطلح Cognitive Map وهي الخريطة المعرفية ، الخريطة الإدراكية ، الخريطة الذهنية ، وباعتبار أن الإدراك –في اعتقاد الباحث - عملية أشمل وأكثر تنظيما سيتم اعتماد مصطلح الخريطة الإدراكية.
* يتم الاعتماد كثيرا على عامل الشخصية في التعامل مع عملية صنع القرار، ومنحه الأولوية في فهم حالات الحرب والسلم، لذلك جاء في ميثاق اليونسكو UNSECO حول ضرورة الابتعاد عن الأنماط السلبية من الشخصية"...لما كانت الحروب تبدأ في عقول الناس فإن الدفاع عن السلام يجب أن يوجد في عقول الناس..." أنظر محمد إبراهيم فضة ،
أثر عامل الشخصية في صنع السياسة الخارجية ،السياسة الدولية ،ع 74( أكتوبر 1983م) ، ص ص54-70.
[ltr]
[/ltr]
[ltr]
[1] - Robert S. Billings, Thomas W. Milburn, Mary Lou Schaalman,
A Model of Crisis Perception: A Theoretical and Empirical Analysis , Administrative Science Quarterly, Vol. 25, No. 2, (Jun., 1980), pp. 300-316.[/ltr]
* يترجم المصطلح بمعنيين : التلقيح العاطفي والتصحيح العاطفي ، وفي اعتقاد الباحث أن تدخل الجانب العاطفي هو عملية تصحيحية ، وذلك بصرف النظر عن مدى مطابقتها للواقع أم لا .