ولعل من أبرز سمات التطرف التي تميزه عن الأصولية الإسلامية، وينفرد بها:
1- أنهم في معظم الأحيان يجهلون العلم بمراتب الأحكام، فيضعون المندوب في مقام الواجب أو السنة، ويخلطون بين المكروه والحرام، ويترتَّب على ذلك قلبُ الأحكام الفقهية، فيهتمون بالمندوب والسنّة على حساب الفرائض والواجبات، ويتشددون في المكروه على حساب المحرَّمات؛ ومثال ذلك: تركهم الصلاة مع مَن لا يجهر بالتأمين خلف الإمام، وقولهم بهجر مَن يفعل ذلك ومقاطعته.
2- الاستبداد بالرأي، والتعصب، والتحامق مع المخالف، وقد يكون ذلك في معظم الأحيان عن جهل وقلة علم، وإعجاب كلٍّ منهم برأيه، واحتقار الآخرين، وهذه كلها مواقفُ تتنافر مع روح الإسلام ونصوصه.
3- أنهم يقرنون بين الخطأ والإثم، دون تفرقة بين مَن يخطئ عن جهل، ومن يخطئ عن قصد، ولا بين المجتهد المخطئ، والمتعمد في خطئه.
4- عدم الاعتراف بالآخر، وسوء الظن بالآخرين، واتهامهم في عقيدتهم، والطعن في آرائهم.
5- الطعن في العلماء، والتشويش عليهم، واتهامهم في كثير من الأحيان.
6- الميل والجنوح إلى التشدد، والتعسير على الناس، وإلزامهم بما لا يلزم.
7- التكفير للحاكم والمجتمع بدون ضوابط، ومن المعلوم أن الحكم بالتكفير له ضوابطه وأصوله، التي مَن تَخَطَّاها في الحكم على الآخرين فقد باء بإثمها، والعجيب أن أصحاب هذه المقالة يحاولون الانتساب بها إلى الأصولية الإسلامية، وهي منها براء، ولعل الإمام ابن تيمية كان من أكثر الأئمة بُعدًا عن الحكم بتكفير المسلم، أو المجتمع، أو الحاكم، برغم ما يشاع عنه زورًا وبهتانًا في القول بذلك، ولم يُعرف لهذه المقالة من أصول، إلا في فكر الخوارج، الذين يقولون بكفر مرتكب الكبيرة.
وسوف أضع بين يدي القارئ نصوصَ ابن تيمية التي توضح موقفه مما يُنسب إليه من القول بتكفير المسلم، أو الحاكم، أو العالم المخطئ:
1- يقول ابن تيمية: "إن علماء المسلمين المتكلمين في الدنيا باجتهادهم، لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأٍ أخطأه في كلامه؛ فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض، الذين يكفرون أئمة المسلمين؛ لما يعتقدون أنهم أخطؤوا فيه من الدين".
2- "وقد اتَّفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض؛ بل كل أحد يُؤخذ مِن قوله ويُترك، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس كل مَن يُترك بعضُ كلامه لخطأٍ أخطأه، يَكفر ولا يَفسق؛ بل ولا يَأثم، ومِن المعلوم أن المنع من تكفير علماء المسلمين؛ بل دفع التكفير عن علماء المسلمين وإن أخطؤوا - هو من أحق الأغراض الشرعية... فكيف يُكفَّر علماء المسلمين في مسائل الظنون؟ أم كيف يكفر علماء المسلمين، أو جمهور سلف الأئمة، وأعيان العلماء بغير حجة أصلاً؟"[16].
3- ويقول ابن تيمية: "من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يصلُّون الجُمَع والأعياد والجماعات، لا يَدَعون الجمعة والجماعة، كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستورَ الحال، صلَّى خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة".
4- "ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه؛ كالمسائل التي تنازع فيها أهلُ القِبلة... والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، محرَّمةٌ من بعضهم على بعض، لا تَحلُّ إلا بإذن الله... قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا - فهو المسلم، له ذمة الله ورسوله))"[17].
5- "السلف قاتَلَ بعضهم بعضًا في الجَمَل وصِفِّين... ومع القتال كان يوالي بعضهم بعضًا موالاة الدين، ويتوارثون ويتنكاحون، ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من قتال"[18].
6- "إنني من أعظم الناس نهيًا عن أن يُنسبَ معيَّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاَّ إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية، التي مَن خالَفَها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعمُّ الخطأَ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية، وما زال السلف يتنازعون في كثير من المسائل، ولم يشهد أحد على أحد لا بكفر، ولا بفسق، ولا معصية، وليس لأحد أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتبيَّن له المحجة، ومن ثبت إسلامُه بيقين، لم يَزُل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة"[19].
7- "ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفورٌ للأمة، وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثرُ فضلاء الأمة، وإذا كان الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر؛ لكونه نشأ بأرض جهل، مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه، إذا كان مقصودُه متابعةَ الرسول بحسب إمكانه - هو أحق بأن يتقبل الله حسناتِه، ويثيبه على اجتهاده، ولا يؤاخذه بما أخطأ؛ تحقيقًا لقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وأهل السنة جزموا بالنجاة لكل مَن اتقى الله - تعالى - كما نطق به القرآن".
هذه نصوص ابن تيمية يوضح بها موقف سلف الأمة في أخطر القضايا المثارة الآن، والتي كانت سببًا في تمزيق شمل الأمة: قضية تكفير المسلم، قضية تكفير الأمة والمجتمع، قضية الخروج على الإمام والحاكم، يتضح خلالها أن ذلك ليس مذهبًا للسلف، ولا رأيًا لابن تيمية، ومَن يفتري ذلك عليه عامدًا وقاصدًا، فكلهم مخطئ في دعواه، إن كان الرأي ينسب إليه، ويعرف من نصوص السلف إن كان الرأي ينسب لهم، بدلاً من التقوُّل عليهم أو القول بغير علم؛ لأن ذلك خطر عظيم، خاصة فيما يتعلق بعقائد المسلمين، وفي أيام الفتن التي يختلط فيها الحق بالباطل، والصواب بالخطأ، والله أعلم.
[1] انظر: "الأصوليات المعاصرة"، رجاء جارودي، ط: دار 2000 باريس، ص 13.
[2] انظر: "الأصولية في العالم العربي"، ريتشارد هرير، ترجمة عبدالوارث سعيد، دار الرقاء، ص 34.
[3] راجع: "الأصوليات المعاصرة"، مرجع سابق، ص 13.
[4] انظر: commentary (march 1981) p. 25
[5] انظر: السعد الجيني "في السياسة الأمريكية" ص 14.
[6] راجع: "البعد الديني في السياسة الأمريكية، دراسة في الحركة النصرانية الأصولية"، د. يوسف الحسن، ط: مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، 1990م ص 79.
[7] راجع: "لسان العرب"، مادة: طرف 90/217.
[8] راجع في هذه المعلومة: "التطرف الديني الرأي الآخر"، د. صلاح الصاوي، ط: الآفاق الدولية للإعلام، ص 16.
[9] رواه مسلم: 2055، أبو داود 4/ 281، ابن حنبل 1/ 386.
[10] رواه ابن حنبل 1/ 215، ابن ماجه 2/ 1008.
[11] رواه أبو داود 4/ 381.
[12] البخاري 1/ 94.
[13] رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وفي "الجامع الصغير"، ص 268، راجع: "مدخل لدراسة السنة"، مرجع سابق.
[14] رواه مسلم في كتاب العلم، رقم 2670، "مدخل لدراسة السنة".
[15] " الروح "، لابن القيم.
[16] "الفتاوى" 35/ 100 - 104، مسألة حكم المرتد.
[17] راجع: "الفتاوى" 3/ 287 - 285.
[18] نفسه 3/ 285.
[19] "الفتاوى" 12/ 466.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/10331/4030/#ixzz2sQXGc88F