الإشكاليات الأساسية للتنظير في التكامل الدولي
أ.ملاح السعيد : مداخلة ألقيت في ملتقى علمي بجامعة محمد خيضر -بسكرة
مقدمة:
سيطر منطق معاهدة واستفاليا على العلاقات الدولية إلى غاية نهاية الحرب العالمية الثانية ، ببداية حدوث اعتراف الدول بظاهرة التكامل الدولي، ثم اعتراف المنظرين بأن الإدراك الفعال للعلاقات الدولية يجب أن يتجاوز حدود مقولة أن الدولة هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية .
وفترة ما بعد الحروب العالمية أنتجت قيم جديدة تتجاوز المضامين الكلاسيكية للمصلحة الوطنية، الطابع العقلاني والوحدوي للدولة ، وبالتالي أصبح الهدف ليس التمكين المطلق للدولة بقدر ما يجب العمل على التمكين المطلق للأفراد ، وهنا أصبحت الحروب قيم غير عقلانية ، وغير نافعة، وهذا ما يبرر موجة الإقبال على التجارب التكاملية ، بالرغم من أنه لا يوجد شيء أخطر على مفهوم الدولة الوطنية مثل الإقبال على التكامل .
وهكذا بدأ العالم يقبل بالتكاملات الجهوية لأنها تخلق جزر سلام في العلاقات الدولية كما قال "جوزيف ناي" خاصة وأن تزايد التبادل التجاري ، الاعتماد المتبادل ، التعاون الدولي انتهى بفرض منطق جديد على الدول بضرورة تنظيم هذه الظواهر التي تعبر الحدود ، وهذا ما يختصر في مقولة أن التكامل الدولي في شكليه العملي والنظري هوشكل من أشكال الاستجابات على قيم جديدة مست الأنظمة السياسية والعلاقات الدولية .
والتكامل المغاربي يندرج ضمن هذه التجارب التي تعبر عن نوع من الاستجابات على التحديات التي يفرضها نفس الامتداد الجغرافي، والإشراك في نفس الخلفيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
وعموما سنحاول في هذه المداخلة إثارة الطابع الإشكالي في التكامل الدولي المتعلق بالعلاقات السببية بين تزايد النزاعات الدولية وتزايد الرغبة في التكامل، تزايد الاعتماد المتبادل وفي نفس الوقت اكتمال تطور ونمو الدولة الوطنية.
وكل هذه العلاقات السببية يمكن التعبير عليها في التساؤل التالي:
? هل يمكن للتكامل الدولي أن يمثل آلية جادة لتفكيك بنيـة النزاعات في العلاقات الدولية، وإلى أي مدى ساهم في حل مشكلة الاعتماد المتبادل في النظام الدولي ؟.
?-تأثير التكامل الدولي على منظومة قيم النظم السياسية و العلاقات الدولية:
فرض تطور العلاقات الدولية والتاريخ الانساني بشكل عام نموذجين من الجماعات السياسية، نموذج سياسي داخلي وهو الدولة ،ونموذج سياسي دولي وهو النظام الدولي. فالنموذج الأول كان نتاج تطور منطق ممارسة السلطة و النفوذ ابتداءا بالدولة المدينة،ثم الإمبراطورية، ثم الدولة الدينية و بعدها الدولة القومية. أما النموذج الثاني فهو نتاج تطور اليات الضبط الدولية ابتداءا بقانون الشعوب ثم فيما بعد القانون الدولي، وصولا لأدوات ضبط متعلقة بتطور فكرة النظام الدولي خاصة بعدما اصبح معرفا بالدول.
اذا ابتداءا من معاهدة واستفاليا تكرس نموذجين من القيم، قيم سياسية داخل الدولة، وقيم سياسية في العلاقات الدولية.
1-المنظومة القيمية للنظم السياسية والعلاقات الدولية :
أ- المنظومة القيمية للنظم السياسية:
أسست النظم السياسية الحديثة - خاصة بعد ميلاد الدولة القومية-على عدة مفاهيم معرفة بالحدود: المصلحة معرفة بالحدود، المواطنة،الامن،و ادوار الدولة المختلفة ووظائفها مقترنة اساسا بالموارد الوطنية.
وكل هذه المفاهيم جعلت علم السياسة يقترن اساسا بهذه الحدود المفاهيمية التي جعلت منه علما لدراسة التفاعلات داخل الدولة، وهيمنت الدولة كوحدة تحليل أساسية و السلطة كموضوع جوهري لعلم السياسة.
وهذا المنطق الدولتي قسم العالم على حدود قطرية و جعل من النظام الدولي ساحة لتنافس المصالح وفق منطق عقلاني يعتمد على إدراكات قطرية لمضامين المصلحة الوطنية و الأمن القومي، و كل هذا اسس للمفهوم الكلاسيكي للأمن الذي يرتبط اساسا بأمن الجماعة الإنسانية داخل الرقعة الجغرافية للدولة.(1)
ب-المنظومة القيمية للعلاقات الدولية:
نفس الظروف التي فرضت القيم الساسية الداخلية هي التي فرضت منظومة قيم تشكل بشكل حاسم الإدراك الدولي للعلاقات الدولية.
لذلك فميلاد تخصص العلاقات الدولية اقترن بتطور مفهوم الدولة الامة و اصبحت الدولة هي الفاعل الاساسي في السياسة الدولية،و تتحرك في بيئة سميت بالنظام الدولي. و منظومة القيم الدولية مؤسسة على مقولات الدولة الوطنية كفاعل، و المصلحة الوطنية كغاية،و القوة العسكرية كوسيلة،و يعزز هذا الادراك مقولة ان درجة فقدان الامن و انعدام الثقة يجعل من تحقيق المصالح المختلفة من مهام الدولة وفق ما يسميه Kenneth woltz بمبدأ المساعدة الذاتيةself help .
لكن نجاح الثورة الصناعية وتطور منظومة القيم الليبيرالية و النظام الرأسمالي و اندلاع الحربين العالميتين ادخلت العديد من الشكوك في منظومات قيم الدولة وقيم العلاقات الدولية،وواحدة من اهم الاستجابات عن تحديات الحداثة نجد التكامل الدولي الذي ساهم في تفكيك الإدراكات المعرفة بالحدود القومية سواءا على المستوى المحلي او الدولي.
و نود أن نشير إلى أهمية هذا المدخل باعتباره يمثل مركز التحليل" Centre de gravité" و نقطة الانطلاقة الاساسية للتنظير في التكامل الدولي ،لأن كل أدبيات التكامل تنطلق من افتراض أن سبب تعاظم النزاعات الدولية - خاصة في أوروبا - هو طبيعة القيم التي تتأسس عليها البنى السياسية الداخلية و بنية النظام الدولي.
و فيما يلي نحاول ان نبحث في مدى مساهمة التكامل في تحول قيم النظم السياسية و قيم العلاقات الدولية.
2- التكامل الدولي و تحول قيم النظم السياسية و العلاقات الدولية:
أشرنا سابقا إلى أن عالم ما بعد واستفاليا أسس على مقولات قطرية و وطنية و بأن ربط المصلحة،القوة،الموارد و الامن بالحدود الجغرافية ادى الى تزايد النزاعات ،لأن الدول تعتمد على نفسها في بيئة دولية فوضوية تعرف حالة من ندرة الامن و تحت ضغط مخرجات الثورة الصناعية و النتائج المدمرة للحربين العالميتين و كذا اكتشاف اسلحة الدمار الشامل اصبحت الحروب قيم غير عقلانية و غير نافعة و توجهت الدول الغربية الى تغليب الحاجات الإنسانية على الحاجات السياسية، و هنا بدأ يحدث القبول بالتكامل الدولي كقيمة مؤسساتية جديدة مست النظم السياسية و العلاقات الدولية.
أ-تأثير التكامل الدولي على قيم النظم السياسية:
أدت الثورة الصناعية الى تزايد الطلب على الموارد،و شيئا فشيئا بدأنا نعرف حالة من الندرة أو الرغبة في توسيع تواجد رأس المال،و في هذا الوضع أصبحت الموارد لا تقع بالضرورة داخل الحدود الجغرافية للدولة،و تبع ذلك ضرورة الامتداد الى خارج الحدود و هنا أصبحت المصلحة الوطنية لا تُعر?ف بالحدود فقط ،أي أنها قد توجد خارج الدولة و تحقق بأدوات و آليات جديدة ليست بالضرورة أدوات وطنية.
و هنا ظهرت وظائف جديدة للدولة و طرحت اشكالية" تدخل الدولة" ، بمعنى أن المضامين الكلاسيكية لوظائف الدولة المعرفة بالحدود و الجماعة التي تقيم فيها اصبحت غير قادرة على ادارة هذه الوظائف الجديدة التي تقع خارج الحدود.(2)
و رافق هذا التحول قبول اكاديمي جديد بدأ يقر بان التجارب التكاملية يمكن أن تعبر عن طرح جديد لحفظ بقاء الدولة بدلا من الحروب ،و لتحقيق التنمية بدلا من التركيز فقط على الموارد الوطنية، و تغيير الأنظمة السياسية و الاجتماعية بدلا من التركيز على الدولة كأداة لقيادة التغييرين السياسي و الاجتماعي (3)
وبعدها ازدادت الثقة في التكامل الدولي باعتباره يقدم حلولا لوضعية المجتمعات غير الصناعية ،بحيث ان وجود فوارق في التحكم في التكنولوجا و فوارق في الموارد ، وكذا عجز الدول على ضمان التنمية و التغيير بمفردها ،كل هذا ادى الى ضرورة قبول شكل جديد للسلطات ،و مصادر جديدة للثروة وفق فرضية أن التكامل يحقق دعم مواطن العجز في الدول(إسبانيا ، البرتغال في أوربا).
والتكامل يجبر الدول على تغيير نفسها و قيمها، وهذا ما عبر عنه ديغول في الستينيات حينما قال بان الآلة اصبحت السيد المطلق"Absolute Master " الذي يدفع المجتمعات إلى التغيير ، ويدعم فرص السلام . (4)
ونفس الشيء بالنسبة لتركيا التي دخلت في ورشات اقتصادية وسياسية أملتها عليها الرغبة في الإنضمام إلى النموذج التكاملي الأوربي ، فالتكامل هنا يجبر الدول على تغيير منظومتها وقيمها الداخلية .
ب- التكامل وتحول قيم العلاقات الدولية :
أشرنا في السابق الى أن التكامل يتجاوب مع الحركية المتعلقة بالوظائف الجديدة للدولة، وفيما يلي سنحاول أن نفهم مدىمساهمة التكامل في تفكيك منظومة القيم الدولية التي سيطرت منذ ميلاد الدولة الوطنية ، بحيث أن تزايد ظاهرة التعاون الدولي والاعتماد المتبادل والنزاعات الداخلية، وتزايد مكانة الفرد في العلاقات الدولية أدى إلى تراجع القراءات الكلاسيكية لأدوار ووظائف الدولة ، وإلى ترسيخ مقولة أن عالم ما بعد الحروب العالمية لن يكون إلا عبر وطني يحتل فيه الفرد المكانة الأولى، وهذا ما أدى إلى تراجع فكرة الأمن للدولة إلى فكرة الأمن للإنسان، أي تراجع الحاجة السياسية ( الشرف ، الفخر، النصر) لصالح الحاجة الإنسانية ( الصحة ، التروة، الرفاه، الأمن من الجوع ، من الخوف....) (5)
وتشير الكتابات المتخصصة إلى وجود علاقة قوية بين تزايد ظاهرة الإعتماد المتبادل وتزايد الرغبة في التوجه إلى التكامل الدولي .
ب-1- التكامل كحل لمشكلة الإعتماد المتبادل في العلاقات الدولية :
من نتائج الثورة الصناعية زيادة ظاهرة الإعتماد المتبادل بين الدول ، وبالتالي زيادة درجة المبادلات وتداخل المصالح ، وهذا الوضع أصبح يشكل شيئا فشيئا مشكلة في النظام الدولي.
الاعتماد المتبادل يؤدي إلى وضع قلق باعتباره يؤسس لعلاقات تبادل غير منظمة ولا تخضع لأي نوع من انواع التنظيم أو المؤسسات ، لذلك يعتقد المختصون أن أهم مشكلة واجهت الدولة القومية المتقدمة هي تزايد ظاهرة الإعتماد المتبادل . وهذا الوضع فرض التكامل الجهوي كحل فعال لأن مخرجات الاعتماد المتبادل تتطلب شكل جديد من الرقابة والسلطة على الوظائف التي تحدث خارج اقليم الدولة الوطنية.
وكل هذا يعني بأن : زيادة الإهتمام بالصناعة أدى إلى زيادة المنتوج ، وهذا ما أدى الى زيادة الإتصالات ، وهذا الوضع أصبحت الأسواق الداخلية عاجزة عن احتوائها ، وبالتالي ظهرت وظائف خارج حدود الدولة القومية، وهذه الوظائف أصبحت مستحيلة الإدارة من طرف النماذج السلطوية المركزية ، وهذا ما فرض ضرورة التكامل ، و ضرورة تحويل القوة و السلطة من المستويات المحلية الوطنية .إلى المستويات الإقليمية الجهوية. (6)
ب-2- التكامل كشكل من أشكال الإستجابات على تحديات الحداثة :
مسار الثورة الصناعية وبعدها اندلاع الحروب العالمية ، ثم إكتشاف الأسلحة النووية التي مثلت قيمة إستراتيجية عليا باعتبارها رسخت قيمة أن الحرب الوحيدة المتبقية هي الحرب النووية ، كل هذا أدى إلى تطور الحركات عبر الوطنية Tansnational Movements و خاصة ذات التوجهات المناهضة للأسلحة النووية و التدخلات العسكرية و زيادة التسلح .
و كل هذه التوجهات عبر الوطنية ساهمت في تشكبل قيم جديدة لعالم ما بعد الحروب العالمية ، و كذا تشكيل رغبة حقيقية لتغيير السلوك الدولي حتى يتماشى مع هذه القيم الدولية الجديدة .
وهذه الخطابات مثلت أرضية جديدة لتمرير خطابات التعاون الدولي و الأمن الجماعي و التعددي ، وفيما بعد تمرير مشاريع التكامل الجهوي والدولي كآليات عملية و فعالة لتجاوز وضع ما بعد الثورة الصناعية و الحروب العالمية و كذا التجاوب مع مطالب الرأي العام الدولي الذي بدأ يؤثر على سلوكات الدول الوطنية كما تقول "إيليس بولدينغ" (7)
و كل هذا الكلام يفيدنا في تطوير إدراكنا للطابع الإشكالي الحقيقي الذي يتعامل معه التنظير في التكامل الدولي : بحيث أن منظومات القيم التي تطورت عبر تطور مسار العلاقات الدولية إنتهت في القرن العشرين إلى وضع قلق و إشكالي "paradoxal" المعبر عنه في تزايد ظاهرة الإعتماد المتبادل و في نفس الوقت إكتمال تطور الدولة الوطنية ، و هاتين الظاهرتين تمثلان وضع متناقض لا يمكن تجاوزه لأن الدولة الوطنية معرفة بإمكانياتها ووظائفها و مواردها و مواطنيها و أسواقها بالحدود الجغرافية ، في حين أن ظاهرة الإعتماد المتبادل تعتبر ظاهرة عبر حدودية وبالتالي تستهدف مكانة الدولة، و الحل هنا لا يمكن أن تقدمه سوى مؤسسات التكامل بإعتبارها تحافظ على وجود الدولة ولو مؤقتا ، و في نفس الوقت تنظم علاقات الإعتماد المتبادل .
وهذا الطابع الإشكالي هو الذي يقع في جوهر عملية التنظير للتكامل الدولي إبتداءا من الطروحات الفيديرالية و الوظيفية إلى غاية المقاربات المابين حكوماتية"les approches intergouvernementales " .
II - التكامل الدولي و إمكانية تجاوز العلاقة الإشكالية بين الإعتماد المتبادل و الدولة القومية :
معظم أدبيات التكامل الدولي تنطلق من الطابع الإشكالي للعلاقات الدولية في القرن العشرين، و هذه المفارقة تظهر في تزايد الهوة بين ظاهرتين:
1- تزايد و تعاظم ظاهرة الإعتماد المتبادل في العالم التي ساعدها العلم كثيرا.
2- و في نفس الوقت تزايد درجة إنقسام العالم على حدود السيادة والمفاهيم القطرية .(
وتزايد هذه الإشكالية أدى إلى ظهور عدة محاولات لتفكيكها بدءا بأعمال Alfred Ziman ، وRichard Caudenhove حول "الحركة الأوربية" mouvement pan-european " ثم فيما بعد أعمال" دافيد متراني" التي تتأسس على "نظام للتسويات الوظيفية" systeme d’arrangement fonctionnelle " .(9)
ويذكر الأستاذ "david mitrany" في كتابه "نظام سلم فعال" "working peace system " بأنه عايش حركية إجتماعية مزدوجة تمثلت في :
• تزايد المبادلات la croissance des échanges .
• و تدخل الدولة l’interventionnisme étatique
و الحركية الأولى أدت إلى ظهور تيار كبير يهتم بتأثير الإعتماد المتبادل الدولي ،والحركية الثانية أثارت سؤال الوظائف الجديدة للدولة ، والربط بين هذين الحركيتين يمثل أصالة طرح الأستاذ ميتراني خاصة عندما يربطها بالسلام .(10)
ونفس الشيء حاولت الوظيفية الجديدة أن تتعامل معه بإقتراحها لبرنامج عمل تدريجي يفكك الولاءات القومية و يؤسس لوعي قومي جديد " nouvelle conscience nationale " تتحول بمقتضاه الولاءات بشكل تدريجي من المستوى المحلي الوطني إلى مستوى الفوق وطني .
و كما أشرنا سابقا فإن التكامل الدولي جاء ليحل مشكلة الاعتماد المتبادل باعتبار هذا الأخير يعتبر وضع فوضوي غير منظم ، وفي نفس الوقت جاء ليكيف مضامين الدولة الوطنية مع الظواهر التي تعبر الحدود ، وبالتالي يمنحها فرصة لتسيير وإدارة الوظائف والمصالح الجديدة التي تقع خلف الحدود .
و هذا الوضع الإشكالي للعلاقات الدولية امتد إلى نظرية العلاقات الدولية بحيث يقر العديد
من المختصين بأنه يمثل الحوار الثالث في تاريخ نظرية العلاقات الدولية وهو ما سماه Maghroori بالحوار ما بين مقاربات الدولة المركز. والمقاربة العبر وطنية ، State – centrisme versus transnationlism .
و الخطاب التكاملي بهذا الشكل يدعو إلى ضرورة تجاوز الدولة ، وهذا ما عبر عنه "كلود" بقوله بأن "نظام الدولة يفرض نظاما تسلطيا وجامدا للتقسيم الهرمي للمجتمع الدولي ، وهذا ما يعرقل الوحدة بين وحدات النظام الدولي ويقسم العالم إلى محاور محمية من طرف سيادات وطنية غير قادرة على حل المشاكل الداخلية الرئيسية ، وغير مستعدة لترك وحدات أخرى تشارك في حل هذه المشاكل.(11)
وعموما أقبلت الدولة و خاصة في أوربا على تبني إستراتيجية دولية طويلة الأمد لتجاوز هذه الإشكاليات بالتأسيس لمسار تكاملي يحل مشكلة الإعتماد المتبادل من جهة ببناء مؤسسات وتطوير آليات لتنظيمها ،وبتجاوز منطق الدولة الوطنية بنقل منطق الحاجات من الحاجات السياسية التي تثير النزاعات إلى الحاجات الإنسانية التي تُؤسس على مسلمة الإشراك و السلام من جهة أخرى .
وهذا ما سنحاول تحريكه فيما بعد أي العلاقة بين التكامل والسلام في العلاقات الدولية
.
III - فعالية التكامل لتفكيك نية النزاعات الدولية :
يتعاطى المنظور الليبرالي بشكل عام مع العلاقات السببية بين الاعتماد المتبادل والسلام في العلاقات الدولية ، ويعود ذلك إلى كتابات" شارل مونتسيكو" الذي قال بأن "النتيجة الطبيعية للتجارة هي تحقيق السلام " ، وكتابات" بينتام " الذي قال بأن " كل تجارة هي في الجوهر مفيدة ، وكل حرب هي في جوهرها غير مفيدة و غير مقبولة " ، ونفس الشيء ذهب إليه "ستيورت ميل" الذي قال بأن " كل تجارة تؤدي إلى تراجع فرص الحرب لأنها تضاعف المصالح الشخصية وهذا ما يتعارض مع الإقدام على الحرب " ،وحديثا قال " ريتشارد كوبدن" بأن : التبادل الحر هو وسيلة تحقيق السلام العالمي الدائم " وكل هذه المقولات لخصها "جوزيف ناي" بقوله أن "التكاملات الجهوية خلقت جزر سلام في العلاقات الدولية ".(12)
و في دفاع المقاربة الليبرالية المؤسساتية عن أهمية الإعتماد المتبادل تتمسك بحجة قوية مفادها أن الإعتماد المتبادل يخلق مصالح متبادلة ، لدرجة أن التراجع عنها يصبح مكلفا في حالة تبني إستراتيجيات نزاعية .
ويمكن الحديث عن أربعة حجج أساسية للدفاع عن هذه العلاقات السببية بين الإعتماد المتبادل والسلام(13) :
- التجارة مفضلة عن الحرب : و هذا الطرح تسنده كتابات" ريتشارد كوبدن" و"نورمن انجل" في بدايات القرن التي تدافع على أن الدول الحديثة تختار أن تتجار أكثر من أن تتحارب ، وحديثا جاءت أعمال" ريتشارد روزيكرانس" التي تعتبر أن إدراكات الدول الحديثة تغيرت كثيرا ، وأصبحت بذلك الحرب قيمة غير عقلانية بالنسبة للدول التجارية ، بحيث تقدر بأن تحقيق نموها الاقتصادي يكون عن طريق التجارة وليس السياسات العسكرية ،و جوهر هذه الطروحات هو أن المجتمعات الصناعية تختلف عن المجتمعات العسكرية .
- الإعتماد المتبادل هو الخاصية الأساسية للنظام الدولي الحالي :
أشرنا سابقا إلى أن عالم ما بعد الثورة الصناعية لا يمكن أن يكون إلا عبر وطنية لذلك دافع "جوزيف ناي" و "روبرت كيوهان" على أهمية الفواعل الجديدة التي بدأت تزيح الدولة الوطنية من قلاعها الكلاسيكية مثل البنوك الدولية و الشركات الكبرى ..
و النظام الدولي الجديد يعبر عن شبكة متداخلة من العلاقات والتفاعلات التي ساهمت في ضرورة تطوير آليات وأدوات ضبط جديدة تختلف عن الأدوات الكلاسيكية كميزات القوى و الحروب و التحالفات الإستراتيجية .
- السلام يفترض وجود الإعتماد المتبادل يحول دون العودة إلى القوة ، و حتى في حالات الإعتماد المتبادل غير المتماثل فإن الدولة الأكثر إعتمادا على العلاقات التجارية لا تملك الجرأة على تفكيك علاقاتها التجارية بالدخول في نزاع لأن ذلك يصبح مكلفا جدا ، لذلك فالإعتماد المتبادل هو الذي يفسر الإستقرار الحادث في النظام الدولي لفترة ما بعد الحربين لأنه أنتج مصالح متبادلة ترغب الدول في الحفاظ عليها .
و تتطور علاقات الإعتماد المتبادل إلى درجة الإعتماد المتبادل المركب أي تشكيل ما يسميه "جوزيف ناي" و "روبرت كيوهان" بالشبكة الإجتماعية عبر الوطنية و في هذه المرحلة تتراجع العلاقات الصراعية.
- الإعتماد المتبادل يقرب بين الدول ، و بالتالي ظهور إمكانية التعاون وهنا يزداد التقارب و بالتالي ضرورة التنسيق فيما بين السياسات الوطنية، و هنا تظهر الميولات الجهوية .
و عموما فإن الإعتماد المتبادل يشجع تنامي الشفافية السياسية بين الدول خاصة التي تمثل جزءا من التجمع و بالتالي زيادة التعاون وبداية الأخذ في عين الإعتبار مصالح الآخرين .
ووفق وجهات نظر وظيفية فإن الإعتماد المتبادل يخلق مشاكل مشتركة تقود إلى ضرورة التعاون فيما بين الدول ، و هذا ما يفترض ضرورة العودة إلى بناء مؤسسات تؤطر هذا التعاون ، و قد أشار"ايرنست هاس" إلى ذلك حينما قال بأن الأهداف الإقتصادية المشتركة تسرع في التكامل الأوربي أكثر من شعارات الفخر لـ"شارلومان" ومن خطابات البابا و مقولات الحضارة الأوربية الغربية ، و حتى من فكرة الخوف من الإتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية(14) .
ومعنى هذا أن سلوك الفواعل الإجتماعية الرئيسية يتغير تجاه مسار التجربة التكاملية ليس إستجابة لقيم رمزية و مثالية بقدر ما كان إستجابة لقيم عقلانية لخدمة مصالح مباشرة وواضحة .
كما أن هذا التحول في قيم النخب الوطنية كان نتيجة لتزايد الإدراك بان مصالحها تتحقق بأكثر فعالية في مجال سياسي جديد أكثر من المجال الوطني القومي ، وشبئا فشيئا تقتنع النخب السياسية بضرورة التخلي عن سياسات القوة لتحقيق أهدافها ، لذلك قيل بأن التكاملات الجهوية تذيب علاقات القوة عكس المنظمات السياسية الدولية التي تجمد سياسات القوة في صروح دولية (عصبة الأمم وهيئة الأمم المتحدة).
و عمليا يمكن إعتبار التجربة الأوربية مجالا إمبريقيا لإختبار مصداقية هذا الطرح أي قدرة المقاربة الاقتصادية التي تعتمد على التجارة و تطوير علاقات الإعتماد المتبادل على تفكيك بنية النزاعات الدولية بين الدول الأوربية .
-IV القوى الدافعة لمسار التكامل و إشكالية ترتيب السياسة و الاقتصاد :
هناك نقاش حاد حول مكانة الدولة في مسار التكامل ،و يكاد يُجمع الباحثون على تصنيف أدبيات التكامل إلى قسمين :
- قسم يدافع على أن التكامل هو عملية أو سيرورة للتغيير الإجتماعي تقوده حركية تحتية و إقتصادية بالتحديد ، و بالتالي فهو عملية غير سياسية يقع في جوهرها الحاجيات الإنسانية ، وتحركها ديناميكيات إجتماعية و فواعل ما تحت الدولة ، وقسم آخر يدافع على أن مسار التكامل لا يمكن ان يكون آليا، بل يخضع لإدارة و إدراكات الدول والحكومات ، لأن الدول هي سيدة المسارات التكاملية كما يقول "ستانلي هوفمان" .
ونجد في القسم الأول أطروحات المدرسة الوظيفية الأصلية مع" دافيد متراني" التي تدافع على أهمية العوامل الإقتصادية و الفنية ، و تقر بأن الإنتشار يحدث بصفة آلية تحت ضغط ما تسميه باليد الخفية ، كما نجد الوظيفية الجديدة التي تحتفظ بالأسبقية للعوامل الإقتصادية و النخب الليبرالية ، وتتكلم عن تسييس تدريجي للولاءات القطرية .
ولكن أزمات الانتشار التي حدثت في الستينات مع ما يعرف بأزمة الكرسي الشاغر في عهد ديغول في مواجهة بريطانيا ، و أزمة الإنتشار الثانية في الثمانينات أدخلت الكثير من الشكوك في قدرة العامل الإقتصادي على تفكيك الولاءات القومية لذلك إعترف "هاس" في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه بأنه لم يحن الوقت للقول بأسبقية الإقتصاد على السياسة ، كما أنه لم يحن الوقت للقول بنهاية الإيديولوجيات، لذلك لا يجب استبعاد الميولات الإيديولوجية في الإتحاد الأوربي(15) .
والذي شكك كثيرا في أسبقية العامل الإقتصادي على العامل السياسي هو عدم تحقق الوحدة السياسية في أكثر التجارب التكاملية جدية في تاريخ العلاقات الدولية و هو الإتحاد الأوربي .
و في القسم الثاني نجد الكتابات التي تحاول إعادة ترتيب ثنائية الإقتصاد و السياسة ، وتدافع على أن مسار التكامل محكوم دائما بمنطق الدول و النخب الرسمية ، و بالتالي فهو ليس عملية ميكانيكية كما يقول الوظيفيون بقدر ما هو خاضع لمنطق القرار السياسي و منطق الدولة كفاعل موجه ، وهذا ما يتنافى مع الطابع الليبرالي للنماذج التكاملية .
و وفق هذا الطرح يصبح محرك الدفع سياسيا و ليس إقتصاديا ، و الأصل أن الليبراليين يعتقدون بقدرة الإقتصاد على تحريك السياسة و ليس العكس .
وأهم إسم دافع على مكانة الدولة في عملية التكامل هو"ستانلي هوفمان" الذي يرى بأن كل القرارات التي اتخذت في تجربة التكامل هي قرارات سياسية ، لذلك يرفض ربط المسار التكاملي بالمحددات السوسيوإقتصادية كقوى دافعة ، و يعتبر أن التكامل محكوم بحسابات دولتية سيادية لذلك لا يمكنه أن ينتشر خارج حدوده الإقتصادية و كلما تحولنا إلى القطاعات الإستراتيجية و المصالح الحيوية إزدادت فرص التراجع .
و نتيجة ذلك تدافع المقاربة المابين حكوماتية على ثنائية السياسة الدنيا ، و السياسة العليا ، وموضوع التكامل هو السياسة الدنيا فقط .
و الإسم الثاني هو "اندرومورافيسك" الذي يفسر التكامل بربطه بالأفعال الحكومية ، لأن الحكومات هي التي تباشر العقد ، و يعتقد بأن المصالح الوطنية تجد مصادرها في المساومات الماتحت حكوماتية التي تحدث ما بين السلطات الحكومية و الفواعل الإجتماعية الداخلية قبل أن تلتقي الحكومات في إجتماعاتها .
و حسب"مورافيسك" فإن التكامل هو نتاج ضغط الفواعل الإجتماعية على الحكومات ، والذي يفسر عدم نجاح التكامل في السياسات الخارجية و الأمنية هو غياب مصالح الفواعل الإجتماعية في هذه القضايا(16) .
وكل هذا الكلام يثير إشكالية حقيقية تتعلق بنقطة بداية التكامل ، هل يبدأ إقتصاديا و ينتهي سياسيا ، أو يبدأ سياسيا و يُعمم فيما بعد على بقية القطاعات ؟
و هذا التساؤل يفيدنا في تقسيم و تصنيف مختلف التجارب التكاملية بما فيهم تجربة المغرب العربي :
القيمة التحليلية للإشكاليات السابقة في منطقة المغرب العربي : -v
أشرنا سابقا إلى أربعة عناصر أساسية يمكن أن نستعين بها كأدوات تحليلية لمحاولة فهم التجربة المغاربية أي توظيف :
- عنصر التكامل كنتاج لتحول منظومة القيم الداخلية و الدولية .
- التكامل الدولي و إمكانية تجاوز الدولة الوطنية و مشكلة الإعتماد المتبادل .
- التكامل كآلية لتفكيك بنية النزاعات بين الدول .
- التكامل وثنائية الإقتصاد و السياسة .
فالتحول في منظومة قيم الدول المغاربية لم يحدث باعتبارها دولا تستند لإدراكات تقليدية للقوة كامتلاك الموارد الطبيعية ، وتحقيق القوة العسكرية ، وبالتالي بقاء منطق الدولة في مواجهة الداخل ، كما أن الدول تعمل على تمرير مشاريع قيمية تحتفظ فيها بدور المصدر القيمي الأعلى "في إطار ما يمكن أم نسميه" بدولنة المجتمعات" .
بالإضافة إلى ذلك فإنه لا يمكن تمرير مشاريع التكامل في منطقة المغرب العربي في غياب منظومة القيم الليبرالية التي تساعد على تعظيم الأرباح و الفرص للخواص و للنخب الإجتماعية ، أما قيم منطقة المغرب العربي كنظام إقليمي فرعي فإنها لم تتغير لكونها تغذت تاريخيا بمنطق نزاعي إبتداءا من مشاكل الحدود ثم فيما بعد قضية الصحراء الغربية التي أصبحت مشكلا هيكليا يفرض مخرجات تتجاوز بكثير قيمتها الإستراتيجية .
وفي المستوى الثاني بقي التكامل في منطقة المغرب العربي حبيس منطق الدول و المعروف أنها دول تتأسس على نماذج ثابتة للشرعية ، والتكامل هو عملية للتغيير يستهدف تفكيك الولاءات القطرية ، وهذا مالا يمكن للمنطقة أن تستوعبه باعتبار أن كل دول المغرب العربي لديها نفس المنطق و هو الحفاظ على استمرارية بقاء الأنظمة ، و لا يمكن لأنظمة ثابتة الشرعية أن تنخرط في مسار للتغيير الإجتماعي يستهدف بناء ولاءات جديدة و أشكال جديدة للسلطة .
أما ما يتعلق بالإعتماد المتبادل كمشكلة تسبق التكامل الدولي ، فعمليا لا يمكن أن نتكلم عن التكامل في منطقة إقليمية لا تتواصل فيما بينها و لا تتعدى نسب المبادلات التجارية فيها3 %، ولذلك لا يمكن للتكامل أن يحدث في غياب مشكلة الإعتماد المتبادل ، لأننا تعلمنا نظريا أن التكاملات الناجحة كانت دائما في مناطق تعرف حالة متقدمة من الإتصالات فيما بينها .
أما إستعمال التكامل كآلية لتفكيك المنطق النزاعي في منطقة المغرب العربي فإن التاريخ يطالعنا بالعكس و هو أن النزاعات هي التي كانت تتحكم في مصير التكامل ، و إذا كانت أوربا قد تبنت التكامل كآلية لتذويب سياسات القوة ، فإن دول المغرب العربي تستعمل قوتها و تصرعلى حضورها الرمزي و المادي و القطري في مختلف الإجتماعات ، لذلك فتفكيك بنية النزاعات متعلق برغبة حقيقية ، و هذا ما لا يوجد في المنطقة خاصة و أن العديد من الدراسات تدافع على أن النزاعات أُستعملت دائما لدعم شرعية الأنظمة داخليا .
أما ثنائية الإقتصاد و السياسة في مسار التكامل المغاربي ، أو حضور الدولة في التجربة المغاربية فيمكن تحريكها في التساؤلات التالية :
هل الإطار المؤسساتي لإتحاد المغرب العربي هو نتاج مسار تكاملي ، أم هو نتاج مساومات ما بين حكوماتية ؟ بمعنى هل التوجه إلى التكامل هو إستجابة لتطورات حاصلة في منظومة القيم المغاربية و تعبيرا عن تطور و نضج العقل المنفعي المغاربي ، أم هو حبيس الإدراكات القطرية شديدة التسييس ؟ و هل يمكن لمؤسسات الإتحاد المغاربي أن تعبر عن تحول للولاءات التي تتجاوز الحدود الإقليمية للأنظمة المغاربية ؟ .
و الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أن تتجاوز الفرضيتين التاليتين :
- تطور التجربة التكاملية المغاربية محكوم بالمنطق الإقتصادي ، وبالتالي برغبة وولاء النخب الإقتصادية ، أي الفواعل الإجتماعية غير الرسمية (النخب ذات الطبيعة الليبرالية)
- تطور التجربة المغاربية محكوم بالمنطق الدولتي ، أي أن الخطوات التكاملية رهينة الإدارة السياسية للدول .
بالنسبة للفرضية الأولى يبدو بأن إختبارها ليس صعبا لأن نسبة المبادلات التجارية لم تتجاوز الحد الأدنى الذي يؤسس للتكامل ، كما أن المنطقة غير صناعية و بالتالي لا يمكن أن تشهد تعاظما لظاهرة الإعتماد المتبادل ، التي تعتبر في التجربة الأوربية هي أساس تفسير المسار التكاملي(17) .
و بقي التفسير المتعلق أساسا بالفرضية الثانية بحيث أن التكامل هنا يصبح محكوم بمنطق الدول ، و بتوجهات النخب الرسمية وبالتالي ليس مسارا أو عملية ميكانيكية كما يقول الوظيفيون الجدد بقدر ما هو خاضع لمنطق القرار السياسي أي للعبة أحادية الفواعل .
وهذا ما يتنافى مع الطابع اللليبرالي للنماذج التكاملية .
لذلك فالمحرك الأساسي لعملية الالتكامل في منطقة المغرب العربي سياسي وليس إقتصادي والأصل أن الليبراليين يعتقدون بقدرةالإقتصاد على تحريك السياسة وليس العكس .
و حسب هذا الكلام فإن تقييم التجربة المغاربية يجب أن يكون نظريا أي ضرورة الفصل في طبيعة محرك المسار التكاملي ، فإذا كان منطقا إقتصاديا فإن الفواعل الرسمية في الإتحاد ليست الحكومات و رؤساء الدول ، و إنما رجال الأعمال أو ما يسمى بالفواعل ما تحت حكوماتية ، لأن التوجه إلى التكامل يكون دائما إستجابة لقيم نفعية أكثر منها سياسية ، و إذا كان سياسيا فإن الفواعل الأساسية ستكون الحكومات ، وموضوع هذا النوع من الإتحادات سيكون المواضيع السياسية و ليس الإقتصادية ، ولأن الإقتصاد خاضع للفواعل الليبرالية .
خاتمة :
الحديث عن التكامل هو حديث عن قيمة مؤسساتية في العلاقات الدولية ، تطورت نظريا و عمليا ، نتيجة تحولات عميقة مست قيم النظم السياسية و العلاقات الدولية لعالم ما بعد الثورة الصناعية و الحروب العالمية ، لذلك ففهم التكامل لا يمكن أن يكون بمعزل عن العلاقات السببية بين تطور الدولة الوطنية و تزايد ظاهرة الإعتماد المتبادل ، و كذا تزايد حدة النزاعات و فشل آليات ضبط الإستقرار في النظام الدولي خاصة فكرة العودة إلى الحروب لتحقيق المصالح الوطنية .
إذن التكامل الدولي عمليا هو آلية تتجاوز بحذر إرث معاهدة وستفاليا ، و تفكك منطق الدولة الوطنية تدريجيا ، و من الأسفل بدون أن تستهدف القضايا السياسية بشكل مباشر ، كما انه يعبر عن آلية مؤسساتية تقدم برنامج عمل لتفكيك الطبيعة النزاعية من خلال تطوير فكرة المصالح المشتركة ، الأمن المشترك ( الشامل كما يقول ميتراني ) .
و نظريا تقدم أدبيات التكامل مفاتيح جديدة لفهم السياسة الدولية ، بتجاوز فكرة الدولة الوطنية كفاعل وحيد في العلاقات الدولية وتجاوز الطابع الفوضوي المطلق للنظام الدولي ، و بهذا تقدم إدراكات جديدة لقضايا السلام و الإستقرار في العلاقات الدولية. و التكامل بشكل عام هو قيمة إنسانية أكثر منها حاجة سياسة ، لأنه يعبر عن نضج العقل المنفعي و عن تراجع الحروب كأداة لتحقيق أهداف كلاسيكية والتي أصبحت المنظومة الليبرالية لا تقبل بها. لأن عالم فلسفة داروين و اوغست كونت و المدرسة النفعية أزاحت الدول من مركز العمليات الإجتماعية و إستبدله بالإنسان كقيمة عليا توضع في خدمته جميع السياسات الإجتماعية والبرامج السياسية .
ووفق هذا الإدراك الفعال الذي تأسس في التجارب الغربية ، أصبحت الحركية الاجتماعية هي التي تحدد شكل المؤسسات وشكل السلطات ، وعالم ما بعد الحروب العالمية أصبح يتقبل سلطات جديدة و مؤسسات جديدة ليست بالضرورة الدول مادامت هذه المؤسسات تحقق نفس الأهداف و بنفس الفعالية .
و هكذا لا يمكن أن تتضح فكرة التكامل الجهوي في منطقة المغرب العربي بعيدا عن هذه القيم التي تأسست تاريخيا استجابة لظروف تاريخية و لتوجيهات الفلسفية عميقة مست جميع المستويات الغربية الحديثة ، و الذي يثبت هذا الكلام هو أن التجارب التكاملية الناجحة كانت دائما في بيئات ليبرالية و ارتبطت دائما بموجات التحول من الأنظمة التسلطية الريعية إلى أنظمة ديمقراطية ليبرالية (الآسيان في آسيا بعد تحول الأنظمة في اندونيسيا و ماليزيا ، و التجارب التكاملية في أمريكا اللاتينية بعد تحول الأنظمة في الثمانينيات..) .
الهوامش :
(1) Dario PATTISTILLA , théorie de relations internationales , Paris ,2003, p177.
(2) G . DEVIN , Que reste –t-il du fonctionnalisme internationale ? relire David Mitrany (1888,1975) , critique internationale . 2008 .1,N 38, p137.
(3) B.BUZAN, National security in the post –cold war third world , strategique review of south Africa ,Vol xvi , N01,1994,p33.
(4) ibid ,p36.
(5) Abdennour BENANTAR,concevoire la relation avec l’OTAN uniquement en terme de lute anti-terroriste serait une erreur stratégique , la tribune , jeudi 23-02-2003.
(6) B.BUZAN,op,cit ;p35.
(7) محمد احمد عبد الغفار ، فض النزاعات في الفكر والممارسة الغربية ، ج1، الجزائر، دار هومة ، 2003 ، ص ص 48،49.
(
Dario PATTISTILLA , op,cit,p189.
(9) idem .
(10) G , DEVIN . . op,cit,p138.
(11) حسين بوقارة ، التكامل في العلاقات الدولية ، الجزائر ، دار هومة ، 2008 ، ص 29.
(12) Dario PATTISTILLA , op,cit,p150.
(13) Charles - PHILIPPE DAVID, Afaf BENESSAIH, la paix par l’intégration ? theories sur l’interdépendance et les nouveaux problèmes de sécurité , Revue études internationales, volume xxv111,N02,juin ,1997 ,pp 232.241.
(14) Dario PATTISTILLA,op,cit,p202
(15) ibid,p209.
(16) ibid,p212 .
(17) يمكن العودة إلى الموقع التالي للأمانة العامة لإتحاد المغرب العربي :
Maghreb arab.org/admin-files/echange 20% vue 20% london.pdf