آراء حول المحافظـة علـى الهويـة الثقافيـة العربية في ظل العولمـة
1 . المقدمــة كان العرب منذ أقدم العصور وسيظلون فى وسط الأحداث العالميــــة . يرجع هذا الى عدد من المتغيرات من بينها موقعهم الجغرافي المتوسط ، ومساهمتهم الهامة فى بناء الحضارات القديمة ، وعلاقتهم بالأديان السماوية . وإذا كانت الشعوب التى دخلت التاريخ من أوسع أبوابــه تواجه اليوم تأخر موقعها، وحلولها فى الصفوف الخلفيــة فأن هذه الشعوب لا تخرج من التاريخ وانما يظل فيها من يعمل ليستمر وجودها . لذلك فسواء شئنا أم أبينا ، وبغض النظر عما سنقوله عن النظام العالمي وعن العولمة فالعرب هم من أولى الأمم التي تعنيها هذه المفاهيم . ومجال هذه المفاهيــــم واسع ، وقد اخترنا جانبا نسلط عليه الضوء لعلاقته بالهوية الثقافية.
ننطلق فى محاولتنا من عدد من المسلمات الرئيسية : لأبناء كل مجتمع هوية ثقافية ، والهوية الثقافية هي كل غير جامد ينمو ويتغير ، كما يوجد النظام العالمي الذي يعتبره البعض أنه يتحول الى ما يسمى بالنظام العالمي الجديد ، العولمة ظاهرة ترتبط بالنظام العالمي ، وهى تعنى وتشتمل على مكونات كثيرة ترتبط بمختلف جوانب الحياة الاجتماعية من اقتصاد وسياسة وثقافة. العولمة ظاهرة تفرض نفسها على جميع بلدان العالم ، ولا يستطيع العرب تفادى تأثيــراتها، ولكن بالإمكان تفادى آثارها السلبيـــــة فى معظم
المجالات، والذي يهمنا فى هذه الورقة على وجه الخصوص هو تلك السلبيات التى تشكل تهديدا متوقعا للهوية الثقافية العربية .
تبرز من هذه المسلمات تساؤلات كثيــرة نذكر أهمها : هل يوجد ما يمكن أن يسمى
بالنظام العالمي ؟ وهل يوجد ما يمكن أن يسمى بالنظام العالمي الجديد ؟ وهل للعولمة نتائج سلبية بالنسبة للنسق الثقافي العربى؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه النتائج السلبية وبأي وسيلة يمكن مواجهتها؟ وما هو دور التعليم فى هذه المواجهة؟ وما هو نوع التعليم المناسب لمجاراة طبيعة التغير الذي سيشهده القرن القادم ؟
2 . النظــام العالمي
إذا اعتبرنا أن النظام العالمي يعنى نسقا تتحدد من خلاله العلاقات بين شعوب الأرض فيمكن القول بأن مثل هذا النظام وجد منذ الأزمنة القديمة . فشعوب الأرض مختلفة، وقد طورت لنفسها أنظمة سياسية ذات معالم واضحة، ودخلت مع بعضها فى شبكة من العلاقات تنوعت بين قطبي التعاون والصراع . لكن المرء الذي يتحدث عن الأيام الأخيرة للقرن العشرين قد لا يعنيه كثيرا الغوص فى أعماق التاريخ للوصول الى الجذور البعيدة ، ويكفيه الرجوع بالذاكرة الى الوراء قليلا . وعليه فلن نرجع كثيرا الى الوراء ونكتفي بالحقبة التاريخية التى تبتدئ مع نهاية الحرب الكونية الثانية .
غيرت الأحداث التاريخيـــة بجوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية التى أفرزتها تلك الحرب صورة النظام العالمي الذي كان سائدا من قبل تغييرا جوهريا . ولعل أهم عوامل التغييــر تتمثل فى انتهاء الاستعمار الأوربي بمعناه التقليدي، وظهور الدول المستقلة حديثا، والتقدم التقني الهائل فى كل المجالات وخصوصا فى مجال الاتصالات، وبروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقطبين رئيسيين عمل كل منهما على استمالة أكبر عدد من بلدان العالم الى معسكره . وظهر ما يعرف بالمعسكر الغربي وبالمعسكر الشرقي . لقد لعبت القوة العسكريـــــة دورا أساسيا فى تحديد هذه القطبية الثنائية ألا أن متغيرا آخر لا يقل أهمية ونقصد به الأيديولوجيا يعزى له الفضل فى رسم ملامح كلا القطبين وإظهارهما بصورة الخصمين اللدودين .فأمريكا الرأسماليـة اعتبرت الشيوعية أيديولوجية لا دينية واستبدادية ولا مكان فيها للفرد وحريته . وعلى الطرف الآخر نظر الاتحاد السوفيتي إلى أمريكا كدولة إمبريالية لا تعيش ألا على امتصاص خيرات الغير واستغلال الآخر أبشع استغلال . عمل كل قطب بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لفرض سيطرته على أكبر جزء من العالم . وانتهت الحرب العالميـة ولكن الحروب لم تنته بل أنها تكاثرت انتشرت . وهى حروب بين القطبين لكنها جرت فوق أرض ثالثه، تواجه فيها مواطنون من بلدان أخرى . كما وظفت الأيديولوجيا الى أقصى درجة ممكنة لكسب المؤيدين وبسط النفوذ .
وتتطور فى داخل النظام العالمي أنظمة فرعيــــة تهتم فقط بعدد محدود من الأقطار التى ترتبط بعلاقات خاصة فيما بينها مثل النظام العربي الفرعي الذي تطور حول جامعة الدول العربية . بل أن هذا النظام الفرعي نفسه، يمكن أن ينقسم الى أنظمة فرعية أصغر، كما هو حاصل اليوم فى الوطن العربى على الأقل بالنسبة لنظامــــين فرعيين فيه الاتحاد المغاربي ومجلس التعاون الخليجي . ويوجد فى العالم أنظمة فرعية أخرى . كما أن الأقطار المنتمية الى هذه الأنظمة الفرعية وغيرها ممن لم تنتم وحدت مجهوداتها وأنشأت منذ منتصف الخمسينات مجموعة دول عدم الانحياز . ويفترض كما هو واضح فى التسمية أن البلدان المنتمية لهذه المجموعة لن تنحاز فى سياساتها الى أحد القطبيــــــن وأن بإمكان البلد المنتمى لهذه المنظمة الثالثة اتخاذ قراراته الرئيسة بنفسه وبصورة مستقلة عن تأثيـــر أحد القطبين . لا شك أن مجموعة عدم الانحياز لعبت دورا هاما فى الأحداث السياسية التى ظهرت بعد منتصف الخمسينات ، وقامت بدور فى معادلة حفظ التوازن فى العالم ، ألا أن القرارات العالميــــة الهامة لم تتحرر من سيطرة أحد القطبين، كما لم تستطع أقطار العالم الثالث الوقوف على الحياد فى جميع الأوقات .
ثم جاء الوقت الذي تغيرت فيــه الأمور، وأنفرط فيه عقد الدول التى تجمعت حول الاتحاد السوفيتي، وأصبحت مجموعة من الدول المستقلة . تخلصت من أيديولوجية ظلت مسيطرة على مدى سبعين عاما، وأخذت باقتصاد السوق وبالتعددية الحزبية. وبدا العالم وكأنه أخذ بنظام عالمي أحادى القطبية . ولا نريد أن ندخل هنا فى حديث حول هذه الأحادية، والى متى ستدوم، ومن هي الأطراف المرشحة لتلعب دورا يجعلها تنافس الولايات المتحدة الأمريكية فى مجال السيطرة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. فلمثل هذا الحديث مكان آخر .
انتهت الحقبة التى تزعم فيها الاتحاد السوفيتي المعسكر الشرقي ، وزالت بذلك ما كان يعرف بالحرب الباردة ، وخسرت الشيوعية أرضا شاسعة قامت على أنقاضها دول كثيرة . دول تسابق قادتها للدخول ضمن المنظومة الغربيـــة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية . وتسربت الى داخل هذه المجتمعات القيم والمعايير الغربيـة بسرعة هائلة أذهلت المفكرين حتى راح بعضهم يبشر ببداية عصر نهاية التاريخ . نظر هؤلاء الى ما حدث فى أوربا الشرقيـــة على أنه دليل على صحة النظام الغربي، وسلامة الأيديولوجية الغربية وأعتبرها ستسود العالم بأجمعه . لم تتخل الصين بسكانها الذين يزيدون عن مجموع سكان قارتي أوربا الموحدة وأمريكا الشمالية عن الأيديولوجية الشيوعية. وشكل هذا الوضع تهديدا لصحة الفرض القائل بنهاية التاريخ .
تشجع رئيس الولايات المتحدة فى بداية العقد الأخير من القرن العشريـــن وبشر بتشكل نظام عالمي جديد . نظام يأخذ فى الحسبان النتائج التى أفرزتها الأحداث الدولية التى بدأت مع منتصف عقد الثمانينات. نظام يدعى القائلون به أنه يقوم على التفاهم بين جميع الأطراف، واتفاقها على حل قضايا الخلاف بواسطة التفاوض السلمي، وتعاون الجميع للمحافظة على عالم لا تهدد أمنه واستقراره المشكلات الخطيرة .
لكن ، هل تكون بالفعل نظام عالمي جديد ؟ وهل يختلف النظام الحالي عن الأنظمة التى سبقته ؟ لقد شعر قادة الولايات المتحدة بأنهم كسبوا المعركة التى خاضوها ضد الاتحاد السوفيتي ومنظومته خلال الأربعين سنة الأخيرة . وأن هذه ستكون آخر المعارك فالوفاق والتفاهم والتعاون هو الذي سيحل محل الصراع والخصام . ويبدو أن هذا هو ما حدث بالفعل على مستوى القارة الأوربية. فحلف وارسو أنفرط ولكن حلف الأطلسي لم ينفرط بل أن أعضاء حلف وارسو يتسابقون للدخول فى حلف الأطلسي .
وبغض النظر عن خصائص النظام الذي تكون ، وبغض النظر عن تعريفاته فان وصفه بالجديد ليس جديدا . وكما هيكل : " …فالفكرة ليست جديدة ، وتعبير ( النظام العالمي الجديد ) سبق استعماله عدة مرات . أستعمله وانستون تشرشل فى أعقاب الحرب العالمية الأولى وهو يطالب بسيادة أنغلوساكسونية تفرض مشيئة المنتصرين فى الحرب بحق النصر على بقية الدنيا . ثم أن الرئيس الأمريكي فراكلين روزفلت أستعمل التعبير نفسه سنة 1941 وهو يمهد لدخول الولايات المتحدة الى ميادين الحرب العالمية الثانية، ويبشر الدنيا بجنة بعد الحرب متحررة من الفقر والجهل والمرض والظلم السياسي والاجتماعي (هيكل،1994 :10 ). لكن هل يمكن اختصار العالم الى مجموعة دول أوربا وأمريكا الشمالية؟ على مستوى الفاعلين الرئيسيين لاشك أن أهمهم تركزوا فى الماضي فى أوربا ، ثم انضمت إليهم الولايات المتحدة فيما بعد . وما يجرى ألآن على الساحة الدولية عبارة عن استمرار لوضع دام قرونا . فالتسمية التى يعتبرها البعض جديدة هي قديمة المحتوى . فلا تزال بلدان غربية محدودة تحتكر أهم القرارات الدولية على مستوى الاقتصاد والبيئة والسياسة. ومشاركة بعض البلدان مثل اليابان على مستوى القرارات الدولية الرئيسة هي مشاركة محدودة ومحسوبة ومسموح بها مقدما . وتبقى مشاركة بقية بلدان العالم محدودة من حيث المجال ومن حيث الجغرافيا .
2 ـ العولمة
العولمة مفهوم له ارتباط بالنظام العالمي ويحظى هذه الأيام باهتمام الكتاب والباحثين، وأصبح للكتابات حوله مكان بارز فى أدبيات العلوم الاجتماعية . فلا يكاد يمر يوم لا تقع فيه العين على هذا المفهوم فى الكتابات الصحفية العامة ، وفى المجلات والدوريات المتخصصة . كما لا يكاد يمر يوم لا يسمع فيه السامع هذا المفهوم فى الأحاديث التى تبثها محطات الإرسال المرئي أو برامج الإذاعة المسموعة. لقد أرتبط استخدام المفهوم بعدد من المفاهيم ذات العلاقة مثل : العالم القرية ،والاعتماد المتبادل ، والشركات متعدية الجنسية ، والمنظمات الأهلية متعدية الجنسيات ، واقتصاد الرفاه الخ..
لا شك أن البعد ألأقتصادى للمفهوم هو الذي يحظى بنصيب الأسد من النقاش والتوضيح والتعليق ، ولاشك أيضا أن الاقتصاد كان ولا يزال أهم دوافع الإنسان للعمل وللنشاط . وقد لعب التبادل التجاري دورا رئيسيا فى تحديد العلاقات بين البلدان المختلفة منذ القدم . ألا أن التغيـــر الذي طرأ على طريقة التبادل التجاري خلال العقود الأخيرة جعل لهذا الأسلوب نمطا جديدا متميزا . فقد صارت رؤوس الأموال تتنقل عبر الحدود الجغرافية والحدود السياسية بسهولـة تحت غطاء لا يتعارض و الكرامة الوطنية ، فهي تتنقل باسم الاستثمار الخارجي ، وحرية التجارة التى أزالت الحواجز الجمركية . وقد ساعدت عوامل كثرة على سرعــة انتشار هذه الأفكار لعل أهمها حالة الفقر التى كانت عليها بلدان كثيرة . فقر مادي، وفى الخبرات الحديثة ، وفقر فى توظيف الثقافة توظيفا واسعا. وتفاوت المجتمعات من حيث الإمكانات الاقتصادية، فالبون بينها شاسع جدا . حيث يسيطر عدد صغير من بلدان العالم على أكبر قدر من الإمكانات الاقتصادية . والعدد الصغير من هذه المجتمعات المسيطرة والتي يمكن تسميتها بالبلدان الغنية اقتصاديا تضم نسبة متواضعة من حجم سكان الكرة الأرضية. بينما تشكل البلدان الفقيرة غالبية بلدان العالم وغالبيـة السكان . لذلك انتشرت رؤوس الأموال انطلاقا من عدد صغير من البلدان باتجاه بقية بلدان العالم . وهى تسير فى أغلب الأحيان فى طريق ذي اتجاه واحد . وبالطبع تمكنت بعض البلدان خلال السنوات الأخيرة من أن يكون طريق انتقال رؤوس الأموال أليها طريقا ذا اتجاهين.
إن وجود الشركات ذات الإمكانيات المالية الضخمة، والتطور السريع فى التقانة وخصوصا فى مجال الاتصالات سهل انتقال رؤوس الأموال عبر الحدود. فقد ألغى التطور الذي حدث فى مجال الاتصالات الحدود السياسيـــــــة، وأختصر الزمن، ووحد نوعية التطلعات مستوياتها. لا تقتصر العلاقات الاقتصادية بين بلدان العالم على انتقال رؤوس الأموال وتبادل السلع والمواد، بل أن المبادلات تتسع لتشمل مختلف جوانب الحياة وفى مقدمتها النسق الثقافي بما فيه من قيم ومعاييـر تتضمن العادات وتحدد الذوق العام فى مختلف مجالاته من كيفيـة اللباس، الى ألوان الطعام ، إلى أنواع الموسيقى .
عمل خلال حقبة القطبية الثنائية كل معسكر على تحصيـــن أعضاء المجتمعات التى تدور فى فلكه ضد تأثير المعسكر الآخر. شملت أدوات التحصين التى لجأ إليها المعسكر الشرقي غلق الأبواب التى يمكن أن يتسرب منها التأثير الغربي وفى مقدمتها وسائل الاتصال بمختلف أنواعها حتى وصف هذا المعسكر من قبل الغرب بمجتمعات ما وراء الستار الحديدي . كما شملت الوسائل البرامج التعليميـــة ، والدعايــة المضادة،
وبناء المجتمع الذي يتساوى فيـه الجميع فى الإمكانات المادية . وظفت الولايات المتحدة الأمريكية إمكاناتها فى هذا الاتجاه حيث أنتجت البرامج التعليميـة والبرامج الإعلامية صورة سلبية عن النظام الشيوعي وصورة كئيبة للفرد الذي يعيش فى تلك المجتمعات . بل بلغ الأمر درجة من التحيـــز خلال ما يعرف فى أمريكا بالحقبة الماكرثية بحيث كانت فيه تهمة الشيوعية إذا وجهت لمواطن أمريكي فأنه يتعرض لسلسلة من الإجراءات لا تبتعد كثيرا عن تلك التى عرفتها أوربا أبان ما يعرف بمحاكم التفتيش. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي فأن المجتمعات التى بقيت بعيدة بعض الشيء عن هذه التأثيرات الخارجية تقلصت الى الصين وكوريا الشمالية وكوبا الى حد ما .
توحي لفظة العولمة أو الكوكبة كما يقترح إسماعيل صبري عبد الله التى يراها ترجمة أفضل للمصطلح الإنجليزي ( عبد الله ، 1996 ) . معاني متعددة بتعدد المجال الذي تستعمل فيه . ففي مجال الاقتصاد مثلا تعنى علاقات خارج سيطرة الدولة الواحدة . تشيــــر الى سوق تجارية بدون حدود وأفراد تجمعهم مصالح متبادلة متحررين من صفة الوطنيــــة أو القومية. ويفترض فى مثل هؤلاء الأفراد أنهم يتشابهون فى ظروف الحياة وفى القيم التي تتحكم فى الحياة الاقتصادية بحيث تتوحد أذواقهم وطموحاتهم وتوقعاتهم . ( الجبالى ، 1996 : 5 ) . وتعنى أيضا فى هذا المجال أن الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية يدخلون فى حالــة تنافس فى الإنتاج وفى التسويق. يبدو هذا أمر عادى وقد يكون جيدا على فرض أن المشاركين فى النشاط متساوون من حيث الخصائص والظروف التى يتطلبها النشاط . لكن الواقع غير هذا فأعضاء المجتمع الدولي غير متساوييــن لا فى المعرفــة والخبرة، ولا فى الإمكانات المادية، ولا فى الظروف
المحيطة . ففي مجال الاقتصاد الفروق جد شاسعة. وكما يشير الحبالى :" .. وتتقاسم خمسة بلدان رئيسية هي الولايات المتحدة واليابان وفرنسا وألمانيا وبريطانيا فيما بينها 172 شركة من أكبر مائتي شركة فى العالم " (الجبالى ، 1996 : 6 ) . وتوضح أرقام الجدول رقم ( 1) نصيب بعض البلدان المصدرة فى التجارة . وكما هو واضــح فأن الولايات المتحدة حافظت منذ منتصف الخمسينات على الترتيب الأول على الرغم من تناقص نسبتها العامة من 19% فى العام 1955 الى 6 . 12% . كما بلغت حصة البلدان الخمسة التى أشرنا إليها آنفا فى عام1993 43 % بعد أن كانت فى العام 1955
7 .0 54 % . كما توضح الأرقام الواردة في نفس الجدول نمو حصص عدد من البلدان الأسيوية التى استطاعت أن تكسب لنفسها حصـــة فى التجارة العالمية وهى مجموعة الدول الصينية: الصين وهونكونج وتايوان ثم كوريا ثم سنغافورة. وقد استطاعت هذه البلدان الخمسـة مجتمعة أن ترفع حصتها من 9 .1 % فى عام 1955 الى 7 .12 % فى عام 1993 . وتسيطر هذه البلدان العشرة مجتمعة على أكثر من نصف التجارة العالمية .
يهتم إسماعيل صبري عبد الله بحصر القضايا أو الظواهر والمؤسسات التى يمكن أن يطلق عليها قضايا كوكبية بطبيعتها ومؤسسات كوكبيــــة بطبيعتها . فيذكر من القضايا استخدام أعالي البحار، واستخدام الفضاء الخارجي، واستخدام القارة القطبيــــة الجنوبية، وصيانة البيئة ، وتنقل الأفراد عبر الحدود السياسية ، وحالة الفقر ، الجريمة المنظمـــــة . ويعدد من المؤسسات جمعيات فعل الخير، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمات حركات السلام ، ومنظمات حمايـــة البيئة ، والمنظمات النسائية ( عبد الله ، 1996 ). ويفترض أن القضايا المعولمــــة تهم جميع أعضاء المجتمع الدولـــي .
لكن يلاحظ أن عددا محدودا من البلدان الغنية فرضت سيطرتها ووضعت الجميع أمام الأمر الواقع كما يلاحظ فى حالة استغلال الفضاء الخارجي والقارة القطبية وحتى أعالي البحار . أما بالنسبة للمؤسسات المعولمة فقد أثبت بعضها وخصوصا الذي لا يتبع الحكومات أنه بإمكانها عبور الحدود، والتعرض لقضايا تهم جميع البشر، والتأثير على السياسات القومية التى تعكس مصلحة خاصة، ونقصد مصلحة البلد الواحد .
كما توحي لفظة العولمة فى مجال الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي أن هناك خصائص ثقافيـــة ذات طابع عالمي . خصائص ثقافية متحررة من تأثير ثقافــة بعينها وتصلح لأن يأخذ بها الأفراد المنتمون الى ثقافات ومجتمعات متباينة . لكل ثقافة نسق من القيم والمعايير وأن هذا النسق متأثر الى درجة كبيرة بالدين السائد . ويفترض فى الخصائص الثقافية التى تناسب العولمة عدم تعارضها مع الأنساق المحلية للقيم . فهي ، نظريا ، خصائص تطورت نتيجـة تعاون ثقافات كثيرة تمكنت من تطوير صياغة توفيقية . أو كما يكتب عبد الله عبد الدائم : " وغنى عن البيان أن مثل هذا التفاعل بين الثقافات العالمية ينبغي أن يؤدى فى النهاية الى تقارب عملي قوامه وضع مجموعة من الثوابت العالمية الثقافيــة التى نبغي أن تعمل الثقافات جميعها على احترامها وتعميق جذورها . وتوليد مثل هذه الثوابت وقبولها أمر ممكن إذا هو تم عن طريـــــــق الحوار الحقيقي ، وحل محل فرض ثوابت ثقافة معينة أو بلد معين على العالم كله ، والادعاء بأنها هي وحدها الثوابت العالمية " ( عبد الدائم ، 1996: 26 ) .
تاريخيا، تأثرت الثقافات التى التقت ببعضها البعض، فاستعارت من الثقافات الأخرى وأثرت فيها. حدث هذا فى حالات الجوار الجغرافي، وفى حالات الصدامات العسكرية التى أدت الى انتصار شعب على شعب آخر ، وحدثت أيضا عن طريق السفر والإقامة . إذ لعبت وسائل الأنصال الدور الرئيسي لانتقال الخصائص الثقافية من ثقافة الى أخرى . ولأن وسائل الأنصال القديمة كانت بسيطة وبطيئة، كان انتقال الخصائص الثقافية بطيئا ومحدودا. وتاريخيا ، حاولت ثقافات غزو ثقافات أخرى ومحوها من أذهان أصحابها .
حدث هذا فى بعض حالات الاستعمار عندما حاول الاستعمار فرض ثقافتـه بالقوة على الشعب الذي أستعمر . لكن بعض الثقافات دخلت فى صراع مرير ولم ترضخ بسهولـة للهيمنة الثقافية للمستعمر، ولم تخسر كل شئ. انتهى عصر الاستعمار وحافظت هذه الثقافات على أصالتها . لكن يرى البعض أن صراع الثقافات لم ينتــه بانتهاء عصر الاستعمار ، ويرى أن الصراعات الخطيرة القادمة سيأخذ شكل صدام ثقافات . ونقصد بها تلك الصيحـة التى أطلقها فى صيف عام 1993 صامويل هانتينجتون مدير معهد الدراسات الإستراتيجية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة . فقد أوحت له ما سماه البعض بالصحوة الإسلامية ، ومحاولات بعث الهوايات الثقافية الخاصة للمجموعات ألا ثنية التى ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بهذه الدعوة التى لا تخلو من مشاعر التحيز ضد الصحوات التى يراها تشكل خطرا على السيطرة الثقافية الغربية .
ثورة الاتصالات اصطلاح يطلق على التطور السريع الذي حدث فى مجال الاتصالات خلال النصف الثاني من القرن العشريـن . وهى بالفعل ثورة لما نتج عنها من تغييرات واسعة المجال قلبت الأوضاع رأسا على عقب . اصبح العالم يعيش اليوم فى وضع بالنسبـة لوسائل الاتصالات كأنه قريـة واحدة . فالوسائل تعددت، وسرعتها بلغت مدى لم
يعرفه الإنسان من قبل ، ولا يحتاج إنسان اليوم إلا تحريك أصابعه ليتصل بجميع أنحاء الكرة الأرضية، وبعدد هائل من مراكز ومصادر المعلومات، ويتابع برامج البث المرئي التابعـة لجميع بلدان العالم . لكن هذه الثورة غيرت من قواعد اللعبة بالنسبة لانتقال الخصائص الثقافية . فالشعوب بثقافاتها المختلفة ليست لها نفس الإمكانات المعرفية والتقانية والمالية . لذلك فأن الكفة مالت الى جانب عدد صغير من الشعوب لتسيطر على وسائل الاتصالات المتقدمة ، ولتبعث إلى الآخرين ما تريد وليس بالضرورة ما تريد معرفته من خبرة وتقانة وخدمات وقيم وعادات ، واكتفت بقيـــة الشعوب بدور المتلقي .
4 . النتائج السلبيــة للعولمة
الحديث حول طبيعة الآثار السلبية الناتجة عن العولمة فى المجتمع العربي حديث
قد يطول لو حاول المرء تناول أكبر عدد من الآثار لذلك سنقتصر على عينة منها . والحديث حول الآثار السلبيــــة حديث يتعلق بعضه بالحاضر وأغلبه بالمستقبل . الحديث حول الحاضر حديث يصف الواقع لكن الحديث عن المستقبل حديث يهدف الى رسم صورة لم تظهر بعد في محاولة لرسم مشهد أو أكثر . يتمنى الذي يقدم على بناء مشاهد مستقبلية أن تقترب المشاهد من الحقيقة بقدر الإمكان . لكن رسم صورة حقيقية للمستقبل ليس بالأمر السهل . فالتنبؤ فى مجال العلوم الاجتماعيــة أمر فى غايـة الصعوبــة.
ومع أنني أنتمي لفئة من الباحثين الموظفين للأمبيريقة، والقائلين بإمكانية تطوير قوانين فى العلوم الاجتماعية ، فأنني أعترف بأن الوصول الى قوانين لها نفس خصائص قوانين العلوم الطبيعية أمر غير ممكن طالما ظلت الظاهرة الاجتماعية فى حالة تغير مستمر أى أنها غير جامدة كما هي فى حالة العلوم الطبيعية. فالمتغيرات التى تؤثر فى سير الظاهرة الاجتماعية هي نفسها فى حالة تغير دائم . لذلك فأن أقصى ما يمكن التوصل إليه فى مجال استشراف المستقبل بالنسبة للظاهرة الاجتماعية هو التوصل الى عدد من التعميمات التى تشير الى ما يمكن أن يتطور من اتجاهات . لذلك فسنجتهد لرسم تصور لما يمكن أن ينشأ من آثار سلبية فى ضوء معرفتنا ببعض خصائص المتغيرات التى يمكن أن تلعب الأدوار الهامة آخذين فى الاعتبار مسار الظواهر المماثلة كما تشكلت على أرض الواقع المعاش ، وكما تطور خلال الحقب التاريخية الماضية .
يجرنا الحديث حول النتائج السلبـيـة للعولمة التى يمكن أن تلحق بالنسق الثقافي للمجتمع العربى الى التوقف عند مفهوم واسع الاستعمال فى أدبيات العلوم الاجتماعية وهو مفهوم التغير الاجتماعي . والنسق الثقافي هو المعني فى المكان الأول بالتغير . إذ تتبدل مكونات النسق كما تتبدل العلاقات بينها . والتغيــــر الاجتماعي ظاهرة عرفتها جميع مجتمعات العالم . وخلال مسيرة تاريخ بناء المجتمعات البشريـــة تعرضت هذه المجتمعات بمراحل مختلفة من التغير الاجتماعي بعضها سريــع وبعضها بطيء . طال بعضها جميع أنساق المجتمع وأقتصر بعضها على أنساق محدودة أو حتــى على جوانب بعينها . وقد أطلق الباحثون على هذه الأنواع أسماء ميزتها . ولعل التحديث هو من بين أهم هذه الأسماء. فالتحديث نوع من أنواع التغير الاجتماعي يتميز بعدد من الخصائص
التى يمكن التعرف عليها وقياسها . وهو التغير الاجتماعي المتميز بالأخذ بأسباب الحياة العصريــة . ولأن هذه الأسباب صارت مطلبا للجميع فقد عملت كل المجتمعات على الحصول علــى أكبر قدر من هذه الأسباب وعلى توفير أكبر كمية من مستلزمات الحياة العصرية .
يرى عدد من المتخصصين فى العلوم الاجتماعية الذين اهتموا بدراسة ظاهرة التحديث بأن للتحديث نموذجا أو نمطا واحدا ، وأن الأنساق الاجتماعية المختلفة والأنساق الثقافية المختلفة تتجه نحو التشابه كلما قطعت البلدان المختلفـة شوطا على سلم التحديث . وبعبارة أخرى فان النسقين الاجتماعي والثقافي لبلد بدأ مسيرة التحديث فى نقطة زمنية متأخرة بالنسبة لبلدان سبقته ستميل الى التشابه فى الخصائص مع الأنساق الاجتماعية والثقافية للبلدان التى تقدمت على سلم التحديث( Inkeles,1981 ) . يقوم هذا النوع من التحليل على رصد الكيفية التى سارت بها بعض المؤشرات الحيويـة الهامة فى المجتمعات التى أخذت بأسباب التحديث مثل معدلات التمدرس، والولادات، والوفيات، ونمو السكان ، واستخدام التقانة ، ونوعها الخ.. فقد لوحظ أنه كلما قطع مجتمع مسافـــــة على سلم التحديث كلما اتجهت مثل هذه المعدلات نحو وجهة معينة . فمثلا بالنسبة لدخول الصغار الى المدارس فأن المعدلات تتجه نحو نقطة معينة وهى وصول المجتمع الى حالة يصبح فيها كل طفل فى سن المدرسة مسجلا بالفعل فى المدرسة . بينما تتجه معدلات الوفيات بالنسبة
للأطفال خلال السنوات الأولى نحو الانخفاض . وتتجه معدلات الولادات أيضا إلى الانخفاض . قد تبتدئ معدلات المجتمعات المختلفة من نقاط أو مستويات مختلفة كمعدلات الوفيات بالنسبة للأطفال خلال السنــة الأولى مثلا فى عام 1950 . وأذا حسبت المعدلات فيما بعد كل عشر سنوات فأن المعدلات ستتجه نحو نفس الوجهة . قد لا تصل جميع المجتمعات خلال فترة زمنية معينة الى نفس النقطة ، لكن تسير جميع المعدلات نحو نفس الاتجاه على اعتبار أن مسيرة هذه المجتمعات على سلم التحديث لم تتوقف . يقدم هذا اللون من ألوان تفسير ظاهرة التغير الاجتماعي تبريرا لحالات تقليد الشعوب لبعضها أو الاستعارة من بعضها . ومن الناحية النظريـة يمكن أن يستعير أفراد أى مجتمع من أفراد أى مجتمع آخر، ويمكن تبادل الاستعارات ، أي أن يسير التأثر فى طريق ذي اتجاهين ، وأن يتسع مجالها ليشمل قيما وعادات وأنماطا سلوكية الى جانب المعدات والوسائل . لكن الذي حدث فى الماضي على أرض الواقع أن بلدا يصدر وآخر يستورد . وقديما قال أبــــن خلدون " المغلوب مولع بتقليـــــــد الغالب " . والمغلوب هنا هم شعوب العالم الثالث . ويرى البعض أن شركات كبرى بعينها نجحت في فرض نموذج بعينه وترويجه بمختلف الوسائل عبر مختلف بقاع العالم . وأذا كانت شركتـا الماكدونالد والبيبسى كولا الشركتان اللتان تأتيان على رأس القائمـة عند الحديث عن هذه الناحية ، فأن القائمة طويلة وتشتمل على عدد كبير من الشركات والمؤسسات الغربيـة والأمريكية بصفة خاصة . لكن هنالك آراء أخرى تخالف هذا الرأي وتقول بأن للتحديــث أكثر من نموذج وأن مؤشرا ته تأخذ أكثر من اتجاه . وأن بعض الخصائص الاجتماعية والثقافية يمكن أن تتشابه ألا أنه تظل خصائص أخرى ذات طابع محلـــــى لتميز نسق اجتماعي بعينه ونسق ثقافي بعينه. فأخذ المجتمع العربى مثلا بأسباب التحديـــث نتج عنه تحسن فى الدخل وانخفاض فى معدلات الأطفال الصغار، ولم ينتج عنه انخفاض في عدد الولادات ولا تباطؤ فى معدلات نمو السكان ( التير ، 1992 : ). ولعل حركة التوجه نحو البحث عن الهويــة الثقافية المحلية التى ظهرت على أنقاض تفكك كل من الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا تعزز فرضية الخصوصية الثقافية ، وتشكك فى مقولة إمكانية تحول العالم الى قرية ذات ثقافة واحدة.
لعل أحد أهم صفات المجتمعات المعاصرة بأنها مجتمعات الاستهلاك الواسع. فألأستهلاك صفة لازمت الإنسان منذ القدم ، لكن الاستهلاك الكثيـر والمتنوع والواسع والمستمر هي صفة حديثة . وهى صفة جذرتها المجتمعات الغربيـــــة محليا ثم سعت الى تصديرها الى الخارج. لقد مر حين من الدهر تقاسمت فيه حفنة من البلدان الأوربية جميع أطراف المعمورة . وخلال فترة الاستعمار المباشر هذه عمل المستعمر بغض النظر عن البلد المنتمى إليه بكل الوسائل الى نقل ثقافته بما فيها من لغة وقيم وعادات وتقاليد وطريقة حياة الشعوب التى استعمرها. لذلك حتى بعد أن انحسر الاستعمار بقيت آثاره مطبوعة فى النسقين الثقافي والاجتماعي . وقد سهل هذا الوضع عملية استمرار التأثير الغربي والترويج لما يصدره الغرب .
لقد خضعت أقطار الوطن العربى باستثناء عدد محدود منها للاستعمار الغربي المباشر . وترك هذا الاستعمار بصمات واضحة منها ما حدث فى بقية بلدان العالم . ودخلت الأقطار العربية المستقلة فى علاقات مع بعضها البعض ومع الآخر والذي يشمل الغرب بما فيه أمريكا الشمالية فى الغالب ، شملت التجارة والثقافة والسياحة والمعاهدات والأحلاف فى بعض الحالات . وإمكانات العرب من الثروات الطبيعية باستثناء النفط متواضعــة ، لكن النفط ثروة لعبت الدور الهام فى تغيير شكل حياة العرب خلال العقود الأخيرة . وقد وفرت مبيعات النفط ثروة مالية ضخمـــة وخصوصا خلال فترة الوفرة عندما ارتفعت أسعار النفط الخام لتصل الى أرقام قياسية . ومع أن النفط لم يتفجر فى جميع الأقطار، ألا أن الجميع حصل من دخلــه على نصيب . كما أن الجميع علـى مستوى الأفراد صرف دخل النفط فى نفس المجالات ونقصد الاستهلاك الواسع. فالعمال الزراعيون الذين تركوا الحقل ليعملوا فى البلدان النفطية لم يوظفوا ما حصلوا عليه من أموال فى تطوير مزارعهم، أو فى مشروع استثماري، وانما فى اقتناء أكبر كمية من المواد الاستهلاكية المعمرة وغير المعمرة وفى مجالات تتصل بتحسين مستوى السكن والتنقل ، ولا يخصص للتطوير والاستثمار سوى نسبـة متواضعة مما رجع به المهاجر من الخارج ( فرجاني ، 1988 : 156 - 157 ). لقد أدى هذا الاتجاه العام الى أن أصبح العربى العادي يضع اقتناء أكبر كمية من المواد الاستهلاكية على قائمة أولويات الأهمية والمطالب والأهداف العامة فى الحياة . فصارت قائمة المواد الاستهلاكية ضمن أولى شروط بناء الحياة الزوجية. ولعبت وسائل الأعلام المرئية دورا رئيسيا فى توحيد مستوى الطموح ألأستهلاكى. لكن هذا التوحد لم يلغ الفوارق بين الأفراد بل شكل ضغوطات على أعضاء شريحة اجتماعية كبيرة من شرائح المجتمع نتيجة عجزها عن مجاراة الآخرين ألا إذا فكروا فى أتباع وسائل غير مشروعة.
يمكن التمييز أكثر من نوع من أنواع الاستهلاك مثل الاستهلاك الترفى والاستهلاك التافه . هذان نوعان من مظاهر التأثيرات ت السلبيـة للعولمة . فالاستهلاك الترفى هو ذلك الاستهلاك المبالغ فى تكاليفه. فبدلا من اقتناء سلعة ضرورية لها ثمن معروف يختار المرء دفع عشرة أضعاف الثمن لشراء نفس السلعة التى أخرجت بشكل مزخرف أو جميل ولكنها تؤدى نفس المهمة . ويلاحظ أن بعض المصانع الغربيــــة
تخصصت فى صناعات من هذا النوع والتي لا تجد لها رواجا الا فى الأسواق العربيــة . كما يلاحظ أن العرب اليوم يبالغون فى اقتناء المشغولات الذهبية، ويتبارى الصناع فى أعداد مشغولات جديدة، واعطائها أسماء متميزة ،وفى وقت قصير تصبح هذه على قائمـــــة التوصيات والمقتنيات والمشروطات. كما يأخذ الاستهلاك الترفى شكلا آخر يتمثل فى تكديس السلع بحيث يحتوى المسكن على عدد كبير من نفس السلعة. ويلاحظ هذا بالخصوص بالنسبة للسيارة وللمقتنيات الإلكترونية .
ونعنى بألأستهلاك التافه عملية شراء مقتنيات أدخلت عليها إضافات لا تزيد من جودتها ولكنها ترفع من ثمنها. بعض هذه المقتنيات عبارة عن سلع لا تصلح آلا لتضييع الوقت والمال. وتلعب وسائل الأنصال الجماهيري كبرامج الإذاعة المرئية، وشبكات الأنصال الإلكترونية، والشراء بواسطة الطلب من بعيد، وتسهيلات الدفع فى الترويج لهذا السلع . يرى البعض أن الانبهار بما يأتي من الخارج مرحلة آنية تنتهي بعد فترة". ومن جهة أخرى، لم تنجح الامركة الثقافية على الرغم من انتشار الثقافة الشعبية الأمريكية، ثقافة الجينز وموسيقى البوب والوجبات السريعة، الذي يخلق انبهارا سريعا فى المجتمعات التى كانت مغلقة ، ولكنه سرعان ما يبهت ويبقى محدود الأثر من حيث قدرته على تشكيل منظومة قيم عالية "( حتى ، 1995 : 15) .ألا أن الذي يتجول فى شوارع المدن العربية لا يمكنه ألا أن يلاحظ التواجد الواضح لعناصر الثقافة الأمريكية الشعبية .
ويساهم هذان النوعان من الاستهلاك فى هدر جزء من الدخل ، وفى تطوير عادات غير مفيدة . ولو كانت هذه السلع تصنع محليا لعملت ولو الى حد على تنشيط الدورة الاقتصادية وساهمت فى توفير عدد من مواقع الشغل . لكن كل هذه السلع تصنع فى خارج العالم العربى ويدفع العرب عملتهم الصعبـــــة لشرائها . وهى عملة بدأت كميتها فى التقلص منذ منتصف الثمانينات . وأصبحت الحاجة لكل قرش منها تزداد كل يوم .
لقد أدت السوق المعولمة الى دخول الجميع لحلبة التنافس على إنتاج سلعـة واحدة. هذا التوجه يؤدى من الناحية النظرية الى ارتفاع مستوى الجودة وتدنى السعر التى تصل بها الى المستهلك . ولو كان العالم بالفعل قريـــة بمعنى ارتباط الجميع بعلاقات اجتماعية قائمة على التعاون والتضامن لعادت هذه النتيجة على الجميع بالنفع . لكن العالم قرية فقط من حيث تمكن الأقوياء لتوصيل معلوماتهم وأخبارهم الى الآخرين . لكن من حيث بقية الصفات فالعالم غابة تزدحم بمختلف أنواع الوحوش المتصارعة . فلا أمل للمؤسسات الصغيرة أن تدخل فى منافسة متكافئة مع الشركات الضخمة متعددة الجنسيات . لذلك فأن الذي سيحصل هو تدهور مستمر فى الصناعات المحلية التقليديـة وغيرها ، وينسحب المتاجرون فيها من السوق ، وعلى من أراد منهم البقاء فى الميدان استبدالها بالمصنوعات المستوردة والوافدة . وبعض هذا حدث بالفعل فى العالم العربى.ولا يحتاج العربى بغض النظر عن بلده إلا أن يتفحص ملبسه ومكونات مسكنه ليرى مدى عملية الاحتلال التى تعرض لها بلده . وإذا كان بعض العرب يفخر بأنه لم يغير من طبيعة ملبسه كما فى السعودية والخليج ألا أن هؤلاء احتفظوا من اللباس العربي بالشكل فقط أما الباقي فهو مستورد . ولم تستطع المؤسسات الصغيرة المحلية التنافس مع الشركات الضخمة فى تنفيذ المشاريع التنموية التى نفذت فى الأقطار العربية وخصوصا النفطية . استفادت مختلف
الشركات الأوربية ثم الأسيوية فيما بعد من عمليات تنموية ضخمة . وضاعت على العرب فرصة نادرة لبناء خبرات وطنية ، وتكوين فئة وطنية من المقاولين وأصحاب الأعمال .
كما أدت عولمة الاتصالات وسيطرة حفنة من البلدان على صناعــة البرامج، وعلى تصديرها الى أن يصدر الآخر للعرب ما لا يؤمن به ويريد من الآخرين تبنيه كما هو حاصل مثلا بالنسبة للديموقراطية وحقوق الإنسان ،والحريات الشخصية ، وتنظيم الولادات، وحتى حماية البيئة . يريد الغرب أن يلتزم الآخر بجميع هذه القضايا كما يعرفها الغرب ، وكما يتصورها. ويفرض على العرب مواد وأدبيات ومعايير تتعارض مع القيم العربية الإسلامية مثل ما يحدث من تضخيم وتبرير لقضايا الجنس والشذوذ والمخدرات . فباسم حقوق الإنسان والحريات الشخصية تروج ألآن بعض المؤسسات الغربية لكم هائل من الأفكار الهدامـــة والممارسات الشاذة . وقد يقول قائل لا تفتحوا أجهزة الإذاعة المرئيــة على برامجهم ، ولا تسمحوا لمنشوراتهم بعبور الحدود، ولا تدخلوا لشبكاتهم الإلكترونية. نظريا قد يبدو هذا ممكنا ولكن من الناحية العملية فمثل هذا الخيارغير ممكن . فغلق النوافذ والأبواب أصبحت مهمة فى غاية الصعوبة. وأصعب منها إنتاج برامج محلية منافسة، وتلفت النظر، وتستحوذ على الاهتمام.