اكتوبر 2011
1
الشركات العسكرية الخاصة ودورها في تفاعلات النظام الدولي
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: بدر حسن شافعى
تلعب الشركات العسكرية الخاصة- التي يعدها البعض بمثابة الإصدار الحديث للمرتزقة- دورا مهما في السياسة الخارجية للدول الكبري، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وبداية تشكل النظام الدولي الجديد، حيث تراجعت فكرة التدخل العسكري، لدي هذه الدول بصفة عامة، بسبب التكلفة المادية والعسكرية. ومن ناحية أخري، فإن الشركات الأمنية الخاصة تستطيع تحقيق أهداف هذه الدول وأهداف شركاتها العملاقة، حيث باتت تلعب دورا- وفقا لجيفري جارتين العميد السابق لمدرسة ييل للإدارة- ربما يفوق دور سفارات هذه الدول في الخارج. ويشير جارتين إلي أن الشركات الأمريكية هي التي تقدم النصح للحكومات الأجنبية، وهي التي تنقل الثقافة الأمريكية، ويفوق تأثيرها واقعيا تأثير السفارات الأمريكية في المجتمعات التي يصبح لهذه الشركات جذور فيها. كما أن هذه الشركات قد تكون إحدي الأدوات الفاعلة لتنفيذ السياسة الخارجية للدول الكبري، مثل دور بلاك ووتر في العراق، حيث لم يكن بمقدور الولايات المتحدة أن تخوض بمفردها حرب العراق بعد أفغانستان بدون الاستعانة بهذه الشركة، لاسيما في ظل الضغوط التي تعرضت لها الإدارة الأمريكية بشأن هذه القوات(1). وهو أمر لا تخفيه هذه الشركات، حيث أشارت شركة "المحترفون العسكريون المتحدة الأمريكية" Military Professional Resources In-corporated
والمعروفة اختصارا "بمبري "إلي التزامها بسياسة الولايات المتحدة. ويلاحظ أن معظم الحروب التي شاركت فيها الولايات المتحدة في التسعينيات قامت فيها هذه الشركات بدور مساعد، مثل حروب الصومال، وهاييتي، ورواندا، والبلقان، وتيمور الشرقية، وفي القرن الحادي والعشرين حربا العراق وأفغانستان(2)، وغيرها كثير.
ومن هنا، قد يكون من المفيد تسليط الضوء علي هذه الشركات (Private Military Companies)
من حيث التعريف بها، والتمييز بينها وبين المفاهيم التي قد تتداخل أو تتشابه معها، مثل المرتزقة وشركات الأمن الخاصة، ثم الحديث عن أسباب بروزها ووظائفها، ودورها كإحدي أدوات السياسة الخارجية للدول الكبري، ثم بحث التكييف القانوني لها، وأخيرا وليس آخرا مستقبلها.
أولا- مفهوم الشركات العسكرية الخاصة:
يعد مفهوم الشركات العسكرية الخاصة من المفاهيم الحديثة نسبيا مقارنة بمفهوم المرتزقة، بل إنه قد يعد النسخة المعدلة منه منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. ونظرا لحداثة هذا المفهوم، فقد ثار بشأنه جدل كبير حول تعريفه من ناحية، وتمييزه عن مفهوم آخر يتشابه معه جزئيا هو مفهوم شركات الأمن الخاصة من ناحية أخري(Private Security Company) ، والتي يشار إليها اختصارا ب- "PSCs"، من ناحية أخري. فالشركات الأمنية الخاصة هي تلك الشركات التي تعمل علي توفير الأمن السلبي (Passive Security)، في بيئة صراعية شديدة المخاطر، لعملائها من الأشخاص والشركات الخاصة تحديدا(3). ويلاحظ أن هذا النوع من الشركات موجود منذ فترة طويلة وفي كل مكان، لكن يبدو أن أعدادها آخذة في التزايد، خاصة في الأماكن التي تشهد صراعات، حيث إن رجال الأعمال وأصحاب رءوس الأموال يجدون صعوبة في الاعتماد علي قوات الأمن "الشرطة" الرسمية في الدولة لتوفير الحماية لهم (4).
أما الشركات العسكرية الخاصة، فهي التي تقوم بتقديم خدمات عسكرية متنوعة مثل التدريب العسكري، والقيام بمهام عسكرية هجومية للدول، أو للمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة(5).
ومعني هذا أن الشركات الأمنية الخاصة هي شركات تعمل علي توفير الدفاع/الحماية السلبية لعملائها من الشركات الخاصة. أما الشركات العسكرية، فهي ذات أنشطة عسكرية أكثر إيجابية، وتتعامل بالأساس مع الدول(6). وهذا الذي سنركز عليه في هذه الدراسة، نظرا لارتباطه بالبعد الدولي "الخارجي"، وليس البعد الداخلي" المحلي".
وتعد الشركات العسكرية الخاصة وحدات تضم مجموعة من الأفراد "الجنود"، ومن ثم فهي ظاهرة جماعية منظمة بعكس المرتزقة التي تعد ظاهرة فردية في الأساس. وهو ما أكده تقرير جنيف للتحكم الديمقراطي في القوات المسلحة لعام 2003، حيث أشار إلي أن هذه الشركات تختلف عن المرتزقة، والتي تتشكل عادة من أشخاص عسكريين متقاعدين خدموا لفترة قريبة في قوات الأمن. أما هذه الشركات، وفق المنظور القانوني "الرسمي"، فهي شركات أو كيانات (7). وربما كانت هذه النقطة مهمة وحيوية في تفسير أسباب سقوط نظام موبوتو في زائير " الكونغو الديمقراطية" بسبب اعتماده علي المرتزقة بعد رفض الشركات العسكرية التعامل معه.
وبناء علي ذلك، يفترض أن هذه الشركات كيانات رسمية تعمل وفقا للقوانين الداخلية في بلد المقر، علي اعتبار أنها كيانات تجارية. كما أنها ذات هياكل معتبرة وفق قواعد الدول الموجودة بها، وتعمل وفق قوانين العمل الدولية المتعارف عليها، ومن ثم فهي تخشي من تعرضها للعقوبة القانونية من قبل حكوماتها الوطنية، في حالة قيامها بمهام غير مشروعة أو غير أخلاقية. أما المرتزقة، فيعملون في كثير من الأحيان مع المنظمات أو الأشخاص المدانين دوليا، مثل الجبهة الثورية المتحدة المتمردة في سيراليون، والاتحاد الوطني لتحرير أنجولا " يونيتا"، والرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور(
، كما أنهم غير مسجلين تحت أي مظلة قانونية.
كما أن هناك فارقا بين الجانبين في الوظائف من الناحية العملية، حيث يقتصر دور المرتزقة بسبب الإمكانيات علي الجوانب القتالية فقط، في حين يتراوح دور هذه الشركات بين المهام غير القتالية "الاستشارات العسكرية، والدعم اللوجيستي"، وصولا إلي القيام بالمهام القتالية.
وثانيا- ظائف الشركات العسكرية الخاصة:
تتنوع وظائف الشركات العسكرية الخاصة ما بين الوظائف القتالية في المسرح الفعلي للعمليات، والوظائف غير القتالية في غير ميدان القتال، أو ما يعرف بالمسرح العام للحرب، حيث يكون الحديث عن الدعم اللوجيستي والاستشارات العسكرية. وبالرغم من صعوبة الفصل العملي بين هذه الوظائف وبعضها بعضا، فإنه سيتم الفصل بينهما نظريا من أجل أغراض البحث والدراسة.
وفي هذا الإطار، يمكن القول بوجود نوعين من الوظائف: الأولي- الوظائف العسكرية غير القتالية، والثانية- الوظائف العسكرية القتالية.
1- الوظائف العسكرية غير القتالية:
تعد هذه الوظائف الأكثر انتشارا مقارنة بالوظائف القتالية، لا سيما وأن معظم الشركات تفضل تقديمها نظرا لضآلة المخاطر من ناحية، والخوف من التعرض للمساءلة القانونية، سواء من قبل دولة المقر، أو المجتمع الدولي من ناحية أخري.
وبصفة عامة، تتنوع هذه الوظائف ما بين تقديم الاستشارات العسكرية، والدعم اللوجيستي، وإزالة الألغام، وصولا إلي الاستخبارات، وهي تشكل قرابة 90% من مهام هذه الشركات(9).
أ- الاستشارات: تقدم هذه الشركات النصح بصدد العديد من الأنشطة، بداية من النصائح العسكرية الخاصة بإعادة تشكيل القوات المسلحة، وصولا إلي تأسيس القيادة المركزية لهذه القوات، وكذلك مساعدة وزراء الدفاع في وضع السياسات، والإجراءات، وصناعة القرارات الخاصة بالخطط العسكرية، وكيفية الحصول علي الأسلحة والمعدات، وتشكيل مركز القيادة والتحكم، والمبادئ والعقيدة العسكرية، والخطط الاستراتيجية التكتيكية والعملياتية. ومن أشهر الشركات العاملة في هذا المجال شركة "المحترفون العسكريون المتحدة الأمريكية" والمعروفة اختصارا بمبري التي قامت بتعليم القادة السويديين الدروس المستفادة من حرب الخليج الثانية، والإسهام في وضع خطة تعزيز الأمن الوطني في غينيا الاستوائية. وهناك شركة فينيل زVinnell U. Sسالأمريكية التي قامت بتقديم النصيحة للسعودية لإعادة السيطرة علي الحرم المكي بعد عملية اقتحامه عام 1979 . كما قامت المجر بالاستعانة بشركة كيبك "Cubic لإعادة تطوير قواتها المسلحة، لكي تتطابق مع المواصفات التي وضعها حلف الأطلنطي من أجل الانضمام إليه.
ب- التدريب: يعد التدريب من أكثر الأنشطة التي تقوم بها الشركات العسكرية الخاصة، التي لها علاقة مباشرة بالقتال أو الصراع، وهذه التدريبات قد تكون مرتبطة بظرف معين- أي مؤقتة- أو مستمرة. ومن أمثلة النوع الأول حالة شركة "Executive Outcomes " عندما قامت بتدريب القوات المسلحة لكل من أنجولا وسيراليون خلال الحرب الأهلية بهما. وهناك تدريبات مستمرة مثل تلك التي تقوم بها شركتا"US Vinnell and Booz Allen & Hamilton Inc" الأمريكيتان. فالأولي تقوم بتدريب قوات الحرس الوطني السعودي، والقوات العراقية الجديدة، في حين تقوم الثانية بتدريب وتوجيه قادة أركان الحرب. وربما يقتصر التدريب علي نمط المحاكاة وألعاب الحروب، مثلما تقوم به وبصورة كبيرة شركات التسليح الإسرائيلية.
ج- الدعم اللوجيستي: تعد هذه من الوظائف الثانوية بالمقارنة بالمهام والوظائف القتالية، لكنها تساعد العميل علي التركيز علي المهام القتالية. فلقد ساعدت مبري في توزيع المساعدات الإنسانية في الاتحاد السوفيتي السابق، كما تقدم شركات الأمن الدعم اللوجيستي لكل الوحدات الأمريكية المنتشرة في الخارج. ولقد قامت شركة
" American Kellogg Brown & Root Halliburton" الأمريكية بتزويد القوات الأمريكية في البلقان والعراق بكل ما تحتاج إليه، بدءا من الثكنات العسكرية، والمعسكرات، والطعام، وتوزيع البريد، والمياه النقية، وصولا إلي عودة الأسري وجثث القتلي إلي الوطن، كما قامت بإنشاء وإدارة معسكرات اللاجئين خارج حدود كوسوفا.
وعلي الصعيد الإفريقي، قامت شركتا DynCorp and Pacific وA&E بتقديم الدعم اللوجيستي لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في سيراليون، كما قامت شركةEagle Global Logistics " بنقل المركبات العسكرية من ألمانيا إلي الكويت والعراق في أثناء حرب الخليج الثانية عام 1990.
د- الصيانة: وهي تتضمن صيانة الأسلحة المستخدمة في القتال، استنادا إلي أن الكثير من العاملين بهذه الشركات كانوا من العاملين السابقين في المصانع العسكرية. من أمثال:Lockheed Martin، Raytheon Boeing، Northrop Grumman، General Dynamics، United Technologies Corp.
وخلال الغزو الأمريكي لأفغانستان 2001، والأنجلو أمريكي للعراق عام 2003، فإن العاملين في الشركات العسكرية الخاصة قاموا بصيانة طائرات الأباتشي، والأسلحة الفتاكة وغيرها. وتعتمد الولايات المتحدة علي هذه الشركات بنسبة 28% في مجال صيانة أسلحتها.
هـ- حماية القيادة السياسية وكبار رجال الدولة: تقوم شركة "دين كوبر" علي سبيل المثال بحماية الرئيس الأفغاني حامد كرزاي وكبار رجال الحكومة الأفغانية(10)، كما قامت شركة بلاك ووتر الأمريكية بتوفير الحماية للحاكم الأمريكي المدني السابق للعراق بول بريمر. وهناك أيضا شركة "أوجارا" التي تقوم بتوفير الحماية للعائلة الحاكمة في السعودية.
2- الوظائف العسكرية القتالية:
قد تشارك هذه الشركات في القتال بوصفها قوات مساعدة لقوات الشرطة والدفاع في الدولة محل الصراع، أو قد تحل محلهما بشكل كامل، وذلك حسب قدرات القوات الوطنية من ناحية، وقوي المعارضة من ناحية أخري. ولا شك في أن المخاطر تزداد في حالة الاعتماد علي هذه الشركات بصورة كلية، علي اعتبار أن قدرتها علي مساومة النظام تكون كبيرة، فضلا عن وجود احتمالات لإمكانية الانقلاب عليه ودعمها للمعارضة. ويلاحظ أن عدد الشركات التي تقوم بهذه المهام أقل من مثيلاتها التي تقوم بمهام غير قتالية لعدة اعتبارات، منها ارتفاع حجم تكلفة التسليح من ناحية، وحجم المخاطر التي يتعرض لها العاملون بها من ناحية ثانية، وإمكانية تدهور شعبيتها وسمعتها في السوق الدولي من ناحية ثالثة.
ثالثا- أسباب بروز الطلب الدولي علي الشركات العسكرية الخاصة:
أسهمت مجموعة من الأسباب الدولية في زيادة الاعتماد علي الشركات العسكرية الخاصة، بعضها يرتبط بالأوضاع السياسية التي شهدها النظام العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة، وما صاحبها من تراجع الاهتمام الدولي بفكرة التدخل في الصراعات بصفة عامة، في حين تتعلق الأسباب الاقتصادية بمصالح كل من الدول الكبري، والشركات متعددة الجنسية، بل والشركات العسكرية الخاصة التابعة لها، في حين يرتبط ثالث هذه الأسباب بالجوانب الأمنية، لا سيما فيما يتعلق بآثار فكرة العولمة علي الصعيد الأمني والدفاعي.
الأسباب السياسية:
ترتبط هذه الأسباب بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط نظام القطبية الثنائية الذي كان يوفر الدعم للعديد من النظم الديكتاتورية، مما أدي إلي تعرض هذه النظم للانهيار، وبالتالي إمكانية حدوث حالة من عدم الاستقرار بسبب وجود فراغ سياسي في هذه الدول، ومن ثم يزداد الطلب علي هذه الشركات، سواء من قبل الشركات متعددة الجنسية، أو الحكومات للحفاظ إما علي هذه المصالح أو هذه النظم من الانهيار(11).
وفي بعض الأحيان، قد تلجأ الدول الكبري، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، لاستخدام مثل هذه القوات في بعض المهام، كبديل لقوات حفظ السلام، علي سبيل المثال، خاصة في ظل عدم وجود رغبة لهذه الدول في التدخل، أو في حالة رفض برلماناتها لفكرة التدخل من الأساس (12). لقد ترتب علي تقليص الدول الكبري حجم قواتها النظامية تسريح عشرات الآلاف من الجنود، وقد قام العديد منهم بتأسيس الشركات العسكرية الخاصة، علي اعتبار أن الوظيفة العسكرية هي وظيفتهم الأساسية. وعلي سبيل المثال، فقد تم تعويض تناقص عدد قوات الجيش الأمريكي بنسبة الثلث من 2.1 مليون جندي عام 1999 إلي 1.4 مليون جندي عام 2004 من خلال الشركات العسكرية الخاصة، ومن أبرزها شركة براون رووت سرفيس التي تعد أحد فروع شركة هالبيرتون التي لها روابط وثيقة بنائب الرئيس في إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن، ديك تشيني.
وطبقا لمركز الإحصاء العام الأمريكي، فقد أنفق البنتاجون 300 مليار دولار في تعاقدات بلغ عددها 3016 تعاقدا لشراء خدمات عسكرية من 12 شركة خاصة، خلال الفترة ما بين 1994(تاريخ تولي تشيني رئاسة هالبيرتون) وعام 2002 (هذا بخلاف عقود التسليح)، كما بلغ حجم الأموال المخصصة لهذه الشركات من الميزانية المقررة للحرب في العراق وأفغانستان 20 مليار دولار ( أي أكثر من ثلث الميزانية الأمريكية) (13).
وقد كانت نسبة الجنود التابعين لهذه الشركات إلي الجنود النظاميين هي 1 : 60 في حرب الخليج الثانية عام 1990، ثم ارتفعت إلي 1: 10 في حرب البوسنة عام 1993، ثم عاودت الارتفاع من جديد في حرب كوسوفا عام 1998 لتصبح 1: 2، وارتفعت مرة أخري خلال حرب العراق عام 2003. ولقد ارتفع العائد السنوي التي حصلت عليه هذه الشركات من 55.6 مليار دولار عام 1990 ليصبح 100 مليار دولار عام 2000، ثم تضاعف الرقم ليصبح 2.2 مليار دولار عام 2010. ولقد ازداد عدد الصراعات التي تدخل فيها المرتزقة، ومن بعدهم شركات الأمن من 15 صراعا خلال الفترة من 1950 إلي 1990 ليصبح 80 صراعا في الفترة من 1990 إلي 2000(14).
الأسباب الاقتصادية:
لقد أدت العولمة الاقتصادية إلي تعاظم المكاسب الناجمة عن الاستثمار في عمليات استخراج الموارد الطبيعية في دول العالم النامي. وتقدم الدول، حتي التي تشهد صراعات مسلحة، عروضا مغرية للشركات متعددة الجنسيات من أجل زيادة الاستثمارات بها مقابل الحصول علي المال للاستمرار في المواجهة المسلحة. لذا، تلجأ الشركات متعددة الجنسيات للشركات العسكرية الخاصة لتأمين أعمالها، وهو ما يعني أن القطاع الخاص هو الذي أكسب الشركات العسكرية قوتها وأهميتها. لكن زيادة الطلب الحكومي عليها لمواجهة حالات التمرد قد تجعلها أكثر ازدهارا في المستقبل.
وقد أدت الاكتشافات البترولية الجديدة في نيجيريا، وأنجولا، والسودان، علي سبيل المثال، إلي زيادة الاستثمارات الأجنبية في هذه الدول، برغم الصراعات الممتدة بها. وبالتالي، زاد الطلب علي الشركات العسكرية لتأمين هذه الاستثمارات ومواجهة العصابات المسلحة، وبعض قوي التمرد.
ويلاحظ أن العائد الاقتصادي المرتفع لهذه الاستثمارات هو الذي يمكن الشركات متعددة الجنسيات من دفع مبالغ كبيرة للشركات العسكرية مقابل توفير الحماية لها (15). ولعل هذا يفسر أسباب قيام أكبر شركات النفط في العالم، مثل تكساس وشيفرون، بإبرام عدة عقود مع شركة، مثل الأنظمة الدفاعية المحدودة البريطانية، لحماية استثماراتها وبنيتها الأساسية في المناطق المضطربة في أنجولا ونيجيريا (16). لذلك، فإن انتشار بؤر التوتر في العديد من دول العالم هو الذي يساعد علي تحقيق هذه الشركات العسكرية عوائد كبيرة علي الأقل خلال المدي المنظور.
وفي أحيان أخري، تقوم هذه الشركات متعددة الجنسية بإنشاء شركات عسكرية خاصة تابعة لها، وتقديمها للنظم الحاكمة من أجل التعاقد معها، وبهذا تكون الاستفادة مزدوجة، مثل شركة برانش هيرتاج العالمية "Branch Heritage Groupز التي قام مؤسسها، أنتوني بوكينجهام، بتمويل إنشاء شركة ساند لاين "Sand Lineس للخدمات الأمنية، وبارلو مؤسس
"xecutive Outcomes " الذي قام أيضا عام 1995 بتأسيس شركة الموارد الاستراتيجية المحدودة القابضة
Strategic Resources Corporation في جنوب إفريقيا. ويتبع هذه الشركة الأخيرة العديد من الشركات التعدينية والأمنية، مثل سارسين Saracen " الدولية الأمنية، والتي عملت في أنجولا، وشيباتا الأمنية "Shibata في أنجولا أيضا، والتي تضم شركاء برتغاليين، ولايف جارد "Life Guard في سيراليون، والتي قامت ببعض المهام الأمنية هناك.
أسباب تتعلق بمصالح الدول الكبري:
بالرغم من الرحيل العسكري للدول الكبري الاستعمارية عن دول العالم الثالث، فإن مصالحها معها لم تنته، ومن ثم فهي تسعي لتحقيق هذه المصالح إما عن طريق وصول حكام مؤيدين لها إلي الحكم، أو من خلال السعي للإطاحة بهؤلاء الذين لا يدينون بالولاء لها، وتنصيب آخرين بدلا منهم. وكانت إحدي أدواتها في تحقيق ذلك الشركات العسكرية الخاصة، فقامت باستئجار بعض الجنرالات العسكريين لتنفيذ هذه المهام، وهو ما يفسر أسباب زيادة شركات الأمن الفرنسية والبريطانية في القارة الأفريقية وغيرها ،ووجود علاقة وطيدة بين هذه الشركات والنظم الأوربية.
فعلي سبيل المثال، فقد سمح جميع رؤساء فرنسا الخمسة من الجنرال ديجول إلي جاك شيراك لهذه الشركات بالعمل في أفريقيا، بل قد شجعوا في بعض الأحيان علي القيام بمثل هذه الأعمال، بداية من ديجول، ثم جورج بومبيدو (أحداث كاتانجا في زائير، وبيافرا في نيجيريا )، مرورا بجيسكار ديستان(جزر القمر، بنين)، ثم ميتران (تشاد، الجابون)، ووصولا إلي شيراك الذي سمح بالعديد من العمليات في الكونجو برازافيل (1997-2000)، وساحل العاج (2000-2002). وتعد عملية الإطاحة برئيس جزر القمر، سعيد محمد جوهر، عام 1995، علي يد المرتزق الفرنسي بوب دينار، خير دليل علي هذه العلاقة، لاسيما وأن القوات الفرنسية التي نزلت البلاد بعد شهر من الإطاحة به لم تقم بإعادته للحكم ثانية بسبب توجهاته المعادية لها. ويتردد أن المرتزقة الفرنسيين كانوا لا يقومون بأي مهام إلا من خلال التنسيق والتشاور المسبق مع إدارة الأمن والدفاع بوزارة الدفاع المكلفة بمتابعة نشاط هؤلاء الذين يصبحون في هذه الحالة إحدي أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الفرنسية(17).
الأسباب الأمنية:
أسهمت العولمة في أن تصبح الدول الغنية والشركات الكبري أكثر غني، لأن لديها رأس المال والقوة لفرض اتفاقيات تجارية علي الدول الفقيرة بما يخدم مصالحها، ويعد الصعود غير المسبوق للشركات العسكرية الخاصة أيضا أحد الملامح البارزة لنظام العولمة. وقد لعبت العديد من هذه الشركات الدولية دورا حاسما في الصراعات الإفريقية في حالات مثل أنجولا، والصراع بين إثيوبيا وإريتريا، وسيراليون. ويلاحظ أن برامج التكيف الهيكلي التي تم فرضها علي دول العالم النامي، بما فيها الدول الإفريقية، من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك من قبل الدول المانحة "ناديا باريس ولندن"، أسهمت في بروز هذه الشركات من خلال تقليص القطاع العام، ونمو القطاع الخاص في العديد من القطاعات، بما فيها قطاع الأمن (18).
رابعا- الشركات العسكرية الخاصة كإحدي آليات السياسة الخارجية للدول الكبري في الصراعات:
بالرغم من أن نموذج "بلاك ووتر" في العراق قد يتبادر إلي الذهن عند الحديث عن استخدام الدول الكبري لهذه الشركات في تحقيق أهداف سياستها الخارجية، فإن هناك نماذج أخري كثيرة في باقي دول العالم لم تأخذ حظها من اهتمام الباحثين، خاصة في إفريقيا. فبالرغم من استقلال الدول الأفريقية عن الدول الاستعمارية الأم منذ ستينيات القرن الماضي، فإن هذه الدول الكبري سعت لتأمين مصالحها ومصالح الشركات التابعة لها العاملة في مجال التعدين والتنقيب عن البترول في هذه الدول، عبر عدة طرق سياسية (دعم النظم الحاكمة ماديا)، أو اقتصادية (تقديم المنح والمساعدات)، أو عسكرية (من خلال القواعد العسكرية الموجودة لها في أفريقيا، أو من خلال المرتزقة والشركات العسكرية الخاصة)، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن. ويكفي للتدليل علي ذلك الدور الفرنسي في جزر القمر ، والدور البريطاني في سيراليون.
الدور الفرنسي في جزر القمر:
علي الرغم من استقلال جزر القمر عن فرنسا عام 1975، فإن باريس رغبت في استمرار تبعيتها لها دون تكلفة عسكرية تذكر من خلال الاستعانة ببعض المرتزقة، مثل الفرنسي الراحل بوب دينار، بدلا من التدخل العسكري.
قاد دينار- بمساعدة علي صويلح- أول انقلاب تشهده البلاد عام 1977 ضد أول رئيس للبلاد، وهو أحمد عبدالله، لكنه عاد وساعد أحمد عبدالله علي العودة إلي السلطة في الانقلاب الثاني الذي وقع عام 1978، حيث تسلل بمساندة 44 مرتزقا إلي القصر الرئاسي، وأطاح بصويلح الذي قتل في ظروف غامضة. وكمكافأة له، تم تعيينه رئيسا للحرس الرئاسي واستمر في موقعه هذا عشر سنوات. وعندما أراد الرئيس الإطاحة به، كانت النتيجة تعرضه للاغتيال في الانقلاب الثالث الذي شهدته البلاد عام 1989، وقد حاول القيام بانقلاب رابع في البلاد عام 1995 دون موافقة الحكومة الفرنسية التي قامت باعتقاله(19) ومحاكمته شكليا، في محاولة لتحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي.
الدور البريطاني في سيراليون:
علي الرغم من وجود حالة من التجاهل الدولي لأزمة سيراليون منذ اندلاعها عام 1992، فإن بريطانيا كانت من أولي الدول المهتمة بالصراع في هذه الدولة، ليس فقط لأنها كانت الدولة المستعمرة لها، ولكن أيضا لاعتبارات اقتصادية تتعلق بضرورة الحفاظ علي مصالح الشركات البريطانية العاملة في إنتاج الماس (20)، وقد قطعت بريطانيا المعونة الاقتصادية عن سيراليون عام 1993، عندما قام نظام ستراسر العسكري بإعدام عدد من قادة المعارضة، الأمر الذي أجبره علي تبني برنامج للتحول نحو التعددية الحزبية (21).
كما عملت بريطانيا علي صدور قرار من مجلس الأمن (أكتوبر 1997) بشأن فرض حظر تصدير الأسلحة لطرفي النزاع وهما الحكومة، والمجلس العسكري الذي قاد الانقلاب ضد الرئيس تيجان كاباه. لكنها كانت أيضا من أولي الدول التي خرقت هذا الحظر من خلال اتفاق الخارجية البريطانية مع إحدي الشركات العسكرية البريطانية الخاصة، وتدعي ساند لاين (Sand Line) علي تزويد القوات النيجيرية العاملة ضمن قوات الإيكوموج العسكرية التابعة لمنظمة الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا "إيكواس" بالطائرات الهليكوبتر والأسلحة من أجل الهجوم علي العاصمة فريتاون، واستعادتها من أيدي قوات الجبهة الثورية المتحدة المتمردة بزعامة فوداي سنكوح، والتمهيد لعودة كاباه. وقد دفع ذلك قوات سنكوح بعد هزيمتها في مارس 1998 إلي تنظيم صفوفها من جديد، واستعادة السيطرة علي العاصمة في يناير 1999 ، فضلا عن استهدافها للقوات البريطانية التي نزلت إلي البلاد عام 2000 لمساعدة القوات الدولية في استعادة الاستقرار في البلاد (22).
وتسعي الولايات المتحدة أيضا إلي الحفاظ علي المصالح الأمريكية في المناطق الحيوية في إفريقيا، مثل منطقة البحيرات العظمي، وأنجولا ونيجيريا اللتين تمدان الولايات المتحدة ب- 20% من احتياجاتها النفطية. لذا، عملت الولايات المتحدة علي حماية مصالحها وشركاتها العاملة هناك، مثل شركة
(America Mineral Fields)العاملة في الكونغو الديمقراطية، وذلك من خلال بعض الشركات العسكرية الخاصة، ومن أهمها "مبري براون رووت " التابعة لـ"هاليبرتون". ولقد لعبت الأخيرة دورا في الإطاحة بالرئيس موبوتو في زائير عبر دعم القوي المساندة للوران كابيلا، وتحديدا القوات الرواندية (23). كما عملت واشنطن علي الضغط علي الرئيس الأنجولي، دوس سانتوس، من أجل إنهاء عقد شركة "إيكزيكيوتيف أوتكمز"، والتعاقد مع "مبري "من أجل الحفاظ علي مصالحها وشركاتها العاملة في البلاد.
خامسا- التكييف القانوني للشركات العسكرية الخاصة علي المستوي الدولي:
لقد أدت زيادة الاعتماد علي الشركات العسكرية الخاصة في الصراعات المسلحة، سواء من قبل الدول أو جماعات التمرد، أو حتي المنظمات الدولية الحكومية أو غير الحكومية، مثل منظمات الإغاثة الإنسانية، إلي التساؤل عن الموقف القانوني لهذه الشركات والعاملين بها. ولقد برزت محاولتان أساسيتان علي المستوي الدولي لبلورة رؤية قانونية في هذا الصدد، الأولي تمثلت في البروتوكول الإضافي لمعاهدات جنيف، والصادر في الثامن من يونيو عام 1977، والثانية تمثلت في الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم عام 1989، مع ملاحظة أنهما قصرا الاهتمام علي المرتزق بصورة مباشرة، ولم يتم الحديث المباشر عن هذه الشركات العسكرية الخاصة. وربما يرجع السبب في ذلك إلي عدم بروز هذه الشركات بصورة قوية في حينها، أو عدم رغبة القوي الكبري في تجريم عمل هذه الشركات التي باتت تعتمد عليها بصورة كبيرة كإحدي أهم أدوات تنفيذ سياستها الخارجية.
- تعريف المرتزق والشروط اللازمة لذلك في إطار البروتوكول:
لقد نصت الفقرة الأولي من البروتوكول الإضافي لمعاهدات جنيف علي أنه لا يحق للمرتزق التمتع بوضع مقاتل أو أسير حرب. أما الفقرة الثانية، فتعرف المرتزق بأنه أي شخص:
أ) يجري تجنيده خصيصا، محليا أو في الخارج، ليقاتل في صراع مسلح.
ب) يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية.
ج) يحفزه أساسا للاشتراك في الأعمال العدائية، الرغبة في تحقيق مغنم شخصي، ويبذل له فعلا من قبل طرف في الصراع أو نيابة عنه وعد بتعويض مادي يتجاوز بإفراط ما يوعد به المقاتلون ذوو الرتب والوظائف المماثلة في القوات المسلحة لذلك الطرف أو ما يدفع لهم.
د) ليس من رعايا طرف في الصراع ولا متوطنا بإقليم يسيطر عليه أحد أطراف الصراع.
هـ-) ليس عضوا في القوات المسلحة لأحد أطراف الصراع.
و) وليس موفدا في مهمة رسمية من قبل دولة ليست طرفا في الصراع بوصفه عضوا في قواتها المسلحة(24).
ويلاحظ وجود بعض البنود المثيرة للجدل في هذه الفقرة:
فبالنسبة للبند الثاني "يشارك المرتزق فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية"، هذا البند مثار جدل كبير، خاصة فيما يتعلق بما يدخل في إطار الأعمال العدائية من عدمه. و بمعني آخر، هل الأعمال الدفاعية التي يقوم بها الأشخاص، مثل الحراسات الأمنية للمنشآت والأهداف العسكرية، تدخل في إطار الأعمال العدائية، أم أن الأمر يقتصر فقط علي القيام بأعمال هجومية ترتبط بالصراع المسلح؟ ثم هناك صعوبة أخري تتعلق بمهام هذه الأفراد، ليس علي الورق "الإطار القانوني"، وإنما الإطار الواقعي "العملياتي"، حيث يكون منوطا بالشخص أو الشركة، وفق التعاقد، القيام بمهام دفاعية، ثم نجدها في الواقع العملي، نتيجة لظروف الموقف، تقوم بمهام هجومية.
وبالنسبة لتحديد مصطلح الأعمال العدائية، فإن الفقرة الأولي من المادة 49 من البروتوكول حددت المقصود بها، حيث نصت علي أنه يعني بها "أعمال العنف الهجومية والدفاعية ضد الخصم" (25). ومعني هذا أن المشاركة المباشرة الهجومية في الأعمال الهجومية، أو الاقتصار علي المهام الدفاعية المرتبطة بالصراع، من قبيل حراسة المنشآت العسكرية وغيرها، تدخل أيضا في هذا الصراع. ومن ثم، يمكن إطلاق وصف المرتزق علي الشخص الذي يكلف بهذه المهام، حال توافر باقي الشروط الأخري.
وفي المقابل، فإن وصف المرتزق بناء علي هذا الشرط لا ينطبق علي الخبراء الفنيين الأجانب أو المستشارين الذين يتم التعاقد معهم من أجل القيام بعمليات التدريب والمشورة التي تحتاج إليها العديد من الدول بسبب التطور الهائل في المعدات العسكرية والخطط القتالية، علي اعتبار أن هؤلاء لا يشاركون مباشرة في القتال، سواء كان دفاعا أو هجوما. والأمر نفسه بالنسبة للمترجمين، والمحققين، والأشخاص الذين يقومون بتأمين قوافل الإغاثة الإنسانية، وتم تكليفهم من قبل منظمات الإغاثة الدولية، وكذلك الأمر بالنسبة لعمليات الدعم اللوجيستي المقدمة لأحد أطراف الصراع (26).
بالنسبة للبند الرابع، وهو ألا يكون الشخص متمتعا بجنسية أي طرف من أطراف الصراع، فيعني هذا أنه لا بد أن يكون أجنبيا. وكان هذا الشرط محل إجماع من جميع الوفود المشاركة في مؤتمر جنيف الدبلوماسي.
ويلاحظ هنا أن الحديث عن الجنسية إنما يتعلق بالأشخاص وليس الشركات، علي اعتبار أن نص المادة واضح في هذا الشأن.
وإن كان بعض الخبراء قد حاول تضمين جنسية جماعات المرتزقة، استنادا إلي التعليق علي نص المادة 47 من البروتوكول. وبناء علي ذلك، فإنه في حالة ما إذا كانت جنسية الشركة محددة" أي تحمل هوية البلد محل الصراع أو لأنها تعمل به"، فإن موظفيها يمكن ألا يقعوا تحت تعريف المرتزقة، لأنهم يحملون في هذه الحالة جنسية أي طرف من أطراف الصراع. وعلي سبيل المثال، فشركة، مثل "بلاك ووتر"، لا ينطبق عليها وصف المرتزقة في حرب العراق، لأنها تحمل جنسية أحد أطراف الصراع وهي الولايات المتحدة. وفي المقابل، فإنه في حالة ما إذا كانت الشركة ليس لها نفس جنسية أطراف الصراع، فإن موظفيها من المحتمل أن ينطبق عليهم وصف المرتزقة، وفق الفقرة الرابعة، كما تعد الشركة المعنية بمثابة شركة مرتزقة(27).
أما بالنسبة للجزء الثاني من هذه الفقرة، والخاص باستبعاد الشخص المقيم في إقليم يسيطر عليه أحد أطراف الصراع، فقد يكون هذا أمرا طبيعيا، خاصة أن التطوع للعمل في الخدمة المسلحة من جانب الأجانب المقيمين بالبلد قد يكون اختياريا أو إجباريا. ومن ثم، فإنه من الصعب إطلاق صفة المرتزقة علي هؤلاء في كلتا الحالتين(28)، لا سيما في ظل عدم بروز دافع الربح بشكل واضح في هذه الحالة.
بالنسبة للبند الخامس، هذا البند بالرغم من أنه يبدو بديهيا بالنسبة لأفراد القوات المسلحة النظامية للدولة المشاركة في الصراع، حيث إن مشاركتهم بمثابة واجب وطني، فإنه قد يكون مفيدا لبعض الدول التي تستعين بخدمات مقاتلين أجانب للمشاركة في الصراع المسلح، لكنها تزعم بأنها ضمت هؤلاء لقواتها المسلحة، ومن ثم لا ينسحب عليهم وصف المرتزقة، حتي وإن توافرت فيهم باقي الشروط الأخري. ومما يساعد هذه الدول علي ذلك أن القانون الدولي الإنساني لم يضع معايير واضحة لاعتبار شخص ما عضوا في القوات المسلحة لدولة ما، وإنما هذا الأمر متروك للقوانين الوطنية لكل دولة. ومن ثم، فإن الأمر يتوقف علي مدي رغبة هذه الدول من ناحية، وعلي نظامها الداخلي من ناحية أخري(29). ولعل هذا ما دفع ممثل بريطانيا، أثناء مناقشة مجلس الأمن لغزو سيشل من قبل مجموعة من المرتزقة، إلي رفض وصف الأرجنتين في مجلس الأمن لجماعات كورخا بالمرتزقة، علي اعتبار أن هؤلاء يشكلون جزءا من القوات المسلحة البريطانية(30).
ويلاحظ مما سبق عدة أمور:
1- إن الاعتبارات السياسية لعبت دورا مهما في صعوبة تطبيق هذه الشروط في الواقع العملي كما سبق القول، حتي لا تحرم الدول الكبري هؤلاء المقاتلين الأجانب العاملين في صفوفها من وضع المقاتل أو أسير الحرب. فهناك صعوبة في تطبيق وصف المرتزق في الكثير من الأحيان لاشتراط توافر الشروط الستة مجتمعة. وهناك صعوبة التحقق من انطباق بعض هذه الشروط، مثل تقدير قيمة الحافز المادي الذي وعد به المرتزق، أو المشاركة الفعلية في القتال، أو إثبات أن هؤلاء ليسوا أعضاء في القوات المسلحة ،أو من المتطوعين لدي أحد أطراف الصراع.
2- إنه وفق هذه الشروط، فإن الموقف القانوني للشخص داخل الشركة العسكرية الخاصة قد يختلف من حالة لأخري. وهنا، يلعب معيار الجنسية "الشرط الرابع" دورا مهما في هذا الشأن، حيث إن الأجانب العاملين في الشركة قد ينطبق عليهم وصف المرتزقة، حال توافر باقي الشروط الأخري. أما الأشخاص الذين يحملون نفس جنسية أحد أطراف الصراع، فلا ينطبق عليهم التعريف، مثل حال موظفي "بلاك ووتر" التابعين لجنوب إفريقيا وغيرها، مقابل الأمريكيين العاملين في هذه الشركة، فهؤلاء الأمريكيون رعايا أحد أطراف الصراع في العراق. والأمر نفسه بالنسبة للبريطانيين، ومن ثم قد لا ينطبق عليهم وصف المرتزقة، في حين أن هذا الوصف ينطبق علي موظفي جنوب إفريقيا العاملين بالشركة ذاتها.
والأمر نفسه يحدث أيضا فيما يتعلق بطبيعة المهام المنوطة بكل موظف داخل الشركة ، فالذين يعملون في مجال الاستشارات والتدريب والدعم اللوجيستي لا تنطبق عليهم شروط المرتزقة، لأنهم لا يشاركون مباشرة في الأعمال العدائية، علي عكس باقي زملائهم الذين يشاركون مباشرة في القتال، وإن كانت هناك صعوبات عملية في عملية التصنيف الوظيفي بسبب تداخل المهام.
الاتفاقية الدولية لمناهضة استخدام وتمويل وتدريب المرتزقة 1989:
اكتسبت هذه الاتفاقية أهميتها من كونها جاءت تالية لمحاولتين قانونيتين لحظر الارتزاق، الأولي دولية، "البروتوكول الإضافي"، والثانية إقليمية، "الاتفاقية الأفريقية لحظر المرتزقة" 1977، ومن ثم كان من المتوقع أن تكون أكثر شمولا منهما من ناحية ، ومعالجه لأوجه القصور بهما من ناحية أخري. لكن كان من الواضح أن الاعتبارات السياسية لعبت دورا أيضا في عملية الصياغة، بحيث لم تأت الاتفاقية بأشياء جديدة إلا فيما ندر.
ولقد تضمنت الاتفاقية ديباجة و21 مادة تتعلق بتعريف المرتزقة، والموقف الدولي منها، وتجريم الارتزاق، إلي ما غير ذلك . لكن الذي يعنينا في هذا المقام هو المادة الأولي الخاصة بتعريف المرتزقة، والشروط اللازمة لوصف المرتزق. ويلاحظ من بنود الاتفاقية أن التعريف الوارد بها بخصوص المرتزقة يماثل- إلي حد كبير- التعريف الوارد في المادة 47 من البروتوكول الإضافي، مع بعض التعديلات، لعل أبرزها ما يلي:
1- التوسع في تعريف المرتزق، وعدم جعله مقصورا علي المشاركة في الأعمال العدائية فقط، كما كان الحال في الفقرة الثانية من البروتوكول ، حيث تم استبعاد هذه الفقرة من الاتفاقية. وهذا التوسع نفسه نلاحظه في الجزء الأول من الفقرة الثانية (2-أ) ليضيف إلي الصراع المسلح أعمال العنف التي تستهدف الإطاحة بحكومة ما، أو تقويض النظام الدستوري لدولة ما بطريقة أخري، أو تقويض السلامة الإقليمية لها. فيكون الشخص مرتزقا- حال توافر باقي الشروط- إذا اشترك في أي عمل من أعمال القطاع العسكري، أو قدم خدمة من الخدمات التي تقدم في الأعمال العسكرية، أو اشترك كذلك في أعمال العنف "أعمال القطاع الأمني"، أي أن المادة تضمنت الأعمال العسكرية والأعمال الأمنية معا (31).
ومع ذلك، فإن هناك بعض الشروط التي قد تجعل هذا الوصف لا ينطبق علي الشركات العسكرية، مثل كونها تحمل جنسية أحد طرفي الصراع، كحالة "بلاك ووتر" في العراق، وتمتعها بالجنسية الأمريكية. والأمر نفسه بالنسبة لكون أفرادها يحملون الجنسية الأمريكية، أو من المقيمين علي الأراضي الأمريكية بصفة دائمة، أو القول إن هؤلاء يقومون بمهمات لوجيستية، ولا يشاركون في العمليات العسكرية، سواء كان هجوما أو دفاعا. وربما هذا ما يدفع الولايات المتحدة والدول الكبري عموما، أو هذه الشركات إلي وصف نفسها ب- "المقاولون العسكريين" لمحاولة نفي صفة القتال عنها، حتي لا تقع تحت طائلة هذه الاتفاقية، لاسيما وأنها تجرم جميع أنشطة الارتزاق، وبالتالي تتضاعف الآثار القانونية المترتبة عليها فيمن تثبت عليه صفة الارتزاق(32).
2- لا بد من توافر جميع هذه الشروط لإطلاق وصف المرتزق علي الشخص أو حتي الشركة، وهو ما يجعل هناك صعوبة كبيرة- متعمدة من قبل الدول الكبري- لتفريغ هذه الاتفاقية من محتواها.
سادسا- السيناريوهات المستقبلية لدور الشركات العسكرية الخاصة في النظام الدولي:
في نهاية هذه الدراسة، قد يكون من المفيد الحديث عن مستقبل هذه الشركات، وهل سيتم الاعتماد عليها بصورة أكبر في الفترة القادمة، أم سيتراجع دورها لصالح دور قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة؟
وفي هذا الإطار، يمكن القول بوجود سيناريوهين أساسيين:
السيناريو الأول يشمل تنامي دور هذه الشركات من خلال عملها كقوة مضاعفة للقوات المحلية أو الإقليمية، أو حتي الدولية.
السيناريو الثاني يرجح تراجع دور هذه الشركات علي المستوي الرسمي.
السيناريو الأول : يزداد الطلب علي هذه الشركات في مجال حفظ السلام وفرضه، وكذلك في عمليات الإغاثة الإنسانية، خاصة في إفريقيا. يرجع ذلك لعدة أسباب، منها تراجع اهتمام الدول الكبري بتحقيق الاستقرار في مستعمراتها بعد انتهاء الحرب الباردة، وتراجع الإرادة السياسية لعملية التدخل العسكري المحفوفة بالمخاطر، خاصة بعدما حدث للقوات الأمريكية في الصومال 1992-1994 . وفي ظل الانتشار الواسع لفكرة الخصخصة علي مستوي العالم، صارت عملية خصخصة الأمن مهمة لسد هذا الفراغ (33).
وهناك مجموعة من العوامل ترجح هذا السيناريو، لعل أبرزها ما يلي:
1- القدرات التي تمتلكها قوات هذه الشركات، مقارنة بقوات حفظ السلام الدولية، سواء من حيث سرعة الانتشار، أو الكفاءة العالية لقواتها، أو مستوي التسليح. ولقد أشار كل من دوج بروكس وشوريف (34) إلي مزايا تدخل القطاع الخاص في عمليات حفظ السلام، حيث قاما بإجراء مقارنة بين الوقت اللازم لتدخل كل من القوات النظامية، قوات الأمم المتحدة، وقوات القطاع الخاص في الصراعات الداخلية. وكانت النتيجة كالتالي: 4 أشهر للقوات النظامية، 6-8 أشهر للقوات الدولية، أسبوعان لثلاثة أسابيع بالنسبة للقوات الخاصة. كما قاما بالإشارة إلي ميزة أخري تتمثل في صغر حجم هذه العمليات الخاصة، مما يقلل من الآثار السيئة للتدخلات الخارجية، كما أن هذه القوات الخاصة تتعاون مع السكان المحليين بدرجة أكبر من القوات النظامية أو الدولية (35).
2- عدم وجود رغبة للدول الكبري في التدخل من خلال عمليات حفظ السلام، ما لم يكن الأمر مرتبطا بمصالحها، خاصة بعد فشل المهام الدولية في الصومال ورواندا أوائل التسعينات.
3- ضعف فعالية عمليات حفظ السلام الدولية، مقارنة بفاعلية هذه الشركات، وذلك لبطء إجراءات التدخل، وعدم رغبة الدول الكبري في استصدار قرار من مجلس الأمن بشأنها. وفي حالة استصدار القرار، فإن هذه الدول نادرا ما تشارك بقوات تابعة لها، بل تأتي معظم المشاركة من قوات الدول النامية ذات التسليح الضعيف، مما يترتب عليه ضعف فاعلية هذه القوات، وبالتالي زيادة الطلب الخارجي علي هذه الشركات.
يرتبط ذلك أيضا بفشل عمليات حفظ السلام الدولية في العديد من الدول، خاصة الصومال ورواندا في تسعينات القرن الماضي. فقد حدثت عملية الإبادة الجماعية للتوتسي في رواندا (1994) في ظل وجود القوات الدولية التي تم تشكيلها بعد اتفاق أروشا 1993 بهدف احتواء الحرب الأهلية المندلعة في البلاد منذ سنوات، مما أدي إلي تفاقم المشكلة. ولذلك، ظهرت الحاجة لتشكيل قوات التدخل السريع، ولإصلاح أسلوب الأمم المتحدة في عمليات حفظ السلام (36).
كل هذه العوامل أسهمت في زيادة اعتماد الشركات والمنظمات الدولية، وكذلك القوات التابعة للمنظمات الإقليمية الفرعية، مثل الإيكواس، علي هذه الشركات في بعض الحالات للقيام بمهام لوجيستية أو أمنية. فقد حصلت بعثة الأمم المتحدة في سيراليون علي دعم لوجيستي من، "باسيفيك "، كما أن شركة الدفاعات المحدودة قامت بتقديم الخدمات العسكرية للعديد من المنظمات الدولية (37)، والأمر نفسه بالنسبة لتعاون شركة ساند لاين مع الإيكوموج في سيراليون بعد رحيل شركة "إيكزيكيوتيف أوتكمز".
كما يلاحظ أن النتائج العسكرية التي حققتها الشركات الخاصة في الصراعات الإفريقية دفعت الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية في حينها لتأييد استخدام المرتزقة في تسهيل مبادرات فرض السلام الإقليمية، علي اعتبار أن الأمم المتحدة لا تفضل التدخل المباشر بعد فشلها في الصومال ورواندا(38). وهو ما أكده كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة في حينها(يونيو 1998)، حيث أقر بأن هناك إمكانية لتدخل هذه الشركات لفصل المقاتلين وإبعادهم عن معسكرات اللاجئين في رواندا، "لكنه لا يشعر بأن العالم مستعد لخصخصة السلام"(39).
ومن الممكن أن يأخذ التعاون والتنسيق بين القوات الخاصة وغيرها عددا من الأشكال: فقد تقوم هذه الشركات بالمهام اللوجيستية "غير القتالية"، علي اعتبار أن هناك حالة من القبول الدولي لذلك، مقارنة بالمهام القتالية (40) التي تثير جدلا كبيرا لم يتم حسمه بسبب تباين مواقف الدول الكبري بشأن هذه الشركات. كما أنها قد تقوم بالمهام العسكرية، في حين تقوم قوات حفظ السلام بالمهام الدبلوماسية، علي اعتبار أن أحد أسباب فشل قوات حفظ السلام الدولية يتمثل في رغبتها في القيام بالمهام العسكرية والدبلوماسية معا، فالجهود الدبلوماسية تحتاج لسيطرة عسكرية. لذا، فإنه إذا ما تم تكليف هذه الشركات بإنهاء الصراع، فإن الأمم المتحدة يمكن أن تتولي مهام تحقيق الاستقرار في البلاد. فهذه الشركات ليس لها دور في إعادة بناء الدول أو الجهود الدبلوماسية اللازمة لاستقرار الإقليم، فكل هذه المهام من اختصاص الأمم المتحدة (41).
كما يمكن للقوات الخاصة القيام بالمهام الإنسانية التي قد تعجز القوات الوطنية عن القيام بها. وكما يقول تيم سبايزر "مدير ساند لاين": "في ظل غياب الموارد الوطنية العسكرية لتنفيذ المهام الوطنية، فإن هذه الشركات يمكن أن توظف لأداء هذه المهام الإنسانية، مثل برنامج التطعيم الوطني، والتدريب علي مكافحة الإيدز، وغيرهما، لأن الشركات الخاصة لديها التنظيم والهيكل القيادي الضروري للقيام بهذه المهام. ومن ثم، فإن القول إن هذه الشركات تقوم بمهام عسكرة فقط هو نظرة ضيقة لها"(42).
السيناريو الثاني: يقوم سيناريو تراجع دور هذه الشركات علي عدة أمور، من أهمها بروز بعض المشكلات فيما يتعلق بعلاقة قوات هذه الشركات مع القوات الدولية، حيث من الممكن النظر إلي هذه القوات علي اعتبار أنها قوات منافسة وليست قوات مضاعفة. وفي العراق، كان من المفترض أن يصل عدد هذه القوات الخاصة إلي 20 ألف شخص لتصبح ثاني أكبر قوة مشاركة بعد قوات التحالف الدولي(43). كما أنه قد ظهرت بعض الممارسات السلبية لهذه الشركات، خاصة في مجال أعمال السلب وانتهاك حقوق الإنسان، كما حدث في العراق وغيره.
وفي حال تراجع دور الشركات الخاصة، فيجب تفعيل قدرات الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية المعنية، كالاتحاد الإفريقي، علي الاستجابة لهذه الصراعات عن طريق التدخل السريع، وتفعيل قوات التدخل السريع التابعة للأمم المتحدة.
ويري الباحث أن السيناريو الأول هو الأقرب للحدوث، خاصة في ظل تلاقي مصالح النخب الحاكمة، مع الشركات متعددة الجنسيات، وكذلك القوي الكبري علي استخدام هذه الشركات كبديل فعلي، وليس قانونيا لتدخل القوات الدولية. ولعل هذا ما يفسر أسباب عدم صدور اتفاقية دولية جديدة معدلة لاتفاقية عام 89 حتي الآن.
ضوابط مطلوبة:
يري الباحث أن هناك مجموعة من الضوابط ينبغي مراعاتها في هذا الشأن، خاصة فيما يتعلق بعملية المساءلة والشفافية لهذه الشركات، من أبرزها ما يلي:
1- التحكم في أنشطة هذه الشركات علي المستوي الدولي عن طريق وضع آلية نظامية تحت إشراف إدارة عمليات حفظ السلام التابعة الأمم المتحدة لمتابعة أنشطة هذه الشركات، ووضع سجل خاص بها بهدف تقرير ما إذا كان يمكن السماح لهذه الشركة أو تلك بإبرام هذا العقد أم لا، وهل ما سيتم تنفيذه سيخضع للإشراف أم لا. وبالرغم من أن هذه الفكرة لاقت ترحيبا من بعض الشركات، فإن هناك بعض الصعوبات في إقامة هذا النظام، منها أن هذه الشركات ليس لها جيش ثابت، الأمر الذي قد يجعل هناك صعوبة في تتبع سلوك الأفراد العاملين بها في ميدان الصراع(44).
2- هناك مجموعة أخري من الأفكار تم طرحها في هذا الشأن (45)، منها طرح فكرة إنشاء لجنة للإشراف علي عمل هذه الشركات تقوم بوضع القواعد، والنظم، توضح الإجراءات العملية، وتأكيد الحفاظ علي مستويات عليا من حقوق الإنسان. وعندما تدخل هذه المبادئ الاسترشادية حيز التنفيذ، فإن اللجنة ستكون معن