حوار مع الدكتور حمدي عبدالرحمن
حول الشأن الإفريقي وتوقعات المستقبل المجهول
القرن الإفريقي؛ حيثُ يسود فيه نوعٌ من الفوضى والعشوائية، وكثرة الصِّراعات البينيَّة، فهذا حزبٌ يُعادي ذلك الحزب، وهذه حركة تعادي الدَّولة، وهنالك انشقاق يتبعه انشقاق، وحركات جهادية كانتْ مغضوبًا عليها، ثمَّ باتت ترضى عنها أمريكا.
والقرن الإفريقي؛ حيث الثروات والمعادن والبحار والأنْهار، والمزارع والزِّراعة، والخصوبة في التربة، ولكنَّ العجزَ والضَّعف في استخدام هذه الثروات أدَّى إلى الإخفاق في نَهضة إفريقيا.
والقرن الإفريقي؛ حيث التنصير وحركات الانفصال السياسي والعسكري، التي تُسبب خرقًا في وحدة الصف، وتستغل المنظمات الإغاثِيَّة التنصيريَّة المشكلاتِ والأوضاع القائمة والقاتمة، فضلاً عن القادمة في القرن الإفريقي فيما يُنذِر بكارثة تكاد أو تُوشِك أنْ تظهرَ في هذه القارة التي ظُلمت بِيَدِ عدوِّها وخلافات أبنائها.
ولكي يتضح لنا الكثير من المعالم، وينبلج لنا عددٌ من التصوُّرات الفكريَّة والسياسية حيال الوضع القادم في إفريقيا، قد اتَّجهنا للخبير الإستراتيجي المصري الدكتور حمدي عبدالرحمن؛ ليجيبَ لنا عن عدد من الأسئلة ذات الأهمية في الشأن الإفريقي.
وقبل بَدء الحوار ولمن لا يعرف عن الدكتور الكريم شيئًا، فهو:
د. حمدي عبدالرحمن حسن، أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد، مُؤسس برنامج الدراسات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة، حاصل على جائزة الدولة التشجيعية (مصر) في العلوم السياسية لعام 1999، النائب السابق لرئيس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية (بريتوريا)، مُمثِّل إفريقيا والشرق الأوسط بالشبكة السويدية لدراسات الصِّراع والتنمية، شارك في العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية، ألَّف العديدَ من الأعمال العلمية المنشورة باللُّغتين العربية والإنجليزية منها:
• مستقبل جنوب السودان: التداعيات الجيوسياسية على الأمة الإسلامية، القاهرة، المركز العربي للدراسات الإستراتيجية، 2010.
• العرب وإفريقيا في زمن متحول، القاهرة: دار مصر المحروسة للنشر والتوزيع، 2009.
• الاتجاهات الحديثة في دراسات النظم السياسية: إفريقيا نموذجًا، عمان، المركز العلمي للدراسات السياسية، 2008.
• إفريقيا وتحديات عصر الهيمنة: أيُّ مستقبل؟ (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2007).
يكتب بشكل منتظم العديد من المقالات في الأهرام، والأهرام الاقتصادي، والجزيرة نت وغيرها من الصُّحف والمجلات والمواقع الإلكترونية.
بداية الحوار:
س1: نرحب بكم في البداية سعادة الدكتور حمدي عبدالرحمن، ونسأله - تعالى - أنْ تكونوا بخير وعافية، ومعافاة تامَّة في الدين والدنيا والآخرة، ونشكرُكم على إتاحة الفرصة لنا في موقع الألوكة وموافقتكم لإجراء الحوار معكم.
في البداية فإنَّ السؤالَ سيكون شخصيًّا؛ حيث يقال: إنَّ الدكتور حمدي عبدالرحمن مهتم وخبير جدًّا، حتى النخاع بالشأن الإفريقي، فما الذي دعاه وحَثَّه إلى ذلك؟ وهل من أسباب حقيقيَّة تقف خلف ذلك؟
ج1- بسم الله الرحمن الرحيم.
شكرًا لموقع الألوكة لهذه الاستضافة الكريمة.
هناك أسبابٌ شخصية، وأخرى موضوعية دَفعتني للتخصُّص في دراسة قضايا السياسة والحكم في إفريقيا، فقد وجدتني متحمسًا للتوجه صَوْبَ جنوب الدولة المصرية؛ حيث ينبع نيلها العظيم، أحسست منذ مراحل دراستي المبكرة بأنَّ ثَمَّة ما يَجذبني تُجاه القارة السمراء، ومع القراءة والاطلاع ازداد ارتباطي بإفريقيا، التي وصفها جمال حمدان بأنَّها القارة البكر قارة المستقبل، في مواجهة القارة العجوز (أوربا).
وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ ثَمة أسبابًا موضوعيَّة أخرى تتمَثَّل في الميراث التاريخي المصري والعربي والإسلامي في التعامُل الفكري والحركي مع إفريقيا؛ مصريًّا نَجد أنَّ عبقريةَ مصر ومصالحها الراسخة منذ القِدَم جعلتها تتجاوز حدودَ ومُعطيات الجغرافيا؛ لترتبطَ بجوارها الإقليمي ومجالها الحيوي، وتُشير الوثائقُ والنقوش التي عثر عليها في معبد الدير البحري إلى ارتباط مصر الفرعونية ببلاد بونت ومنطقة القرن الإفريقي.
وهو ما يعني أنَّ هذه المنطقة التي تتحكم في نهر النيل وطرق الملاحة الدولية في المحيط الهندي والبحر الأحمر، تُعَدُّ أَهَمَّ مَجال حيوي جنوبَ مصر، أمَّا على الصعيد العربي والإسلامي، فنجد أنَّ العلاقات العربية الإفريقية تضرب بجُذُورها أعماقَ التاريخ، وترجع إلى ما قبل الإسلام، ثُمَّ ازدادت أواصرُها بعد دخول الإسلام.
لقد وصل الإسلامُ إلى الحبشة قبل أنْ يَصِلَ إلى المدينة المنورة، كما أنَّ إفريقيا تُعَدُّ اليوم - بغضِّ النظر عن التحَديات الهائلة، التي تواجهها قارةُ الإسلام - القارة الوحيدة التي تَحتضن أكبر كتلة إسلامية بين ظهرانيها.
س2 القرن الإفريقي في حقيقته يتجاوَز اعتبارات الجغرافيا والتاريخ؛ ليُعبِّر عن تداخُل عوامل السياسة والإستراتيجية، فهل يُمكن الحديث عن هذه الاعتبارات بنوعٍ من التفصيل؟
ج2- من المعلوم أنَّ القرن الإفريقي لا يشكل مفهومًا أصيلاً نابعًا من التطور التاريخي والحضاري لسكان المنطقة، وإنَّما هو مدرك جغرافي يرتبط بالموقع على الخريطة.
ويُلاحظ المتابع لسيرة مفهوم القرن الإفريقي أنَّه مثل مفهوم الشرق الأوسط ينتمي إلى طائفة المفاهيم المراوغة، التي تتجاوز مُعطيات الجغرافيا؛ لتعبر عن انحياز السياسة ومصالح القوى الدولية المهيمنة، فقد أضحى قرن إفريقيا في نشأته اصطلاحًا، وتطوُّرُ استخدامِه مُمارسةً يُعبِّر عن طبيعة النظام الدولي السائد، وهو ما يعني أنَّ ديناميات التفاعُل الدولي تنعكس على الأوضاع الجيوإستراتيجية لهذا الإقليم الواقع شمال شرق إفريقيا، فقد ارتبطَ هذا المفهوم في بداياته الأولى بالقضية الصومالية وعلاقاتها المعقدة مع أثيوبيا، وما ارتبط بها لاحقًا من تداعيات ومشكلات, بيد أنَّ المفهوم سرعان ما اتَّسعت استخداماته؛ ليشملَ السودان.
إنَّ طبيعةَ التفاعُلات الداخليَّة والخارجية المرتبطة بالتطور الجيوإستراتيجي للمنطقة، قد أسهمت في إعادةِ صياغتها وتركيبها أكثرَ من مرة واحدة، فالحروبُ الأهلية، والصِّراعات العنيفة على السلطة, وانهيار مشروع الدولة الوطنية والكوارث الطبيعية، والتنافس الدولي على الثروة والنفوذ، الذي لم ينقطع يومًا واحدًا، كلها عوامل أسهمت في التوسُّع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي.
وبعد أنْ وضعت الحربُ الباردة أوزارَها, أعيدتْ صياغة منطقة القرن الإفريقي من الناحية الجيوإستراتيجية مرة أخرى؛ لتعكس حقيقةَ سياسات الهيمنة والنفوذ للقوى الأجنبية الفاعلة في المنطقة.
وقد تَمَّ في هذا السياق صكُّ مفهوم القرن الإفريقي الكبير؛ ليعبر عن المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية والإستراتيجية للدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في شمال شرق إفريقيا, إضافة إلى منطقة البحيرات العظمى.
وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر دفعت الاعتبارات الأمنية ببعضِ أدبيَّات التفكير الإستراتيجي الغربية إلى التوسُّع في استخدام مفهوم القرن الإفريقي؛ ليشمل اليمن، وربَّما بعض بلدان الخليج العربية.
يقول روبرت روتبرج في ذلك: "إنَّ القرنَ الإفريقي الكبير ينطلق بقوةِ دَفعه الذاتيَّة صوبَ اليمن, ومنها إلى قلب الجزيرة العربية والخليج العربي، إنَّه يشمل منطقة بالغة التعقيد في شمال شرق إفريقيا, وهي تمتد من قمم جبل كليمنجارو حتى منخفضات جيبوتي، ومن صحراء تشاد حتى سواحل البحر الأحمر, وهو يتجه جنوبًا مرورًا برأس عسير حتى سواحل بلاد بونت".
وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ الاستخدام الشائع اليوم للقرن الإفريقي هو الذي يَضَعه في مُحيطه الجغرافي المعتاد؛ بحيث يشمل كلاًّ من إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي والسودان.
س3: نلاحظ أنَّ القرن الإفريقي تتناوشه بين حين وآخر عددٌ من الهجمات والتدخُّلات الآثمة، فما أسباب ذلك؟ وهل لضعف القيادات السياسية دورٌ رئيس في ذلك؟
ج3- ثَمَّة مجموعة من العوامل والمتغيرات كانت سببًا في استمرار اهتمامِ القوى الكبرى في النظام الدولي بالقرن الإفريقي، أو ما يمكن تسميته التدافُع الدولي على القرن الإفريقي، فالمنطقة كانت ولا تزال مَحطَّ أنظار هذه القوى التي تُحاول تحقيق مصالحها من خلال العمل الدؤوب على أن يكون لها موطئُ قَدَمٍ في هذه المنطقة الإستراتيجية الهامة.
• الموقع الجغرافي وأثره على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمنطقة؛ إذ لا يَخفى أنَّ القرن الإفريقي يُمَثل مَمرًّا وبوابة للبحر الأحمر وخليج عدن، إضافةً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي, وهو الأمر الذي جعله لقرون طويلة، ولا يزال محطَّ اهتمام القوى الدولية المسيطرة.
وعلى هذا، فإنَّ التدخُّلات الدولية من أجل السيطرة والنفوذ هي التي حَدَّدت بشكل كبير تطوُّر الأحداث ومآلاتها في المنطقة, بَيْدَ أنَّ درجةَ ومستوى هذه التدخُّلات تباينتْ من فترة زمنية لأخرى، ولا أدلَّ على ذلك من أن القرن الإفريقي ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالصِّراع العربي الإسرائيلي، حتى إنَّ بعض المحللين اعتبره جزءًا من منظومة الإقليم الإفريقي الشرق الأوسطي.
لقد حاولت كُلٌّ من الدُّول العربية وإسرائيل الدِّفاعَ عن مصالحها الأمنية والإستراتيجية في المنطقة، من خلال تقديم العَوْن والمساعدة للقوى والتنظيمات السياسية الموالية لها.
وإذا كانت إسرائيلُ قد حاولت أنْ يكونَ لَهَا منذ البداية منفذٌ على البحر الأحمر، فإن ميناء إيلات يُعَدُّ بوابتها التجارية مع آسيا، ورُبَّما يفسر لنا ذلك مُحاولاتها المستميتة للحيلولة دون أن يكون البحر الأحمر بُحيرة عربية، فضلاً عن توجُّهها الخارجي دعمَ علاقاتِها مع كلٍّ من أثيوبيا وإريتريا.
• قُربُ القرن الإفريقي من مصادر النفط في الخليج العربي، وهو ما دفع بالولايات المتحدة والدول الغربية إلى مُحاولة الدفاع عن هذه المصادر، وتأمين الوصول إليها، ولعلَّ من أبرز الأدوات التي استخدمت في ذلك إقامة القواعد العسكرية، وتبادُل المعلومات الاستخباراتية مع دول المنطقة، ويُمكن أن نشيرَ هنا إلى القواعد التي أقيمت في جزر دهلك وحالب وكاجينو الإريتريَّة.
• الأهمية الاقتصاديَّة للقرن الإفريقي؛ حيثُ إنَّ اكتشافَ النفط، والذَّهب، والغاز الطبيعي في المنطقة قد أضاف بعدًا جديدًا للتنافُس الدولي؛ بحيث جاءتْ إلى جانب القوى الاستعمارية السابقة قوى أخرى جديدة فاعلة، مثل: الولايات المتحدة، والصين، والهند، وحتى البرازيل، ولا يَخفى أن دول القرن تَمتلك احتياطات كبيرة من المعادن، التي تستخدم في الصناعات الثقيلة والنووية، مثل: الكوبالت واليورانيوم، كما أنَّها تَمتلك ثروةً مائية هائلة تكفي لِسدِّ حاجات الدول الإفريقيَّة من المياه.
• انتشار المجاعة والكوارث الطبيعيَّة، ويبدو أن الصور الذهنيَّة التي تروج لها وسائل الإعلام الغربية والدولية أضحتْ تُقارِب بين الإقليم والمجاعة, حتى إنَّه بات يعرف باسم قرن المجاعة، ولَعَلَّ أخطر موجة ضربت الإقليم كانت عامي 1984 و1985، وقد أفضت هذه الكوارث إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، الذي أسهم بدَورِه مع الحروب الأهلية في زيادة مأساة ومعاناة المواطنين, ويبدو أنَّ الدُّول الغربية والقوى المانحة، التي تَهرع لتقديم العون والمساعدة للإقليم ما فتئت تستخدم هذا الغطاء الإنساني؛ لتُخفي وراءه أجندة التنافُس مِن أجْل السيطرة والنفوذ, وهو ما يشكل أحدَ أبرز أبعاد الصياغة الجيوإستراتيجية للمنطقة.
• تأثيرات الحرب الباردة وما بعدها، فقد شكَّل التنافُس بين القوى الدولية الكبرى على القرن الإفريقي طبيعةَ النظُم الأمنية والسياسية السائدة في الإقليم، فالتأثيرات الأيديولوجية للحرب الباردة أدَّت إلى تأسيس نُظُم سياسية متباينة، بما في ذلك نظم الاستبداد العسكرية، كما تَمَّ إقامة قواعد عسكرية أجنبيَّة، وشبكات اتِّصال استخباراتيَّة في المنطقة.
وخلال سنوات الحرب الباردة شَهِدَ القرن الإفريقي انتشارًا غير مسبوق لتجارة الأسلحة الصغيرة والخفيفة، والتي أضحتْ بعد نهاية الحرب الباردة تُشكِّل أكبرَ مصدر لتهديد الأمن والاستقرار في الإقليم برُمَّتِه، وعلى أية حال فقد تزامَن مع نهاية الحرب الباردة تغيُّر معالم خريطة الصراعات السياسية في القرن الإفريقي؛ حيث استقلت إريتريا، ودخلت في نزاع إقليمي مع أثيوبيا، كما أن الصومال تفكَّكت أوصالُها؛ لتفقد السلطة المركزيَّة، وتدخل في حالة منَ الفوْضى العارمة.
• تأثيرات الدولة الفاشلة، والقول بوجود بعضِ أعضاء تنظيم القاعدة والخلايا النائمة، فالدول الغربية ترى أنَّ الأمن العالمي أصبحَ مُهَدَّدًا بالفعل من قبَل أفراد وتنظيمات أصوليَّة، وهو ما دفعها إلى مُحاولة احتواء هذه الدول الهشَّة والضعيفة، والتي تُعَدُّ مسْرحًا مُلائمًا للفكر الراديكالي والممارسات السياسية العنيفة، وربَّما تطرح خبْرة القرن الإفريقي نموذجًا واضحًا لمخاطر غياب الدولة وانعكاساتها على الأمن الدولي.
س4: كان للأيادي الصِّهيونيَّة أدوارٌ أخيرة في التدخُّلات في الشأن الإفريقي، فما أهداف وأدوات هذه التدخُّلات؟ وما الجديد في ذلك؟
ج4- كما ذكرنا سلفًا، فإنَّ الدولة العبرية سعَتْ منذ نشأتها المصطنعة في قلب العالم العربي إلى أنْ يكونَ لها موطأ قدم على البحر الأحمر، وهو ما يَحول دون تَحويله إلى بحيرة عربية.
وعلى أيَّةِ حال يُمكن القول إجمالاً: إنَّ السياسة الإسرائيلية تجاه إفريقيا قد حكمتها منذ البداية مجموعة من الاعتبارات والأهداف العامة، لعل من أبرزها:
الاعتبار السياسي؛ حيث تُمثِّل إفريقيا قوة تصويتية كبرى في المحافل الدولية، ولا سيما الأمم المتحدة، وهو ما يعني أنَّ بمقدور الأفارقة إحداث تغيير هائل في السياسات الرامية لفرْض العزلة الدوليَّة على إسرائيل، بيد أنَّ ثَمَّة اعتبارات إستراتيجية تَمثلتْ في حاجة إسرائيل إلى كسر حاجز العزلة، التي فرضتْها عليها الدولُ العربية من خلال إقامة شبكة من التحالُفات مع دول الجوار غير العربية، ولا سيما في منطقة القرْن الإفريقي وشرق إفريقيا.
يقول ديفيد بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق في خطاب له أمامَ الكنيست عام 1960: "إنَّ المساعدات التي نُقدِّمها للدول الحديثة ليستْ عمَلاً من أعمال الخير، إننا بحاجة إلى صداقة هذه الدول أكثر من حاجتها هي إلى مساعداتنا".
ولم تكن الاعتبارات الاقتصادية ببعيدة عن تفكير صانع القرار الإسرائيلي، فإفريقيا غنيَّة بمواردها وثرواتها الطبيعية، كما أنَّها تعدُّ سُوقًا محتملة للمنتجات الإسرائيلية.
غير أن عودة الاعتبار لإفريقيا كأولوية في السياسة الإسرائيلية منذ التسعينيَّات من القرن الماضي، ترتبط بجملة من الاعتبارات؛ لعلَّ من أبرزها:
• الاعتبارات الأمنية، فثَمَّة مَخاوف إسرائيليَّة مِن انتشار الجماعات الإسلامية المتشَدِّدة في كثير من مناطق إفريقيا، ولا سيما في بؤر التوتُّر والصراعات الكبرى، وفي ظل حالات ضعف الدولة أو انهيارها، كما هو الحال في الخبرة الصومالية، ولا شك أنَّ إسرائيل تنظر إلى هذه المخاوف الأمنية باعتبارها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ولعَلَّ الغارة الإسرائيلية على شرق السودان أوائل العام الحالي، تُعَدُّ مثالاً واضحًا على أهمية هذا البُعد في السياسة الإسرائيلية تجاه إفريقيا.
• التغلغل الإيراني المتزايد في إفريقيا، واستخدام السياسة الإيرانية للأدوات نفسها، التي استخدمتها إسرائيل لكسب عقول وقلوب الأفارقة، وهي المساعدات التنموية، وعليه، فإنَّ إسرائيل رأت في إيران وسياستها الإفريقية تهديدًا مُباشرًا لمصالحها الإستراتيجية في القارة السمراء، ويلاحظ أنَّ إيران بدأتْ منذ عدة سنوات في توسيع دائرة تَحركها الإفريقية، مُستفيدة إلى أقصى حدٍّ من الفرَص المتاحة، فإلى جانب السودان توجد علاقات إيرانية وثيقة مع كل من جنوب إفريقيا والسنغال وأوغندة.
وعادة ما يتم ترْويج النموذج الإيراني إفريقيًّا، ولا سيما في مَجالات الطاقة، والتنقيب عن النفط، وتنمية القطاعات الزراعية والصحية وما شاكل ذلك، فقد افتتحتْ إيران مصنعًا للجرَّارات الزراعية في أوغندة، كما أنَّها أقامت خط إنتاج لسيارات (ساماندا) الإيرانية في السنغال، ويلاحظ في هذا السياق أيضًا أنَّ الفِرَقَ الطبِّية الإيرانية تَجوب كثيرًا من أنحاء القارة الإفريقية لتقديم خدماتها إلى المحتاجين.
• الاعتبارات الاقتصادية والتجارية؛ إذ تُحاول إسرائيل أن تُبْنَى على تقاليد عصرها الذهبي في إفريقيا، وهي تستخدم هيئة التعاون الدولي (مشاف)، التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، باعتبارها الذراعَ الدبلوماسي، الذي يُسهم في تقوية علاقاتِها مع الدول الإفريقية، وقد لوحظ خلالَ السنوات الماضية أنَّ معظم النشاط الإسرائيلي في إفريقيا قد تركز في مَجالين أساسِيَّين هما تجارة الماس والأسلحة؛ ولذلك يطالب كثير من المُحلِّلين الإسرائيليين بضرورة إنقاذ سياسة إسرائيل الإفريقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، من خلال تطوير وتوسيع دوائر الحركة التجارية معها، من خلال التركيز على القوى الاقتصادية الواعدة فيها؛ مثل: نيجيريا، وغانا، وجنوب إفريقيا.
• التوكيد على أهمية إفريقيا الإستراتيجية بالنسبة لإسرائيل؛ حيث تُحاول إسرائيل - من خلال تبنيها مبدأَ شد الأطراف - خلق بؤر للتوتر والصِّراع على أطراف النظام الإقليمي العربي في جواره الإفريقي، ويُمكن أن نُشير هنا إلى الدَّور الإسرائيلي في دعم حركات التمرُّد والعنف في جنوب السودان وغربه، ومن المعروف أنَّ هذا المبدأ يعني خلقَ مناطق للتوتر تشمل الجماعات العرقية والإثنية في الدول العربية، وتقديم وسائل الدعم كافَّةً لها؛ من أجل تقوية نزعاتِها الانفصالية والقومية.
• التكالُب الدولي الجديد على استغلال الموارد الطبيعية الإفريقية يفرض على إسرائيل أنْ تعيدَ حساباتِها؛ لتُدافِعَ عن مصالحها، ويكون لها نصيب معلوم في عملية التنافُس الدولي، تلك التي تشهدها الساحة الإفريقية؛ ولذلك لا تتحرك إسرائيل صوبَ إفريقيا بدافع من مُجابهة التمدُّد الإيراني فقط، ولكن لمُواجهة واحتواء النفوذ الصيني المتزايد كذلك.
وعليه، فإنَّه يُمكن النظر إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان إلى كلٍّ من أثيوبيا، وكينيا، وأوغندة، ونيجيريا، وغانا، في بداية سبتمبر 2009؛ باعتبارها نقطة تحوُّل فارقة في السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه إفريقيا، ومُحاولة لإعادة العصر الذهبي لإسرائيل في إفريقيا.
وتستخدم إسرائيل العديد من الأدوات لاختراق الواقع الإفريقي:
دبلوماسية القوة الناعمة:
يقول ديفيد بن جوريون في كتابه عن إسرائيل وسنوات التحدي الذي صدر عام 1962:
"إنَّ إسرائيل دولة صغيرة الحجم ومحدودة السكان، كما أنَّها لا تَمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبرى، بيد أنها تمثل على المدى البعيد قوة روحية خلاقة، ومعلوم أنَّ العبرة في مملكة الروح للكَيْف وليس الكم... ولسوف يعود عليها إسهامها - أي: إسرائيل - في تأسيس عالم جديد بالسلام والأمن واحترام العالم".
ولا شَكَّ أن هذا النص يعكس إدراكَ أول رئيس لوزراء إسرائيل بأنَّ القوة العسكرية، وإن حقَّقت تأسيس كيان الدولة، فإنَّ تأمين شرعية الوجود يتطلب أدواتٍ وسياساتٍ أخرى غير الأداة العسكرية، ومن هنا كان بَحث صانع القرار الإسرائيلي عن خلق ما يُمكن تسميته "النموذج الإسرائيلي"، الذي يستطيع جذب اهتمام وتأييد المجتمع الدولي.
ولعَلَّ سياسة المساعدات التنموية تُعَدُّ أحدَ أبرز هذه الأدوات، التي تستخدمها الدبلوماسية الإسرائيلية لتحقيق هذه الغاية، وقد درج كثيرٌ من الكُتَّاب الإسرائيليين على وصف هذه الإستراتيجية بأنَّها تُمثل تطبيقًا لمبدأ القوة الناعمة "soft power"، الذي صَكَّه جوزيف ناي عام 1990.
وعليه، فإنَّ المساعدات العسكرية الإسرائيلية لإفريقيا ركَّزت على منطقة القرن الإفريقي، فقد كان الاهتمامُ الإسرائيلي يَتَّجه إلى أمن البحر الأحمر، وحماية منطقة باب المندب، وربَّما يفسر لنا ذلك سِر الاهتمام الإسرائيلي منذ البداية بتدْعيم أواصر العلاقة مع أثيوبيا.
ويُلاحظ أنَّ إسرائيل قد قدمتِ الدَّعم المادي والعسكري لأثيوبيا في مواجهة الثورة الإريترية؛ لأنَّها خشيت أن يؤدي استقلال إريتريا وتَحالفها مع العرب إلى إغلاق البحر الأحمر؛ مِمَّا يجعله بحيرة عربية، وبالفعل قامت إسرائيل بتقديم مساعدات كبيرة للجيش الأثيوبي، كما أنَّها أقامت قاعدة شبكة اتصالات في إريتريا.
وفي المقابل فقد حصلت إسرائيل على تسهيلات عسكرية في الأراضي الأثيوبية؛ حيث أقامت بعض القواعد في الجُزر القريبة من مُحيط باب المندب، وقد جاءت أوغندة في المرتبة الثانية من حيث الاهتمام الإسرائيلي بعد أثيوبيا؛ حيث إنَّها تحد جنوب السودان، وهو ما يسهل من تقديم المساعدات الإسرائيلية لحركة التمرد السودانية.
وعليه، فإنَّ الفرصةَ سانحة أمامَ إسرائيل أكثر من أي وقت مضى؛ لاستعادة أمجاد عصرها الذهبي في إفريقيا، ولعلَّ مكْمن الخطورة في هذا التمدُّد الإسرائيلي يتمثل في اختراق منظومة الأمن القومي العربي ككل، وتهديد نُظُم الأمن الوطنية لبعض الدول العربية تحديدًا؛ مثل: مصر، والسودان، والمغرب العربي.
س5: إيران تسعى وتُحاول الوصول بأياديها الناعمة والخفيَّة لمناصبَ رفيعة، وتدخُّلات واضحة في القرن الإفريقي، فبصراحة: ما مقاصدُ إيران في ذلك؟
ج5- يلاحَظ أنَّ التوجه نحو إفريقيا خلال السنوات الأولى للثَّورة الإيرانية كان يَختلف اختلافًا كبيرًا عن التوجُّه الحالي، الذي تتبنَّاه حكومةُ الرئيس أحمدي نجاد، لقد كانت إيران في الثورة تنظر إلى إفريقيا باعتبارها قارَّةَ المستضعفين، وأنَّها بحاجة إلى مَدِّ يد العون لها في مَجالات الصحة والإِعْمار وغيرها من المساعدات الإنسانية.
وطوال فترة الحرب العراقية الإيرانية - التي امتدت لنحوِ ثَماني سنوات - كانت إيران تنظر إلى إفريقيا من خلال منظور أيديولوجي مختلف؛ فإفريقيا تُمثِّل ثلثَ مقاعد الأمم المتحدة، وتشكل نصفَ مَجموعةِ عدم الانحياز، وهو ما يعني أنَّها تُمثل حليفًا محتملاً لإيران، كما أنَّها في ذات الوقت تُمَثِّل ساحةً مناسبةً لتبني أفكار الثورة الإيرانية.
وقد تَم تجْسيد هذا التوجه الإيراني الجديد تجاه إفريقيا في ظلِّ حُكم الرئيس هاشمي رافسنجاني؛ حيث قام في عام 1996 بزيارةٍ لسِتِّ دُولٍ إفريقية، صَحِبَه خلالَها وفدٌ رفيع المستوى، مكون من مُحافظ البنك المركزي، ووزراء المجموعة الاقتصادية، وطبيعي أنْ يستمرَّ هذا التوجه الإيراني نحو دعم العلاقات الاقتصادية مع إفريقيا في ظلِّ حكومةِ الرئيس محمد خاتمي؛ إذ قام الرئيسُ خاتمي نفسه عام 2005 بزيارةِ سبع دُول إفريقية.
وتُشير بعضُ التقارير إلى أنَّ تلك الحركة الدبلوماسية الإيرانية الموجهة لإفريقيا قد تصاعدتْ بشكلٍ واضح في ظلِّ حكم الرئيس أحمدي نجاد، ففي عام 2009 وحْدَه قام كبار المسؤولين الإيرانيِّين بنحو عشرين زيارة لإفريقيا، وتحاول الدبلوماسية الإيرانية كسرَ الحصار الغربي المفروض عليها من خلال اكتساب مناطق نفوذ جديدة في إفريقيا.
ففي العاصمة السنغالية داكار يوجد مصنع "خودرو" للسيارات الإيرانية، كما وعدت إيران الحكومة السنغالية ببناء مصفاة للنفط، ومصنع للكيماويات، وآخر للجرارات الزراعية، وتحتفظ إيران بعلاقات وثيقة مع كل من موريتانيا وغامبيا ونيجيريا.
كما تتمتع إيران بعلاقات قوية مع السودان؛ حيث تُعَدُّ طهران أكبر مصدّري السلاح للسودان، كما قامت في عام 2008 بتوقيع اتِّفاقية للتعاوُن العسكري بين البلدين، وأثناء زيارة الرئيس الإيراني لكينيا العام الماضي، وَافَقَ على أن تُصدِّر بلاده نحو أربعة ملايين طن من النفط الخام سنويًّا لنيروبي, إضافةً إلى تسيير خَطِّ طيران مباشر بين عاصمتي البلدين، وقدمت طهران كذلك مِنَحًا دراسية للكينيين للسفر والتعلم في إيران.
ولا يخفى أن البعد النووي لم يكن خافيًا في توجُّه إيران الإفريقي؛ حيث تسعى إيران إلى الحصول على اليورانيوم من الدُّول الإفريقية، وهو ما استهدفته زيارةُ أحمدي نجاد هذا العام لكلٍّ من أوغندا وزمبابوي.
س6: هل يُمكن القول: إنَّ جمهوريةَ جُزُر القمر باتت مُستعمرة إيرانيَّة في إفريقيا؟
ج6- لا أعتقد ذلك، وإنَّما هناك تأثير ونفوذ إيراني واضح في ظلِّ الإهمال العربي والإسلامي لهذه الجزر الفقيرة، وقد ارتبطت المخاوف من تحوُّل هذه الجزر، ووقوعها تحت المد الشيعي المتنامي في إفريقيا بانتخاب الرئيس الاتحادي عبدالله سامبي عام 2006، فالرجل درس في إيران، ومنحته إحدى جامعاتها لقبَ "آية الله".
ولم يكن مُستغربًا إذًا أنْ يُعبِّر البعضُ من سكان الجزر - الذين يدينون بمنهج أهلِ السنة، ويسيرون على هَدْيِ الطُّرق الصوفية، ولا سيما الشاذلية - عن مَخاوفِهم مِن حُدُوث اختراق إيراني لمجتمعاتهم، وعمومًا فإنَّ إيران - التي قام رئيسُها أحمدي نجاد بزيارةِ جزر القمر - تُحاول جاهدةً اكتساب أراضٍ جديدة في إفريقيا في ظل تراجُع الأدوار الخاصة بالقوى العربية الكبرى في المنطقة.
س7: ألاَ تلاحظ أنَّ القرنَ الإفريقي بات صراعًا بين فيلَيْنِ كبيرين: إيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى؟
ج7- ليس فقط هذه القوى، وإنَّما هناك قوى أخرى؛ مثل: الصين والهند وحتى تركيا، لقد ظَنَّ البعض أنَّ انهيارَ جدار برلين قد يُمثل لحظة تاريخية مهمة يُمكن للأفارقة مِنْ خلالها أنْ يُحافظوا على استقلالهم، ويَجعلوا قارتَهم بعيدةً عن أعين الطامعين والمستغلين، بيد أنَّ القارة أضحت مَرَّة أخرى ساحة للتنافُس الدولي بين القوى التقليدية الكبرى؛ مثل: بريطانيا، وفرنسا، والبرتغال، وقوى أخرى جديدة فاعلة، مثل: الولايات المتحدة، والصين، والهند، وحتى البرازيل.
ولا شَكَّ أنَّ هذه القوى التي دفعت شعاراتِ التدخُّل الإنساني والشراكة الاقتصادية تتحرَّك بالأساس من منظور مَصلحتها القومية الذاتية، ولعلَّ أكبر مثال على ذلك مأساة رواندا عام 1994، حينما وقف العالَمُ كله ساكنًا، وأغمض عينيه، وكأن شيئًا لَم يحدث!
اليومَ لا تزال إفريقيا تعاني وطأةَ التدخُّل الأجنبي، فما الذي تغيَّر إذًا؟ إنَّها القوى الكبرى التي تَحتل القائمة بالنسبة لمصالحها في القارة، فقد تَمَّ تحدِّي نفوذ وتأثير القوى الاستعمارية السابقة من قِبَل فاعلين جُدُد على التراب الإفريقي؛ أمثال: الصين، والولايات المتحدة، والهند.
لقد دافع البعضُ عن هذا النفوذ المتنامي للقُوى الدولية في إفريقيا بحسبانِها أحدَ مظاهر العولمة الجديدة، وهو ما يعني عولمة القارة الإفريقية؛ حيث إنَّها لا تستطيع الفكاك منها.
س8 كيف ترى الحلولَ الصحيحة لمواجهة التدخُّلات الصِّهْيَونِيَّة والغربية والإيرانية في الشأن الإفريقي؟
ج8- يُمكن من منطلق الخبرة الذَّاتيَّة في العديد من دول المنطقة أنْ نؤكدَ على مَجموعة من المفاهيم والمضامين، التي تصلح لإقامة حوار إستراتيجي جديد، يتجاوز إشكالياتِ الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية على دول الأركان للعالَمين العربي والإسلامي في القارة الإفريقية، وذلك على النحو التالي:
أولاً: إعادة تصحيح المفاهيم التي تعكسُ المخزون الثقافي والحضاري المتعلق بالعروبة والإسلام، والإفريقانيَّة، وإزالة أي إمكانية متصورة للصِّدام، وهنا يُمكن العمل على تصحيح الصور الذهنيَّة، والقوالب الجامدة المرتبطة بالآخر عند كلِّ طرف والتعامُل الجاد والواعي مع القضايا الحسَّاسة في تاريخ الذاكرة الجماعية لأطرافِ الحوار، مثل: قضية الدور العربي والإسلامي في تِجارة الرقيق الإفريقية.
ثانيًا: عدم اختزال العلاقات مع دول المنطقة في مجالٍ واحد من المقايضات السياسية والمقابل التجاري؛ إذ ينبغي إقامةُ شراكة حقيقيَّة في إطار منظومة دول الجنوب، ويُمكن أنْ تتحقق هذه الشراكة عبر مناهج ومسارات متكاملة؛ ثنائي، ودون الإقليمي، والجماعي، والمؤسسي.
ثالثًا: الاتفاقُ على أسس جديدة للتعاوُن بين العالمين العربي والإفريقي بما يُحقِّق المنفعة المتبادلة لكل طرف، وينبغي ألا يتمَّ اختزال العلاقات في مسألة الدعم المالي.
رابعًا: التركيزُ على المدخل غير الحكومي، ونعني بذلك مؤسسات ومنظمات المجتمع الأهلي، التي تستطيع أنْ تستفيدَ من المواريث الحضارية والثقافية، فثَمَّةَ مكون اجتماعي عربي وإسلامي في دول المنطقة لا يُمكن إنكاره.
خامسًا: التوكيد على مدخل ووسائل القوة الناعمة لبعض الدُّول العربية الكبرى، مثل: مصر، والجزائر، والسعودية، وليبيا، بل وحتى بعض القوى العربية الصاعدة، مثل: قطر، وذلك من أجل كسب عقول وقلوب الأفارقة؛ يعني ذلك: احتواء النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا من خلال أدواته وآلياته نفسها.
ولعلَّ بالإمكان كذلك في الحوار العربي الإفريقي الاستفادة من تراثِ اللحظات النِّضالية والبطولية، التي جمعت كلاًّ من العرب والأفارقة في مسيرة التحرُّر من الاستعمار بأشكاله وألوانه كافَّة.
وعلى صعيدٍ آخر، فإنَّ على الأفارقة تحمُّل المسؤولية التاريخية للدِّفاع عن استقلالهم وكرامتهم بما يُحقق لهم "شعار إفريقيا للإفريقيِّين"، ويَجعل ثرواتِ ومواردَ القارة الغنيَّة تعود بالنفع على جميع الأفارقة، وربَّما يتطلب ذلك شراكة حقيقيَّة مع العالم الخارجي شرقًا وغربًا، وحتى يبدأ قطار النهضة الإفريقية لا بُدَّ من الحصول على التعويض المناسب جَرَّاءَ عمليات الاسترقاق والنهب المنتظم، التي قامت بها قُوى الرأسماليَّة الكولوينالية عَبْرَ القرون والسنوات الطويلة، وهو ما أسهم في إفقار وتَخلُّف إفريقيا.
ولعلَّ ما قامت به الحكومة الإيطالية ومُوافقتها على تعويض ليبيا عن سنوات الاحتلال لها يُمثل نموذجًا يُمكن تطبيقه في الحالة الإفريقية، عندئذٍ يُمكن لنا أنْ نرى الفيل الإفريقي يقوم من كبوته، ويُنافس بقوة في إطار قوى العولمة الجارفة، فهل يُمكن لنا أن نشهد تحولاً في منظومة العلاقات الدولية نحو أفرقة النظام الدولي؟! سؤال قد لا نستطيعُ الإجابة عليه في الوقت الراهن.
س9 في الأيام الماضية كان للكثير من الصَّهاينة أقوالٌ تجاه ذلك النهر الكبير الإفريقي نهر النيل، فماذا تريد إسرائيل من هذا النهر؟
ج9- يلاحظ كما ذكرنا أنَّ السياسة الإسرائيلية قد ركَّزت منذ أواخر الثمانينيَّات من القرن الماضي على ترشيد توجُّهاتِها الإفريقية، بالتركيز على مناطق نفوذ مُحددة، ولعلَّ أبرز تلك المناطق القرن الإفريقي، وحوض النيل، فإسرائيل تَحتفظ بثلاثِ سفارات مُهِمَّة في كلٍّ من أثيوبيا وإريتريا وكينيا.
ويلاحظ أنَّ إسرائيل تُحاول مُواجهة الخطر الإسلامي المتصاعد في هذه المنطقة، ولا سيما في ظل حالة ضعف الدولة أو انهيارها، كما هو الحال في الخبرة الصومالية، وتنظر إسرائيلُ إلى هذه المخاوف الأمنية باعتبارها تهديدًا مُباشرًا لأمنها القومي، على أنَّ الهدف الأكثر أهمية الذي تسعى إليه الدبلوماسية الإسرائيلية يتمثَّل في تطويق منظومة الأمن القومي المصري، من خلال تأليب دول منابع النيل على مصر والسودان، من خلال رفع المطالب الخاصَّة بإعادة النظر في توزيع حصص مياه النيل.
وقد ظهر ذلك واضحًا في زيارة أفيجيدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي لإفريقيا في سبتمبر الماضي؛ حيثُ اصطحب معه وفدًا كبيرًا يضم خبراء في الزراعة والري والتجارة ومُمثلين عن المؤسستين الصناعية والعسكرية في إسرائيل، وقد شَمِلَت زيارةُ ليبرمان كينيا وأوغندة وأثيوبيا، ويلاحظ أنَّ وُفودًا من دول حَوْضِ النيل الأخرى؛ مثل: الكونغو كينشاسَا، وبوروندي قد زارَتْ إسرائيل بِهَدف مُناقشة مشروعات التعاوُن المائي مع إسرائيل.
س10: في مقالٍ لك طالبتَ صانعَ القرار المصري بالدِّفاع عن أمْن مصر المائي، فماذا تعني من ذلك؟ وكيف يُمكن الدفاع عنها؟
ج10- ثَمَّة حقائقُ جديدة وتَحوُّلات متسارعة تشهدها دولُ حوض النيل، ينبغي على صانع القرار المصري أنْ يأخذَها بعين الاعتبار، فالرُّكون إلى القول بأنَّ مياهَ النهر تأتي إلينا بالخير الوفير كلَّ عام لا يَكفي سندًا لمواجهة تَحديات الغد المنظور.
إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو (160) مليونًا من ساكني حوض النهر يعتمدون على مياهه في حياتِهم وطرائق معيشتهم، وسوف تزدادُ حِدَّة الضغط على هذه الموارد، مع زيادة عدد السكان التي من المتوقَّع أنْ تتضاعفَ في غضون الخمسة والعشرين عامًا القادمة.
ولا يدرك كثيرٌ من الناس أنَّ نَهر النيل، الذي يُعَدُّ أطولَ نَهْرٍ في العالم على الإطلاق، لا يعد بالمقارنة الأكثر مياهًا؛ حيث تبلغ كمية المياه التي يَحملها نحو (6.5%) من مياه نهر الكونغو، ونحو (3%) فقط من نهر الأمازون، وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذهبت إليه بعضُ الدراسات الحديثة من أنَّ منسوبَ مياه نهر النيل يتناقَص بمرور الزَّمن، لاتَّضَحَ لنا أهمية التفاوض حول تحسين وتعظيم استخدام موارد هذا النهر العظيم.
في عام 2003 أعلنت كينيا أنَّها لا تعترفُ باتفاقية 1929، التي وقعت بين مصر وبريطانيا بخصوص نَهر النيل، كما أنَّ أوغندة هدَّدت بأن تحذوَ حَذْوَ كينيا إذا ما انهارت مفاوضاتُ مبادرةِ حوض النيل، التي بدأت منذ عام 1999، ولا يَخفى في المقابل أنَّ مُجرد دخول مصر في مبادرة حوض النيل وقَبولها التفاوُض على أساس مبدأ الاستحقاقات المائية، يُعَدُّ تحوُّلاً بحد ذاته في الموقف المصري، الذي أصبحَ أكثر قَبولاً لمبدأ المصالح المشتركة لدول النهر العَشْر.
وليس سِرًّا أن دول شرق إفريقيا قد بدأت بالفعل في إقامة مشروعات بهدف الاستفادة من ثروتها المائية، ومن أبرزِ الأمثلة على ذلك مَحطة بوجاجالي (bujagali) للطاقة الكهرومائية، والتي تقع على النِّيل شمال مدينة جينجا الأوغندية، إضافةً إلى ذلك فإنَّ أوغندة تطور خطة طويلة المدى مدتها (25) عامًا للري؛ بهدف مُواجهة الجفاف، الذي يُهدد الأمن الغذائي للدولة.
وعلى صعيدٍ آخر، فإنَّ كلاًّ من رواندا وبوروندي وتنْزانيا وأوغندة قد تضافرت جهودهم جميعًا؛ بهدف الاستخدام الأمثل لمياه نهر كاجيرا، الذي يُصَبُّ في بُحيرة فيكتوريا، على أنَّه لا ينبغي التهويل في إمكانية تأثير مثل هذه المشروعات التنمويَّة على حصة مصر من مياه النيل، فلو افترضنا أنَّ هذه الدولَ الاستوائية استطاعت أنْ توفرَ مياه الري اللازمة لنحو مليون ونصف المليون هكتار من الأراضي، فإنَّ ذلك يعني سحبَ نَحو عشرة مليارات متر مكعب من مياه النيل الأبيض، ولا أعتقدُ أنَّ هذه الكمية مُؤثرة بشكل ملموس على تدفُّق نهر النيل القادم إلينا في الشمال.
على أنَّ أحدَ التوجُّهات المحتملة والمثيرة للقلق والاهتمام في آنٍ واحد تتمثَّل في مُستقبل التطوُّرات السياسية، التي يَموج بها المشهد السوداني، فإذا أفضت عمليةُ الاستفتاء في الجنوب السوداني أوائل العام القادم إلى الانفصالِ، وتأسيس دولة مستقلَّة، فإنَّ ذلك يعني مزيدًا من التعقيد بإضافةِ طرف آخر جديد إلى المعادلة المائية في دول حوض النيل، وهنا يُمكن أن نشير إلى أمرين: أولهما: أنَّ نَحو (20 %) من مساحة نَهر النيل توجد في جنوب السودان؛ حيث تعترضُها الكثير من المستنقعات التي تؤثِّر على جريان النهر، أمَّا الأمر الثاني، وإن كان مرتبطًا بالأول، فهو يشير إلى أهمية قناة جونجلي، التي توقَّف العمل فيها منذ عام 1983 على إثر اندلاع المرحلة الثانية من الحرب الأهلية في جنوب السودان.
ولعل أبرزَ التطورات الإقليمية في منطقة حوض النيل تتمثَّل في الاتجاه نحو إقامة تكتُّل سياسي واقتصادي في شرق إفريقيا، ظهر ذلك واضحًا في عام 1999، حينما تَمَّ التوقيع على الاتفاقية المنشئة لتجمُّع شرق إفريقيا، والذي يضم كلاًّ من كينيا، وأوغندة، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، وجَميعها من دول أعالي النيل، ولَعَلَّ عملية إحياء هذا التجمُّع تنطوي على عددٍ من الدلالات الهامَّة، على مصر أن تستوعبها وتستفيد منها.
فالتجمُّع الشرق الإفريقي استطاع أن يُنشئ مَحكمة خاصَّة به وبرلمانًا، وهو يطمح إلى إنشاء سوقٍ مشتركة بنهاية هذا العام، فضلاً عن التخطيط للوصول إلى مرحلة الوحدة النقدية بحلول عام 2012، ولا يَخفى أنَّ مثل هذه التطورات تعني توجُّه هذه الدول، التي تشهد حالة مصاحبة من التحوُّل الديمقراطي إلى تعزيز جهودها الخاصَّة بتحقيق السلام والتنمية الإقليمية، يعني ذلك أنَّ على مصر أن تكونَ جُزءًا لا يتجزأ من هذه الحركة الإقليمية، ولا تقف أبدًا خارجَها.
وأحسب أنَّ السؤالَ الذي يطرح نفسَه هنا يتعلق بمتطلبات تحقيق التوافُق المصري الأثيوبي من جهة، والتوصل لنهاية مرضية لمبادرة مياه النيل من جهة أخرى، ولعل المدخلَ الصحيح لتسوية مسألة المياه ينبغي أن يتمَّ في سياقِ نظام الأمن الإقليمي لمنطقة القرن الإفريقي بمعناها الواسع، والتي تشمل مصر والبحر الأحمر، يعني ذلك أنَّ التعاونَ المصريَّ الأثيوبي هو شرط لازم للحديث عن بداية جديدة للتعاوُن الجماعي بين دُولِ حوض النيل.
س11: هل تظن أنَّه قد تتوتر العلاقة يومًا ما بين إسرائيل ومصر إن شعرت مصر حقيقةً أنَّ إسرائيل تتدخل يومًا فيومًا في شؤونها الخاصة؟
ج11- لا أعتقد ذلك، فإسرائيل تنظر إلى مصر باعتبارها حليفًا إستراتيجيًّا، لا يُمكن التخلي عنه بسهولة، كما أنَّ الأيديولوجية السائدة لدى النظام الحاكم في مصر تتمسك بخيار السلام، والحفاظ عليه مع الدولة العبرية، وعليه، فإنَّ ما يَحدث هو من قبيل إعمال الضغط، ومُحاولات تعظيم المنافع لكلا الطرفين.
س12 اتفاقية السلام الشامل التي وقعت بين حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان في يناير 2005، نَصَّت على إجراء استفتاء يُقرر فيه الجنوبيُّون إذا ما كانوا يرغبون في البقاء ضمن السودان الموحد أو إنشاء دولة جديدة، وبناء على الواقع الحالي هل يتوقع انفراط العقد الوَحْدِيِّ السوداني؟ وهل انفراط ذلك يعني مزيدًا من الصراعات بين الشمال والجنوب، وخصوصًا أنَّ هناك العديد من النقاط العالقة، التي يتوقع أن تثيرَ خلافًا بين الجانبين في حال اختار الجنوبيُّون الانفصال من بينها؟
ج12- يلاحظ المتابع للخطاب السائد في دول الجوار المتاخمة لجنوب السودان وجودَ حالةٍ تقترب من اليقين، مفادُها أن استفتاءَ تقرير المصير للجنوبيِّين مطلع العام المقبل سوف يُفضي لا محالةَ إلى إعلان دولتهم المستقلة؛ لتحملَ رقم (54) في قائمة الدول الإفريقية المستقلَّة.
وعلى سبيل المثال، فإنَّ الإعلام الكيني ما فتئ يتحدَّث عن الانعكاسات الإقليميَّة لاستقلال جنوب السودان، وإمكانات ذلك في تعزيز الدور الإقليمي المتصاعد لكينيا في شرق إفريقيا، ويبدو أنَّ دولاً أخرى مثل أوغندة وأثيوبيا تُحاول جاهدةً ألاَّ تخرج خاليةَ الوفاض من حملة التدافع الإقليمي على احتضان جنوب السودان، والاستفادة من ثرواته الطبيعية الهائلة.
ومن المعلوم أنَّ إقليمَ جنوب السودان يُشكِّل من الناحية الجغرافية منطقة حبيسة ليس لها منافذ بحرية، ومِنْ ثَمَّ فإنَّه يعتمد في الولوج إلى العالم الخارجي على ميناء بورت سودان، وعليه لا يصبح أمام الجنوبيِّين من خيار في حالة العداء أو القطيعة مع إخوانهم في الشمال سوى التوجُّه جنوبًا نحو ميناء مومباسا في كينيا، وهنا تكمُن أهمية الحديث عن شراكة إستراتيجية بين كينيا وجنوب السودان "المستقل".
وأحسب أن ثَمَّة عواملَ أخرى نفسية وواقعية، تَجعل من توجُّه جنوب السودان صوب جارته كينيا أمرًا لا مراءَ فيه، فقد حافظت كينيا طيلةَ الحرب الأهليَّة في جنوب السودان على علاقة قوية ومتوازنة إلى حدٍّ ما، مع أطراف الصِّراع السوداني، وهو الأمر الذي جعلها في نهاية المطاف وسيطًا مقبولاً في عملية التسوية السلمية لهذا الصراع، ولا أدل على ذلك من أنَّ اتفاقَ السلام الشامل الذي أنهى الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 2005 قد تَم التفاوض عليه وتوقيعه في الأراضي الكينية.
ويبدو أن هوى النخبة السياسية والعسكرية في جنوب السودان يرتَبِطُ بمنطقة شرق إفريقيا، وتحديدًا كينيا التي احتضنت معظمَ قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ولا يزال هؤلاء يحتفظون بمنازل لهم هناك، كما يُرسلون أبناءَهم للتعلُّم في المدارس والمعاهد الكينية، وتكتمل معالِمُ تلك الصورة إذا ما علمنا أنَّ نَحو مائة ألف أو يزيد من اللاَّجئين السودانيِّين الذين شردتهم الحربُ الأهلية في الجنوب قد وجدوا لدى جارتهم كينيا الملجأَ والملاذَ الآمن.
وعلى أيَّةِ حال، فإنَّ استقلال جنوب السودان محفوف بالمخاطر على ضوء الانقسامات والصراعات العرقيَّة، التي يَموج بها المشهد السياسي في الجنوب، وانتشار الميليشيات المسلحة وعصابات سرقة الماشية، إضافةً إلى نقاط التَّمَاس القلقة بين الشمال والجنوب السوداني، والتي لن تحسم أبدًا مثل منطقة (أبيي)، أضف إلى ذلك قضايا المواطنة والجنسية الخاصَّة بأوضاع الجنوبيِّين في الشمال، وكذلك تقسيم ديون وأصول الدولة السودانية، كلُّ ذلك يدفع إلى القول بإمكانية تفجُّر المنطقة ككل في حالة انفصال الجنوب، وإعلان دولته المستقلة، وما لم يكن هناك دعم أمريكي وغربي صريح لدولة الجنوب، فإنَّها لن تكون قابلة للاستمرار.
س13: ما تقييمك السياسي للنِّزاع الدائر بين حكومة شيخ شريف، وبين شباب المجاهدين والحزب الإسلامي؟ وهل ترى أنَّ هذا الصراعَ سيفيد الصُّوماليِّين في تكوين دولتهم؟
ج13- يبدو أن أوضاع الصومال ازدادت سوءًا، فقُوَّات شباب المجاهدين سرعان ما دخلت في تَحالف مع مُقاتلي الحزب الإسلامي، وتَحالف تحرير الصومال بزعامة الشيخ حسن ضاهر عويس.
واللاَّفت للنَّظر أنَّ هذا الوضع يعكس انقسامًا حادًّا في صفوف الإسلاميين الصوماليين، فقد تغيَّر خطابُ المعارضة الإسلامية المتشددة بعد انسحابِ القُوَّات الأثيوبية من الصُّومال؛ ليَضَعَ لنفسه هدفًا آخَرَ يتمثَّل في الإطاحة بالحكومة الانتقالية، باعتبارها مُوالِيَةً للغرب، إضافةً إلى طرد قوات حفظ السلام الإفريقية من الصومال.
فضلاً عن عدم وجود إرادة قوية لدى الاتحاد الإفريقي لزيادة عدد قُوَّاتِه العاملة في الصومال - قد فتح المجالَ أمام كُلِّ الاحتمالات بشأن (سيناريوهات) المستقبل الصومالي.
ويبدو أنَّ الموقفَ الرافض المتشدد الذي يتبناه مُؤسس المحاكم الإسلامية الشيخ حسن ضاهر عويس من مبدأ التفاوض مع الحكومة الانتقالية، بل الاستهزاء بالرئيس شيخ شريف، يجعل خيارَ المصالحة الوطنية بعيدَ المنال.
وفي اعتقادي أنَّ تلك المواقف الخاصة بشباب المجاهدين والحركات الإسلامية المتحالفة معهم، سوف تُكرِّر مشهد طالبان باكستان نفسه، ولكن هذه المرة في القرن الإفريقي.
س15: ما المقترحات الإستراتيجية لخروج القرن الإفريقي بقوة خاصَّة تحكمه ضد التيارات، التي تستهدفه للنيل من ثرواته وإمكانِيَّاته؟
ج15- يُمكن القول: إنَّ المخاطر الأساسية التي تُهدِّد أمنَ القرن الإفريقي تتمثل في استمرار تدهوُر الأوضاع في الصومال بما يعني المزيد من العُنف، وانهيار سُلطة الدولة المركزية، وإمكانية التخلي عن اتِّفاق السلام الشامل في السودان، والصِّراع في دارفور، واحتمال تجدد الصراع بين كلٍّ من أثيوبيا وإريتريا.
على أنَّ بعضَ القضايا الأخرى تُؤثِّر على استقرار النظام الإقليمي للمنطقة على المدى المنظور أيضًا، ومن ذلك توتر الأوضاع في إقليم الأوجادين، وتصاعُد حِدَّة المعارضة للحكومة الأثيوبية من قبل جبهة تحرير الأورومو، واستمرار العنف في إقليم أوغندة الشمالي من قبل جيش الرب، وأخيرًا إمكانية تَجدد الصراع في شرق السودان.
على أن استشرافَ معالم المستقبل، والحديث عن مستقبل الخريطة الجيوإستراتيجية للمنطقة يعتمد على جُملة من العوامل المؤثرة في بيئة الصِّراعات التي يَموج بها القرن الإفريقي نذكر منها إلى جانب المتغيرات الداخلية والإقليمية أمرين:
• (ديناميات) التدخُّل الدولي في المنطقة، ويبدو أنَّ تاريخ الحرب الباردة - حينما وقع القرن الإفريقي ضحيةَ المواجهة بين القوتين العُظمَيَيْن - يُعيدُ نفسَه، وإن كان هذه المرة تَحت شِعَار مُحاربة الإرهاب، وليس مُحاربة الشيوعية.
فقد أضحى الهمُّ الأكبر للولايات المتحدة هو المحافظة على