الريع النفطي وأثره في تشكيل المجتمع العراقي
http://althakafaaljadeda.com/331/3.htm
أحمد كاظم حبي
أحمد كاظم حبّي يعمل رئيس مهندسين أقدم في شركة المشاريع النفطية التابعة لوزارة النفط العراقية، نشر العديد من المقالات والأبحاث حول المشاكل التي تواجه قطاع النفط والاستراتيجيات المطلوبة لإنعاشه وتطويره. وفي هذا المقال يسعى الباحث حبّي للبرهنة على وجود تلازم بين تبدل أشكال الريع وتبدل الهيكل الاجتماعي السياسي للبلاد.
ترتبط هذه الورقة ارتباطاً وثيقاً بعلم اجتماعيات الاقتصاد السياسي للنفط في العراق وهي علاقة معقدة متعددة الجوانب أحيط بها العديد من الضلال والسلبيات منذ ان ارتبط الريع النفطي بالاقتصاد العراقي عند اكتشافه في العام 1927 ، بعد ان وقع العراق اتفاقياته الامتيازية مع شركات النفط الغربية الكبرى ، بدءاً من اتفاقية عام 1925 بين الحكومة العراقية وشركة النفط التركية (شركة نفط العراق ) وانتهاءً باتفاقية عام 1938 التي تأسست بموجبها شركة نفط البصرة .
وفي إطار الرؤية المتحفظة التي يرى فيها (أوسكار لانكه)، ان الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لم تخرج بعد الى حيز الوجود بوصفها فرعا منظما من فروع الاقتصاد السياسي، وتأكيده بان الأسس النظرية والسمات الجوهرية لنمط الإنتاج الآسيوي مازالت في طور التكوين، لذا فإن حذراً شديداً لابد من إدراكه عند ربط موضوع هذه الورقة ربطاً وثيقاً باجتماعيات الاقتصاد السياسي للنفط في العراق وعده نمطاً أسيويا للإنتاج ، ولاسيما عدم الخلط بين مفهوم النظم السياسية الحقيقية وفكرة الاستبداد الشرقي Oriental Despotism (كبنية فوقية) .
فعندما ينظر الى النظام السياسي Political System بأنه مكبل ومقيد تماماً بالهيكل الاجتماعي أو بالمجتمع المدني Civil Society حيث يـــرى (Adam Ferguson) على سبيل المثال بأن جميع أشكال الدولة لديها محدداتها ومشروطيتها المتمثلة بالهيكل الاجتماعي فانه لا يمكن أن تكون تلك المجتمعات من دون تعددية سياسية ومن ثـم يصبح وجود النظم الاستبدادية والشمولية حالة مستحيلة (1).
لذا ينبغي ان ندرك من زاوية التحليل العلمي مسألتين:
الأولى : ان الاستبداد الشرقي هو في النهاية مفهوم خالص وظيفته محاولة جعل جميع أشكال الحكم الدستوري
والحكم في نطاق القانون مغيباً بقدر من المعقولية والضرورة، لكونه لا يحظى بهيكل اجتماعي أو إسناد مؤسسي وهو مماثل للنظم الشمولية التي تستمد قناعتها ووظيفتها من خصائصها بكونها رافضة للحرية بشكل تام .
والأخرى : التحليل العلمي الذي اعتمدته النظرية الماركسية للنمط الآسيوي للإنتاج ، قد اوجد رابطة جدلية بين الدولة المالكة ومشاعية الإنتاج ، في حين ان التحليل السياسي الذي ساقه ( Wittfogel) في أطروحته المفسرة للاستبداد الشرقي قد ربط بين الهيمنة البيروقراطية والزراعة الهيدروليكية، مما جعل مسألة عملية الاستبداد الشرقي اقرب الى نظرية النظم السياسية وبعيدة عن التحليل العلمي للاقتصاد السياسي للنظم ما قبل الرأسمالية (2).
لذا فان الفرضية التي يقوم عليها البحث في هذه الورقة ، هي ان الريع النفطي في العراق قد شكل مصدراً أساسيا لإحياء نمط الإنتاج الأسيوي باعتبار العراق كان مهداً تاريخياً لقيام مثل هذا النمط الهيدروليكي في مرحلة الرواج النفطي، وان فقدانه لذلك الريع قد ولد تناقضات اجتماعية حادة ( بعد ان تعرض الريع النفطي الى الانقطاع أو وقع تحت سيطرة الإدارة الدولية في النصف الثاني من حقبة الحصار الاقتصادي طوال تسعينيات القرن الماضي وحتى العام 2003 ) . وان تلك التناقضات الريعية، أوجدت هيكلاً اجتماعياً بات بنفسه قيداً على تطور الاستبداد الشرقي بسبب تبدل أنماط الريع وهويته بين الريف والمدن.
-2-
لقــد شملت الامتيازات النفطية فــي العراق، المتشابهة بعناصرها وشروطها، مساحات شاسعة تكاد تغطي معظم مناطق البلاد وبآجال طويلة بلغت سبعين عاماً، لقاء تعهد الشركات النفطية بدفع مبلغ مقطوع الى الدولة عن كل برميل يجري استخراجه وتصديره.
حتى تأميم النفط في العراق بين عامي 1972و 1973 ومن قبله صدور القانون رقم 80 لسنة 1961 الذي استرجع قرابة 99.5% من أراضي الامتيازات النفطية، بات الريع النفطي عائداً مباشراً الى الدولة يمثل المفترق الأساس في الفلسفة الاقتصادية السياسية ، وهو أما السير في طريق التنمية والحداثة والتحول من المجتمعات ما قبل الرأسمالية الى حالة اجتماعية اقتصادية متقدمة تتمثل بآفاق دولة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ونشوء الدولة الديمقراطية الحديثة أو إلغاء الهياكل المؤسسية بما فيها السوق والتمحور حول نمط إنتاج آسيوي (بقالب محـــدث) يعتمد الريع النفطي أداة صوب أحياء الاستبداد الشرقي ، يساعده في ذلك ان أراضي العراق الزراعية حتى الأرض الموات تعود رقبتها الى الدولة ، باستثناء بعض الملكيات الزراعية غير المؤثرة ، وهو موروث زراعي قديم غلبت فيـــــه الحيازة Possession للأراضي الزراعية على الملكية الزراعيــة Ownership في تاريخ العراق .
على الرغم من انعزال قطاع النفط والنشاط الاستخراجي، بسبب الطبيعة التصديرية له، عن النشاط الاقتصادي المحلي إلا موارده ساعدت على تأسيس ظاهرة اجتماعية ولكن بهياكل راكدة –Stasis مثلت تكريساً لنمط الإنتاج الأسيوي ونشوء ظواهر الاستبداد الشرقي وعلى النحو الذي سنراه .
-3-
عرّف (كارل ماركس) الريع Rent على انه نمط لانتزاع فائض الإنتاج في ظروف إنتاج لمرحلة ما قبل الرأسمالية الزراعية (باستثناء الإنتاج العبودي).
وجد ماركس بان المفتاح الحقيقي للشرق هو عدم الملكية الخاصة للأرض. وبهذا فان عدم وجود ملكية الأرض هو حقيقة مفتاح كل أوضاع الشرق. والسؤال هنا ، لماذا لم يصل الشرق الى مرحلة ملكية الأرض، حتى في شكلها الإقطاعي؟ ترى الماركسية ان ذلك مرده بصورة رئيسة الى المناخ مأخوذاً في صلته مع طبيعة التربة وبخاصة مع المساحات الصحراوية الكبرى التي تمتد من الصحراء الأفريقية عبر جزيرة العرب وفارس والهند وهضاب آسيا العليا. لذا فان الري الصناعي ( الهيدروليكي) بات الشرط الأول للزراعة، وهذا من عمل الحكومة المركزية عموماً.
كما لم يترك الفيلسوف والمفكر السياسي الفرنسي ( مونتيسكيو – Montesquieu ) عند تأمله لحضارة الشرق والبحث في مسألة الاستبداد الشرقي كما جاء في كتابه: روح القوانين (التي أكثر من تفصيلها الفيلسوف الفرنسي ألتوسير Althusser في كتابه: علم السياسة والتأريخ الصادر في العام 1972) من دون أن يدرك، ان الحضارة الشرقية وجوهر وجودها قد قام على وجود الاقتصاد الهيدروليكي، أي الاعتماد المباشر على الري بالأنهار وليس الري بمياه الأمطار. وان تكوين مجتمع يعتمد على اقتصاد هيدروليكي، لابد من ان يرتب مظاهر سياسية واقتصادية وفكرية واجتماعية ذات نمط إنتاج ( أي علاقات إنتاج وقوى إنتاج) مميزة ، أطلق عليها ( كارل ماركس) في كتابه رأس المال بالنمط الأسيوي للإنتاج (3).
لقد قام Wittfogel صاحب كتاب الاستبداد الشرقي Oriental Despotism (طبعة عام 1963 – جامعة Yale) بتقدير الأراضي الجافة وشبه الجافة ووجد أنها تغطي ثلاثة أخماس سطح اليابسة. كما وجد انه في حالات الجفاف التام وتوافر نظام للإنتاج الزراعي يعاني من عجز في توفير فوائض زراعية كافية، فأنه لابد من ان يعتمد هذا النظام الزراعي على نشاطات تنظيمية وتنسيقية التي لا يمكن ان توفرها إلا الدولة المالكة للأرض المعتمدة على نظام حكم بيروقراطي معقد. إذ ستقود الدولة مؤسسة هيدروليكية تنسجم مع خلق حيازات زراعية وإدارتها، وبذلك تكون الحياة الزراعية مرتبطة بالمشروع الحكومي الهيدروليكي . ففي نظام الأراضي الزراعية الشاسعة ذات الجفاف الدائم، لا يمكن ان تصبح الزراعة حالة ممكنة ما لم يتم فيها تنسيق الجهد البشري الذي يستطيع تحويل المياه الوفيرة والفائضة من مكاناتها الأصلية الى الأراضي الزراعية ذات الخصوبة العالية أو الخصبة المولدة للتجمعات الاجتماعية الهيدروليكية .
وتشترط النُظم الزراعية هنا مسبقاً بيروقراطية إدارية، إذ يتطلب وجود هكذا مشروعات هيدروليكية واسعة النطاق، سيطرة مركزية تعمل على تنظيم الري وتعبئة العمل وتوجيهه، وان التخطيط والتنسيق المسبق هما ضروريان قبل ان يبدأ الإنتاج الزراعي، ولا يمكن أداء مثل هذه النشاطات إلا من فريق من الإدارة المركزية للدولة. وان قوة السلطة الهيدروليكية العليا هي إدارية بيروقراطية في جوهرها حتى قبل ان تكون قوة عسكرية أو حتى قوة مالكة . ذلك لأنها تقوم على السيطرة Control وهو الأمر الذي لا غنى عنه، فضلاً عن دورها في تنسيق أنظمة العمل وعلاقات الإنتاج وعيش الجماهير المنتجة. كما ان وجود سيطرة مركزية للدولة على الأراضي الزراعية لا يتأتى إلا بتملك الدولة لتلك الأراضي، إذ يقتضي تحقيق ذلك وجود سيطرة مركزية على السكان، كما اشرنا الى ذلك آنفاً، لتعبئتهم للقيام بالأعمال الزراعية وأعمال السخرة Corvee بغية الاستحواذ على الفائض الاقتصادي بصورة ريع Rent عبر عملية زراعية شبه مشاعية أو مشتركة ، تتسم بقدر عال من الركود ولكن تجدد دورة إنتاجها (4).
لما تقدم ، فقد أصبح المشترك المحدد لنمط الإنتاج الآسيوي والعناصر الأساسية التي تتكرر في جميع النقاشات المتعلقة به هي كالآتي:
أولا : هنالك دولة تنتزع المنتج الفائض، ولا توجد طبقة مستغلة من خارج الحكومة، وان علاقة الفلاح (المنتج المباشر) بالمالك (وهي الدولة) هي علاقة مقيدة غير حرة تماماً. وان ما يزيد على إدامة حياة الفلاح وأسرته من العمل الضروري، فانه يكون من حصة الدولة ويمثل ( فائضاً اقتصادياً ) يأخذ صورة ريع / ضريبة.
ثانيا: غياب الملكية الفردية أو الخاصة للأرض وان الأرض هي ملك الدولة .
ثالثا: ان الإنتاج الزراعي غير البضاعي Non-Commodity هو الغالب على أشكال الإنتاج الأخرى ( أي اقتصاد في مستوى الكفاف فوق أو اقل منه بقليل).(5)
-4-على الرغم من ان Wittfogel ينسب قضية الاستبداد الشرقي Despotism الى مسألة السيطرة على الموارد المائية منطلقاً من أطروحة (كارل ماركس) بهذا الشأن، إلا ان أطروحته هي أطروحة إيديولوجية سياسية ربطت بين الهيمنة البيروقراطية للدولة والزراعة الهيدروليكية وقد كانت منطلقاً لمهاجمة الحقبة الستالينية في الاتحاد السوفيتي السابق وعدّ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج موروثاً روسيا من المرحلة القيصرية التي كانت تعيش على نمط إنتاج ما قبل الرأسمالية يتسم بالاستبداد الشرقي في حين ربطت الرؤية التحليلية للنظرية الماركسية وجود الدولة المالكة بالحالة المشاعية للزراعة ذلك بالتركيز على نمط الإنتاج ( علاقات وقوى الإنتاج) بغية تقييم مسألة الاستبداد الشرقي على وفق
النظرية العلمية. فالفلاح كان بحاجة الى دولة ذات هيمنة مركزية كي تقوم بالخدمات التي يعجز الفرد عن تحقيقها ولا يمكن الاستغناء عنها لأنها جزء أساسي في العملية الإنتاجية التي يمارسها ذات الطابع شبه الاجتماعي مثل السيطرة على الفيضانات وإقامة السدود وخزن المياه وتنظيم الري .
وترى الماركسية، ان الدولة في النمط الآسيوي للإنتاج هي أيضا بحاجة الى عمل الفلاحين ليتركوا لها فائض عملهم كريع تحصل عليه. ومن هنا، تتضح الازدواجية بين فكرة الاستغلال وبين الاتجاه الجماعي في النشاط الإنتاجي الذي ربط الجماعة المنتجة ربطاً اجتماعياً جماعياًَ.
إذ تتبين الازدواجية بين النشاط الجماعي للريف وتدخل الدولة في التنظيم الاقتصادي، حيث ان الإنتاج الزراعي هو ليس للربح أو للسوق وإنما لتسيير السلطة المركزية. وبهذا بات الريف في ركود سياسي أدى الى تفككه كقوة معارضة وتغيير، مما يعني موت المعارضة السياسية وتفككها.
ويرى Wittfogel ان الزراعة الهيدروليكية تخلق نمطاً متميزاً من نظام القوة الاضطهادية، إنها الدولة الشمولية Totalitarianism التي هي أقوى من أية تراكيب أخرى من القوة داخل المجتمع .
فالدولة ، هي فوق المجتمع وإنها تسحقه ليكون ضمن رغباتها، وتحطم كل قوى التغيير المنطوية تحت رايات أخرى، على الرغم من ان النظرية الماركسية ، ترى في الحكومة الشرقية على أنها تشمل دائماً ثلاثة فروع فقط هي:
- المالية ( النهب في الداخل).
- الحرب ( النهب في الداخل والخارج ).
- الأشغال العامة ( تأمين الإنتاج) .
ان مثل هذا النظام الاجتماعي يعد شمولياً Totalitarian وإداريا Managerial حسبما يراه Wittfogel وانه شديد المركزية ويمثل شكلاً اعتباطياً للحكومة وهنالك غياب للجماعات الاجتماعية الفاعلة والجمعيات الثانوية المستقلة . ولكن Wittfogel يتبنى مذهباً ايديولوجياً في إطار النظم السياسية وليس تحليلاً لأنماط الإنتاج ويقتصر على إشكالية البنية الفوقية لنمط الإنتاج الآسيوي. إذ ترى النظريات الليبرالية السياسية الاجتماعية في تعريفها للمذهب الشمولي بأنه ناجم عن غياب التعددية السياسية والاجتماعية فحسب.
-5
عاش العراق في حقبة السبعينيات من القرن الماضي ، على ركيزة الاضطرابات في الأسواق النفطية ، حيث تضاعفت أسعار النفط الى أكثر من عشرة أضعاف خلال الفترة 1973 – 1979 الأمر الذي أدى الى ان يحقق العراق فوائض نفطية بصورة احتياطيات من النقد الأجنبي قاربت 40 مليار دولار، في حين بلغ متوسط دخل الفرد السنوي قرابة 3400 دولار أمريكي، وبقي القطاع الزراعي يشكل حوالي 25- 30% من مكونات الناتج المحلي الإجمالي في حين ازدادت حصة النفط في ذلك المكون لتبلغ ما بين 55 – 60% .
على الرغم من انعزال قطاع النفط والنشاط الاستخراجي، بسبب الطبيعة التصديرية له، عن النشاط الاقتصادي المحلي، إلا أن موارده ساعدت على تأسيس ظاهرة اجتماعية ولكن بهياكل راكدة مثلت تكريساً لنمط الإنتاج الآسيوي ونشوء ظواهر الاستبداد الشرقي، كما أسلفنا في مقدمة هذا البحث. فقد شكلت سيطرة الدولة على الريع النفطي والحفاظ على نمط إنتاجي من انعدام الملكية الزراعية للأرض، المفترق الأساس في فلسفة الاقتصاد السياسي للدولة وعلى وفق خيارين: أما السير في عصر التنمية والحداثة أو اللجوء الى الفرصة التأريخية للعودة الى أصول النمط الآسيوي للإنتاج ولكن باعتماد بدائل ريعية قوية وبديلة للريع الزراعي، قادرة في هذه المرة على إخماد الهياكل الاجتماعية للبلاد وتقوية استبداد الدولة الريعية وبشكل متفوق Superior من خلال اشتعال الحرب على كيانين ريعيين نفطيين هما الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الكويت. وبهذا كانت تلك الحروب بالقدر الذي يرمى الى الاستحواذ على فائض القيمة الريعية للآخرين إلا أنها شكلت استنفاداً للقيمة الداخلية وفائضها بعد ضياع عقدين ونيف من عقود التنمية في حروب خاســرة، أملتها الطبيعة المركزية للنمط الشرقي للاستبداد وحولت البلاد الى ركود اقتصادي واجتماعي لم يستطع التخلص منه حتى الوقت الحاضر.
-6-
ان آليات العودة الى النمط الآسيوي للإنتاج خلال الحقبة النفطية، القائم على استنفاد الريع النفطي ( الملك المطلق للدولة ) قد تطلب مسارين مختلفين في السيطرة على الهيكل الاجتماعي للبلاد اختلفت فيه الأرياف عن المدن بشكل كبير وتبدلت الأدوار بشكل اكبر في مرحلة ركود السوق النفطية وانقطاع الريع النفطي ووضعه تحت الوصاية الدولية أبان التسعينيات من الحصار الاقتصادي .
لقد ساعدت حصة الدولة في الناتج المحلي الإجمالي، التي زادت على 85%، على القيام بعدد من الوظائف سواء الأساسية منها كالدفاع والنظام العام أم الوظائف الوسيطة كالتعليم الأساس وغيرها من خلال تنفيذ الاستثمارات العامة وتقوية البنى الأساسية كالكهرباء والطاقة وخزن المياه وأنظمة الري والبزل وغيرها ، وهي بذلك ولدت جهازاً واسعاً من القطاع الحكومي، أصبح العاملون فيه جزءاً لا يتجزأ من المنظومة المركزية للدولة ولاسيما في قطاع المدن وعدهم طبقة اجتماعية هي " طبقة الموظفين " Officialdom .
لقد مارس النظام الاقتصادي السياسي لهذا النمط الإنتاجي، الذي بات الريع النفطي مركز ثروة الدولة، اتجاهين في تحقيق القوة المركزية له وتعظيم الاستبداد الشرقي وعلى النحو الآتي :
الاتجاه الأول : قيام الدولة بتقديم السلع العامة Public Goods من خلال وظائفها الأساسية والوسيطة للسكان عموماً ولسكان المدن بصورة خاصة وهم المجتمعات الأساسية Core Societies حيث تمثل السلعة العامة هنا مجموعة السلع والخدمات التي تزود مجاناً للأفراد، فان استهلاك الفرد منها لا يمنع من استهلاك الفرد الآخر لها وعلى وفق خاصية Non – excludetity and Non – rivalry .
ويلحظ ان قيام الدولة المركزية بتقديم السلع العامة بمواصفاتها المختلفة، يأتي مقابل أن تفقد المدن على وجه الخصوص صوتها الديمقراطي نتيجة أن موظفيها وقاطنيها هم جزء لا يتجزأ من المنظومة المركزية للاستبداد الشرقي وأن وجودها يعد هيكلاً اجتماعياً ساكناً ضمن المؤسسة المركزية البيروقراطية، وبهذا تتم مقايضة الصوت الانتخابي بالسلعة العامة Vote – Public Good Trade off .
وعليه يحصل سكان المدن الذين يعمل اغلبهم في وظائف الدولة المركزية على أجور ومرتبات، مصدرها الريع النفطي، إذ كانت حصة النفط في تمويل النفقات العامة لا تقل عن 85% من إجمالي إيرادات الموازنة السنوية.
وبهذا الشكل عُد الصوت الانتخابي بمثابة ريع Rent يدفعه سكان المدن لقاء حصولهم على السلع العامة في إطار المنظومة المركزية، ليمارسوا دور الركوب الحر أو الركوب المجاني Free Riding وهي المشكلة الناجمة عن السلعة العامة، إذ يُعد أولئك غير المساهمين في تغطية كلفة السلعة العامة ومن خلال عدم دفعهم الضرائب من فائض القيمة أو الريع الفعلي هم مجتمع واسع لا يمكن استبعاده excluded them من الانتفاع من تلك السلع العامة.
الاتجاه الثاني: ويتمثل بعسكرة militarism الريف وفرض الطاعة والانضباط العالي عليه، إذ تمت مقايضة الضريبة الزراعية التي تمثل الريع المقتطع – من فائض إعادة الإنتاج الزراعي وإحلالها بريع آخر وهو العسكرة أو التجنيد لسكان الريف، طالما ان الريع النفطي له القدرة على تعويض أشكال الريع الأخرى الناجمة عن إعادة الإنتاج سواء الزراعي أم الحرفي أم الخدمي.
على الرغم من ان القرية تُعدُّ كيانا معتمدا على الذات في الإنتاج وإعادة الإنتاج الى حد كبير ، ويمكن لها ان تعيش حتى في غياب الدولة، إلا ان هذا النمط من المجتمعات يُعد نمطا غير مستقر سياسياً على الرغم من كونه مستقر هيكلياً. وعادة ما تكون الدولة المالكة للأرض مصدراً معوقاًَ لتطوره في المجالات التجارية والصناعية ولاسيما ذات العلاقة بتطور حقوق الملكية ونموها، وتقيده بما لا يجعله في وضع المنافس لإيرادات الدولة وقوة الدولة، وذلك خشية من ان تؤدي الملكية الخاصة الى انحدار الدولة نحو مبدأ الدولة الصغيرة small state وهو أمر يتنافى والظاهرة المركزية القوية للاستبداد الشرقي التي تقتضي نمطاً إنتاجيا راكداً فاقداً للملكية، بما يحرم النشاط الزراعي من أية أسس لتطور علاقات الإنتاج والدخول في مراحل التطور المادي للتاريخ . إذ يأتي جانب تعظيم عسكرة الريف، كأساس تعويضي بديل عن تحصيل أشكال الريع الزراعي الأخرى. لذا فان هذا الاتجاه في تحويل نمط تحصيل الريع من الجانب الفعلي الى جانب العسكرة يعد آصرة قوية للاستمرار في إخماد قوى الريف السياسية عندما يتحول كيانه الاجتماعي الى قوة فاعلة في إطار علاقات الإنتاج الكامنة والمحتملة التغيير.
يأتي منظور العسكرة والعسكرة المستمرة للريف مماثلاً الى حد بعيد للمنظور الذي اعتمده (آدم سمث) في كتابه: " ثروة الأمم "، عندما تحدث عن نفقات الدفاع، على وفق منظور اجتماعي تاريخي في تشكيل قوة الحرب وتحويل سكان الأرياف على سبيل المثال الى قوة عسكرية، من معتقد مفاده " بان الواجب الأول للسيادة هو حماية المجتمع من العنف والغزو الخارجي من مجتمعات مستقلة أخرى . وان هذا الشيء لا يمكن انجازه إلا من خلال القوة العسكرية .... وان كلفة تهيئة وتحضير هذه القوة في وقت السلم واستخدامها في وقت الحـرب تختلف من حالة مجتمع الى حالة مجتمع آخر . ففي الأمم التي يغلب عليها طابع الصيــد، وهي مجتمعات شديدة التخلف، فان الرجل الواحد فيها، يعد نفسه مقاتلاً وصياداً ماهراً. وعندما يذهب الى الحرب فانه يذهب بدافعين أما ان يدافع عن مجتمعه وأما ان يثأر لجروحه السابقة التي تسببت فيها المجتمعات الأخرى. لذا فان المجند في هكذا مجتمعات يتصرف وكأنما يعيش في بيته " (6).
نجد في هذا النص أن ما يقدمه الجُند في الريف من ريع لقاء الخدمة العسكرية يعد ريعاً مجانياً وأشبه بالضريبة أو الريع السالب negative tax، على وفق منظور آدم سمث الذي ينظر الى هذه المجتمعات بتلك النظرة المتخلفة. فالرجل المحارب في المنظومة المركزية ، يٌعد مزارعاً ولكن يعمل بالسخرة لمصلحة انجاز السلع العامة Public Goods وهي خدمة الدفاع والحـــرب . على الرغم من ذلك فان المزارع المجند يعتقد بنفسه أنه راكب مجاني من الطراز الأولfree rider first class طالما انه يحصل على عيش بديل للصيد أو بديل لسد الرمق بدلا من إعادة الإنتاج الزراعي ويثأر في الوقت نفسه من أعداء منظومة الاستبداد الشرقية المركزية .
لذا فقد قايضت الأرياف الريع / الضريبة الزراعية بالخدمة العسكرية التي تلبي طموحاتها ومعتقداتها وطقوسها، وهي تشعر بالركوب المجاني بصورة مضاعفة، طالما ان أداء الخدمة العسكرية كسلعة عامة تحقق لها رغبات ( العيش والحرب والثأر) في آن واحد .
-7-
تعرض نمط الإنتاج الآسيوي ذو الريع النفطي، الى مواجهة خطيرة كانت الأولى في عقد الثمانينيات عندما استنفدت الحرب مع إيران عوائد النفط دونما توافر قدرة كافية على تمويل الحرب في وقت عاشت أسواق النفط فترة ركود طويل عبر تلك الحقبة وانغماس البلاد بالاقتراض والاستدانة من دول الجوار الريعية النفطية لتعويض تكاليف الحرب التي مثلت عبئاً لا يستهان به من مطالبات المديونية الخارجية للعراق، التي قدرت بحوالي 45% منها، و كانت مفتاحاً لحرب ريعية ثانية مع دول الخليج النفطية تمثلت باحتلال الكويت في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أدت الى تخريب مذهل لمنظومة الإنتاج النفطي في كلا البلدين وعلى نحو لم يسبق لــه مثيل في تاريخ الحروب من هذا النمط. إنها حقاً حروب النفط التي كلّفت خسائرها العراق على مدى أكثر من عقدين قرابة تريليون (1000 مليار) دولار، سواء بالتدمير المباشر لهياكل الاقتصاد وبناه التحتية أم ضياع فرص النمو والتنمية بما في ذلك تعويق تطور القطاع النفطي نفسه. وبهذا تعرض العراق الى قرارات دولية قيّدت مصادر ريعه النفطية بشكل رئيسي، إذ حرمت الموازنة العامة من 85% من مصادر تمويلها التقليدية التي كانت تدرها عوائد النفط، في وقت بات فيه مــن الصعب فرض أي نوع من الضرائب الريعية التقليدية على القطاعات المنتجة الأخرى بسبب تدهور النشاط الاقتصادي الكلي باستثناء النشاط الزراعي الذي كان يعامل مجتمعه ككيان هامشي خارج المجتمع الرئيس ويدفع ريعا ارتبط ارتباطاً قوياً بعسكرته على نحو مستمر .
لقد أسس الحصار الاقتصادي نظاماً ريعياً مركزياً لم يعد فيه الريع النفطي في هذه المرة أساسا لأحياء الأنماط القديمة للاستبداد الشرقي أو النمط الآسيوي. فقد حلّت الضريبة التضخمية أو الريع التضخمي - / Rent Inflationary Tax محل الريع النفطي المفقود في تمويل نفقات الموازنة العامة وبنسبة زادت على 85% من الإيرادات التي كانت تغطيها التدفقات الريعية الحقيقية الناجمة عن صادرات النفط سابقاً.
قام هذا النمط من التمويل على ظاهرة الإصدار النقدي، عن طريق تعظيم التدفقات النقدية الاسمية للموازنة العامة مقابل نمو هابط في تطور قطاعات الإنتاج السلعية والخدمية، وعلى نحو لا يتناسب مع التدفق المستمر والعالي في الإنفاق الممول بالتضخم. وهو ما يطلق عليه بالسنيوريج seigniorage أي عائد الإصدار النقدي والناجم عن استغلال الحكومة لقوة البنك المركزي الاحتكارية في خلق النقود بغية تعظيم موارده الحقيقية، وعدّها وسيلة للحصول عليها. لقد تسبب ذلك في ارتفاع معدلات التضخم السنوية الى ما يزيد على 50% ودخول البلاد في فضاء التضخم الجامح وضياع فرص الاستقرار والنمو. وبهذا فقد تضاعف الدين العام الداخلي الممول بالإصدار النقدي من 25 مليار دينار عراقي في العام 1990 ليبلغ حوالي 6 تريليون دينار عراقي في نهاية العام 2003 وهو رقم مماثل لتطور مقدار الكتلة النقدية وبالقيمة نفسها .
وبهذا الإطار يعلق الاقتصادي المعروف Baily (1956) في مقالته المنشورة في مجلة الاقتصاد السياسي التي تصدر عن جامعة شيكاغو، بان خلق النقود يعد شكلاً من أشكال الضريبة Taxation التي تفرض على حامليها، وان إصداراً نقديا كثيفاً لتمويل الموازنة العامة سوف يعظم الإنفاق الكلي ويساهم في رفع الأسعار في ظل جهاز إنتاجي راكد يعمل دون طاقاته المتاحة ويتسم بدرجة عالية من التصلب.
وبهذا يصبح الانخفاض في القوة الشرائية للعملة بمثابة ضريبة أو ريع Tax / Rent يفرض على الأرصدة النقدية لحامليها. كما وجد Baily ان الكلفة الاجتماعية لهذه الضريبة التضخمية هي اكبر من أشكال الضرائب الأخرى كافة في تأثيرها على مستوى رفاهية الأفراد (7).
-8-
ان تبدلاً اجتماعياً كبيراً قد غير من شكل علاقة الدولة المركزية بالمجتمعات الأساسية (المدن) والمجتمعات الهامشية (الأرياف)، جراء تبدل النمط السريع في موارد الدولة المركزية وتبدل مركز ثروتها من موارد حقيقية فعالة الى اسمية هامشية، أي التحول من تحصيل الريع النفطي الى تحصيل الضريبة التضخمية أو الريع التضخمي. وبهذا فقد عدّت مصادر الريع في هذه المرحلة مقتصرة على شكلين هما:
أ. ضريبة التضخم / الريع التضخمي Inflationary Tax / Rent. وهو الشكل الذي بات يستنـزف الموارد والثروات الفردية وبشكل خاص من السكان محدودي الدخل من العاملين في المنظومة المركزية للدولة في مراكز المدن. إذ هبطت مدخولاتهم السنوية على نحو لا يوازي حتى 10% عما كان يحصل عليه هؤلاء العاملون في الحقب السابقة، كما حصل من تدهور خطير في مستويات المعيشة والدخل في حقبة التسعينيات الماضية. وبهذا فقد تحولت طبقة الموظفين Officialdom من أُجراء الى أعمال سخرة Corvee ، بسبب انسحاق أجورهم ومدخولاتهم الشهرية وتعويضها بشيء من الحصة التموينية لسد رمق العيش. بعد ان تدنت القوى الشرائية لمدخولاتهم النقدية (
. وبهذا باتت ضريبة التضخم المصدر الأساسي لاستلاب الثروات وتراكم الفائض بالاقتصاد على المستوى الفردي الذي تحقق إبان الحقبة النفطية. وكأنما الأمر هو استرداد لريع مركزي سابق كان مؤجلاً في مرحلة الرواج النفطي وأصبح مستحق التسديد في مرحلة غياب الريع النفطي على وفق آلية التمويل بالتضخم.
ب.عند الرجوع الى تركيب موارد الموازنة العامة للدولة التي باتت تتغذى بنسبة تزيد على 85% من الريع أو الضريبة التضخمية، نجد مقابل ذلك ان 50% من تلك المصروفات قد ذهبت لدعم أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، مما يعني ان الريف المنتج للمواد الغذائية قد بات متلقياً صافياً لهذه الضريبة الريعية السالبة Negative Tax / Rent التي أخذت تتعاظم مع تعاظم مستويات الأسعار والتمويل بالتضخم . وان نسبة عالية لا تقل عن نصف مبالغ الدعم كانت تذهب بصورة دعم زراعي Subsidies بغية إسناد نظام الحصص التموينية.
لقد رتب هذا التحول في الريع الزراعي من مرحلة الإعفاء الفعلي في زمن الرواج النفطي الى مرحلة إعادة تسديده الى الريف ثانية بصورة ضريبة أو ريع فعلي سالب، بان يجعل الريف على حافات مستوى الانقلاب في هيكله الاجتماعي والسياسي.
وللمرة الأولى نجد ان توزيع الدخل الأسري قد اختل إبان الحصار الاقتصادي في عقد التسعينيات ليكون لمصلحة الأسر الريفية وبواقع 0.36 للريف وهو تحول يعد أكثر عدالة مقارنة بالمدن التي انتقلت من 0.32 في منتصف الثمانينيات لتصبح 0.38 ( على وفق معامل جيني Gini Coefficient في حساب اللامساواة في توزيع الدخل) في فترة التسعينيات مما يعني ان تدهوراً بات واضحاً بالحياة المدنية، في حين ان النمط الاستبدادي للدولة المركزية الشرقية قد حول الريف الى مجتمع أساسي core society. وبالمقابل فقد تحولت المدن الى مجتمع هامشي marginal society بعد ان هجرها مثقفوها وقواها المهنية وغيرها في ظاهرة لم يسبق لها مثيل في تاريخ المدنية العراقية .
وخلاصة القول، ان هناك تلازم بين تبدل أشكال الريع وتبدل الهيكل الاجتماعي السياسي للبلاد يمكن ملاحظته بما يأتي:
1. هنالك ريع فعلي موجب تولده الأرياف ترتفع قيمته مع ارتفاع مستويات التضخم وتطور ضريبة التضخم نفسها، استمر مستثنى من التحصيل طالما ان الضريبة التضخمية قد حلت محل تحصيل الريع الزراعي واحتفاظ الريف بمقومات عسكرته. لقد أضفى هذا الأمر الى ان تحصل المؤسسة الاجتماعية الريفية على قدر عال من الاستقلال والديناميكية في صنع القرار المركزي، لتوافر عاملين أساسين هما تطور ملكية الأراضي الزراعية وحيازتها واتساعها في فترة الحصار الاقتصادي، بسبب الحاجة الى الإنتاج الزراعي والآخر هو التمتع بإرث قديم كان يعد نمطاً من أنماط الريع التعويضي وهو العسكرة Militarism .
2. بدلاً من ان تكون المدينة بمثابة المكون الرئيس في المنظومة المركزية للدولة، أصبح الريف هو الجزء المركزي في تلك المنظومة مدعوماً بإيديولوجية غلب عليها الطابع الديني دون الطابع العلماني. لقد عُد الدين تأطيراً جاذباً وقوياً في تماسك المنظومة الريفية المركزية الجديدة، أما المدن التي فقدت تماسكها ضمن المنظومة المركزية التي استحدثها الاستبداد الشرقي في الريف فقد أصبح عملها هامشياً Marginal . وبهذا كانت هناك دعوة رسمية في التسعينيات تطلب من موظفي الدولة للعمل في السوق غير المنظمة والسماح لهم للبحث عن أشغال وان كانت لا تناسب مع مهاراتهم واختصاصاتهم والتحول الى أُجراء. وبذلك فقد أصبح عمل الطبقة الوظيفية في جهاز الدولة المركزي بمثابة سلعة عامة Publi Good لخدمة الإنتاج الريفي وتقوية عسكرته، وان الدولة المركزية قد غدت على مستوى المدينة في هذه المرة بمثابة الراكب المجانيFree rider
وهو نمط اجتماعي وسياسي غريب ومصاب بحجم هائل من الاختلال في هيكليته وبنيته الاقتصادية والسياسية وبات يحمل بذور فنائه عبر تطور النمط الجديد للملكية والحيازة الزراعية المتوسعة.
- 9-
نستنتج ان هذه الورقة قد برهنت ان الريع النفطي كان عاملاً خارجياً Exogenous (سالباً) في تفكيك منظومة الاستبداد المركزية الشرقية وتلاشيها السريع، وإن النفط لم يكن عامل قوة في النمط الآسيوي للإنتاج بل عُدَّ مرضاً شرقياًorienta disease، يختلف في مفهومه عن المرض الهولندي dutch disease من حيث تأثير عوائد النفط في القدرة التنافسية للاقتصاد، ولكن المرض الشرقي بتناقضاته الجوهرية المنوه عنها سابقاً كان أساسا لانقلاب اقتصادي واجتماعي وسياسي وتغيير قوى التاريخ المادية والتحول بها الى أساليب إنتاج جديدة ربما ستكون اقرب الى الأنماط الرأسمالية .
وعليه فان النفط والديمقراطية لا يمكن ان يلتقيا في الأنماط الاقتصادية لما قبل الرأسمالية وان مظاهر العنف المسلح بأشكاله بما في ذلك الأشكال المختلفة بوحشيتها صوب المدينة العراقية يفسر ظاهرة واحدة لا غيرها. ان أرياف العراق التي تحتضن بيئاتها ما بين 8- 10 ملايين من سكان البلاد ( التي تعاني من تفشي البطالة بما يزيد على 50% من قوة العمل الريفية وهو أمر لم يسبق له مثيل منذ تاريخ عسكرته ، فضلا عن هبوط مساهمة الأرياف في الناتج المحلي الإجمالي الى 6.5% وان إنتاجها الزراعي لا يسد سوى 10% من احتياجات البلاد الغذائية) هي في مخاض لاستعادة سلطتها المركزية الكامنة التي حصلت عليها في زمن غياب الريع النفطي وكأنما تريد ان تجد لها مخرجاً في تأسيس دولة مركزية ذات استبداد شرقي عال مع ريوع نفطية وافرة والعودة الى أنماط إنتاج ما قبل الرأسمالية ولكن بترييّف المدينة أولا.
الهـوامش والمراجع
(1) راجع :
Ferguson, Adam , “ An Essay on the History of Civil Society “ (1767) – reprinted 1966 by Edinburgh University press
كذلك راجع :
اوسكار لانكه ، الاقتصاد السياسي / ترجمة المرحوم الدكتور محمد سلمان حسن / دار الطليعة بيروت
عبد الأمير الأنباري (1977) اتفاقيات النفط وتطورها في الشرق الأوسط ، أساسيات صناعة النفط والغاز ، الجزء الثالث / منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول . الكويت .
كذلك راجـــــع : محمود عبد الفضيل (1979) " النفط والمشكلات المعاصرة للتنمية العربية " .
عالم المعرفة / الكويت .
لهب عطا عبد الوهاب : التطور التاريخي لأسواق النفط العالميـــة، الحوار : المركز العراقي للتنمية والحوار الدولي / العدد العاشر 2007 .
(2) بخصوص موضوع الاستبداد الشرقي راجع :
Wittfogel , K . A (1963) “ Oriental Despotism “
New Haven : Yale University Press
)3) كذلك :
Althusser , L ( 1972) “ Politics and History “ London : New Left Books .
(4) راجع : كارل ماركس في موضوع الريع
Marx Karl “ Capital III “ Section VI , Moscow Progress Publisher . 1966 .
(5) حول نمط الإنتاج الآسيوي من المنظور الماركسي راجع :
احمد صادق سعد (1979) " ست دراسات في النمط الآسيوي للإنتاج " . بيروت / دار الطليعة .
راجع كذلك :
Hindess , B and Hirst , P.Q ( 1975) “ Pre – Capitalist Modes of Production “
Routledge and Kegan Paul . London . ch.4 , PP . 178 – 207 .
(6) راجع كتاب آدم سمث في ثروة الأمم وبصورة خاصة الفصل الأول من الجزء الأول المتعلق بمصاريف ونفقات الدفاع :
Smith Adam “ The Wealth of Nations “ Barnes and Nobles New York (1776) Ed . 2004 , PP. 485 – 488 .
(7( حول ضريبة التضخم وكلفة الرفاهية راجع :
Baily , M (1956) “ Welfare Cost of Inflationary Finance “
Journal of Political Economy
Vol . 64 , April , PP. 93- 110
كذلك راجع : مظهر محمد صالح (2006( " الاتجاهات الراهنة للتضخم في العراق "، مجلة العراق للإصلاح الاقتصادي العدد الثالث/ تشرين الأول 2006 ، الصفحات 19 – 25
(
. راجع بهذا الشأن : مظهر محمد صالح/ التضخم المستهدف واستقرار أسعار الصرف – دراسة في استشراف سياسات الاستقرار في الاقتصاد العراقي / المؤتمر الأول لكليات الإدارة والاقتصاد في الجامعات العراقية- جامعة الكوفة 2000 .