السوق في مواجهة الدولة
بقلم : إغناسيو راموني
طريقة في النظرـ عدد 91 يناير ـ فبراير 2007
ما هي العولمة ؟ .. إنها المواجهة الكبرى والمركزية في عصرنا ؛ مواجهة السوق للدولة ، ومواجهة القطاع الخاص للخدمات العمومية ، والفرد للجماعة ، والأنانية لصيغ التضامن.
إن السوق تحاول بكل الوسائل توسيع مجال تدخلها على حساب الدولة ؛ وهذا هو السر في أن عمليات الخوصصة تتضاعف في كل مكان تقريبا ، إنها ليست بالفعل إلا عمليات تحويل لأجزاء من الملك العمومي ( مقاولات ـ خدمات ) من القطاع العام إلى القطاع الخاص ، وما كان مجانيا ( أو رخيص الكلفة ) وفي متناول كل المواطنين بدون استثناء أو تمييز ، أضحى حاليا مؤدى عنه وغالي الثمن. وقد طال هذا التراجع الاجتماعي الكبير الشرائح الأكثر تواضعا في المجتمع على الخصوص ، وذلك لأن الخدمات العمومية هي ملك عمومي لأولئك الذين ليست لهم أية أملاك.
العولمة أيضا هي تداخل وتعالق واعتماد متبادل يزداد مثانة في ما بين اقتصادات العديد من الدول عن طريق آليات التبادل التجاري ، وعمليات التصدير والاستيراد تتضاعف وتتزايد كثافتها بشكل منتظم ودائم. غير أن عولمة المبادلات تتعلق على الخصوص بالقطاع المالي ؛ وذلك لأن حرية تنقل الأموال هي كلية ، وهذا ما يجعل هذا القطاع مهيمنا بشكل كبير على العالم الاقتصادي.
إن الأشخاص الذين يتحكمون في نواصي الثروات يجدون أنفسهم في معرض رغبتهم في تنمية رؤوس أموالهم أمام إحدى البديلين التاليين : إما توظيف أموالهم بالبورصة ( في أية بورصة في العالم ، ما دامت الرساميل تتحرك في مجموع العالم بدون حواجز أو عراقيل) ، وإما توظيفها في مشروع صناعي ( إنشاء معمل لصناعة منتجات الاستهلاك ) . في الحالة الثانية تتراوح المردودية المتوسطة ما بين 6% و 8 % بأوربا ، وبالمقابل ، أي في الحالة الأولى ( حالة البورصة ) ، فإن المردودية يمكن أن تلامس مستويات أعلى ( في فرنسا سنة 2006 حققت أسواق البورصة ارتفاعا بـ17,5 % ، وبألمانيا بـ 22 % وبإسبانيا بـ 33,6 % ) .
أمام هذه الفوارق الشاسعة ، لم يعد أصحاب رؤوس الأموال منذ الآن يقبلون استثمار أموالهم في الصناعة ( وهو مجال خلق فرص الشغل ) إلا بشرط واحد وهو أن يضمن هذا الاستثمار مردودية تقارب 15% سنويا .
بيد أننا رأينا أن المردودية المتوسطة لهذا النوع من الاستثمار بأوربا تتراوح ما بين 6 و 8 % . فما العمل إذن ؟ .. إنه بكل بساطة الاستثمار في الصين أو التايلاند على سبيل المثال ، وهي الدول التي يمكن ، بالنظر لرخص كلفة اليد العاملة بها ، أن تضمن مردودا يمكن أن يقارب أو يتجاوز 15 % ، وهذا هو السر في كون عديد من الاستثمارات تتم اليوم بالصين على الخصوص .
وما دام أن غاية هذا التصرف تتمثل في إنتاج مواد بكلفة رخيصة بالبلدان الفقيرة من أجل بيعها بأسعار مرتفعة في الدول الغنية ، فإنه يؤدي إلى شلال من المنتجات المستوردة من البلدان / المصانع كي تباع على سبيل المثال بأوربا. وهنا ، فإنها تنافس بشكل غير شريف البضائع المنتجة بالقارة العجوز ذات اليد العاملة الغالية الكلفة ، وذلك لأن حقوق العمال الاجتماعية بها ـ لحسن الحظ ـ هي ذات أهمية كبيرة.النتيجة هي أن المقاولات الأوربية تفلس ، وتضطر العديد من المصانع لوضع المفتاح تحت الباب وتسريح مأجوريها.
ومن ثمة فإن بعض الباطرونات يضطرون ، ضمانا للبقاء ، إلى اختيار ” تهجير ” أعمالهم ، أي تحويل مراكزهم الإنتاجية نحو بلدان تتواجد بها يد عاملة رخيصة ، وهو ما يترجم أيضا هنا بإغلاق المصانع وتفشي البطالة .
إن العولمة تتصرف هكذا كآلية للفرز الدائم تحت تأثير التنافسية المعممة ، فهناك تنافس في ما بين الرأسمال والشغل ، وبالنظر إلى أن الرساميل تتحرك بحرية مطلقة ، في حين أن الأشخاص هم أقل حركية من ذلك بكثير ، فالنتيجة هي أن الرساميل هي التي تنتصر وتفوز في نهاية المطاف.
وكما كانت كبريات الأبناك تملي في القرن 19 على العديد من الدول توجهاتها ، أو كما كانت المقاولات المتعددة الجنسيات تفعل ذلك أيضا في ما بين الستينيات والثمانينيات ، فإن الصناديق الخاصة لدى الأسواق المالية تمسك منذ الآن بمصائر العديد من البلدان ، وبمعنى ما أو في مستوى ما ، بالمصير الاقتصادي للعالم .
إن الأسواق المالية هي في مستوى إملاء قوانينها على الدول ، وفي هذا المشهد السياسي ـ الاقتصادي الجديد ، فإن الشمولي ينتصر على الوطني ، والمقاولة الخاصة على الدولة . إنه لم تعد هنالك تقريبا أية عملية إعادة توزيع ، والفاعل الوحيد في التنمية ـ كما يقال لنا ـ هو المقاولة الخاصة ، التي يعترف لها وحدها بأنها تنافسية على المستوى الدولي ، وإذن ، فهي الوحيدة ـ كما يتم تأكيد ذلك لنا ـ التي يجب أن يعاد انتظام الكل حولها.
في الاقتصاد المعولم ، لا يشكل الرأسمال و لا الشغل و لا المواد الأولية في ذاتها العامل الاقتصادي المحدد والحاسم ، إذ المهم هو العلاقة الإيجابية بين هذه العوامل الثلاثة . ولإيجاد هذه العلاقة ، لا تأخذ المقاولة في حسبانها لا الحدود و لا التقنينات ، وإنما فقط الاستغلال الأكثر ربحية للمعلومة ولتنظيم الشغل وتثوير عملية التدبير. وهذا يؤدي في الغالب إلى تحطم وانكسار صيغ التضامن بداخل البلد الواحد ، ونصل إلى حالة طلاق وشرخ في ما بين مصلحة المقاولة ومصلحة المجموعة الوطنية ، في ما بين منطق السوق ومنطق الديمقراطية .
الشركات الشمولية لا تشعر أبدا بأنها معنية بهذا الشرخ ، فهي تنتج وتبيع منتجاتها في العالم بأجمعه ، وتتحدث عن خاصيتها الفوق وطنية التي تمكنها من التصرف بحرية أكبر ، ما دام ليس هناك مؤسسات دولية ذات صبغة سياسية ، اقتصادية أو قانونية ، من شأنها أن تقنن سلوكها بصورة تتسم بالفعالية.
إن العولمة تشكل إذن قطيعة اقتصادية وسياسية وثقافية هائلة ، إنها تخضع المواطنين لأمر واحد ووحيد يقول : ” عليكم بالتكيف ” واقتلاع كل إرادة فيكم من أجل الخضوع بشكل أفضل للتعليمات المجهولة لدى الأسواق . إنها تشكل المآل الأخير للنزعة الاقتصادية : أي بناء إنسان ” عالمي ” مفرغ من الثقافة ومن الإحساس والوعي بالآخر ، وفرض الإيديولوجيا النيوليبرالية على العالمين.