مجلة الدفاع الوطني
الستراتيجية العسكرية الأميركية في كوسوفو
د. كميل حبيـب أستاذ في الجامعة اللبنانية
مقدمة ـــ الإطار النظري:
تعني كلمة ستراتيجيا في الأصل الحيلة أو الخطة أو التدبير. ومنذ بيريكليس راحت الستراتيجيا تقيم الصلة بين الموارد المدنية والعسكرية الموضوعة في خدمة السلطة السياسية بغية قيام هذه الأخيرة بمهماتها والوصول إلى أهدافها. ولا بد للسلطة من خطة واضحة تحدّد فيها الأفكار الكبرى التي يتوجّب عليها تحقيقها لما فيه مصلحة المجتمع الذي تحكمه بدون عوائق كبرى تمنعها من ذلك. ولذا, فإنها تجد نفسها مضطرّة في حال بروز عوامل تعيق أو تؤخّر تنفيذها, لاتباع السبل الكفيلة بتذليل مثل هذه العقبات.
والستراتيجيا هي نقيض الارتجال والعفوية, وتشكّل درجة عليا من الفكر المنظّم, وتنطلق في جوهرها من الطموحات الكبرى للجماعة. ولذا فإنها يجب أن تتجنّب دائماً الفشل, وتحقيق درجة معيّنة من النجاح الذي لا يمكن أن يتمّ إلاّ بواسطة العقل القادر على توقع الأشياء, ورسم طرق التعاطي معها بوضوح. ومهما يكن من أمر, فإن ما تجدر الإشارة إليه هو ان الستراتيجيا, التي قال عنها فوكو إنها “مجموع الطرق المستخدمة لحرمان الخصم من وسائل المعركة واجباره على التخلي عن الصراع”, تخضع بالضرورة لاعتبارات ذاتيّة وموضوعيّة. وهذا ما نراه واضحاً في الستراتيجية على الصعيد الخارجي.
والستراتيجيا متلازمة مع التكتيك الذي هو مجموعة الوسائل الموصلة إلى الهدف الكبير. ولهذه الوسائل أشكال عديدة يمكن أن تتراوح بين الإقتناع والمساومة والتهديد واستخدام العنف, وهي وسائل تطبّق في ظروف معيّنة بحسب الأوضاع التي تمرّ بها القضية المطروحة بطريقة سليمة. وبدون هذا الحد الأدنى لا يمكن التوصّل إلى نتيجة إيجابية(1).
أمّا على الصعيد العسكري البحت, فيبدو ان الطريقة الفضلى لتعريف مصطلح الستراتيجيا تنبع من خلال التمييز بينها وبين التكتيك. فالتكتيك عبارة عن أدوات ووسائل متعددة توظّف في خدمة الأهداف السياسية الكبرى للدولة. ففي حالة الحرب, مثلاً, توظّف الدولة سلاح الجو كتكتيك يهدف إلى خدمة أهداف الحرب الستراتيجية.
في ضوء ما تقدّم, يمكن اعتبار كتاب Karl Von Clausewitz “عن الحرب” من أهم ما كتب حول هذا العنصر الهام في العلاقات الدولية. ومع العلم ان للحرب أبعادها المتعدّدة, نرى المؤلّف قد تمكّن من سبر أغوارها على الصعد السياسية والتكتيكية وحتى التقنية(2). ومن المسلمات في تفكيرClausewitz العلاقة العضوية بين الحرب والسياسة الوطنية. في هذا الاطار تبرز مقولته الشهيرة في ان الحرب ليست أكثر من استمرار للسياسة بطرق ووسائل أخرى(3). وهذه المقولة تعني انه لا يمكن الفصل بين الحرب والقرار السياسي, وفي ان السياسة هي التي تقرّر زمن وأهداف الحرب, وفي ان الحرب هي وسيلة من وسائل الفن السياسي وليست حالة قائمة بذاتها وموجودة من الفراغ. وعليه, يعلن Clausewitz انه لا يمكن الفصل بين الحرب والسياسة, وإذا حصل ذلك الفصل تصبح الحرب انفجاراً عنفياً دون أهداف(4). وللدلالة على أهمية العلاقة العضوية بين الحرب والسياسة, يرفض Clausewitz التقليل من أهمية السياسة في مجال مقاربتها بالحرب, معلناً ان السياسة هي التي تقرّر وتدير الحرب. لذا, فهو يقترح ان لا يكون وزير الدفاع “رجلاً عسكرياً”, بل سياسياً على قدر من المعرفة لا تسمح له بترك الجيش يقرر مسار المعركة وأهدافها ولحظة وقف اطلاق النار(5).
لم يطرأ على هذه المقولة الشهيرة لـ Clausewitz أي تعديل حتى في ظلّ التطوّرات التكنولوجية الحديثة. بمعنى آخر, لم يغيّر اعتماد التكنولوجيا العسكرية الحديثة في ساحة القتال من تناسبية طروحات Clausewitz حول استخدام الوسائل العسكرية من قِبَل الدول المتحاربة. ويمكننا قراءة ذلك على النحو التالي:
1- ¬ على الدولة المشاركة في الحرب أن توجّه ضرباتها العسكرية إلى مركز الثقل ونقطة الضعف عند العدو. في المقابل, ان عملية تدمير قوى العدو قد تحجب الأهداف السياسية للحرب. بمعنى آخر, إذا كان الهدف من وراء الحرب هو تدميري بحت فيجب ان لا تشن تلك الحرب على الإطلاق. ويقول Clausewitz في هذا الصدد: “يجب أن لا تشنّ الحرب قبل أن يتمكّن أصحاب القرار من تبيان الأهداف الحقيقية التي من الممكن تحقيقها خلال الحرب”(6).
2 ــ على الدول المتحاربة العمل على إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. هذا هو الشكل المثالي للحرب والذي تفرضه العوامل التالية:
أ ــ الخيار الوحيد أمام الدول المتحاربة هو النصر أو الهزيمة.
ب ــ تهدف القوى المتحاربة للقضاء على قدرة العدو في المقاومة.
ج ــ الوقف الفوري للقتال عند تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.
من جهته يرى Clausewitz ان هذه الشروط صعبة التطبيق على أرض الواقع بسبب “ضبابية الحرب” وما يتفرّع عنها من خوف وعدم صحة المعلومات المتوافرة. وكل هذه المعطيات الجديدة قد تفرض تغييراً أو اعادة النظر بالخطة العسكرية وأهدافها. وفي اختصار, ان الشكل المثالي للحرب القائم على قرارات عقلانية مدروسة ومعلومات موثوقة هو ببساطة ضرب من الخيال(7).
وقد قام ادوار لاتواكEdward Luttwak بتبني هذه المقولات معرّفاً الستراتيجية بأنها منطق الحرب والسلام(
. وهو هنا تماماً كماClausewitz لا يرى ان هناك قاعدة هندسيّــة وحسابيّــة لضبـــط إدارة الحــرب, وذلك بسبب تشابــك الأصــعـدة السياسية والنفسية والعسكرية. وعليه, وبعكس التفكير العقلاني المخطط, يعوّل Luttwak على ما يسميه “منطق التناقض المنسجم” للستراتيجية كفكرة عامة تتحكّم بشكل الحرب وبنشاطاتها العكسية المتبادلة. فهو يرى ان لكلّ حرب منطقها المتناقض والمنسجم في آن معاً, كما ان لها فنها وجدليتها. وهو يفصّل مقولته هذه على النحو التالي:
1 ــ ان كل أمور الحرب تبدو بسيطة إلاّ ان أبسط الأشياء هي في جوهرها معقّدة بسبب حصول حادث طارئ أو خطأ تقني غير منتظر قد يعيق عمل الآلة العسكرية. فالحرب ليست انفجاراً عنفياً وحسب, بل هي عملية قد تطول مدتها بسبب الفعل وردة الفعل عند المتحاربين, الأمر الذي قد يؤدي لاحقاً إلى إضعاف المهاجمين وتعريضهم لهزيمة غير متوقعة(9).
2- ¬ ان تجنّب تطبيق الخطة المتوقّعة من قِبَل العدو كانت, في حقبة تاريخية معيّنة, من أنجح الستراتيجيات. وعليه, فالخطة العسكرية الجيّدة لم تعد كذلك لأن العدو حضّر ذاته للرد الحاسم عليها. يتبع ذلك ان الخطة الفعّالة هي تلك التي لم يتوقّعها العدو. أما إذا وضع العدو خطته الدفاعية بشكل يمكّنه من مواجهة ما لم يكن في الحسبان تصبح عندها الخطة المتوقعة الخطة الناجعة. خلاصة القول ان الستراتيجية العسكرية يجب ان تكون مرنة بشكل تأخذ بعين الاعتبار ان النشاط العسكري هو فعل تراجعي وانسحابي بقدر ما هو هجومي تتبدّل خياراته بتبدّل الظروف في أرض المعركة(10).
3-¬ يعتقدLuttwak انه في الحرب ما من شيء نهائي, وفي بعض الأحيان قد يحمل النصر العسكري في طياته بذور الهزيمة. مثال على ذلك, ان الانتصار الالماني البري في أوروبا عام 1940 حرم البريطانيين من أية وسيلة لمتابعة الحرب إلاّ في المجال الجوي. وبما ان القصف الجوي المحكم والدقيق للأهداف الالمانية في النهار برهن انه غالي الثمن, بدأ البريطانيون بقصفهم الجوي للمدن الالمانية في الليل. لذلك, فالنصر العسكري الالماني على الأرض جلب الدمار لمدنهم(11).
4- ¬ أخيراً, يمكننا إيجاز مبدأLuttwak لمنطق التناقض المنسجم على النحو التالي: ان التفوّق العسكري قد يدفع بعض الدول لاتباع سياسة الاعتداء المستمرة, الأمر الذي قد يولّد حالة خطيرة على الصعيد السياسي. وفي المنطق نفسه يمكن القول ان الوضع العسكري غير المريح للأطراف المتحاربة قد يؤدّي إلى حالة سياسية مستقرة.
ولزيادة الفهم لمنطق التناقض المنسجم, طور Luttwak مفهوماً جديداً يأخذ بعين الاعتبار البُعدين العمودي والأفقي للستراتيجية, وهذا يعني:
أوّلاً: البُعد العمودي الذي يتشكّل من الخطط والأعمال العسكرية للقوى المتحاربة.
ثانياً: البُعد الأفقي الذي يشمل أطر النزاع والمنافسة بين الدول المتحاربة على المستويات الخمسة للسترتيجية. وهذه المستويات هي:
أ ــ المستوى التقني, حيث ان الآلة العسكرية المستخدمة تحدّد نطاق وكيفية تنفيذ الخطة العسكرية.
ب ــ المستوى التكتيكي, حيث تستخدم الأسلحة لأهداف دفاعية أو هجومية.
ج ــ المستوى العملاني, ويتعلّق بتقرير ما إذا كان العمل العسكري للاستنزاف أو للمناورة.
د ــ مستوى مسرح القتال, ويتضمّن كلّ العمليات المتعلّقة بالقتال بما فيها حرب العصابات.
هـ ــ المستوى الستراتيجي الكبير حيث تلتقي الأهداف العسكرية والسياسية(12).
ان أية عملية تقييم لنتائج الحرب يجب ان تُدرس من خلال علاقتها بالأهداف المتوخّاة من وراء تلك الحرب. لكن ماذا بإمكان الدول المتحاربة أن تفعل بالنسبة لمنطق التناقض المنسجم الذي يحدّد التطوّرات العسكرية؟ يعتقد Luttwak ان الهزيمة الناتجة عن منطق التناقض المنسجم يمكن الحدّ من تأثيراتها السلبية وذلك على النحو التالي:
أ ــ إعتماد خطط عسكرية متناقضة ظاهراً لخداع العدو.
ب ــ إمتلاك القدرة على مواجهة العدو بخطة غير متوقعة.
ج ــ وضع وتنفيذ خطة عسكرية فعّالة تأخذ بعين الاعتبار التنسيق بين البُعدين العمودي والأفقي للستراتيجية.
قد يكون من الصعب على الجيوش المتحاربة تطبيق ستراتيجيةLuttwak العسكرية, وربما تكمن أهميتها فقط في اعتمادها كمنهجية لتحليل وتقييم نتائج الحروب. ولقد دلّت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على ان التهديد باستخدام السلاح النووي كان يُعتمد كسياسة ردعيّة لمنع نشوب القتال بين الدولتين العظميين. والحقيقة ان النتائج الكارثية للحرب النووية قد أجبرت واشنطن وموسكو على اعتماد سياسة ضبط النفس. وهذا يعني ان السلاح النووي يستخدم فقط على المستوى النفسي, ولذلك حصرت الدولتان العظميان صراعهما على المستويين السياسي والاقتصادي. وفي المحصلة يمكن اعتبار قدرة الدولة العسكرية وسيلة لتعزيز موقعها التفاوضي مع الدولة العدوة.
هذا التفاعل بين قدرات الدولة العسكرية وقوّتها التفاوضية أعطى للحرب صفة “اللعبة النوعية” التي تشمل أيضاً هامشاً عريضاً للمناورة السياسية. وهذه المقولة على درجة كبيرة من الأهمية بدليل ان الحرب لا تفضي دائماً إلى نتائج محسومة بين الانتصار والهزيمة(13).
من جهته يرىThomas Schelling ان الواقع الستراتيجي الدولي في حالتي الحرب والسلام هو بالضرورة واقع تفاوضي. ففي رأيه انه حتى خلال الحرب يمكن للقوى المتحاربة ان تدخل في لعبة المساومة والتفاوض بحيث ان المجال يبقى مفتوحاً للتعاون(14). وتشير الدلائل إلى ان التفاهم المشترك بين الدول المتحاربة خلال الحرب العالمية الثانية أدّى إلى عدم استعمال القنابل السامة. وهذا النوع من التفاهم نلاحظه إبّان الحرب الكورية حينما تفاهمت الدول المتحاربة على منع امتداد رقعة القتال خارج حدود شبه الجزيرة الكورية, وعلى طبيعة ونوع الأسلحة المستخدمة في القتال, وعلى طبيعة العمليات العسكرية. وحديثاً, وقبل أيام على نشوب حرب الخليج الثانية, التقى طارق عزيز, وزير خارجية العراق, جايمس بايكر, وزير خارجية الولايات المتحدة, في 9 كانون الثاني عام 1991 لبحث إمكانية تجنّب الحرب, في وقت كانت تجري فيه الإستعدادات العسكرية على قدم وساق. كلّ هذه الأمثلة تُظهر إمكانية تعاون الدول المتحاربة إمّا للحدّ من رقعة الدمار أو للاستعاضة عن سياسة التدمير الشامل للعدو بديبلوماسية القوّة. وعليه, فالحرب ليست خياراً تلجأ إليه الدول عند فشل الديبلوماسية, بل هي تحديداً خيار ديبلوماسي.
كل هذا يذكرنا على الدوام بمقولةClausewitz حول العلاقة العضوية بين قدرات الدولة العسكرية والسلطة السياسية بشكل يتحرّك فيه الجيش بقرار سياسي لتحقيق أهداف الدولة الستراتيجية في حالة الحرب. وتجدر الاشارة إلى ان أحدث تعريف أميركي للستراتيجية لم يخرج في جوهره عن مقولةClausewitz . فقد عرّف قاموس التعابير العسكرية الأميركي الستراتيجية على انها: “فن وعلم لتطوير واستخدام القوى السياسية والاقتصادية والنفسية والعسكرية في أوقات الحرب والسلام”. كما انها تعني “توفير الدعم المطلوب للسياسة المتبعة لزيادة احتمالات النصر أو لتقليص حجم الهزيمة”(15).
بعد هذا التعريف الموجز بالستراتيجية, تحاول هذه الدراسة تقييم الستراتيجية العسكرية الأميركية في حرب كوسوفو. وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
يتضمّن القسم الأوّل تحليل الستراتيجية العسكرية الأميركية خلال الحرب الباردة وصولاً إلى “عاصفة الصحراء” عام 1991.
يعالج القسم الثاني الستراتيجية العسكرية الأميركية في حرب كوسوفو في ضوء الأهداف المعلنة لتلك الحرب.
أخيراً, تُسلّط الدراسة الضوء على مستقبل الستراتيجية العسكرية الأميركية وإمكانية تطوّرها في ظلّ الظروف الدولية الراهنة حيث تحاول واشنطن فرض مشيئتها على دول العالم.
أوّلاً: الستراتيجية العسكرية الأميركية 1945¬- 1991
تُعتبر الوسائل العسكرية, أو التهديد باستعمالها, ضرورية لدعم العمل الديبلوماسي. هذا يعني أيضاً ان تعويل الدولة على قدراتها الديبلوماسية فقط قد لا يسمح لها بحماية مصالحها أو بإقناع الآخرين بعدم المساس بتلك المصالح. من جهة أخرى, تشير الدلائل إلى ان سباق التسلّح قد أدّى إلى حروب ونزاعات مسلحة كان من الممكن تجنّبها. لذا, وفي ضوء التجارب التاريخية التي تدعم نظرية الحاجة إلى التسلّح, أو تلك التي تؤكّد على ان الدول قد تواجه مغامرة حقيقية من جراء اقتناء السلاح, يبرز السؤال الكبير حول فعالية القدرة العسكرية في تحقيق أهداف السياسة الخارجية. وهذه المسألة طغت على تفكير أصحاب القرار في واشنطن منذ الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى حروب البلقان في التسعينات من القرن العشرين. مثال على ذلك انه في خريف عام 1993 جرت محاولات جادة بغية إعادة النظر في مساهمة الولايات المتحدة في قوات السلام التابعة للأمم المتحدة في الصومال بعدما تكبّدت الكتيبة الأميركية هناك بعض الخسائر البشرية. كما يلاحظ انه في كلّ مرّة تتخذ الإدارة الأميركية قراراً بالتدخّل العسكري في أية منطقة من العالم, يبرز السجال حول مسألتين أساسيتين:
1- ¬ المسألة الأولى وتتعلّق بمدى فعالية الخيارات غير العسكرية (الحصار الاقتصادي مثلاً) في تحقيق أهداف واشنطن الستراتيجية.
2- ¬ ما هي المعطيات التي على أساسها يتمّ اتخاذ القرار بالتدخّل أو عدم التدخّل العسكري؟
مع بداية الحرب الباردة عاشت الولايات المتحدة هاجس الاحتكاك العسكري مع الاتحاد السوفياتي, الذي قد يؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة. لذلك كان من الضروري من جانب واشنطن العمل على إقناع السوفيات بعدم جدوى أي عمل عسكري مهما كان محدوداً عبر التهديد باللجوء إلى الردّ بالسلاح النووي. ولكن عندما امتلك السوفيات القدرة على تطوير سلاحهم النووي, بدأت إدارة الرئيس ترومان الاهتمام أكثر بتطوير السلاح التقليدي كرادع آخر في حال حصول نزاع على هذا المستوى. ومع بداية عام 1954 أعلن وزير الخارجية الاميركية الجديد, جان فوستر دالاس, ان “الرد القوي والحاسم” (Massive Retaliation) , وهو يعني الردّ النووي, سيكون خيار واشنطن الأساسي لردع أي اعتداء شيوعي ضد حلفاء اميركا ــ حتى ولو تمّ ذلك الاعتداء بالسلاح التقليدي. ومع ان دالاس قام بجهود حثيثة لتهدئة خواطر حلفاء أميركا الغربيين من مخاطر لجوء واشنطن للخيار النووي مهما كان حجم النزاع, الا انه لم يفلح في ذلك لأنّ سياسة “الرد الحاسم” توخّت الاستغناء عن القوات البرية, وحرمان موسكو وبيجينغ من حرية اختيار زمان المعركة ومكانها(16).
لقد حملت سياسة الردّ الحاسم في طيّاتها بذور التصعيد في أي نزاع بين الدولتين العظميين. وبالفعل لم تتردد واشنطن بالتهديد باللجوء إلى السلاح النووي خلال العديد من الأزمات مع المعسكر الشيوعي. على كل حال, هناك اختلاف كبير بين التهديد باللجوء إلى الخيار النووي وتنفيذ ذلك التهديد, تماماً كما دلّت أزمات لبنان وأندونيسيا وبرلين حين اعتمد الرئيس ابزنهاور إجراءات تقليدية لإدارتها, الأمر الذي عرّض سياسة “الرد الحاسم” للعديد من الانتقادات نذكر أهمها:
1- ¬ ان سياسة الرد النووي الحاسم لم تمنع بروز الأزمات والنزاعات العسكرية المحدودة بين موسكو وواشنطن.
2- ¬ ان عدم لجوء واشنطن للخيار النووي يعني عدم عقلانيته كردّ فاعل على اعتداءات محدودة, خاصة في تلك النزاعات التي لم تشارك فيها قوات سوفياتية بصورة مباشرة.
3- ¬ لقد فقدت سياسة الردّ الحاسم الكثير من مصداقيتها وفعاليتها بعد امتلاك موسكو للسلاح النووي, وما يعني ذلك, في حال حصول تصادم عسكري على المستوى النووي, من نتائح كارثية تطال العالم أجمع(17).
مع كلّ هذه الانتقادات مجتمعة, رأت ادارة الرئيس كيندي انه من الضروري تطوير القدرة العسكرية التقليدية لمواجهة أي اعتداء سوفياتي على هذا المستوى. ففي خطابه الأوّل عن حال الاتحاد, أعلن الرئيس كينيدي “ان غياب ستراتيجية عسكرية متجانسة كان السبب في صعوبة القيام بعملية تقويم لقدراتنا الدفاعية”(18). ولقد عُرفت السياسة الدفاعية الجديدة باسم “الرد التدريجي المرن” (Flexible Response) , والتي توخّت أن يكون الردّ العسكري ملائماً, وانتقائياً, وسريعاً, وفعّالاً(19). ولقد أعلن الرئيس كينيدي في معرض شرحه لمضمون تلك السياسة ان “نظام الأسلحة يجب أن يستعمل بطريقة تسمح بالدقّة والتمييز بالنسبة للتوقيت وللهدف”(20). وفي رأي هنري كيسنجر “ان ستراتيجية الردّ التدريجي المرن تتضمن تفوّق أميركا العسكري على كل المستويات النووية وغير النووية”(21).
لقد فعّلت سياسة كينيدي الدفاعية السجال الدائر حول ستراتيجية واشنطن ابان وبعد الحرب الكورية والتي لم تحقق النتائج المرجوّة. وللتذكير فقط فان دخول الصين الشعبية الحرب في نوفمبر عام 1950 أجبر الجنرال ماك آرثر على التراجع عن أراضي كوريا الشمالية. وفي ضوء هذا التطوّر, قرّر الرئيس ترومان التخلّي عن هدفه الطموح بتوحيد دولتي كوريا بقوة السلاح, والاستعاضة عنه بالعمل على حماية استقلال كوريا الجنوبية. ولذا رفض الرئيس ترومان اقتراح الجنرال ماك آرثر بتوسيع رقعة القتال لتشمل أراضي الصين الشعبية. وعندما كشف الجنرال عن اقتراحه, قرر الرئيس ترومان الاستغناء عن خدماته. لكن, وبعد عودته إلى كاليفورنيا, أعلن الجنرال انه ليس بإمكان الجيش أن يقاتل ويده موثوقة وراء ظهره. بعد ذلك, ارتفعت أصوات عديدة تطالب بعدم اشتراك الولايات المتحدة في اية حرب محدودة وغير مضمونة النتائح. وفي رأي هؤلاء انه أمام واشنطن خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن تبقى خارج دائرة الصراع أو, في حال مشاركتها في الحرب, أن تستخدم كلّ إمكاناتها العسكرية لتحقيق نصر كامل. وقد عرفت هذه المدرسة باسم مدرسة “النصر أو لا شيء”. في المقابل, هناك من لاحظ ان العصر النووي قد قلّص من خيارات واشنطن العسكرية, ولم يبقَ أمامها إلاّ استخدام السلاح التقليدي في النزاعات الإقليمية. هذه المدرسة التي اشتقّت أفكارها من دروس الحرب الكورية عرفت باسم “مدرسة الحرب المحدودة”.
لقد لعبت مدرسة “النصر أو لا شيء” دوراً حاسماً في منع إدارة الرئيس ايزنهاور من التدخّل في حرب الهند ــ الصينية عام 1954. وقد دفعت محاصرة الجيش الفرنسي في Dienbienphu البعض على حثّ الرئيس على التدخّل العسكري لأن خسارة الهند ــ الصينية سوف تؤثّر سلباً على كلّ المصالح الأميركية هناك. كما طالبوا باعتماد خيار القصف الجوي لفكّ الحصار عن الجيش الفرنسي. لكن الرئيس ايزنهاور كان يعرف جيداً ان النصر العسكري لا يتحقق دون قوات برية. وعليه, رفض فكرة التدخّل العسكري وقرّر التعامل مع الهزيمة الفرنسية بالطرق الديبلوماسية. لكن, وأمام احتمال الغزو الشيوعي الصيني لجزيرةQuemoy عام 1958, طلب رئيس الأركان الأميركي من الرئيس ايزنهاور السماح له باستخدام قنابل نووية تكتيكية. ومجدداً رفض الرئيس هذا الخيار مخافة المواجهة النووية الشاملة متسلّحاً بمقولة الحرب المحدودة. وهكذا أضحى الرئيس المتمسّك بمقولة “النصر أو لا شيء” أسير المحافظة على محدودية النزاع والتفاعل مع خصوصيته(22).
بعد عدّة سنوات, أي بين عامي 1961¬- 1962, عاد خيار “النصر أو لا شيء” إلى الواجهة بعدما أعدّت رئاسة الأركان خطة لاستعمال السلاح النووي إذا ما فشلت جهود الرئيس كينيدي في وقف التقدّم الشيوعي على لاوس. والمسألة هنا لم تكن تتمحور حول استعداد أميركا للقتال من أجل لاوس, بل ان الأمر تعلّق بالحاجة إلى المواجهة المحدودة لمنع الاحتكاك المباشر مع الصين الشعبية. أخيراً, ومع بداية التغلغل الأميركي في حرب فيتنام خبا الخيار النووي وبدأ الرئيس كينيدي بتطوير سياسة معيّنة لحماية فيتنام الجنوبية من الانهيار أمام حرب العصابات التي يقوم بها الشيوعيون. والحقيقة ان الرئيس كينيدي كان مستعداً لتقديم مساعدات عسكرية غير مباشرة لنظام سايغون, لكنه اغتيل قبل أن يواجه مسألة إرسال جنود أميركيين إلى فيتنام الجنوبية. بعد ذلك, أصبح الباب مشرّعاً امام الرئيس جونسون للتدخّل العسكري المباشر. لكن, ولمنع الصدام مع الاتحاد السوفياتي, أعلن الرئيس جونسون ان التدخّل العسكري له أهداف محدودة جداً. هي:
1- ¬ لا وجود خطة لاجتياح فيتنام الشمالية.
2- ¬ سيكون للقصف الجوي أهداف محددة ومحصورة.
3- ¬ لا إعلان لحالة الطوارئ, ولا استدعاء للاحتياط.
4- ¬ رفض أي خطة لتحويل المدن والأماكن الستراتيجية في فيتنام الجنوبية إلى محميات أميركية.
وهكذا, لم يبقَ أمام ادارة الرئيس جونسون إلاّ خيار الدخول في معركة طويلة الأمد. لكن, وفي آذار عام 1968, وصلت الحرب إلى درجة لم يعد من الجدوى متابعتها, الأمر الذي حظي بتأييد الرئيس جونسون. وقد علق Larry Berman على ذلك بقوله: “لقد مثّلت حرب فيتنام مأساة وطنية وشخصية”(23).
وفي عام 1969 أعلن الرئيس نيكسون عن نيّته سحب القوات الأميركية تدريجاً من فيتنام وصولاً إلى “فتنمة” الحرب. وقد تضمّن هذا الاعلان مساعدة الفيتناميين الجنوبيين على مساعدة أنفسهم, ومحاولة التوصّل إلى حلّ سياسي مع هانوي. لكن هذه السياسة أدّت لاحقاً إلى انهيار فيتنام الجنوبية. إلا أن السجال حول مبدأ التدخّل العسكري في النزاعات الدولية استمرّ في عهد إدارة الرئيس ريغان, خاصة في ما يتعلّق بالحرب الأهلية في السلفادور, حكم السندينيين في نيكارغوا, حماية السفن في الخليج العربي ابان الحرب العراقية ــ الايرانية, ولبنان. من جهته رفض وزير الدفاع واينبرغر التدخّل العسكري المباشر في نزاعات العالم الثالث. وفي رأيه ان التدخّل الأميركي سوف يؤدّي إلى حروب طويلة الأمد وباهظة الثمن وغير مضمونة النتائج. ومع العلم ان واينبرغر يعترف بأن المصالح الأميركية قد تكون مهدّدة, الا انه يلحظ فعالية تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية والنصائح واستخدام العمليات السرية والاعتماد على الديبلوماسية, كوسائل بديلة عن الخيار العسكري لحماية تلك المصالح.
في المقابل, رفض وزير الخارجية شولتز افكار واينبرغر على أساس انه لا يمكن الفصل بين الجهود الديبلوماسية والجهوزية العسكرية, وأن الديبلوماسية قد يكون مصيرها الفشل إذا لم تكن مدعومة بالقدرات العسكرية. هذا لا يعني ان شولتز كان من مناصري التدخّل العسكري الحاسم, بل كان مقتنعاً بأن دولة عظيمة كالولايات المتحدة يجب أن تكون مستعدّة لحماية مصالحها عبر الوسائل العسكرية. وفي الواقع, كان شولتز يردد التساؤل التالي: “كيف بإمكاني كوزير للخارجية حماية مصالح الولايات المتحدة في غياب القوة العسكرية ؟”(24). وفي التفاصيل, فإنّ السجال بين واينبرغر وشولتنر كان يدور حول شروط اللجوء إلى القوة العسكرية. هذه الشروط نوجزها على النحو التالي:
1 ــ تهديد المصالح الأميركية.
2 ــ حجم القوّة العسكرية المستخدمة.
3 ــ امكانية تحديد الأهداف المتوخّاة من وراء التدخّل العسكري.
4 ــ التأييد الشعبي للحرب.
5 ــ اللجوء إلى السلاح كخيار أخير.
6 ــ العلاقة التناسبية بين الوسائل والأهداف.
لقد أدّى السجال الدائر بعد حرب فيتنام إلى اعتماد المبدأ التالي: اللجوء إلى الخيار العسكري لدعم السياسة الخارجية بحيث يؤخذ بعين الاعتبار الشروط الموضوعية لاستعمال السلاح بشكل فعّال وكافٍ. هذا المبدأ طبق بشكل مناسب في غرانادا وباناما والعراق. أما في الصومال, فقد مني التدخّل العسكري الأميركي بفشل ذريع وذلك للأسباب التالية:
1 ــ حصر الأهداف بالقضايا الإنسانية كتأمين الغذاء والمعدات الطبية.
2 ــ استخدام قوة عسكرية كبيرة غير متناسبة والهدف المعلن.
3 ــ تحديد معايير الانسحاب بشكل مسبق عبر تسليم قوات الأمم المتحدة مسؤولية نزع الأسلحة من القبائل المتصارعة وتكليفها إعادة إحياء مؤسسات الدولة.
ان هذا العرض للستراتيجية العسكرية الأميركية يدلّ على أهمية السجال الدائم حول تناسبية البعدين السياسي والعسكري للمسألة. وهناك بالحري نزاع فكري بين منطق الحرب كعمل سياسي ومنطق حدود القوة العسكرية المستخدمة . فالتهويل بالرد الحاسم قد أثبت انه ذو قيمة مطلقة وغير مناسبة, بينما أثبت الردّ التدريجي المرن في حرب فيتنام انه باهظ التكلفة على الصعيدين البشري والتكنولوجي. وإذا كانت حرب الخليج الثانية تمثّل نموذجاً للنصر الأميركي الحاسم, فلأنه توافرت لتلك الحرب العوامل التالية:
1 ــ لم تخض واشنطن تلك الحرب بمفردها بل بمشاركة قوات غربية حليفة.
2 ــ لم يبدأ الهجوم البري على العراق إلاّ بعد التأكّد من التدمير الكامل للمقاومة تحت تأثير القصف الجوي.
3 ــ حاز التدخّل العسكري الأميركي ــ الغربي على تأييد الشرعية الدولية المتمثلة بقرارات مجلس الأمن الدولي التي دعت العراق إلى الانسحاب الفوري من الكويت.
4 ــ التزمت القوات الأميركية تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.
5 ــ حظيت عملية “عاصفة الصحراء” بتأييد شريحة واسعة من الرأي العام الأميركي لم يسبق لها مثيل من قبل.
ثانياً: الستراتيجية العسكرية الأميركية في حرب كوسوفو:
في تحليله لأسباب النزاع في اقليم كوسوفو, كتب الدكتور هنري كيسنجر في مجلة نيوزويك يقول: “حرب كوسوفو هي نتيجة نزاع عمره قرون جرى على الخط الفاصل بين الأمبراطوريتين النمساوية والعثمانية, بين الإسلام والمسيحية, بين القومية الالبانية والقومية الصربية. فتلك الجماعات الاثنية لم تتعايش بسلام إلاّ حين كان التعايش مفروضاً عليها من الحكم الأجنبي أو من ديكتاتورية تيتو”(25). وهكذا, مع موت تيتو, رحلت يوغوسلافيا الاتحادية وانقسمت على نفسها إلى جمهوريات متصارعة تمزّقها وتزيد من عملية تفتيتها الصراعات الاثنية واللغوية والدينية. وفي عام 1990 انفجرت منطقة البلقان مع إعلان كرواتيا انفصالها عن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية من دون تسوية الوضع القانوني المتعلّق بالأقلية الصربية المقيمة على أراضيها. وعلى خط متوازٍ آخر, أعلن ألبان كوسوفا استقلال الإقليم كردّ على قرار بلغراد بإلغاء الحكم الذاتي الذي كانوا يتمتعون به في السابق. ولم تنفع جهود الأمم المتحدة لوقف أعمال العنف هناك بسبب الخلافات الاثنية والقومية العميقة. وعليه, ومع بداية التسعينات, كانت البلقان أشبه “ببرميل بارود” معرّض للانفجار عند أول احتكاك به.
أما مؤشرات حصول الانفجار الكبير في إقليم كوسوفو فقد ظهرت عام 1993 حين بدأت القوات الصربية حملتها المنظّمة لطرد ألبان كوسوفو الذين يشكّلون 90 في المئة من سكان الاقليم البالغ عددهم مليوني نسمة. كما راحت القوات الصربية تتدفق على الإقليم لإحكام قبضتها عليه لمواجهة جيش تحرير كوسوفا(KLA) الذي بلغ عدد افراده 9000 مقاتل. أما القوات الصربية فبلغ تعدادها 27000 جندي يرابطون داخل الاقليم و15000 ينتظرون على الحدود مزودين بنحو 150 قطعة من المدفعية الثقيلة(26). والحقيقة انه لم يكن باستطاعة جيش تحرير كوسوفا حماية السكان المدنيين في حين تابعت القوات الصربية حملة التطهير العرقي التي أدّت إلى مذابح منظمة طالت آلاف السكان في Pristina , Srbica, Suva Reka, وPodujevo (27) من جهته, وأمام الأحداث المأساوية, أصدر مجلس الأمن قراراً رقمه 1160 يفرض بموجبه عقوبات اقتصادية على بلغراد. في الوقت عينه أعلن الرئيس الأميركي, بيل كلينتون, تجميد الودائع اليوغوسلافية في الولايات المتحدة. لكن هذين القرارين بقيا بدون تأثير مباشر على الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي كان مصرّاً على بسط سيادة صربيا على الإقليم بقوة السلاح.
هذا الموقف الصربي المتشدّد أدّى إلى تصاعد أعمال العنف في اقليم كوسوفا حيث بلغ عدد المشردين في خريف عام 1998 حوالى 300.000 الباني باتوا يواجهون الموت بسبب الصقيع أو الجوع. ومجدداً أصدر مجلس الأمن في 23 أيلول 1998 قراره رقم 1199 الذي تحدّث عن “كارثة انسانية حتمية” اذا لم تتوقّف أعمال العنف فوراً, معتبراً التطورات العسكرية مهددة للسلام والأمن في المنطقة(28).
ويظهر من قراءتنا لنصّ هذا القرار صعوبة توصّل الأعضاء الدائمين في المجلس إلى اتفاق بشأن الرد العسكري على سياسات ميلوسيفيتش في كوسوفو. وعليه, لم يعد أمام حلف شمال الأطلسي سوى خيارين اثنين: إمّا ترك عمليات التهجير والتطهير العرقي لألبان كوسوفو تستمر على أيدي الصرب, أو المواجهة العسكرية.
في تلك الأثناء وافق الصرب وجيش تحرير كوسوفا (KLA) على الاجتماع في رامبوييه بغية التوصّل إلى حل سلمي للنزاع. وبعد مفاوضات شاقة وطويلة, احتاجت إلى تدخّل شخصي من قِبَل وزيرة الخارجية الاميركية, وقّع ممثلو جيش تحرير كوسوفا اتفاق رامبوييه في 18 آذار 1999 في حين رفضه الزعيم الصربي. وتضمن الاتفاق المذكور عدة بنود أهمها الدعوة إلى إجراء استفتاء شعبي في الاقليم لتحديد وضع كوسوفو النهائي بالنسبة للاستقلال أو البقاء ضمن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية. وهذا ما أثار حفيظة ميلوسيفيتش الذي انفجر بوجه رئيس البعثة الالمانية صارخاً: “كوسوفو مسألة داخلية, لا تعني سوى بلادي”, رافضاً أية محاولة لتدويل الأزمة(29).
من جهته, علّل الدكتور كيسنجر أسباب بلوغ مؤتمر رامبوييه الطريق المسدود على النحو التالي: “ما عقّد من أزمة كوسوفو هو مؤتمر جاء بمشروع اتفاق محضّر سلفاً في وزارات أجنبية ليفرض على فرقائه تحت التهديد بالقصف الجوي. فجيش تحرير كوسوفا رفضه في البدء كوسيلة لفرض قوّة الحلف على صربيا, مما دفع بميلوسيفيتش إلى زيادة ضغطه على جيش تحرير كوسوفو قبل أن تنهال عليها القنابل. والصرب رفضوه لأنهم وجدوا في نصّه مقدمة لاستقلال كوسوفو, وفي وجود جيوش الحلف نوعاً من الاحتلال الخارجي... أمّا جيش تحرير كوسوفا فكان هدفه استقلال الإقليم لا الحكم الذاتي, ولذا رأى في مؤتمر رامبوييه وسيلة تكتيكية لإطلاق قوات الحلف هولها الجوي على الصرب”(30).
وبالفعل, شعر الصرب بـ “المؤامرة” أثناء مؤتمر رامبوييه الذي بدا لهم فخّاً حاكه الأميركيون. وما عزّز شعور صربيا ما قاله أحد مساعدي مادلين أولبرايت: “كان ثمن انقاذ مؤتمر رامبوييه أن نتقرّب أكثر فأكثر من ألبان كوسوفو”(31). وفي المقابل, هناك نظرية تقول ان الرئيس ميلوسيفيتش استغلّ مؤتمر رامبوييه كستار لتنفيذ عملية “حدوة الحصان”. وقد سميت كذلك لأنها كانت ترمي إلى نشر القوات الصربية بشكل حدوة حصان إنطلاقاً من شمال كوسوفو, لتهجير السكان الألبان جنوباً وشرقاً وغرباً(32).
أخيراً, وأمام انهيار مؤتمر رامبوييه, بدأت قوات حلف شمال الأطلسي عملية “قوات الحلف” العسكرية ضد القوات الصربية في اقليم كوسوفو, وذلك في 24 آذار عام 1999.
يمكن اعتبار حرب كوسوفو أكبر وأشمل حرب جوية تقودها الولايات المتحدة في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كما يمكن اعتبار تلك الحرب من أخطر الأزمات التي واجهها الرئيس كلينتون على الصعيد الخارجي خلال فترة رئاسته. ومنذ البداية, استبعد الرئيس الأميركي ومساعدوه أي امكانية لإرسال قوات برية لغزو صربيا لأن في ذلك مغامرة كبيرة قد تعرّض حياة الجنود الأميركيين للخطر. أضف إلى ذلك ان القوات الصرية مجهزة بصواريخ مضادة للدبابات والطرق والجسور مزروعة بالالغام, كما انه ليس من المؤكد أن تصل القوات الأطلسية إلى داخل الاقليم قبل أن ينهي الصرب تنظيف كوسوفو من الألبان. خلاصة القول ان الرئيس الأميركي رفض الهجوم البري لأنه لا يريد أن يُلزم إدارته في نزاع مفتوح على كلّ الاحتمالات, وفي منطقة لا يعرف أكثر الأميركيين موقعها على الخارطة الدولية. أما إذا فشل القصف الجوي فسوف تواصل قوات الأطلسي وببساطة عمليات القصف(33).
ويمكن اعتبار ستراتيجية القصف الجوي لـ”دوافع إنسانية” ووسيلة وحيدة للحرب ضد صربيا, مغايراً كلياً لمبدأين اعتمدهما الجنرال كولن باول خلال قيادته لحرب الخليج الثانية. هذان المبدآن هما:
1 ــ إمّا أن تدخل أميركا الحرب بجميع الوسائل العسكرية لتحقيق النصر أو أن لا تتدخّل على الاطلاق.
2 ــ أن لا تبدأ الولايات المتحدة الحرب, أية حرب, إن لم تكن تعرف مسبقاً كيف تطفئها(34).
الواقع ان هذين المبدأين تبخّرا في حرب كوسوفو, ولم يكن ذلك مجرد صدفة بريئة, خاصة بعد الملاحظة الساخرة التي وجهتها مادلين اولبرايت إلى الجنرال باول عام 1993 متسائلة:”ماذا تنفع فرقنا العسكرية, يا جنرال, إن لم نستعملها؟ (35). وفي الحقيقة ان السناتور جوزف بيدن, الذي ساعد الرئيس كلينتون كان رسم إطار تحرّك القوات الأميركية في كوسوفو, معلناً “ان مبدأ باول قد أصابه الشلل لأن العمليات العسكرية تُدار في منطقة معقّدة حيث لا يوجد مخرج ستراتيجي واضح المعالم. وعلى الرئيس الأميركي أن يتمتع بالقدرة لتوظيف السلاح دون معرفة دقيقة بالنتائج المحتملة. هذه ببساطة طبيعة العالم اليوم”(36). لذا, يمكن القول ان التدخّل العسكري الأميركي في كوسوفو, الذي تمّ تبريره على أساس إنساني, أي حماية ألبان كوسوفو, لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح الولايات المتحدة الوطنية. وعليه, فالتدخّل العسكري الأميركي في كوسوفو يتألّف من قسمين:
1 ــ حق واشنطن في استخدام السلاح باسم القيم الدولية وليس باسم المصلحة الوطنية الضيقة.
2 ــ حق الولايات المتحدة, في دفاعها عن تلك القيم, في التدخّل العسكري في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وبشكل معارض كلياً لمبدأ السيادة(37).
هذا المبدأ العسكري, الذي عُرف بمبدأ كلينتون, تحكّم بالستراتيجية العسكرية لقوات الناتو في كوسوفو. لكن ما لم يدركه الرئيس كلينتون هو مدى أهمية كوسوفو بالنسبة للصرب. فصربيا قاومت في الماضي الأمبراطوريتين العثمانية والنمساوية, وقاومت هتلر وستالين, ومن المستحيل أن تستسلم بسهولة تحت تهديد القصف الجوي. وقد ذكر أريك لوران عن لسان أحد مستشاري الرئيس كلينتون قوله: “ان أزمة كوسوفو مجرّد عملية مع رجال شرطة, كالتي كنّا خضناها في هاييتي. بعد أيام من سيطرة قوات الأطلسي سيتصالح الصرب والألبان, وسترون...”(38). أما خافير سولانا, الأمين العام للناتو, فكان يردد في مجالسه الخاصة: “هذه مشكلة لم تنشأ في 24 ساعة, ولن تحل في 24 ساعة”(39). فبعد عشرة أيام على بداية القصف الجوي, تمكّن ميلوسيفيتش من بسط سيطرته على كلّ الإقليم, مشرّداً حوالى نصف مليون الباني, الأمر الذي خلق مشكلة إنسانية توجب على قوات الحلف معالجتها.
بالطبع, ساهمت واشنطن بأكثر من نصف الطائرات الحربية لقوات الناتو, أي ما يزيد على 700 طائرة متعددة الأنواع نذكر منها:
1 ــ قاذفة قنابل ب ـ 2, والتي بلغت تكاليفها ملياري دولار, انطلقت من قاعدة ميسوري في الولايات المتحدة لتضرب أهدافاً في كوسوفو, مسقطة 16 قنبلة مدمرة على مراكز صربية عسكرية.
2-¬ قاذفات ب ـ 52, والتي صنعت قبل أربعين عاماً. وهذه القاذفات تطير بمنأى عن الأجهزة الدفاعية للعدو. وكانت أطلقت صواريخ كروز 8 AGM 86 يزيد وزنها عن 900 كيلواغراماً من القنابل الشديدة الانفجار.
3 ــ طائرات F-711A, وهي من أكثر طائرات الشبح تطوّراً في العالم. تحمل اسم Night Hawk (أو صقر الليل). ومنذ “عاصفة الصحراء” وحتى حرب كوسوفو قامت هذه الطائرة بحوالى 1788 غارة جوية دون أية خسائر, وهي متخصصة بقصف مراكز الاتصالات.
4 ــ طائرات اباتشي (Apache AH-46) , وهي مزودة برادار متطّور وبنظام للكشف في الليل, وتقوم بغارات على علو منخفض. أما وظيفتها الرئيسية فتمكن في تدمير الدبابات ومراكز الرادار في كلّ الأحوال الجوية. تبلغ سرعتها 296 كلم في الساعة وتبلغ تكاليف صناعتها 15 مليون دولار.
5 ــ قاذفات F-51 و F-81 وطائرات A-01 Warthogs ونظام AWACS للتشويش على أجهزة الرادار والاتصال الصربية. كما استخدمت واشنطن صواريخ Toma Hawk التي انطلقت من حاملة الطائرات تيودور روزفلتUSS العاملة في بحر الأدرياتيك ومن الغواصات البريطانيةHMS . وتدار هذه الصواريخ بالأقمار الصناعية وتحمل رؤوساً مدمرة تزن 450 كيلوغراماً. ولقد تمكّنت هذه الصواريخ من تدمير مراكز دفاع واتصال صربية في الساعات الأولى للحرب.
6-¬ وضعت واشنطن 50 قمراً صناعياً في المدار الخارجي للأرض لمراقبة صربيا وكوسوفو على مدار الساعة. وكان قمر المراقبة الصناعي الفرنسي “هيليوس” يبثّ صوره عن تحرّكات الجيش الصربي إلى مركز العمليات المشتركة الموجود في وزارة الدفاع الفرنسية(40).
أمّا بالنسبة للقوات الصربية, فقد دفع ميلوسيفيتش بحوالى 43000 جندي إلى داخل كوسوفو مزودين بصواريخ ارض ــ جو من طراز SA-2, SA-6, SA-8 , 60 طائرة MIGZ1, 15 طائرة MIGZ9 (تمّ إسقاط 5 منها في بداية الحرب), 5 غواصات قديمة نــسبياً, دبابات سوفياتية من طراز T-27 وخمسة اجهزة لكشف الغواصات في بحر الأدرياتيك.
وتألّف سيناريو القصف الجوي من ثلاث مراحل هي:
1 ــ المرحلة الأولى: شاركت في هذه المرحلة 400 طائرة حربية حليفة هدفها تدمير مراكز الدفاع الجوي الصربي, كقواعد الصواريخ المضادة للطائرات ومدارج إقلاع الطائرات. وفي الأيام الثلاثة من بدء هذه المرحلة, تمكنت طائرات الناتو من تدمير 50 مركزاً دفاعياً صربياً مقابل خسارة طائرة حليفة واحدة.
2 ــ المرحلة الثانية: وسّعت قوات الحلف دائرة القصف لتشمل 300 هدف عسكري. وكان ويسلي كلارك, القائد العام لقوات الحلف, قد أعدّ لائحة بأهداف جديدة يرغب في قصفها “فوراً وسريعاً”: تجمّعات الشاحنات العسكرية, الدبابات ومراكز المدفعية, الجسور, الوزارات, مركز الحزب الحاكم, محطات التلفزيون, مصانع الأسلحة, ومستودعات النفظ. في هذه المرحلة قامت الطائرات بالتحليق بشكل منخفض وبطيء لضمان نجاح الغارات في تحقيق أهدافها.
3 ــ المرحلة الثالثة: تضمّنت هذه المرحلة قصف المراكز العسكرية (حوالى 1000 هدف) داخل صربيا نفسها. لكن هذه المرحلة كانت مشروطة باستمرار العمليات العسكرية وبموافقة دول الحلف(41).
مما لا شك فيه ان تأثير القصف الجوي على صربيا كان عظيماً. فقد دمرت الغارات الأطلسية شبكة المصانع والطرقات والجسور والسكك الحديد ووسائل الاتصالات والمصفاتين الرئيسيتين اللتين تغذيان البلاد. وتشير التقديرات إلى ان تدمير المصنع أوقف عن العمل نحو 400.000 عامل أضيفوا إلى نصف مليون شخص أصبحوا في العراء, و100.000 آخرين غادروا البلاد التي, ازاء هذا الوضع الاقتصادي المنهار, عادت ثلاثين سنة إلى الوراء. ففيما كان معدل دخل الفرد اليوغوسلافي 3000 دولار قبل الحرب, انخفض إلى 1000 دولار بعد انتهائها, مع تضاعف في نسبة البطالة التي وصلت إلى حدود 54 في المئة نتيجة الكوارث التي خلفتها الحرب.
من جهته, أعلن خافير سولانا ان الحملة الجوية ضد يوغوسلافيا حققت كلّ أهدافها. فللمرة الأولى في تاريخ حلف الأطلسي تشارك الدول الأعضاء فيه لتحقيق المبادئ التي قام عليها الحلف. فبعد 77 يوماً من القصف الجوي المركز عاد حوالى مليون لاجئ الباني إلى كوسوفو, وتوقفت أعمال التطهير العرقي, ولم تبقَ أية قوة صربية في كوسوفو, ونشرت قوات دولية “فاعلة” لمنع تكرار الجرائم الصربية وبناء السلام عبر قيام إدارة انتقالية في الاقليم(42). ورأىJonathan Eyal في معرض تقييمه لعملية “قوات الحلف” ان حرب كوسوفو ساهمت في حلحلة ثلاثة تحديات واجهت حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة:
1 ــ وضع الناتو مفهوماً ستراتيجياً جديداً يوسّع مهماته من خلال “إدارة الأزمات” في أوروبا والشرق الأوسط وشمال افريقيا, وفي ذلك تغييب لإرادة المجتمع الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
2 ــ أظهرت حرب كوسوفو ان النزاع في أوروبا لا يقتصر حلّه على الأوروبيين لحاجتهم إلى تدخّل عسكري أميركي مباشر, وهذا التدخّل الأميركي لا يمكن شرعنته إلاّ من خلال حلف الناتو.
3 ــ لم تؤثّر حرب كوسوفو سلباً على تضامن الدول الأعضاء في الحلف. حتى فرنسا التي حافظت تاريخياً على نوع من الاستقلال في قرارها العسكري, شاركت بشكل كامل في الحرب كجزء من التنظيم العسكري للناتو. في السياق نفسه يمكن أن نذكر مشاركة اليونان وتركيا جنباً إلى جنب في الحرب على الرغم من خلافاتهما
العميقة(43).
ثالثاً: مستقبل الستراتيجية العسكرية الأميركية:
لا يشارك الكثيرون خافير سولانا رأيه في أنّ حلف ناتو حقق كلّ أهدافه في حربه ضد صربيا. على العكس من ذلك تماماً, فان حرب كوسوفو تمثل خرقاً فاضحاً لمبدأ Clausewitz حول “ضبابية الحرب” والحوادث غير المتوقّعة التي قد تعيق عملية تحقيق النصر. فخلافاً لكلّ التوقعات الاطلسية بإمكانية انهاء الحرب خلال ثلاثة أيام, استمرّت العمليات العسكرية على مدى أحد عشر اسبوعاً كانت غاية في الألم, وسجلت مفترقاً أساسياً وتاريخياً في علاقة واشنطن بروسيا والصين. هذا, وقد أغرق القصف الولايات المتحدة وحلفاءها في أزمة معقّدة للغاية لا يبدو انها على أهبة الخروج منها بسهولة. وبالفعل فقد واجهت عمليات القصف صعوبات جمة نذكر منها:
1 ــ عدم وجود خط فاصل بين المتقاتلين في كوسوفو مما أعاق القصف الجوي الدقيق والمركز وأتاح للجيش الصربي الانسحاب بانتظام من الاقليم دونما خسائر كبيرة في صفوفه.
2 ــ رداءة الطقس التي أرغمت مسؤولي حلف الناتو على إلغاء 50 في المئة من ضرباتهم القررة.
3 ــ الأوامر الصارمة المعطاة للطيارين بأن يقصفوا أهدافهم من علو 5000 متر , الأمر الذي جعلهم يقصفون دون معرفتهم الأكيدة بالهدف.
4 ــ ان فعالية القصف لم تكن مطابقة للنظرية, كما كانت الأقمار الصناعية التجسسية هي الأخرى مضللة. ففي حين كانت أنظمة الاتصال التابعة للقوات الصربية جزءاً من أوائل الأهداف المقصودة, كان رجال الفرق الميدانية الصربية يستخدمون أنظمة بدائية معظمها أجهزة اتصال عادية, وكانت صواريخهم مخبأة في أعماق الوديان ودباباتهم مموهة في الساحات. كما كان الجنود ينتقلون بثياب مدنية حيناً, أو يمتزجون بمواكب اللاجئين الهاربين حيناً آخر.
وكانت نتيجة تلك الضبابية الناتجة عن كل هذه الصعوبات ان ارتكبت قوات الناتو عدة أخطاء أعاقتها في ما بعد من تحقيق نصر واضح لا لبس فيه. من هذه الأخطاء نذكر:
1 ــ قصف السفارة الصينية في بلغراد في 7 ايار 1999 ومقتل ثلاثة من الصحافيين الصينيين, وما نتج عن ذلك من توتر في العلاقات الاميركية ــ الصينية.
2 ــ قصف قطار لنقل الركاب كان يعبر جسراً معتبراً “هدفا عسكرياً” مما أوقع اكثر من 10 ضحايا من المدنيين.
3 ــ في مساء 27 نيسان 1999 حدث ما لم يكن إطلاقاً في الحسبان, إذ سقطت طائرة F-711 من غير المفترض نظرياً أن تصاب, وهي من أغلى الطائرات الحربية على الإطلاق.
4 ــ أظهرت الإحصاءات ان 6000 طلعة جوية أصابت فقط 150 هدفاً, وكان على قوات الحلف, كي تصيب هدفاً واحداً, أن تطلق أكثر من 35 طائرة بين قاصفة وداعمة. ولقد صدر في النيويورك تايمز مقال ساخر جاء فيه: “ماذا ينفع استخدام قنبلة متطوّرة كلّف صنعها مليون دولار حين يكون الهدف المصاب مجرد.... شاحنة؟”. وفي منتصف نيسان 1999 قدّرت واشنطن بلوغ تكلفة الحرب بنحو 4 مليارات دولار.
ان حرب كوسوفو تمثّل دراسة نموذجية لمنطق التناقض المنسجم المكونّ, للستراتيجية. ويمكننا ملاحظة ذلك على النحو التالي:
1 ــ إدّعت واشنطن أكثر من مرة ان الحرب ضد صربيا هدفت لحماية الألبان الأبرياء. غير ان استمرار الحرب سمح للصرب بمتابعة مذابحهم وحملتهم لطرد الألبان من كوسوفو. والحقيقة انه قبل الحرب بلغ عدد القتلى في الإقليم من جراء الحرب الأهلية حوالى 2500 قتيل, لكن بعد أسبوع واحد على بدء القصف الأطلسي بلغ عدد القتلى الألبان حوالى 10.000 قتيل. وبينما قدّر عدد اللاجئين الألبان قبل الحرب بحوالى 130.000 لاجئ, تضاعف هذا العدد كثيراً بسبب عملية “قوات الحلف” ليصل إلى أكثر من مليون مشرد(44).
2 ــ من أهداف الحرب ضد صربيا إعادة السلام والرخاء إلى منطقة البلقان. لكن من نتائج الحرب ان أصبحت كلّ الدول المجاورة لصربيا تعاني من عدم الاستقرار. مثال على ذلك, لم يعد باستطاعة البانيا تحمّل أعباء تقديم المساعدات للاجئين الوافدين اليها. كما ان مكدونيا بدأت تعاني من عدم الاستقرار نتيجة هشاشة التوازن بين السلاف والألبان المقيمين على أراضيها. أما كوسوفو فأصبحت رماداً. وف