القبيلة والدولة في عصر البداوة الجديدة
عبد الله السيد ولد أباه*
تشكل النظرة التقديسية للدولة من حيث هي التعبيرعن هوية الكيان الجماعي اتجاها قارا في فكر الحداثة، مما نلمسه في صيغتين:
اعتبارها الكيان المطلق الضروري للسلم والأمن (هوبز) أو النظر إليها بصفتها تجسيدا للإرادة المشتركة (روسو). وقد وصل هذا التصور مداه في فكر هيجل الذي يشكل صياغة مكتملة لفلسفات الحداثة.
وسنكتفي في هذا الحيز بالإشارة المقتضبة إلى نظريتي روسو وهيجل حول الدولة، لتبيين دورهما في التصورات السياسية الراهنة للدولة في مقابل الوحدات الانتمائية الخصوصية، التي نطلق عليها -ببعض التجوز- التشكيلات القبلية الخارجة عن النسق الكلي للدولة.
فروسو وإن انطلق من التصور التعاقدي للدولة بما يقوم عليه من مقاربة ذرية فردية تكرس أولوية الحقوق الذاتية، إلا أنه ينتهي إلى تحميل الدولة معقولية جوهرية تتجاوز الحيز الضيق للإرادات الفردية الحرة.
ففي مقابل هوبز الذي حافظ على التصور الاصطناعي الإرادي للعقد الاجتماعي، يرفع روسو العقد من إطاره القانوني إلى مستوى مقوم الحالة السياسية.
فمفهوم الإرادة المشتركة الذي بلوره روسو في الجزء الرابع من كتابه الرئيسي (العقد الاجتماعي) يؤسس لنظرة جوهرانية للدولة كتعبير عن روح (الشعب) الذي لم يعد يعني أفرادا متعاقدين أحرارا، بل ذاتا جماعية بهوية منسجمة.
يوضح روسو هذا التصور بقوله: (ما دام عدد من الأفراد المجتمعين يعتبرون أنفسهم جسما واحدا، فإن إرادتهم واحدة تتعلق بحفظ الوجود المشترك ورفاهية المجموع. وعندئذ تكون كل مرتكزات الدولة حيوية وبسيطة، وكل أوامرها واضحة ونيرة، لا أثر لنوازع غامضة ومتناقضة، فالخير الجماعي يبرز في كل مكان ببداهة، ويكفي الحس السليم لإدراكه)(1).
فالعقد -من حيث هو تعاقد بين الشعب ونفسه (وليس بين ذوات فردية متمايزة ومتصادمة المصالح والإرادات)- هو في الواقع تعاقد ذاتي بين الفرد ونفسه، ومن ثم لا يصدر عن نظام الطبيعة ولا الميكانيكا النفعية، وإنما عن الإرادة العقلانية.
فالإرادة المشتركة ليست حصيلة الإرادات الفردية أو نتاج صفقة توافقية بينها، وإنما تتحدد بغائيتها العقلانية التي هي المصلحة الجماعية، ومن ثم فإن لها طابعها المتعالي على مجموع الأفراد حتى في ائتلافهم وتعاضدهم، مما تكرسه فكرة سمو القانون على الإرادة البشرية.
ومن هنا يفضي تصور هيجل السياسي إلى الاستبدال بالإرادة الفردية الذاتية إرادة الكلي الجماعي الذي هو الدولة(2).
ولئن كان هيجل ينتقد بشدة التصور الروسوي للدولة، إلاّ أنّه يعتبر أنّ روسّو مَهّد للمثالية الألمانية بإعلائه من شأن الفكر والحرية، فهو الذي (جعل الإرادة مبدأ الدولة)، إلا أن هذه الإرادة الحرة تظل حتى في صيغتها الكلية (الإرادة المشتركة) مجردة غير جدلية، مما يفضي بها إلى تسويغ القمع والعنف.
فالوعي بالذات كإرادة مباشرة للكلي تتجذر في النزوع الذاتي والنفعي لعقلانية الأنوار. من هذا المنظور يقع نفي كل التحديدات المضمونية للحرية باسم المقتضيات الإطلاقية للفكرة، أي الذوبان الكلي للإرادات الفردية في الإرادة المشتركة. فلا مجال هنا لدوائر وسيطة بين الإرادة الطبيعية للفرد والإرادة العقلانية للدولة؛ لأن الموضوعية المتناهية لا يمكن أبدا أن تساوق لانهائية مفهوم الحرية(3).
في مقابل تأسيس الحالة السياسية على الإرادة الحرة المجردة، يذهب هيجل إلى تعريف الدولة بأنها (الواقع الفعلي للفكرة الأخلاقية)(4)، أي أنها التجسيد الموضوعي للإرادة، باعتبار أن السياسة كما يعرفها هيجل هي (علم الإرادة). وما دامت الإرادة تتماهى مع الحرية من حيث هي فكرة نفي التحديدات، إلا أن كل فعل حرية يقتضي تشكلا وضعيا، ومن ثم فإن الدولة هي شرط التحقيق التاريخي للحرية أي التجسيد الوضعي للنفي.
ويوضح هيجل هذا التصور بقوله: (إن الدولة هي العقلاني في ذاته ولذاته. فهذه الوحدة الجوهرية هي هدف في ذاته، مطلق وثابت، من خلاله تنفذ الحرية إلى حقها الأكثر سموا إزاء الأفراد الذين يتمثل واجبهم الأعلى في أن يصبحوا أعضاء في الدولة)(5).
فأهمية الدولة تكمن بالنسبة لهيجل في أنها تكفل للفرد انجاز نوازعه الأخلاقية، بتحويلها إلى انسجام مع المطلق الكلي. ويمكن القول هنا: إن هيجل يحن (كما هو بارز في أعمال الشباب) إلى نموذج المدينة اليونانية ككلية عضوية6، معتبرا أن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج الدولة؛ لأن (الدولة هي جوهر التاريخ الكوني الذي تدفعه تعددية الدول)(7).
ومع أن أريك فيل -أحد أهم قراء هيجل- اجتهد في دفع التهم التي كثيرا ما توجه لتصور هيجل للدولة بصفته تنظيراً للاستبداد والإطلاقية(
مبينا على الخصوص أن الدولة المطلقة لدى هيجل ليست سوى صياغة جدلية كلية للإرادة الحرة باستيعاب المضمون الليبرالي الفعلي للدولة - الأمة الحديثة(9)، إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن الدولة تظل بالنسبة لهيجل -على الرغم من كل الاحتياطات اللفظية- الشرط الضروري لتجسيد الجانب العقلاني الأخلاقي في الإنسان، فهي تؤدي في العصر الحديث دور الدين الإدماجي العضوي.
ومن الجلي أن هذا التصور الدولوي قد نفذ بقوة إلى الدراسات الاجتماعية، وغدا يشكل أحد ثوابت الفكر السياسي المعاصر. وتكتفي الإشارة المقتضبة إلى أبرز علمين في علم الاجتماع الحديث: إميل دوركايم وماكس فيبر (على اختلافهما الواسع في الخلفية والمنظور).
أما دوركايم فيتناول مسألة الدولة - في إطار إشكالية محددات التضامن الاجتماعي التي ارتكزت عليها أعماله النظرية والتطبيقية- من منطلقين: وصفي يتمثل الدراسة الوضعية للميكانزمات المنتجة للنسق الاجتماعي بالكشف عن منطقها الداخلي وآليات اشتغالها(10)، ومعياري يكمن في تحميل علم الاجتماع مهمة سياسية قوامها تدعيم التضامن الاجتماعي وتوطيد الهوية القومية على أساس نمط من الأخلاقية المدنية(11).
من هذا المنظور يميز دوركايم بين نمطين من التضامن بحسب طبيعة المجتمعات الإنسانية: التضامن الميكانيكي الذي يسم المجتمعات البدائية البسيطة، والتضامن العضوي الذي يطبع المجتمعات المعقدة الحديثة.
فالمجتمعات التقليدية المحدودة يقوم فيها التعاضد الاجتماعي على المشاعر المشتركة القوية والمعتقدات والقيم الجماعية التي تتمحور حول الدين، ولا مكان فيها للفرد داخل الدائرة الجماعية. فالقانون السائد في هذا الصنف من المجتمعات قمعي صارم يحول دون أي تميز أو انشقاق عن نظام المجموعة.
أما السمة المميزة للمجتمعات الحديثة فهي الفردية الناتجة عن عصر التصنيع وقسمة العملة المرتبطة به. فهي مجتمعات معقدة، شديدة التنوع، تعلي من شأن حرية الفرد واستقلاليته، وينمو فيها الوعي الفردي، مما ينتج عنه ضعف الوعي الجماعي. فالقانون السائد في هذا الضرب من المجتمعات تعويضي لا يرمي إلى نبذ الفرد المنتهك للنظم المعيارية القائمة وإنما حمله على إصلاح الخلل الذي أحدثه في النسق الاجتماعي.
فالتضامن الاجتماعي هنا يرتكز على مقتضيات التبادل والتكامل الناتجة عن تقسيم العمل. إلا أن هذا النظام يمكن أن يعاني من ظواهر مرضية سببها طغيان الفردية المشطة وتراخي الروابط الاجتماعية.
وينيط دوركايم الدولة وحدها مسؤولية إصلاح هذه الاختلالات، من حيث كونها تحافظ على الانسجام والتوازن والتعاضد من حيث كونها تسمو على الفرديات وتحافظ على القيم المشتركة.
وهكذا يماهي دوركايم بين الدولة والنسق السياسي المشترك، معرفا إياها بأنها (مجموع الأجسام الاجتماعية التي تختص بالحديث والتحرك باسم المجتمع). فمنذ أن وصلت المجتمعات السياسية إلى درجة معينة من التعقد، لم يعد بمقدورها أن تؤدي أي فعل جماعي خارج تدخل الدولة.
وإذا كانت وجدت مجتمعات بسيطة دون دولة، فإن تضامنها الذاتي قام على مجرد الغرائز الغامضة والمشاعر العاطفية، والدولة الحديثة هي وحدها التي حولت هذا التضامن الغريزي إلى مرتكزات عقلية مجردة وقوية. وهذا ما يهيئها لأن تكون (أداة العدالة الاجتماعية) بما أنها تقوم على الأخلاق المبنية على العقل الكلي وليس العاطفة الذاتية. كما أنها وحدها القادرة على تحرير الأفراد وضمان حقوقهم الفردية، من منطلق مبدأ المساواة والتجرد الذي تتأسس عليه(12).
ومع إن إشكالية ماكس فيبر تتمحور في سياق مغاير هو اجتماعيات الهيمنة (في مقابل اجتماعيات التضامن)، إلا أن الرجلين يلتقيان في رصد أثر العقلنة الحديثة على طبيعة انتظام المجتمعات الصناعية وعلى أنماط شرعيتها السياسية. من هذا المنظور يميز فيبر بين ثلاثة أصناف أساسية من الهيمنة: الكارزمائية (الانقياد لشخصية القائد)، والتقليدية (الخضوع لشخصية لمن تنتقل إليه السلطة عن طريق التقاليد الاجتماعية)، والعقلانية حيث الخضوع للمؤسسة المجردة غير الشخصية.
فهذا النوع الأخير من الشرعية هو الذي يميز المجتمعات الحديثة، وأبرز مظاهره هو التنظيم الإداري البيروقراطي القائم على التخصص الوظيفي والتسيير المستند للكفاءة الفنية، مما يكرس الولاء للدولة من حيث حضورها الشامل وتحكمها في الجسم السياسي، بصفتها (تحتكر العنف المشروع) حسب عبارة فيبر المشهورة.
ويربط فيبر بين مسار العقلنة الحديث وظاهرة (نزع القداسة عن العالم) التي تعني القطيعة مع الرؤية الدينية للكون وانسحاب المقدس من الشأن السياسي، ومن ثم فسح المجال لإدارة العلاقات الاجتماعية بمنطق المصالح البشرية والتواضعات الإنسانية الحرة(13).
ولا بد من التنبيه هنا إلى الاتجاه النقدي لمركزية الدولة في الدراسات والاجتماعية الذي ارتبط بأعمال العالمين الانتربولوجيين: الأمريكي مارشال ساهلنس والفرنسي بياركلاستر، وبالمدرسة الانتربولوجية الإنجليزية المدعوة بالانقسامية.
فما يجمع هذه الاتجاهات هو إعادة اكتشاف البنية الاجتماعية السياسية للمجتمعات غير الغربية ما قبل الحديثة، التي لم تعرف الأشكال المركزية للدولة، لاستجلاء أنسقتها السياسية الداخلية الكابحة للسلطة العمودية بدل النظر إليها كأصناف بدائية من المجتمعات بحسب النماذج المعيارية الغربية.
أما سلهنس فقد أوضح في كتابه الحدث (عصر الحجر) (الصادر عام 1972م) أن المجتمعات التي تطلق عليها الدراسات الاثنوغرافية القديمة تسمية البدائية ليست مجتمعات فقيرة عاجزة، بل هي مجتمعات وفرة محدودة الحاجيات، ليس وضعها نتاج تأخر تاريخي، بل حصيلة خيار ثقافي له منطقه الداخلي الذي لا يتسنى تفسيره بالمقاربات التطورية التاريخانية السائدة في الدراسات الانتربولوجية المتأثرة بالنظرة النفعية المهيمنة على الدراسات الاقتصادية المعاصرة(14).
وقد استفاد بيار كلاستر بوضوح من هذا التصور الجديد للمجتمعات البدائية، فذهب في كتابه المشهور (المجتمع ضد الدولة) -الذي صدر بعد سنتين من مؤلف سلهنس- إلى أن غياب الدولة في المجتمعات المذكورة ليس مظهر نقص أو تأخر تاريخي، بل يتعلق الأمر بصنف مغاير من التنظيمات الاجتماعية لا يحتاج لسلطة مركزية لتصريف شؤونه وإدارة روابطه الداخلية.
فالفوضوية هنا هي نظام سياسي متكامل بالنسبة لكلاستر، تقوم فيه علاقات الحكم على تبعية الحاكم للمجموعة، وليس للبنية الاقتصادية فيها أي وظيفة سياسية، بل تقوم الروابط الاجتماعية فيها على المساواة داخل التركيبة القبلية المتضامنة(15).
أما المدرسة الانقسامية فيمثلها عالمان انتربولوجيان بارزان هما ايفانس برتشارد الذي بلور نموذجه في دراسته على قبائل النوير في جنوب السودان، وأرنست غلنر الذي طبق النموذج ذاته على قبائل البربر في منطقة الأطلس المغربية.
وقد اعتبر بريتشارد أن المجتمعات الانقسامية هي نمط من المجتمعات التي تقوم بنيتها العلائقية على ثنائية الانشطار والانصهار المانعة لنشوء الدولة، بما يتجلى في الالتحام داخل المجموعة الضيقة والاصطدام الدائم داخل النسق العام للحيلولة دون بروز السلطة المركزية(16).
أما غلنر فقد خلص في دراسته الهامة حول (أولياء الأطلس) إلى أن القبائل البربرية الأطلسية تخضع لنفس التنظيم الانقسامي، ويؤدي فيها الصلحاء دوراً رمزياً معوّضاً للبنية القهرية للدولة(17).
وعلى الرغم من كل الانتقادات التي يمكن أن تُوَجَّهَ للمدرسة الانقسامية ومنها على الأخص اتهامها بالنظرة الضيقة الجامدة للحقل السياسي بالاكتفاء بالوقوف على البنيات القرابية الداخلية دون التنبه إلى علاقات الهيمنة وروابط السلطة المحايثة لها(18)، إلاّ أنّ هذه المدرسة أسهمت إسهاما مهما في إعادة النظر في الاجتماعيات السياسية، وأعطت دفعا قويا لنقد العقل السياسي الحديث في الفلسفات المعاصرة.
ومن النتائج المهمة لهذا الإسهام النظري إعادة الاعتبار للقبيلة والبداوة في مقابل الدولة وقيم الاستقرار والاكتمال التي ارتبطت بالنزعات التاريخانية والأيديولوجيات النسقية. وسنقف في هذا الحيز عند بعض الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية الأخيرة في هذه المقاربة البديلة التي تلتقي فيما يمكن أن نطلق عليه (فكر البداوة) الجديدة.
وترجع هذه العبارة إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دلوز الذي طرح منذ كتابه المشهور (ضد أوديب) الفكر المترحل مقابل الفكر التمثلي القمعي للدولة الحديثة الذي يحاصر الاختلافات ويقصي المغاير ويولد الهويات المتجانسة(19).
ويلاحظ دلوز أن التاريخ كتبه دوما المدينيون المستقرون باسم جهاز الدولة، بينما المطلوب اليوم هو كتابته من وجهة البداة المقصيين، أي وضع ما اسماه (بداولوجيا) NOMADOLOGIE التي هي نقيض التاريخ (بمفهومه النسقي الغائي والأحادي) السائد(20).
ويرى دلوز (أن التاريخ لم يفهم أبداً البداوة، ولم يفهم الكتّاب أبداً الخارج. فعبر تاريخ طويل، كانت الدولة نموذج الكتاب والفكر:اللوغوس والفيلسوف - الملك وتعالي الفكرة، وباطنية المفهوم، وجمهورية الأرواح، ومحكمة العقل، وموظفو الفكر، والإنسان المشرع والذات. إنه طموح الدولة في أن تكون الصورة المبطنة لنظام العالم وأن تجذر الإنسان)(21).
من هذا المنظور يرفض دلوز القسمة الانتربولوجية السائدة بين مجتمعات الدولة المعقدة والمجتمعات الانقسامية البسيطة القائمة على السلاسل النسبية، معتبراً أن الدول الحديثة لا تقل انقسامية؛ لأنها تمارس سلطتها في تقسيمات تضعها وتغذيها وتحافظ عليها، كما أن لها طابعها الانقسامي الخاص الذي تفرضه. ولذا بدل الحديث عن ثنائية المركزي والانقسامي، يتوجب التمييز بين نمطين من الانقسامية: الوحدة (البدائية) والمرنة والوحدة (الحديثة) والقاسية(22).
فالجسم الاجتماعي بالنسبة لدلوز هو سيولة متدفقة وموجات متتالية متنقلة، تخضع دوماً للضبط والتقنين وفق استراتيجيات وموازين السلطة، لكن الأنساق التقنينية ليس بمقدورها سد منافذ الانفلات والهروب التي هي خطوط البداوة المترحلة.
وإذا كانت أفكار دلوز تبلورت في السبعينيات في سياق نقده للتحليل النفسي وللمنظومة الرأسمالية من منطلق نظريته في الرغبة والسلطة ذات الجذور النتشوية، فإن تصوراته للبداوة وظفت في الدراسات الاجتماعية والفلسفية الأخيرة في إطار التفكير المتجدد في الدولة في عصر العولمة وما يطرحه من تحديات غير مسبوقة على هوية وتركيبة الدولة الوطنية.
نذكر في هذا الباب نماذج ثلاثة هي: نظرية (القبلية الجديدة) لدى عالم الاجتماع ميشل مافزولي، ونظرية (الإمبراطورية) لدى الفيلسوف الايطالي توني نغري (ومايكل هاردت) وأطروحة (الإنسان البدوي) لدى المفكر السياسي والاقتصادي الفرنسي جاك اتالي.
أما مافزولي فيذهب في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان (الأيقونولوجيات)(23) إلى أن حركية العولمة لم تفض -كما يظن عادة- إلى تنميط العالم وتقويض الخصوصيات الثقافية، بل أدت على العكس إلى تدمير شامل لمرتكزات الحداثة، بالرجوع إلى أنماط من الهويات ما قبل الحديثة، يعاد إنتاجها من المنظور التقني الجديد.
ويطلق مافيزولي على هذا الاتجاه عبارة (التجذر الديناميكي)، وتعني قولبة أشكال الماضي العتيق في صيغ ما بعد حديثة، مما نلمس آثاره في البنيات الاجتماعية أكملها من السياسة إلى الفن والخياطة.
فمن الجلي اليوم أن المجتمعات الغربية تعيش راهنا حنينا محموما للأشكال الثقافية العتيقة وللانتماءات الأصيلة، مما درسه الكاتب نفسه في كتاب سابق أطلق عليه (عصر القبائل)(24). ويعني تجدد القبيلة هنا نهاية البنيات الكبرى للحداثة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إيديولوجية.
فالحداثة عانت منذ البداية من مفارقة نادراً ما يتم الوعي بها وهي: التوحيد والتنميط بمحو الاختلافات والفوارق، بحيث يناط بالدولة من حيث هي التعبير الشامل عن النسق السياسي حماية الفرد من المجموعة. بيد أن الحداثة بقدر ما كثفت إمكانات الترابط الاجتماعي فرغتها من أي مضمون واقعي، في حين وفرت حركية ما بعد الحداثة فضاءات التواصل الحميمة الضيقة داخل الجسم الاجتماعي من خلال تفتيته الذي أطلق عليه مافيزولي مقولة القبلية الجديدة.
فالمؤسسات الاجتماعية الحديثة الكبرى ذات الطاقة التوحيدية التجميعية كالأسرة النووية والدولة القومية انهارت ولم تعد لها قبضة على النسق الاجتماعي المفكك، مما يفسر أزمات العالم المعاصر كالإرهاب والعزوف عن السياسة والانتخابات وانتعاشة الحركات الأصولية والتيارات الانعزالية...
فبعد عصر الحداثة المستقرة جاءت حقبة البداوة الجديدة التي هي سمة ما بعد الحداثة. ويتعلق الأمر ببداوة مترحلة تأخذ أوجها شتى، مهنية وجنسية وأيديولوجية وسياحية ودينية.... ومن المتوقع تعميم هذه السمة البدوية المترحلة.
وكما تغيرت مؤسسات الحداثة، تغيرت قيم العصر، فلم تعد تتمحور حول ثالوث العمل -المستقبل- العقل، وإنما حول القيم الجمالية الذوقية التي تعطي أهمية فائقة للجسد والمخيال واللعب.
إن هذه التحولات هي التي تسمح لمافيزولي بالقول: إن عصر ما بعد الحداثة هو أقرب للعصور الوسطى من العصر الحديث الذي كان قوساً قصيراً في تاريخ البشرية التي رجعت إلى قيم البداوة المتنقلة وأنماط التعاضد القبلية الضيقة(25).
وعلى عكس التصور التقديسي السائد للدولة القومية الحديثة (أي الدولة - الأمة كما تشكلت في أوروبا في القرن الثامن عشر) يستعير صاحبنا من الفيلسوف الأشهر ميشال فوكو نقده لاستبدادية الدولة الحديثة التي يطلق عليها صفة (الاستبدادية الرخوة) القائمة على النزوع الانضباطي الرقابي والتنميطي الشامل. فهذا النموذج الجديد من الدولة وإن نجح في احتكار العنف المشروع إلا أن النتيجة التي أفضى إليها كانت عودة أصناف العنف المقصية بطرق ملتوية تقمصت شرعية مموهة. وبقدر ما ارتكزت هذه الدولة على العقلانية المحضة همشت أشكال التعبير الثقافي غير العقلانية مما كانت نتيجتها عودتها بقوة في شكل التمثلات الدينية المنفلتة من الأنساق التقليدية المألوفة(26).
أما نغري فينطلق من مقاربة ماركسية جديدة في النظر لمرحلة ما بعد الدولة الوطنية التي أطلقت شكلا من القبلية الجديدة هي الجمهور في ديناميكيته المشتتة.
ويطلق نغري على عصر ما بعد الدولة الوطنية عبارة الإمبراطورية، التي لا تعني بالنسبة له -كما يظن عادة- قيادة أمريكا للنظام الدولي وتحكمها في حركية العولمة، بل الإمبراطورية هي كما يعرفها (جهاز لا مركزي ولا إقليمي من الحكم يدمج تدريجيا فضاء العالم كله داخل حدوده المفتوحة بصفة دائمة الاتساع. إن الإمبراطورية تسير الهويات الهجينة والتراتبات المرنة والتبادلات التعددية بضبط شبكاتها القيادية)(27).
إنها شكل جديد من الفضاء السياسي - الإقليمي يعوض الدولة القومية التي غدت عاجزة عن تسيير التبادلات الاقتصادية والثقافية، نتيجة لتغير بنية الإنتاج نفسه الذي انتقل من تسيير الثروة المادية إلى تسيير النوازع الحيوية والطبيعة الإنسانية ضمن ما دعاه نغري سيرا وراء فوكو بالسلطة الحيوية. وتستند هذه السلطة على التغير الذي طال شكل العمل الذي أصبح لاماديا ولا مركزيا يتمثل في المعلوماتية وإنتاج الشبكات والمشاعر والصور واللغة، مما نتج عنه نمط جديد من الاقتصاد هو الاقتصاد المعرفي - التفاعلي والسبرنتيقي.
وعلى عكس الرؤية المتفائلة التي تقدمها بعض الأدبيات العلمية الرائجة، يرى نغري إن السلطة الحيوية تولد أنماطا جديدة من الاستغلال والقمع، لا يمكن مواجهتها بمنطق الصراع الطبقي المألوف في الفكر الماركسي التقليدي.
ذلك إن الإمبراطورية لا مركز لها ولا خارج عنها، وليست موقعا ثابتا أو كتلة متجانسة، بل هي ديناميكية تشتيت وتجميع، تؤجج شتى الفوارق والتناقضات (القومية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية) وتخلق وسائط ضرورية لإزاحة القيود الإقليمية التي تعوق تمددها.
فلا حدود في الإمبراطورية، بل إن التخوم فيها مرنة دائمة التنقل، تتلاءم والقدرة الفائقة على إبداع الصيغ المتجددة من الذاتيات وأنماط الإنتاج والمعارف والعلاقات الاجتماعية(28).
وبقدر ما إن الإمبراطورية لا مركز لها ولا سبيل لأي دولة قومية أن تتحكم فيها، فإن مواجهتها من الخارج لا معنى لها، ولذا فالصراعات الاجتماعية الراهنة لا تدور بين طبقات أو قوى متمايزة، بل داخل الإمبراطورية ذاتها وعلى خط سلطتها الحيوية. وينيط نغرى هذا الصراع بالجمهور (وهي العبارة التي يستمدها من سبينوزا)، وهو مجموعة غير متجانسة من القوى والحساسيات والفرديات تتشكل في شبكات لمواجهة أصناف الاستغلال والقمع داخل الإمبراطورية أي أنها بعبارته (البديل الحي الذي ينمو في أحشاء الإمبراطورية)(29).
فالثورة الممكنة بالنسبة لنغري ليست انقلابيا راديكاليا من الخارج، بل مقاومة يومية دائبة لخصم غير محدد القسمات والوجه، مما يبعدنا عن التصورات الماركسية المألوفة.
أما أطروحة البداوة الجديدة التي يقدمها المفكر الفرنسي المعروف، جاك أتالي -في كتابه (الإنســان البــدوي)(30)- فتنطلق من القول، بأن الإنسان الذي بدأ منذ وجوده قبل ملايين السنين بدوياً راحلاً، عاد من جديد إلى أصله البدوي، عبر مسار العولمة الذي أفرز نمطا من البداوة الجديدة، ولم تكن محطة الاستقرار والتمدن سوى قوس قصير في تاريخ البشرية.
ويلاحظ أتالي أن الإنسان البدوي هو الذي أنتج العناصر المحورية لكل الحضارات، من اكتشاف النار إلى اللغات والأساطير والزراعة والتنمية الحيوانية والإبحار، انتهاء باكتشاف العجلة والديمقراطية والموسيقى والفنون، في حين لم يبدع الإنسان المستقر سوى القلاع والدولة والضريبة.
فالبدو لم يكونوا -على عكس الصورة الشائعة- أجلافا متوحشين يهدمون الحضارات ويقوضون المدن؛ بل هم في الحقيقة قوى الإبداع والاكتشاف الحقيقية التي أنشأت كل الإمبراطوريات من الصين إلى روما، ومن مصر إلى الإمبراطورية الأميركية اليوم. بل إن تجربة التاريخ تثبت أن المجتمعات تنحط وتتقهقر عندما تغلق حدودها وأبوابها دون الرحل والغرباء.
ويرى أتالي أنه في الوقت الذي نعيش اختفاء آخر الشعوب البدوية الأصلية بفعل العولمة، نلاحظ انبثاق أصناف جديدة من البداوة بأثر العولمة ذاتها وبفضل تقنيات التنقل الواقعية والافتراضية التي تقوم عليها.
فمن هم هؤلاء البدو الجدد؟
يجيب أتالي بتصنيف البشرية إلى ثلاثة أصناف:
- البداة المنحطون الذين يتوزعون إلى بقايا البدو الأصليين (الشعوب القديمة)، والبداة المضطرون الجدد مثل عديمي المأوى والعمال المهاجرين واللاجئين السياسيين والعمال المتنقلين وممثلي الوكالات التجارية.
ـ السكان المستقرون مثل المزارعين والتجار وموظفي الدولة والقطاعات العمومية والمهندسين والأطباء وعمال المصانع التقليدية والتقنيين والموظفين والمتقاعدين والأطفال.
ـ البداة الإراديون، أي الذين اختاروا بمحض إرادتهم نمط التنقل والترحال، ويتوزعون إلى قسمين هما من جهة، (البداة الأعلون) من مبدعين وأطر عليا وباحثين ومخرجين سينمائيين، ومن جهة أخرى بداة الترفيه من سياح ورياضيين وهواة لعب.
وستؤدي تطورات العولمة الاقتصادية إلى تعميق الهوة بين البداة المنحطين والسكان المستقرين من جهة، والبداة المتميزين الجدد من جهة أخرى. فالبداة المنحطون، وهم في المدى القريب أكثر من نصف البشرية، يتكدسون في الأحياء القصديرية المكتظة بمدن الجنوب، تتمايز أوضاعهم وتوجهاتهم بحسب السياقات الدينية والثقافية، يتأرجحون بين البحث عن حلول فردية لعوزهم عن طريق الاندماج في السوق بطرق شرعية أو غير شرعية، والثورة ضد السوق والإمبراطورية منطلقات أيديولوجية جماعية ذات غطاء ديني أو اجتماعي.
أما البداة المتميزون فيشكلون نمطا من الطبقة العليا المحظية، هم سادة العولمة، لا وطن لهم وليس لهم موقع شغل دائم، لا تهمهم الرهانات السياسية الضيقة حتى ولو كان البعض منهم يدافع عن نمط الديمقراطية الكونية، لا تحدهم حدود ولا يتعلقون بمؤسسات اجتماعية من أي نوع، تتأسس قيمهم على محض الرفاهية والتألق الفردي.
أما المستقرون، وأساسهم وكلاء الدولة وموظفوها والفئات المرتبطة بالاقتصاد التقليدي، فقد أصبح وضعهم هشا، يسعون عبثا إلى الوصول إلى مستوى البدو المتميزين الجدد، ويتخوفون دوماً من الانحدار إلى مستوى البدو المنحطين، يتمسكون بالهويات القومية والاجتماعية المهددة بالانحسار.
فالدولة القومية التي لم تعد تتحكم في مواردها، غدت تميل تدريجيا إلى التخلي لصالح السوق عن أغلب مصالحها السيادية بدءا من التربية والصحة العامة والأمن.
فباستثناء الإمبراطورية الأميركية التي يمكنها وضع القواعد حسب رغبتها، ستتحول الأمم قريباً إلى واحات تتنافس على استقطاب القوافل المتنقلة؛ إذ لم يعد يسكنها سوى فئات مستقرة هشة غير قادرة على التنقل أو بداة منحطون لا أمل لهم. لمواجهة هذه الاتجاهات المدمرة للدولة القومية تنزع بعض الأمم -كما هو الشأن في البلدان الأوروبية- إلى تقنين البداوة الجديدة داخل فضاء موحد (اتفاقات شنغان والاتفاقات المكملة لها التي تكرس بداوة قارية مفتوحة تدريجيا للمنطقة الآسيوية)، في حين تميل الولايات المتحدة إلى توسيع فضائها الاقتصادي مع الاحتفاظ بسيادتها القومية، فتشكل الإمبراطورية الوحيدة في العالم.
بيد أن أتالي يرى أن الإمبراطورية الأميركية تواجه تهديدا نوعيا خطيرا، ليس من الإمبراطوريات المستقرة المنافسة كما هو شأن أوروبا والهند والصين التي لن يكون بمقدورها التحكم في الاقتصاد العالمي، وإنما من المتمردين الذين يتحركون من داخل الولايات المتحدة وعلى حدودها. ولا يتعلق الأمر هنا بشعوب منظمة تثور على الهيمنة الأميركية، وإنما بقوى بدوية جديدة تنافس الإمبراطورية العالمية الكبرى وهي: السوق والدين والديمقراطية، ولكل واحدة منها مشروع كوني يسعى لتقويض الإمبراطورية والأمم.
أما قوى السوق التي انفصلت بالفعل عن أوروبا ودول الجنوب، فستستقل قريباً عن الدائرة الأميركية التي لا تزال تتكفل بإدارتها. فالرأسمالية بطبيعتها تنزع إلى العالمية وتطمح إلى أن تكون سلطة كونية متميزة عن الإمبراطورية الأميركية من حيث المصالح والقوانين والمقتضيات. فالبداة الأعلون الذين يحركون السوق سيعملون على إنشاء إمبراطورية بدون إقليم أو حدود تفرض قوانينها على كل الدول بما فيها الولايات المتحدة. كما أن الشركات البدوية لن تعترف بأي انتماء وطني، ولن يبقى من المؤسسات القومية سوى المنظمة العالمية للتجارة التي تسيّر الأسواق.
ولمواجهة هذا الخطر الماحق، ستسعى بعض الأمم إلى الانعزال عن اختراق إمبراطورية السوق التي ستنعت بإمبراطورية الشرّ، وستبرز أيديولوجيات كليانية تغلق الحدود وتطارد النخب، كما ستنبثق طوبائيات جديدة تدعو للعودة للبساطة والشظف، بيد أن الدين هو الذي سيوفر قوة التعويض الأساسية. ويرى أتالي أن الإسلام وحده هو الذي بمقدوره توفير طاقة التمرد المطلوبة، باعتبار الجمعية التعاضدية وطابعه الشمولي الذي أوحى لبعض المتشددين المنتمين إليه، برفض القيم الثقافية الغربية وخصوصاً الديمقراطية والسوق. فالإسلام إذن قادر على استمالة جموع غفيرة من سكان المدن المستقرين ومن البداة المنحطين، فيقدم لهم ما لا يستطيع السوق توفيره: أي أنماط ملموسة من التضامن والتآخي والتراحم تعزز لديهم الشعور بالكرامة وتولد لديهم الأمل وتخرجهم من العزلة والشك.
أما القوة الثالثة فهي الديمقراطية، التي هي مشروع كوني مناهض للإمبراطورية الأميركية وللبداوة الاقتصادية وللأيديولوجيات الاستبدادية المستندة إلى الدين. فالسوق تولد بذاتها طلبا ديمقراطيا بمستواها وحدودها، ومن ثم انبثاق مطلب إمبراطورية ديمقراطية على المستوى الكوني بدون حدود تكريساً لمفهوم المواطنة العالمية.
ولهذه الدعوة مناصرون عديدون، من بينهم البداة المنحطون الذين يطمحون إلى إسماع صوتهم خارج الأطر القومية والدينية، ويريدون استثمار تفوقهم العددي، ومن بينهم بعض السكان المستقرين الذي ينزعون إلى بناء ديمقراطيات إقليمية مندمجة (على غرار المجموعة الأوروبية) للوقوف ضد هيمنة السوق، كما أن بعض البداة المتميزين يتبنون المشروع ذاته؛ لأنهم يطمحون إلى إنشاء مؤسسات كونية دون حدود تفرض تدريجيا حق التدخل الإنساني، وتضع إطارا شاملا لممارسة الديمقراطية.
إن هذه القوى الثلاث التي تلتقي أحيانا وتتصادم أحيانا أخرى، تجمعها مناهضة الإمبراطورية الأميركية، وستنتصر في النهاية على هذه الإمبراطورية حسب توقع أتالي(31).
ولقد أحال براديغم البداوة إلى الدراسات الإستراتيجية الراهنة تفنيدا لإحدى الخرافات المألوفة في أيامنا وهي الاعتقاد السائد أن العالم صار قرية موحدة، انمحت حدودها واقترنت أحياؤها، بفعل حركية العولمة العابرة للقارات، فلم تعد للدولة الوطنية فيها قدرة على التحكم في حركة الناس والبضائع والأفكار.
ماذا لو كان المشهد معاكسا؟ ماذا إذا كانت قد نشأت أنماط جديدة من الحدود أكثر فاعلية وأبعد أثرا؟
ما القول في الجدار السميك الذي بنته الولايات المتحدة على حدودها مع المكسيك؟ والجدار الذي أقامته إسرائيل للفصل بينها والمناطق الفلسطينية المحتلة؟ وما القول في السور المنيع الذي ضربته سلطات الاحتلال الأمريكية داخل بغداد لتامين مراكزها ومكاتب الحكومة العراقية؟
تنضاف إلى هذه الجدران والأسوار الأحياء المقصية المعزولة في المدن الغربية الكبرى التي تخصص للاجئين السياسيين والمهاجرين غير الشرعيين والمهمشين اجتماعيا.
بل إن تحطم جدار برلين لم ينتج عنه على عكس الصورة السائدة انمحاء الحواجز التي كانت تمزق جسم أوروبا، بل كان بداية ظاهرة جديدة هي تكاثر الحدود وتنوع أشكال الأسوار والجدران.
ففي السنوات الخمس عشرة الأخيرة خطت عشرات آلاف الكيلومترات من الحدود السياسية الجديدة في أوروبا وآسيا من بينها 2800 كيلومتر في القارة القديمة ناجمة أساسا عن حروب البلقان.
بيد أن هذه الحدود التقليدية لم تعد وحدها هي نمط التخوم الفاصلة بين البلدان والأمم، ولعلها كانت أكثر وصلا وربطا بين الناس من أنماط الحدود الجديدة (ما بعد الحديثة). فالحواجز القديمة كانت تؤدي دوراً مزدوجاً من حيث هي في آن واحد خط فصل محدد ونقطة تواصل والتقاء. أما الحدود الجديدة التي قامت على أنقاض المفهوم التقليدي للمكان فتكرس القطيعة من خلال قناة التواصل ذاتها(32).
وقد بين الفيلسوف المعروف اتيان باليبار في كتابه (قريب جدا وبعيد جدا)(33) أن تفكك الدولة القومية الأوربية بفعل حركة الاندماج القاري الناجحة قوض آلية الفصل المألوفة بين الكيانات الوطنية التي تشكلت في العصور الحديثة من خلال الارتباط العضوي بين مفاهيم الشعب والدولة والأمة، مما نجم عنه انفجار أنماط جديدة من الحدود كانت مستوعبة في البنية المركزية القائمة.
وهكذا توحدت القارة اقتصاديا وسياسيا لكنها انقسمت ثقافيا ودينيا ولغويا فيما وراء خطوط الفصل الوطنية. فالخرائط اللغوية التي تشكلت في القرن التاسع عشر من منطلقات لسانية - تاريخية لم تعد فاعلة، فطفت مجددا الحدود اللغوية وأصبحت مدار نزعات إقصائية حتى داخل أكثر البلدان عراقة في المركزية القومية كما هو شأن فرنسا مثلا التي تحصى فيها الآن أكثر من عشر لغات غير اللغة الوطنية الأولى.
ولا شك أن الحالة القصوى اليوم في أوروبا هي الحالة البلجيكية، حيث مؤشرات التفكك بادية للعيان لأثر الصراع اللغوي بين الوالون والفلمان.
تنضاف إلى هذه الحدود البادية للعيان الحدود الثقافية التي أصبحت مدار اهتمام واسع في العالم، ورهانا استراتيجيا محوريا فيه. من منطق هذه الحدود تقصى مثلا تركيا من مشروع التوسع الأوروبي حتى لو كانت قد استوفت تقريبا كل شروط ومتطلبات الانضمام إليه، بما فيها الخيار السياسي العلماني.
من هذه المؤشرات أيضا الحدود الرقابية التي غدت تعوض الجانب الأوفر من مهمات الحواجز الإقليمية المادية. فالتقنيات الرقابية الجديدة أكثر فاعلية وفتكا من الفواصل التقليدية وتؤدي الدور نفسه بأساليب رخوة ناعمة. وكان ميشال فوكو قد نبه في أعماله حول نظام الرقابة والعقوبة إلى أن الدولة المعاصرة قد استبدلت آلية القمع البدني بتقنيات الانضباط التي تقوم على تسيير حياة الناس وتوجيه رغباتهم ومعارفهم، مما بلغ درجة تحققه القصوى في الفترة الراهنة.
من هذه الحدود الجديدة أيضا الحواجز المترتبة على انهيار نظام الأسرة التقليدي الذي لم يعد يقوم على الفصل بين الجنسين وإنما على أشكال متنوعة متداخلة من البنيات العائلية التي تفصل داخل الجنس الواحد بين أنماط متمايزة.
ليس إذن من الصحيح أن العولمة محت الحدود ووحدت العالم فأصبح مسطحا -حسب عبارة توماس فريدمان الشهيرة-(34) بل إن ما حدث هو انغلاق قوس المدنية المستقرة في تاريخ البشر وعودة الإنسان إلى بداوته الأثيرة، بفضائها الواسع وقيودها وحدودها الجديدة.
*************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من موريتانيا.
1-راجع:
DU CONTRAT SOCIAL ou principes du droit politique in
ROUSSEAU ECRITS POLITIQUES librairie générale française 1992 P 306.
2- راجع في هذا الباب مثلا:
S.GOYARD – FABRE politique et philosophie dans l oeuvre de rousseau Puf 2001.
JEAN ROY "penser l'état rousseau ou Hegel'' LAVAL THEOLOGIQUE 44
JUIN 1988 PP 169/190
3– نجد نقد هيجل لروسو في العديد من كتبه، على الأخص:
Principes de la philosophie du droit trad R.derathé vrin 1993 2 édition Encyclopedie des sciences philosophiques
Trad B.Bourgeois vrin 1972
Leçons sur l'histoire de la philosophie
Gallimard 1990
راجع في الموضوع:
J.D Hondt "le vieil Hegel et la critique des idées abstraites de Rousseau " in Rousseau ;die revolution und der junge hegel;
Publié par hans friedrich FULDA et rolf- peter HORSTMANN
.; stuttgart;klett-cotta 1991 pp 74-93 4-Hegel: principes de la philosophie de droit VRIN 1993 P 258 5-ibid p 258
6- حول تطور الفكر السياسي لهيجل راجع:
B.Bourgeois: la pensée politique de Hegel
Ceres Tunis 1994 PP 33-96
7- E.Fleishman: La philosophie politique de Hegel Gallimard 1992 P 256
8- من أهم من وجه هذا النقد لهيجل كارل بوبر في الجزء الثاني من كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه)
K POPPER:open society and its enemies
Princeton university press 1971
9- E weil: Hegel et l'état vrin 1970 PP 11 – 23
10- Durkheim: les règles de la méthode
Sociologique(1895) édition puf 1967
11– Durkheim: De la division du travail social(1893) puf 1967
12– Durkheim: "l état " in textes t.3 fonctions sociales et institutions minuit 1975 pp 172- 178
13 – Max weber: Economie et société tome 1 plon 1971 pp 219-241
14- M.Sahlins:stone age economics aldine-atherton Chicago 1972
15- P.Clastres: la societé contre l'état minuit 1974 Edition ceres Tunis 1995
(Chap 2: la société contre l état pp 166-194
16 – Edward Evans-Pritchard:the Nuers oxford university press 1940
17- Ernest Gellner: Saints of the Atlas
The university of Chicago press 1969
18- راجع مثلا دراسات ادوارد كونت وعبد الودود ولد الشيخ وبيار بونت في
Ansab.la quête des origines.Anthropologie
Historique tribale <Editions de la maison des
Sciences de l homme paris 1991
19 – G.Deleuze: capitalisme et schizophrenie L ANTI-ŒDIPE،minuit 1972 pp 217- 236
20- G.Deleuze: mille plateaux minuit 1980
P 34
21- ibid p 36
22-ibid pp 255-256
قارن بالفكر البدوي لدى الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان
Daryush Shayegan: la lumière vient de l occident l aube 2001 pp 82-86
23- Michel Maffisoli:Iconologies Albin Michel 2008
24- Michel Maffisoli:le temps des tribus:_ déclin de l'individualisme dans les sociétés de masse
Meridiens klenckseck 1988
25 –Ibid p 114
26- قارن بأطروحة جان كلود غلبو الذي يتحدث عن إعادة القولبة القبلية للعالم في عصر العولمة التي على عكس الصورة السائدة لا تفضي للكونية بل تقوضها.
Jean – Claude Guillebaud: la refondation du monde seuil 1999 pp 194- 199
27- Antonio Negri (et Michael Hardt): Empire Exils 2000 p 17 28 Ibid Chap 2: transferts de la souveraineté pp 99-256
29- Antonio Negri (et Michael Hardt): Multitude la découverte 2004 p7
30- Jacques Attali: l'homme nomade fayard 2003
31- راجع بصفة خاصة الفصل الهام من كتاب اتالي الخاص بالبداوة الجديدة
Chap 8: un sédentaire ،trois nomades
Ibid pp 345-404
32- راجع مثلا:
Michel Foucher:L’obsession des frontières perrin 2007
Yves –charles Zarka (ss la direct):"murs et frontières du mur de Berlin aux murs du 21 siècle" cites،puf، oct-dec 2007 33- Etienne Balibar: Très loin et tout prés Bayard 2007
34– Thomas L.Friedman: The world is flat picador \farrar،strauss and Giroux new York 2007