منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
بسم الله الرحمن الرحيم .. أخي الزائر الكريم ..أهلآ وسهلآ بك في منتداك ( منتدى قالمة للعلوم سياسية ) إحدى المنتديات المتواضعة في عالم المنتديات والتي تزهو بالعلم الشرعي والمعرفة والفكر والثقافة .. نتمنى لكم قضاء أسعد الأوقات وأطيبها .. نتشرف بتسجيلك فيه لتصبح أحد أعضاءه الأعزاء وننتظر إسهاماتكم ومشاركاتكم النافعة وحضوركم وتفاعلكم المثمر .. كما نتمنى أن تتسع صفحات منتدانا لحروف قلمكم ووميض عطائكم .. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه , وجنبكم ما يبغضه ويأباه. مع فائق وأجل تقديري وإعتزازي وإحترامي سلفآ .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . المشرف العام
منتدى قالمة للعلوم السياسية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخولصفحتنا عبر الفيسبوكمركز تحميل لكل الإمتدادات
منتدى قالمة للعلوم السياسية يرحب بكم
تنبيه:إن القائمين على المنتدى لا يتحملون أي مسؤولية عن ما ينشره الأعضاء،وعليه كل من يلاحظ مخالفات للقانون أو الآداب العامة أن يبلغ المشرف العام للمنتدى ، أو بتبليغ ضمن قسم اقتراحات وانشغالات
بحـث
 
 

نتائج البحث
 
Rechercher بحث متقدم
المواضيع الأخيرة
» المحاضرة الثالثة لمادة تاريخ الفكر السياسي
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء أكتوبر 09, 2024 8:21 am

» المحاضرة الثانية لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:37 pm

» المحاضرة الأولى لمادة تاريخ الفكر السياسي 2024/2025
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:29 pm

» برنامج محاضرات الفكر السياسي 1
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس أكتوبر 03, 2024 4:24 pm

» عام ينقضي واستمرارية في المنتدى
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:25 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي ماي 2024
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الإثنين مايو 27, 2024 10:19 am

» امتحان مادة علم الاجتماع السياسي ماي 2024م
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الأربعاء مايو 15, 2024 9:33 am

» امتحان تاريخ الفكر السياسي جانفي 2024م
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الثلاثاء يناير 16, 2024 8:08 pm

» الإقرار وفق القانون الجزائري
تصور هيجل السياسي Emptyمن طرف salim 1979 الخميس مايو 11, 2023 12:00 pm

أنت زائر للمنتدى رقم

.: 12465387 :.

يمنع النسخ
تصور هيجل السياسي Ql00p.com-2be8ccbbee

 

 تصور هيجل السياسي

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

تصور هيجل السياسي Empty
مُساهمةموضوع: تصور هيجل السياسي   تصور هيجل السياسي Emptyالخميس فبراير 21, 2013 6:25 pm

الفلسفة السياسية المعاصرة: تصور هيجل السياسي

كتبهامحمد أندلسي ،

لا نبالغ إن قلنا بأنّ هيجل كان أحد الفلاسفة الأوائل الذي انتبه إلى ما يشكّله هذا الالتباس في مفهوم الحق من انعكاسات خطيرة على صعيد العلاقة التي يجب أن تسود بين الدولة والمجتمع. من هنا حاول أن يبلور تصوّرا جديدا لما ينبغي أن تكون عليه تلك العلاقة، تصور حاول من خلاله إقامة نوع من التلاحم الجدلي المتوازن بين الدولة والمجتمع المدني، بين السياسة والأخلاق.
لهذا وجدنا بأن تصور هيجل السياسي يقدّم ذاته باعتباره التتويج النهائي لنظرية الدولة، حيث في ثنايا ذلك التصور ستعثر الدولة على "مبرّر وجودها في التاريخ". لكن في الوقت ذاته وبموازاة ذلك، نجد بأنّ التحليل المتضمّن في التصور الهيجلي يسعى إلى تجاوز وجهتي النظر المتعارضتين الآنفتي الذكر في مقاربة علاقة الدولة بالمجتمع. لهذا يجب أن ننظر إلى فلسفة هيجل السياسية باعتبارها محاولة أصيلة وطريفة لتحقيق نوع من المصالحة بينهما، وذلك عبر إجراء نوع من التركيب بين الموقفين المتعارضين، الموقف الذي يستلهم "النموذج الحربي" في بناء نظريته للدولة، والموقف الذي يستلهم "النموذج الاقتصادي" في صياغة تصوره للدولة. الموقف الأول يمثّله أنصار نظرية السيادة، والموقف الثاني يجسّده أنصار نظرية الحق الطبيعي.
1- نقد هيجل لنظرية التعاقد:
ينتقد هيجل بشدة نظرية التعاقد لدى روسو، حيث يحمّلها المسؤولية عن الأخطاء التراجيدية الناجمة عن الثورة الفرنسية والتي كانت لها انعكاسات سلبية وخطيرة على المجتمع الغربي الحديث. لقد كان الغلط الأكثر خطورة هو ذاك الذي يتمثّل في الفكرة التي تروم تأسيس الدولة انطلاقا من الفراغ وابتداء من لاشيء. إنّ فكرة تأسيس الدولة على أساس البداية المطلقة هي فكرة آية في التجريد وتفتقر إلى المحتوى الملموس. لهذا كان تطبيقها على أرض الواقع، كما جسّدت ذلك ثورة 1789 في فرنسا، أفضى إلى ارتكاب الكثير من الفظاعة والعنف، وأشاع الكثير من الرعب والفزع مما أدّى إلى الإساءة إلى مفهوم الثورة والتوجّس من كلّ فعل جديد. إنّ هذا التصور العدمي يتأسس في نظر هيجل على الإفتراض التالي: وهو أنّ الأفراد المتّحدين تحت ظل عقد اجتماعي معين، هم وحدهم القادرين على تأسيس الدولة. لكن الدولة حتى إن كانت تعبّر عن إرادة ما، فلن تكون تلك الإرادة هي الإرادة الفردية، بل لابدّ من إرادة جماعية لتأسيس دولة. وهذا يقتضي إحداث تغيير في تصوّرنا لماهية الدولة. فالدولة ليست هي حاصل تجميع أجزاء مفصولة عن بعضها البعض، بل هي عبارة عن وحدة عضوية يمكن القول بأنها سابقة على الفرد والجماعة وليست لاحقة عليهما كما يتوهّم روسو في نظريته في التعاقد. إن الدولة عبارة عن كلّية تضمن لكل عضو فيها هوية ومكانة داخل المجتمع. وبتعبير آخر، الدولة ليست حاصل تجمّع أفراد، وليست حاصل فعل الأفراد، ولكن هي ما يمنح لهؤلاء شكل وجودهم وماهيتهم.
إنّ الفكرة الأساسية هنا في تصور هيجل، هي أنّ الدولة ليست بناء اصطناعيا ناجما عن عملية توافقية وتعاقدية، ولكنها وحدة عضوية أصيلة وراسخة. وفي الحقيقة فإنّ هيجل يعود بنا هنا إلى فكرة أرسطو التي تعتبر بأنّ المدينة أسمى من الفرد وسابقة عليه. لكن مع ذلك يجب أن نعرف بأنّ هيجل يتحدّث عن الدولة وليس المدينة. وهذا المفهوم يقتضي إقامة تمييز بين المدينة والدولة وهو التمييز الغائب عن التقليد الإغريقي. إنّ الدولة في صيغتها المكتملة هي نتاج لسيرورة ولتاريخ طويل زاخر بالأحداث والمغامرات.

2- تصور هيجل للمجتمع المدني:
لقد نشأ المجتمع المدني، حسب هيجل، حينما كفت الأسرة أن تكون غاية للفرد، حيث أصبحت ذاته ومصالحه هي الغاية من وجوده، كما أصبح كل فرد يعامل الآخرين على أنهم وسائل لتحقيق غاياته، وهذا كله كان وراء نشأة فكرة الاعتماد المتبادل بين الأفراد التي توجد في أساس المجتمع المدني. إنّ استقلال الأفراد عن الأسرة ودخولهم في علاقات خارجية بوصفهم ذوات اجتماعية متعددة ومستقلة يؤدي إلى تكوين المجتمع المدني. إنه يمثّل حالة اعتماد الأفراد على بعضهم البعض باعتبارهم شخصيات مستقلة. فعندما كان الفرد عضوا داخل الأسرة كانت غايته هي الأسرة وهي غاية كلّية، إذ هو لا يصارع من أجل نفسه فحسب، لكنه يكافح من أجل الكلّية التي تمثّلها الأسرة. لكنه الآن قد ارتدّ وأصبح ذرة اجتماعية ونظر إلى نفسه على أنها غاية، ولدا فإنّ كلية الأسرة تختفي لتحلّ محلّها الفردية أي الغاية الشخصية الذاتية. بيد أن كلية الأسرة هو العنصر الأخلاقي أو العقلي فيها، ومن ثم يبدو المجتمع المدني وكأنه فقد العنصر العقلي والأخلاقي، إذ كل فرد داخل المجتمع المدني يسعى إلى تحقيق غاياته الخاصة وهذه هي الجزئية واختفاء لحظة الكلية التي كانت متجسّدة في الأسرة.
يتميز المجتمع المدني بالتسيير الذاتي الذي تضبطه مؤسسات. وهو يتسم بالخصائص التالية: الاستقلالية، والحصانة الذاتية، والمساواة، والجمع بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، والتجريد وتعميم العلاقات، والاستحقاق والمسؤولية.
إنّ الاستقلال الذاتي، يعني أنّ العلاقات بين الناس تتمتع بوجود مستقل بحيث لا تخضع لإرادات الأفراد. وهذه الاستقلالية هي التي تجعل "النسق الاجتماعي" يفرض نفسه على الأفراد ويفرض قواعده على تصرفاتهم. تعني الاستقلالية إذن بأن الوساطة الموجودة بين الأفراد والتي تفرض نفسها عليهم للخروج من القوقعة الفردية باتجاه خلق إطار عام ومشترك للعمل، فتنتقل بهم من الخصوصية الفردية إلى الشمولية المجتمعية، وبالتحام العنصرين معا يتحقق المجتمع المدني بما هو مجتمع للمساواة، أي مجتمع يسود فيه المستوى الواحد الأفقي الذي يكون من أهم نتائجه، إعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان ولفرديته كقيمة أخلاقية. تقتضي المساواة إذن إحلال العلاقات الأفقية محلّ العلاقات العمودية، أي إلغاء الامتيازات الطبيعية وتلك التي لها علاقة بالجنس والسلالة والنسب. شرطها الأساسي إذن هو إلغاء عنصر القرابة كمتحكّم في الاقتصاد والسلطة. أي القضاء على عنصر القرابة كأساس لتنظيم المجتمع حيث لا يسمح للعائلة أو للقبيلة لتأهيل أفرادها لامتيازات معيّنة أو لحرمانهم منها.
ما يهم في تأسيس المجتمع المدني هو سيادة العلاقات الأفقية وإحلالها محلّ العلاقات العمودية بغضّ النظر عن مستوى تطور المجتمع. وإيجابية سيادة المستوى الأفقي هو أنه يلغي العنصر الطبيعي، عنصر القرابة.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني هي التجريد، أي تعميم العلاقات وإضفاء عليها طابع العمومية. فما يميز المجتمع المدني عند هيجل هو غياب المقدّس على جميع المستويات، وهو الذي يعني سيادة المستوى الواحد بالنسبة لجميع الأفراد.
كما يتميز المجتمع المدني عند هيجل بخاصية أخرى هي الجمع بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بين الإرادة الفردية والإرادة العقلية العامة، دون أن يعني ذلك إلغاء للإرادة الفردية بل تحقيق لها. إنّ هيجل هنا يدافع عن موقف هو على النقيض من الموقف السائد في الفكر السياسي الحديث. فهذا الأخير يقوم على الدعوة إلى الفصل بين السياسة والأخلاق، في حين يطالب هيجل بفرض الأخلاق داخل المجتمع المدني كما تفرض القوانين في مجال الحقوق. مبرّر الجمع بين السياسة والأخلاق، بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة يربطه هيجل من جهة، بالتقدم الذي حققه المجتمع الغربي حيث أصبح الصالح العام(أي مبدأ الخير) مجسّدا على أرض الواقع، لدا لا يمكن الإبقاء على حالة الفصل بين المصلحتين التي كانت سائدة من قبل. ومن جهة ثانية فإنّ الفصل بين الأخلاق والسياسة هو الوجه الآخر للفصل بين العقل والواقع، بين الفكر والوجود، في حين أنهما يشكّلان شيئا واحدا وهو الذي يجسّده لنا مفهوم الإنسان. فالفصل بينهما يعني تكريس التعامل مع الإنسان باعتباره مجموعة من الحاجيات والنزوات والأهواء. وهو الذي يعني اختزال الكائن الإنساني في المستوى الطبيعي الحيواني وفصله عن بعده العقلي الذي يوجد في أساس إنسانيته. فمهما كان مستوى التقدم الذي يمكن تحقيقه في ضبط تلك الحاجيات وإشباعها، فإننا نظل دائما دون المستوى المطلوب- بحكم لانهائية الرغبة وتجدّدها- إن لم نراعي البعد العقلي، بمعنى أننا سنحكم على المجتمع بالتقهقر نحو ماهو لا إنساني، فينقلب ضد أهدافه وضد روحه. بل إنّ هيجل يعتبر بأنّ الربط بين السياسة والأخلاق، هو الكفيل بتحصين المجتمع من النزعة التوسعية الاستعمارية، لأنه بدون ذلك الربط يعني ترك المجتمع يتطور وفق ذاته أي وفق حاجاته ورغباته، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فيض في الإنتاج فيصبح في حاجة إلى أسواق خارجية وإلى مواد أوّلية.
بالإضافة إلى هذا الربط بين السياسة والأخلاق الذي يحققه المجتمع المدني، فهو أيضا ينتزع التربية من الأسرة ويعطيها طابعا مؤسسيا، بحيث لن تعود وظيفتها هي المراقبة والضبط، بل تصبح مهمّتها هي تنشئة الأطفال تبعا لطموحات المجتمع وأهدافه، وهذا هو البعد العقلي في التربية وفي المجتمع المدني لدا هيجل.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني الهيجلي هي المسؤولية لأنه مجتمع يقوم على الاستحقاق الذي هو أساس التدبير والتسيير. وتعني المسؤولية التمتع بالحقوق والقيام بالواجبات. والتوصل إلى هذا المستوى من التنظيم يعبّر عن تطور فائق في بنياته، إذ لا يقرّ المجتمع المدني بتساوي الأفراد في الفضيلة فحسب، بل وأيضا في الرذيلة(أي في الشر). وبحكم ذلك لا يتوفر الفرد على أي حصانة غير الحصانة التي يقرّها المجتمع. فلا يمكن أن تكون للفرد حصانة طبيعية أو عائلية. ولهذا يجب الاحتياط من الأفراد الذين توكل لهم مهام معينة خاصة. وهذا يعني أن المراقبة داخل المجتمع المدني يجب أن تكون أفقية وليست عمودية كما هو الشأن في المجتمع الذي يتأسس على عنصر القرابة. والطابع الأفقي للمراقبة يجعلها تؤدي بالمجتمع إلى التعاضد والالتحام والديمقراطية.
الخاصية الأخرى للمجتمع المدني عند هيجل هي العلاقة الوطيدة بين مبدأ الفردية ومبدأ الشمولية. فما يميز المجتمعات القديمة مثل اليونان مثلا، هو غياب مبدأ الفردية، حيث الفرد خاضع للقيم الجماعية ويجسّد الكلّ الشمولي. في حين يعتبر هذا المبدأ هو أساس المجتمع الغربي الحديث. لهذا يرى هيجل بأنّ السؤال المتعلّق بالعدالة وبالمدينة الفاضلة سؤال غير ذي موضوع في المجتمع الحديث الذي يسوده مبدأ الفردية. لكن هيجل يعتبر بأن الحرية الفردية في إطار المجتمع المدني لا تصبح طاغية لأنّ هناك ضوابط تجعلها معقولة ومسؤولة ولا تتناقض مع المصلحة العامة. فالفرد يفكّر فيما هو عام، وما هو عام يفكّر في الفرد. بل حتى الدولة ذاتها لا تجرأ على المسّ بهذه الحرية التي هي أساس المجتمع المدني. فهناك علاقة جدلية بين الدولة والمجتمع المدني، فالأولى تمثّل العقل والثانية تمثّل حرية الفرد، والدولة لا يمكن الاستغناء عنها لأنها تسهر على مصالح الأفراد وتحافظ على حرياتهم.
هذه الخصائص تجلي الطابع الشمولي والمعقد لمفهوم المجتمع المدني عند هيجل. فهذا الأخير يستعمل هذا المفهوم للدلالة على تصور معيّن للدولة، وللنشاط المادي الاقتصادي للمجتمع. وهو يتجلى من خلال مظهرين مرتبطين بشكل عضوي هما المظهر السياسي والمظهر الاقتصادي. فمن حيث المظهر السياسي فالمجتمع المدني هو نظرية الدولة الحديثة التي تكوّنت في العصر الحديث في تعارض مع الدولة القديمة. إنها دولة الليبرالية التي من وظيفتها الأساسية حماية حقوق الأفراد ومصالحهم. ومن حيث المظهر الاقتصادي يمثّل المجتمع المدني "دولة الحاجة" أو "نظام الحاجات" وإشباعها عن طريق العمل والتبادل.
ينتقد هيجل المجتمع المدني الحديث لأنه فشل في تحقيق تنظيم عقلاني للعمل، وتوزيع عادل للثروة، فظلّ بذلك في مستوى النزعة الذرية الخالصة. ولقد أدرك هيجل شر الليبرالية وعجزها عن تقديم الحلول للمشكلة الإنسانية. بل إنّ تناقضاتها الاقتصادية تولّد الاستياء والإحساس بالغربة اتجاه حياة الدولة، أي إنّ انعكاساتها السياسية خطيرة على مستوى علاقة الفرد بالدولة. من هنا أحسّ هيجل بأهمية تدخّل الدولة وقام بإعادة النظر في علاقة الدولة بالمجتمع المدني.
إنّ الفرق الأساسي بين المجتمع المدني والدولة هو أن الفرد في المجتمع ينظر إلى نفسه على أنه يشكّل غاية في ذاته، في حين أن الدولة تعدّ غاية أعلى يوجد الفرد من أجلها لدرجة أن غايته تصبح كلّية. فالمجتمع المدني تجمّع يسعى أساسا إلى تحقيق الغايات الجزئية والشخصية وحمايتها، ويسلك الفرد داخله باعتباره موجودا اقتصاديا واجتماعيا وليس باعتباره سياسيا يعبّر عن إرادته وروحه. فالمحرّك لهذا المجتمع هو المصلحة الذاتية لا المبدأ أو المثل السياسي الأعلى، لأنّ أساس المجتمع المدني هو العلاقات المادية، ولهذا فوحدته ضعيفة لأنّ المبدأ المؤسس له هو الشخص الجزئي. فما يلاحظ في هذا المجتمع هو أنّ الفرد الواحد يراعي أهداف الأفراد الآخرين الذين يشتركون معه في وحدة المصير، ولكن هذه المراعاة ليست ناتجة عن مبدأ أخلاقي أو إيتيقي، وإنما تمليها متطلبات وحاجيات الفرد ذاته. فمن مصلحة الفرد الشخصية أن يراعي مصلحة الآخرين، وإذا لم يفعل ذلك لن يتمكّن بدوره من تحقيق مصالحه. وعليه فالخضوع لما هو عام لا يأتي من الاقتناع بهذه الضرورة بحدّ ذاتها، وإنما لارتباط مصلحته بمصالح الآخرين. وهذا يعني أنّ الطابع الشمولي الذي يتسم به هذا المجتمع هو من طبيعة خارجية وليس نابعا من اقتناع داخلي للإنسان. لهذا وجدنا هيجل ينعت المجتمع المدني بالدولة الخارجية، "دولة الفهم والحاجة". فضرورة الاجتماع هنا ضرورة خارجية وليس مصدرها الاقتناع الداخلي بها، أي ليس مصدرها هو الحرية. لهذا السبب يعتبر هيجل المجتمع المدني بمثابة روح خارجية تتوسّط بين الأسرة والدولة. وهو يرقى إلى مستوى الحياة الإيتيقية لأنّه يضع حدا لإفراطين تعرفهما الحياة الإنسانية: الإفراط الأول ناتج عن ارتباط الإنسان بالحرية المجرّدة، حرية الأهواء والنزوات والميول غير المحدودة. أمّا الإفراط الثاني فهو الذي يؤكّد على الحرمان والبؤس، أي الاتجاه الذي لا يعترف بالرغبات والأهواء الفردية. يستطيع المجتمع المدني أن ينهي هذين الإسرافين لأنه يحقق الجمع بين مبدأ الفردية ومبدأ الشمولية. وتحقيق الربط بين الفردي والشمولي، بين المتناهي واللامتناهي يعدّ مسألة جوهرية في تصوّر هيجل للمجتمع المدني. وتوجد داخل هذا المجتمع ثلاثة مكوّنات تفرض الطابع الشمولي على الممارسات الفردية وهي: نسق الحاجيات، حماية الملكية، التنظيم وائتلاف الفئات.
يتحوّل المجتمع المدني إلى دولة عندما تصبح إرادته ومثله العليا منظمة بشكل واع، ومصاغة في دستور يتخذ كإطار عام لتنظيم الحياة داخله. أي حينما يصبح أساس الدولة هو الإرادة العامة، وحينما يوجد الكائن داخله ككائن حي عضوي حيث يتداخل مصير الفرد مع مصير الكلّي.
يتكوّن المجتمع المدني من ثلاث لحظات أساسية هي على التوالي: نظام الحاجات، والهيئة القضائية، والشرطة والنقابات. نظام الحاجات وهو الاعتماد المتبادل للأفراد يعضهم على بعض في إشباع حاجاتهم وتحقيق أهدافهم الشخصية. فكل فرد يعمل من أجل إشباع حاجاته، والآخرون يستفيدون من ذلك العمل في إشباع حاجاتهم أيضا. وفي هذا الاعتماد المتبادل تظهر الكلّية الضرورية للروح البشري. كما تظهر أيضا في العمل، بما هو تشكيل للمادة الخام في أشكال وصور تلائم إشباع الحاجات الإنسانية. ويؤدي هذا إلى تقسيم العمل. كما تظهر هذه الكلّية أيضا في الثروة التي هي نتاج تقاطع أعمال جميع الأفراد. وينشأ من نظام الحاجات التقسيم الاجتماعي إلى طبقات. وتنقسم الطبقات تبعا لنوع الحاجات التي يتم إنتاجها. وهناك ثلاث طبقات: طبقة المزارعين والفلاحين، وطبقة التجار والصناع، والطبقة الكلّية وهي التي تنشد في عملها تحقيق المصالح الكلّية للمجتمع والدولة، وهي تمثّل الطبقة الحاكمة التي تعتمد العقل في التدبير. وهكذا فالطبقة في التصور الهيجلي لا يتم تحديدها انطلاقا من المولد أو النسب. بل إنّ هذا يتوقف عنده على مقدرة الفرد واختياره الحر. وهيجل يلوم أفلاطون لأنه جعل تقسيم الطبقات يتوقف على الحكام، وفي ذلك إنكار للحقوق الذاتية ولحرية الفرد. كما ينتقد هيجل نظام الطبقات المغلق السائد في الهند في عصره، الذي يجعل من المولد العامل الوحيد الحاسم في تحديد الطبقة.
أما النقابة فهي تمثّل المؤسسة التي يكتسب الفرد داخلها وعيا بوظيفته الكلّية، وبارتباط غايته بغاية الكلّي المجتمعي.
أما مؤسسة القضاء فمهمتها هي وضع حد للخلافات بين الأفراد. أما مؤسسة الشرطة فتحرس على توفير الحماية لمصالح كل الأشخاص.
إنّ التحرر الذي يتحقق داخل المجتمع المدني يعتبر تحرّرا محدودا وصوريا لأنّ خصوصية الأهداف وجانبها الفردي هما أساس هذا التحرّر. وحينما يصبح الشمولي هو الذي يوجّه الكلّي المجتمعي، ينتقل التحرر من "الصورية" إلى "الواقعية" وهذا لا يتحقق إلا في إطار الدولة.
إنّ الشمولية المتحققة داخل المجتمع المدني هي شمولية مجرّدة، وهي كذلك لأنّ مفهوم الشمولية لم يتحقق بعد في كليته، وهو الذي يعني أن هناك عناصر ينطوي عليها المفهوم لم تتحقق بعد. إنّ الشمولي في المجتمع المدني مجرّد لأنّ حضوره لازال ناقصا بحيث لم يتطابق المعطى مع مضمون المفهوم. الطابع الذي يأخذه الشمولي هنا هو الملكية وهي حقّ خاضع لإرادة العدالة ويؤطّره القانون. وهكذا فالشمولية تفرض نفسها بشكل تدريجي على مستوى العمل والحاجيات، ثم على مستوى القانون الذي يتساوى أمامه الناس.
3- تصور هيجل للدولة:
تمثّل الدولة عند هيجل وحدة الأسرة والمجتمع المدني. فليست الدولة كفكرة غير وحدة الاختلاف الذي يمثّله المبدأ الكلّي للأسرة والمبدأ الجزئي للمجتمع المدني. إن الدولة بحكم كونها تركيب للحظة الكلّية ولحظة الجزئية فهي تمثّل اللحظة الثالثة التي تمثّلها الفردية. لا يتعلق الأمر بالفردية الذرية التي هي فردية المجتمع المدني، بل هي فردية الكائن الحي العضوي. فالدولة هي كائن حي تسري في داخله وبين مختلف أجزائه حياة كلّية. وهذا يعني أنّ الحياة الحقيقية للأجزاء أي للأفراد، إنما توجد في حياة الكلّ وتتحد معها في هوية واحدة. فالدولة هي الكلّي المتحقق بالفعل وبالتالي فهي الفرد وقد تموضع وتحقق بالفعل. إنها بكلمة واحدة هي "الكلّي الملموس". وعلى هذا النحو ليست الدولة سلطة أجنبية غريبة تفرض نفسها على الفرد من الخارج وتكبت حريته. بل الدولة هي الفرد وداخلها يحقق فرديته. لهذا السبب تجسّد الدولة في المنظور الهيجلي، أسمى تجلّ للحرية، وذلك لأنّ الفرد حينما تحدده الدولة فإنما تحدده ذاته الجوهرية أو ما هو كلّي وحقيقي فيه. تلكم إذن هي الفكرة الشمولية عن الدولة. وهناك دول لم تصل إلى هذا المستوى الشامل الذي تمثّله فكرة الدولة لأنها تجسّد مبادئ غير حقيقية. غير أن وجود هذه الدول الفاسدة أمر لا مفرّ منه. لأنّ الدولة بالرغم من نقصها فهي تتضمن باستمرار اللحظات الجوهرية لوجودها. والدولة الحقة في نظر هيجل هي تلك التي تجسّد حرية الفرد ولا تلغيها.
إن الدولة تتسم بالوجود العاقل، لأنها وجود كلّي، ومن ثم فهي تجسيد للفكرة الأخلاقية وتحققها الفعلي. ولما كانت دائرة الأخلاق هي دائرة تموضع الإرادة، كانت الدولة هي التحقق الفعلي للإرادة. إنّ الدولة هي الجوهر الأخلاقي الواعي بذاته. صحيح أنّ الأسرة تتسم بدورها بكونها كلّية وعقلانية إلاّ أنّ عقلانيتها تتخذ صورة وجدانية يجسّدها الحب. فمضمون الأسرة كلّي من حيث أنّ غاياتها كلّية، إلاّ أنّ صورتها ليست كلّية لأنها ليست فكرا بل هي وجدانا، فهي لا تعرف وإنما تشعر وتحسّ. أما الكلّي المطلق فهو كذلك من حيث المضمون والصورة معا. ومثل هذه الكلّية المطلقة الواعية بذاتها لا نصل إليها إلا في الدولة. فهي تسعى عن وعي إلى تحقيق غايات كلّية.
الدولة وجود عاقل لأنها ليست نتاجا للصدفة، أكان مصدرها قوى طبيعية، أم نزوة من نزوات الإنسان، وإنما هي نتاج لتطور ضروري للعقل الكلّي وهي تجسيد للمطلق. كما أن الدولة ليست وسيلة لشيء آخر، بل هي غاية في ذاتها. ولأنها غاية أعلى من الفرد فقد تطلب منه أن يضحّي من أجل غاياتها العليا وهي غايات عقلية. لهذا فتصور هيجل للدولة لا يجب أن يؤوّل تأويلا إيديولوجيا بحيث تصبح ذريعة لتبرير الأعمال العشوائية التي يقوم بها الحكام حينما يعملون على تحقيق مصالحهم الخاصة الذاتية، ويقدّمونها في صورة الغايات الحقيقية للدولة. هكذا فالفرد من حيث هو عضو في الدولة يتمتع بمجموعة من الحقوق وعلى رأسها حريته الفردية. من هنا خطأ النظريات السياسية التي ترى بأن الدولة مجرّد تجمع محض للأفراد يقصد به حماية المصالح المتبادلة. أو أن الدولة وجدت لكي تنمّي الثروة وتقوّي الأعضاء، أو إنها اتفاق وتعاقد بين الأفراد على الحد من حرياتهم لصالح الدولة. كل هذه النظريات مرفوضة من قبل هيجل لأنها تجعل من الدولة مجرد وسيلة لتحقيق غايات الفرد، في حين أن الدولة هي على العكس غاية عليا.
كما يرى هيجل بأن الأصل التاريخي للدولة لا صلة له بالأساس العقلي للدولة وطبيعتها وفكرتها الشاملة. ذلك لأن الدولة قد تكون قد نشأت عن طريق القوة، أو النصب، أو الاغتصاب، أو بأية طريقة أخرى. ومعنى هذا أن الأصل التاريخي للدولة لا يتماهى مع فكرة الدولة وكنهها.
وهكذا فالدولة الهيجلية تمثّل الحقيقة، ومحتواها يتحدّد في تعارض مع المجتمع المدني. ذلك لأنّ الخلط بين الدولة والمجتمع المدني، يعني في التصور الهيجلي، أن نجعل كهدف لها، السهر على حماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية؛ وفي هذه الحالة ستصبح المصلحة الفردية هي التي ستشكّل الغاية النهائية لوجود الدولة والوحدة، ومن شأن هذا أن يستتبع أن انتماء الأفراد إلى الدولة يتوقف على إرادة أولئك الأفراد وعلى حريتهم. في حين أن الدولة مادامت تمثّل "الروح الموضوعي" فإنّ الفرد لا يمكن أن تكون له أية حقيقة أو أي وجود موضوعي أو أي حياة أخلاقية إلا من حيث هو عضو داخل الدولة. فاتحاد الفرد بالدولة غاية في ذاته، إنه الغاية الحقيقية والمحتوى الحقيقي مادام مصير الفرد هو أن يعيش حياة كلّية وشمولية ومتحدة. وهذا يعني أن المحتوى الحقيقي للدولة ليس هو تنظيم العلاقات بين الأفراد ومراقبتها بل هو "إتمام تلك العلاقات" L’accomplissement des rapports . إتمام العلاقة إذن هو الحقيقة الذاتية للدولة. وهذا يعني أن الحقيقة الذاتية-كما يفهمها هيجل- ليست هي الفردانية بحاجاتها ومصالحها وحقوقها، ولكنها العلاقة بين الفردانيات كعلاقة مع الروح، أو علاقة الروح مع نفسها. هكذا إذن فالدولة الكلّية هي الذاتية بما هي عضوية مفارقة للتنظيم الاجتماعي.
نستنتج مما سبق أن هناك مشكلتان تهيمنان على نظرية الدولة عند هيجل هما: علاقة الدولة بالفرد، ومشكلة تنظيم الدولة. فتصور هيجل لعلاقة الدولة بالفرد يختلف عن تصورين يمكن أن نعترهما متطرّفين هما : التصور الأفلاطوني والتصور الليبرالي. ففي التصور الأفلاطوني-الذي يمكن أن نعتبره جذر التصور التوتالتاري- يتم التضحية بحقوق الفرد لصالح وحدة الكلّ، وذلك لأنّ الفردية أو الخصوصية ينظر إليها في إطار هذا التصور كعنصر فوضى وانشقاق. أما في التصور الليبرالي الحديث فالدولة مجرد تجمّع وجد من أجل حماية حقوق الأفراد، وبالتالي فهي فاقدة لكلّ طابع جوهراني وكلاّني. أصالة التصور الهيجلي تتجلّى في السعي للبرهنة على أنّ الدولة الحديثة يمكن أن تبقى "دولة جوهرية"، وفي نفس الوقت تعمل على إشباع حاجات الأفراد، وتحقيق طموحاتهم، والنمو الحر لشخصياتهم. لهذا وجدنا هيجل ينتقد ادّعاء الدولة الليبرالية المتنثّل في اعتبار نفسها جهازا غايته القصوى هي حماية المصلحة الفردية. ويرى بأنّ الحروب تكذّب هذا الادعاء حيث تسود قوة الدولة المطلقة. فحينما يصبح وجود الدولة مهددا، فإنها ترغم المواطنين على التضحية بحياتهم ومصالحهم. من هنا يستنتج هيجل أن للدولة غايتها الخاصة بها. فهي لها حق سام على الأفراد، إذ واجب هؤلاء أن يكونوا أعضاء داخل الدولة. وبهذه الصفة يحقّقون درجة عالية من الحرية والأخلاقية وذلك لأنّ إرادتهم الذاتية متفقة ومتناغمة مع الإرادة الكلّية والشمولية.
إن الدولة هي حقيقة الحرية الملموسة. وهذه الأخيرة تحتوي على لحظتين غير منفصلتين: فعلى الشخصية الفردية أن تنال تطورها الكامل وأن يعترف بحقوقها، ولكن في الوقت ذاته فالأفراد مطالبون بالاندماج في الصالح العام حيث يعترفون به كروح جوهري وكغاية نهائية لنشاطهم.
والدولة من حيث هي "حقيقة أخلاقية" ليست سوى الاندماج الحاصل بين الجوهرية والخصوصية، حيث الخصوصية لحظة أساسية داخل الدولة والإشباع الكامل لمتطلّباتها مسألة ضرورية.
إذن خلاصة تصور هيجل لعلاقة الدولة بالفرد، تبيّن أنهما يشكّلان مظهران متكاملان في نظرية الدولة الهيجلية: فمن جهة لا يمكن للفرد أن يحقق غاياته إلا إذا كان عضوا في الدولة، ومن جهة أخرى فإنّ الدولة لا يمكن أن يستمر وجودها وحياتها إذا لم تشبع طموحات الفرد. فالفرد حينما يصبح عضوا داخل الدولة، فهو لا يحمي مصالحه فحسب، بل يحقق شخصيته كما يحقق حريته. ومن جهتها فالدولة تستمد قوّتها من ولاء وإخلاص أعضائها.
أمّا فيما يتعلق بتصور هيجل لتنظيم الدولة الذي يجسّده "الدستور"، فهو يعتبره غير منفصل عن حياة الشعب وروحه. فليس الدستور عنده مجرّد نصّ قانوني، بل هو مجموعة من العادات والتقاليد والقواعد الحية داخل ذاكرة ووعي شعب ما. الدولة المنظمة بشكل جيّد لا يمكن اختزالها- كما هو الشأن بالنسبة إلى المجتمع المدني- إلى نظام ذرّي، بل هي "كلّ منظم" أو "كلّ عضوي".
أمّا فيما يتعلق بمظاهر الدستور الأساسية المتلائمة مع العصر، فيحدّدها هيجل في المظاهر التالية:
أ- فهي دولة يحكمها المونارك وليس الشعب. وذلك لأنّ الشعب كتلة من الأفراد لا تعرف ما تريده، كما يمكن أن تقوم بممارسات متطرّفة جدا طالما أنّ الذي يحرّك القطيع هما الغريزة والجهل.
ب- لا يتعلق الأمر – بالنسبة لهيجل- بترك الأفراد خارج تنظيم الدولة بل ضرورة مساهمتهم في تسيير شؤون الدولة، ولكن ليس عن طريق ممثليهم المنتخبين بكيفية ديمقراطية عن طريق الاقتراع العام، بل عن طريق اللجان والتنظيمات والحرف والنقابات حيث تكون ممثّلة لجميع حالات وتنظيمات المجتمع. وهذا يعني أن التصور الهيجلي يقصي كل تمثيلية شعبية لصالح التمثيلية الحرفية. والدليل الذي يؤسس عليه هيجل هذا التأكيد هو أنه داخل هذه التجمّعات الحرفية فحسب، وفي فضائها يتجه مصير الفرد نحو الكلّي ويتوحّد بمصيره. فهو لا يعتبر عضوا في الدولة من حيث هو فرد، بل من حيث هو عضو داخل دائرة أو تنظيم اجتماعي معيّن. لهذا السبب يرفض هيجل التصور الليبرالي للدولة ويتبنّى تصورا عضويا للدولة حيث الأساسي ليس الفرد بما هو فرد، بل التنظيم والتجمّع الذي ينتمي إليه ذلك الفرد. بالإضافة إلى هذه التمثيلية الحرفية، توجد طريقة أخرى للمشاركة في التسيير السياسي للدولة وذلك عن طريق الصحافة وصنع الرأي العام[i].
4- نقد التصور الهيجلي للدولةSadالعروي وماركس)
أ- لابدّ أوّلا من التأكيد على الطابع الإيجابي الذي تكتسيه فكرة الدولة في الفلسفة الهيجلية. فهي لا تكتفي بالتمثيل، ولا بالسادة والقمع، بل تساهم أيضا في نشر القيم الروحية والمبادئ العقلية التي هي أساسية بالنسبة للمجتمع ولإنسانية الإنسان. ذلك لأنّ المؤسسات المكوّنة للمجتمع المدني لها دور كبير في التأثير على سير مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة المونارشية ذاتها. كما أن إيجابية الدولة ستتأكّد من خلال النجاح الذي حققته الماركسية على الصعيد العملي. وتتمثّل تلك الإيجابية على صعيد استقلالية الدولة عن الطبقات التي تمثّلها وهي التي تؤدّي مستقبلا إلى خلق فئة البيروقراطية، كما يرى الفكر السياسي المعاصر. بطبيعة الحال لم يكن هيجل منتبها إلى هذا التطور الذي سيطرأ على الدولة مستقبلا ولكنه كان يؤكّد على إيجابيتها. ولا شكّ أن الدور الإيجابي للدولة يرتبط لدى هيجل بوظيفتها الأخلاقية. فإذا كانت الدولة ما قبل هيجل ومند القرن السادس عشر تهتم فحسب بتحقيق السيادة وضمان الاستقرار، بحيث كان دورها منحصرا في حدود القمع والضبط. إلا أنّ وظيفة الدولة عند هيجل تتمثّل في خلق المجتمع المدني وجعله يجسّد العقل والحرية. بينما نجد أن إيجابية السلطة لدى فوكو تنحصر في الوسائل التي تنتجها لتأكيد ذاتها والتغلب على الطرق الكلاسيكية التي تعتمد على الظهور والقمع. وهذا الجانب يجلي بعد الدهاء والمخاتلة في الممارسة السياسية.
المظهر الآخر لإيجابية الدولة عند هيجل يتمثّل في فكرة التجسيد. فالدولة كمطلق إنما هي تجسيد للعقل وللحرية وللحق والمعرفة الإنسانية. فالدولة لا تكون تجسيدا للمطلق إلا حينما تجسّد مصالح ومطامح كل الأفراد المكوّنين للمجتمع الذي تسود فيه. فإذا كانت الدولة تتجسّد مصالحها في مصلحة كل فرد على حدة، فذلك لأنّها إذ تجسّد مصالحه فهي في الوقت ذاته تسهر على توعيته وتنبيهه من أجل خلق الوعي المصلحي الفردي كإسهام في التطور العام الذي يحصل في المجتمع المدني.
تتضح مسألة التجسيد أكثر حينما يتناول هيجل المؤسسة المونارشية. فدور الأمير يتمثّل في تجسيد السيادة وليس الرمز لها والانفراد بها في مجال من المجالات. ولن تستجيب المونارشية لمقتضيات الشمولية والدولة المعاصرة إلا إذا كانت تسود في مجتمع تحقق فيه بدوره الشمول بشكل أفقي وعلى مستويات متعددة، في مجتمع أصبحت فيه المصلحة ذات طابع مدني وليس عائلي. وهناك علاقة وطيدة بين القوة التي يجسّدها المونارك والقوة التي يجسّدها الشعب: بحيث المونارشية لا تستجيب لمقتضيات العقل المطلق إلا حينما ترتبط سيادتها بتحقيق سيادة المجتمع المدني. وهكذا فهيجل لا يوحّد بين الدولة والمونارشية، فهذه الأخيرة مؤسسة من مؤسسات الدولة الأخرى ولا يمكن أن تحلّ محلّها.
ب- النقد الماركسي للدولة الهيجلية:
يرى ماركس بأن التعريف الذي يقدمه هيجل للدولة هو تعريف عقلاني آية في التجريد. ذلك لأنها في نظره تجسّد الإرادة العامة الجوهرية، هي العقل في ذاته ولذاته. ثم يحاول بعد ذلك أن يبحث عن واقع خاص يبرر به تلك الدولة العقلية. غير أن تجسيد العام في الخاص يتجسّد لديه بالعفوية، والنتيجة هي – حسب ماركس- الانتقال من المثل الأعلى إلى الملموس بدون مبرر معقول، مما يجعله يضفي على الملموس حلّة زائفة من العقلانية.
إنّ النظرية الهيجلية في الدولة مبنية كلها على نقد نظرية التعاقد التي هي أساس فلسفة الأنوار، وإليها يرجع ماركس في نقده للدولة الهيجلية.
نقطة التحول الأساسية في التصور الماركسي هو إدراكه الواضح أن حادث انسلاخ الدولة اتلسياسية (الصورة) عن دولة المجتمع الإنتاجي (الاقتصاد) يشكّل حادثا مستجدا في التطور التاريخي للإنسان. وأنّ التناقض بين الفرد المنتج والدولة السياسية- المطلقة عند هيجل- واقع تاريخي محدد وليس ضرورة منطقية كما يرى هيجل. إنّ هذا التناقض حادث لأنه لم يكن موجودا مند الأزل حيث الدولة الجوهرية الموضوعية تعبّر بكيفية مباشرة عن الأسرة والمجتمع المدني. بل إنّ ماركس يؤكد على أنه قبل الثورة الفرنسية لم تكن هناك سياسة بالمعنى الدقيق للفظ، بل كان المجتمع الإنتاجي يكوّن مباشرة الدولة. لهذا يستنتج ماركس بأن هناك حنين هيجلي إلى التاريخ القديم والوسيط، ورفض للتحولات الجذرية التي نتجت عن الثورة الفرنسية. لهذا لم يفهم هيجل "فلسفة الأنوار" التي جاءت كتعبير عن الحقيقة التاريخية. ويرى ماركس أنّ استبدال التاريخ بالمنطق هو السبب الكامن وراء وضع هيجل للجوهر والشكل في غير موضعهما. فعوضا من أن يستشفّ المستقبل يتقهقر إلى الماضي نحو التنظيمات القروسطية التي قضت عليها الثورة الفرنسية لعدم ملاءمتها مع متطلبات الإنتاج والتطور.
إنّ قيمة نظرية الدولة الهيجلية تتمثّل في نظر ماركس في إدراكها للتناقض الذي وقعت فيه نظرية الأنوار بين المجتمع المدني(الإنتاج) والدولة(السياسة)، لكن خطأه تمثّل في اعتبار هذا التناقض تناقضا منطقيا وليس واقعيا كنتاج للتطور التاريخي. فحينما نستقرئ الوقائع نجد بأنه في القديم لم يكن هناك تناقض ولا انفصام بين المجتمع والدولة، بحيث كان التنظيم الاجتماعي هو في الوقت ذاته تنظيما سياسيا، حيث كانت الملكية والنفوذ والسلطان مظاهر واقع واحد، ولم تكن هناك سياسة ولا دولة بالمعنى الدقيق المتداول. ولم يحصل الانفصام إلا في العصر الحديث. لم تبق الدولة موازية للمجتمع، حيث نشأت إدارة خاصة بالمجتمع، وتعالت الدولة حتى أصبحت تشكّل إيديولوجيا قائمة بذاتها. لكن تجاوز واقع الانفصام لا يتم، في نظر الماركسية، بإحياء الوضع القديم(الدولة الجوهرية) بل بتغيير الوضع الذي تسبب في الانفصام، والذي يتمثّل في نظام الملكية. هكذا يستنتج ماركس بأن هيجل ينتهي إلى حقيقة لا يهتدي إلى حلّها: حقيقة وجود انفصام بين المجتمع والدولة. هذا هو جوهر مشكل الإنسان المعاصر. بيد أن الحل الوحيد الممكن يكمن في نظر ماركس في تغيير نظام الملكية. يتعلق الأمر بالقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وإحلال محلّها الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج.

5- قيمة فلسفة هيجل السياسية:
يرى كاسرير في كتابه "أسطورة الدولة" Le mythe de l’Etat بأن قيمة فلسفة هيجل السياسية تتمثّل في تأثيرها القوي على الفكر السياسي المعاصر، بحيث ليس هناك أي نسق سياسي كبير لم يتأثّر بهيجل. ولقد تم هذا التأثر على حساب فلسفة هيجل المنطقية والميتافيزيقية التي كانت تعتبر أساس الفلسفة الهيجلية.
يرى كاسرير بأن سر انبعاث الفكر السياسي الهيجلي يتمثّل في كون مثاليته على عكس مثالية أفلاطون التي تعتبر بأن العادات والتقاليد والأخلاق لا قيمة لها في المجال السياسي، في حين يدمج هيجل السياسة بالأخلاق.
يرى كاسرير بأن النظرية السياسية الهيجلية تقوم على نزعتين متناقضتين: هناك التوجه الشمولي ذو المقاربة الكلّية للدولة، حيث ينظر إلى مختلف الدول التي عرفها تاريخ الإنسان، باعتبارها تحقيقات وتجلّيات مختلفة ومتفاوتة للعقل الكلّي المطلق. وهناك نزعة أخرى وتوجه آخر ينطلق من الجزئية والخصوصية، حيث ينطلق من واقع المجتمع الألماني والدولة البروسية بصفة خاصة.
غير أن كاسرير يعتبر بأنّ ما يهم في النظرية السياسية الهيجلية ويتمتّع بقيمة كبرى، ليس هو مبدأ ه السياسي، ولكن هو التوجّه السياسي الذي يتيحه نسقه الفلسفي، وأنماط الأسئلة التي يسمح بطرحها.
لقد بنى هيجل تصوره للدولة أوّلا من خلال رفضه لنظرية الحق الطبيعي للدولة(نظرية روسو) والتي ترى بأن أصل الدولة هو التعاقد.
كما بنى هذا التصور ثانيا من خلال نقده للأخلاق الكانطية، لأنها تجعل الإنسان يعيش صراعا داخليا بين الواجب الأخلاقي المجرد من جهة، وبين الميولات والرغبات الذاتية للفرد من جهة أخرى. فهو يقيم تعارضا بين مملكة الحرية(مملكة الأخلاق والغايات) وعالم الطبيعة(مملكة الضرورة والعلل والأسباب). في حين يرى هيجل بأن الجوهر الأخلاقي لا يتجسّد في قاعدة أو قانون صوري مجرد، بل يجد دلالته وتعبيره في واقعة راهنة وملموسة في حياة الدولة. ويرى كاسرير بأنه في هذا المنظور لا تخضع الدولة لأي إلزام خلقي أو إكراه. كما أن الواجب الوحيد للدولة هو الحفاظ على وجودها وبقائها. فالدولة هي وحدة عضوية حيث الكل يهيمن على الأجزاء، ولكنها وحدة جدلية تقبل بالاختلاف والتناقض داخلها، بل إنها تشترطه وتتطلّبه. إنّ محرّك التاريخ عند هيجل وصانعه هو النشاط الإنساني في التاريخ الناتج عن حاجاته ورغباته وأهوائه، في حين يعتبر الفضائل الأخرى المجردة مثل حبّ الوطن على سبيل المثال لا الحصر ليست إلا ثانوية.
وحسب كاسرير لقد حدث تطور مهم في تصور هيجل للدولة: ففي المرحلة الأولى هيمن فيها النسق الميتافيزيقي على تفكير هيجل، مما جعل تصوره للتاريخ تصورا شموليا وكلّيا يلغي دور الفرد والعنصر الخاص والذاتي. وسيهجر هيجل هذا التصور حينما بدأت فلسفته الميتافيزيقية تفقد سلطتها لصالح فلسفته السياسية.
في هذه المرحلة الثانية سيؤاخذ هيجل على كل من كانط وفيخته والثورة الفرنسية رفعهم لشعار عن الحرية يتميز بطابع صوري ومجرد، أي أنّ تفكيرهم قد فارق الواقع ولم يعد متصلا به. ذلك لأنّ العالم الواقعي والحقيقي هو العالم التاريخي، في حين – كما يلاحظ هيجل- نجد بأنّ الثورة الفرنسية قد هدمت هذا النظام وتنكرت له. من هنا يستنتج كاسرير بأن الخلفية الإيديولوجية لنظرية هيجل في الدولة تتمثّل في تأكيده على أن كل فترة من فترات التاريخ لا توجد إلا أمة واحدة تمثّل حقيقة روح العالم وتجسّده، وهي التي لها الحق أن تحكم باقي الأمم.
لكن بالرغم من هذا، يرى كاسرير، بأنّ تصور هيجل للدولة يتناقض جذريا مع التصور التوتالتاري للدولة. فهو لا يربط عظمة الدولة بقوتها، أي باتساع قوتها الجغرافية وضم أراض جديدة لها-إذ أن الاستعمار المتمثّل في ضم أراض جديدة هو، في نظره، يشكّل بداية ضعف واضمحلال الدولة. كما أن الدولة التوتالتارية تقوم على مبدأ آخر للإقصاء تعارضه الدولة الهيجلية. إنها تقوم على محو وإقصاء جميع أشكال الحياة الاجتماعية والثقافية التي تعبّر عن الاختلاف. إنها تقصي جميع أشكال التمايز والاختلاف. في حين يرى هيجل بأن هذا الإقصاء للاختلاف لا يؤدي إلى تحقيق الوحدة العضوية، ولكنه يؤدي إلى تحقيق وحدة مجردة هشة، في حين أنّ أساس الوحدة هو الاختلاف والتناقض. ويرى هيجل بأنّ هذا الخطأ هو ذاته الخطأ الذي وقعت فيه الثورة الفرنسية التي ربطت قوة الدولة بإقصاء الحركات المختلفة، ونسيت بذلك أنّها تقوّض أحد الدعامات الأساسية للدولة ألا وهي الحرية. إنّ المثال الذي يستلهمه هيجل في بناء تصوره للدولة هو حدث الثورة الفرنسية. ففشل هذه الأخيرة في تحقيق أهدافها راجع إلى كونها ألغت عنصر الاختلاف والتنوع داخلها، وهو شرط لحرية الدولة وتحررها. ويرى كاسرير بأنّ هذه المسألة تعدّ اختلافا جذريا بين تصور هيجل والتصور الشمولي والتوتالتاري للدولة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

تصور هيجل السياسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تصور هيجل السياسي   تصور هيجل السياسي Emptyالخميس فبراير 21, 2013 6:27 pm

كان هيغل أول من أعمل قطع الحداثة مع الإيحاءات المعيارية للماضي الغريب عنها. لم تطرح الحداثة على نفسها مسألة العثور على ضماناتها الخاصة في ذاتها إلا في نهاية القرن الثامن عشر، وتبلغ هذه المسألة من الحدة بحيث يمكن لـ هيغل أن يتناولها بوصفها مسألة فلسفية، لا بل يجعل منها "المسألة الأساسية" لفلسفته. إن الانشقاقات التي أحدثها فعل العصور الحديثة في الأزمنة السابقة وتراثها يراها هيغل منبع الحاجة إلى الفلسفة التي باتت وعي الحداثة لذاتها. يكتشف هيغل، أولاً ، "المبدأ الذاتي للأزمنة الحديثة". أي ترجمة الأزمنة الحديثة إلى أفكار. ووعي هذه الترجمة. ما يزال، الفكر الحديث كله ناتج عن هيغل بشكل من الأشكال. وقد استطاع هذا الفيلسوف العبقري أن يشكل نسقاً فلسفياً متكاملاً سماه "نسق العلم" System of Science، حيث يشـــمل: 1- المنطق 2- الطبيعة 3- الروح/ العقل . كذلك فقد درس هيغل الدين والأخلاق الفردية والحياة الأخلاقية والسياسة والدولة والمجتمع المدني الخ... لم يترك شيئاً إلا وتحدث عنه، كالجمال والفن. ولهذا السبب كان آخر فيلسوف شمولي في التاريخ. إنه أرسطو العصور الحديثة، وكما أن المعلم الأول [أرسطو] تحدث عن الفيزيقا والميتافيزيقا والمنطق والبلاغة والشعر والسياسة والأخلاق والدين الخ.... كذلك، فعل هيغل الشيء ذاته في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ولذلك اعتبره البعض بأنه ذروة الفلسفة المثالية الألمانية. يقول هولغيت:" لقد تأثر هيغل بـ كانط بدون شك، حيث كان كانط أستاذاً لكل مثقفي ألمانيا في ذلك الزمان، ولكنه حاول أن يتجاوز أستاذه، وقد تجاوزه في أشياء عديدة من هنا بعض من عظمته".
وأما الأحداث الأساسية التي أثرت على فكر هيغل وفلسفته في التاريخ فهي الثورة الفرنسية التي اندلعت وعمره تسعة عشر عاماً، ثم شخصية نابليون بونابرت الذي غزا ألمانيا ورآه لأول مرة على حصان، ثم الثورة الصناعية الإنجليزية التي غيرت وجه العالم.
وأما عن حياته، فيقول هولغيت: ولد جورج ويلهلم فريدريك هيغل بتاريخ 27 آب/ أغسطس عام 1770 في عائلة بروسية تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة. كان والده موظفاً في الدولة البروسية. وبعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد. وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة. وهناك قرأ كتب جان جاك روسو و كانط على ضوء أحداث الثورة الفرنسية.
ثم التحق به شاب آخر سوف يصبح فيلسوفاً كبيراً فيما بعد هو شيلِنغ . وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة وسوء التفاهم. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التفوق في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربّي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796. وفي عام 1795 ألّف أول كتاب له تحت عنوان «حياة يسوع». ثم راح يدرس بشكل منهجي منتظم مؤلفات كانط و فيخته في مدينة فرانكفورت بين عامي 1797 - 1800. وفي عام 1801 انتقل إلى مدينة «يّينا» التي تحتوي على جامعة مهمة، حيث حلّ شيلنغ محل فيخته كأستاذ جامعي، بعد أن أبعد هذا الأخير لاتهامه بالإلحاد atheism. وهناك انخرط في الكتابة والبحث والمناقشات الفلسفية إلى أقصى حد. ثم أصبح أستاذاً مساعداً في نفس الجامعة. حيث كان يتقاضى راتباً زهيداً.
وفي عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح (أو علم ظواهر الروح/ العقل). ثم أصبح رئيس تحرير لإحدى الجرائد الألمانية. لكنه طُرد من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألّف كتاباً مدرسياً في عدة أجزاء بين عامي 1812-1816 تحت عنوان «علم المنطق». وهو ما يسمى أيضاً بـ "المنطق الكبير" مقابل "المنطق الصغير" أو "موسوعة العلوم الفلسفية"
تزوج هيغل عام 1811 وولد له طفلان: الأول سيصبح أستاذ تاريخ، والثاني أصبح قساً بروتستانتياً.. نال هيغل منصباً جامعياً مهماً في جامعة هايدلبرغ عام 1816. وفي عام 1817 نشر كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية". أو "المنطق الصغير" وعندما مات فيخته الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين حل هيغل محله عام 1818. وكان ذلك أكبر منصب يمكن أن يحلم به فيلسوف في ذلك الزمان. وعندئذ ازدادت شهرته وأصبحت عالمية تقريباً. ولكن البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكيّ البْروسيّ. وهكذا هاجمه الليبراليون الذين كانوا ما يزالون تقدميين في ذلك الزمان. ولكن بعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به. وعندئذ أصبح يتلقى الضربات من كلا الطرفين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه «مبادئ فلسفة الحق". وفي عام 1827 سافر إلى منطقة فايمار حيث استقبله غوتّه ، ثم سافر بعدئذ إلى باريس حيث رحّب به فيكتور كوزات وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين.
مات هيغل بمرض الكوليرا عام 1831 و كان عمره واحداً وستين عاماً فقط. وبالتالي فإن كتبه عن الجماليات، وفلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، لم تنشر إلا بعد موته. يقول هولغيت: إن تلخيص فلسفة ضخمة كفلسفة هيغل أمر صعب جداً. فالمرء يخشى أن يشوه فكره إذا ما بسَّطه أكثر من اللزوم. كان هيغل يرى أن ما يتحقق في التاريخ عبر الصراعات الدامية والأهواء البشرية المتعارضة والهائجة هو الروح/ العقل: أي العقلانية العميقة. فالتاريخ عقلانيّ على الرغم من أنه يبدو لنا فوضوياً، مليئاً بالحروب والظلم والقهر. وذلك لأن العقل هو الذي يحكم العالم والتاريخ بحسب النظرة الديالكتيكية لـ هيغل. فالتاريخ كان عقلانياً وسيبقى على الرغم من كل المظاهر الخادعة والتي تقول العكس. والتاريخ لا يمكن أن يفهمه إلا عقل الفيلسوف. كان هيغل يقول بالحرف الواحد: " ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل التي هي وحدها القادرة على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية." التاريخ يتقدم نحو المزيد من وعي الذات، هذا الوعي الذي يجعل الإنسان متحرراً من الضرورات. التاريخ يتقدم باتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو طموح التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي. ليس هذا بعيداً عن البشر، بل بفعل البشر أنفسهم. البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، لكن ليس على هواهم، بل وفق ضرورات وشروط مادية عليهم وعيها وتجاوزها. حسب ما أضاف ماركس لاحقاً.
هل ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الناس في عصرنا أكثر عقلانية وأخلاقية وحرية مما كانوا عليه في الماضي؟ لا. ولكن ما هو مضاد للعقلانية والأخلاق والحرية ما عادوا يتحملونه كما في السابق، وإنما أصبحوا يشجبونه أكثر فأكثر. لنضرب على ذلك المثل التالي: عندما كانت الكنيسة الكاثوليكية تحاكم المفكرين في القرون الوسطى أو حتى في عصر النهضة وتعدمهم كما حصل لـ جيوردانو برونو وآخرين ما كان أحد يحتج على ذلك.
كانوا يعتبرونه شيئاً طبيعياً أو عادياً لأن الكنيسة معصومة ولا تناقش. ولكن عندما قتلوا المفكرين أو حتى الناس العاديين في القرن الثامن عشر احتج فولتير على ذلك ومعه كوكبة من المثقفين. وأما في القرن التاسع عشر فعندما أدانوا الضابط درايفوس بتهمة الخيانة العظمى وهو بريء فإن إميل زولا احتج على ذلك ومعه ليس فقط المثقفين وإنما جزء لا يستهان به من الرأي العام.. وهكذا نلاحظ أنه يوجد تطور على مدار التاريخ من قرن إلى قرن. واليوم أصبح الحكام في الدول الأوروبية يخشون رأيهم العام إلى حد كبير. وبالتالي فالذين يقولون بأنه لا يوجد تقدم في التاريخ مخطئون.
يقول هولغيت: بالنسبة لـ هيغل فإن التاريخ الكوني أو تاريخ العالم لا يهتم بالأشخاص الفرديين وإنما يهتم بالفرد الكوني أي بالشعب ككل وبروح هذا الشعب. وهذا ما ندعوه الآن بخصوصية الشعب الألماني، أو الفرنسي، أو العربي الخ... فكل شعب له روح جماعية هي شروط هذا الشعب وموقعه في جدلية التاريخ العالمي. وجاءت الماركسية ومعها، الفهم المادي للتاريخ أو ما سمي لاحقاً بـ "المادية التاريخية" لتطرح إشكالية، "دور الفرد في التاريخ".
منطق هيغل أو الديالكتيك الهيغليّ هو ما يسميه هيغل نفسه بـ"نسق العلم" أو "منظومة العلم" والذي يشتمل على ثلاثـــة وجـوه: 1- المنـطق ، 2- الطبيعة، 3- الروح/ العقل. والمنطق يتضمن ثلاثة وجوه:
1- اللوغوس أو المفهوم وهو ما يسمى بـ "الكلمة" في الفكر الديني 2- الكينونة أو الكائن 3- الماهية . تشمل مقولة الطبيعة ثلاثة وجوه :
1- الطبيعة الميكانيكية 2- الطبيعة الفيزيقية أو الفيزيائية 3- الطبيعة العضوية. أما مقولة الروح/ العقل فتشمل: 1- الروح/ العقل الذاتي 2- الروح/ العقل الموضوعي 3- الروح / العقل المطلق(العرفاني) أو نفس الأمر إذا استعرنا التعبير الصوفي .
الكينونة أو الكائن كما لاحظنا أحد مقولات المنطق وتشمل مقولة الكائن: 1- التحديد 2- القَدْر 3- القياس. الماهية وهي تأتي من ســؤال: ما هو ؟ وهي المقولة الثانية للمنطق الهيغليّ وتشمل:
1- الانعكاس إلى النفس وفيها. 2- المظهر 3- الفِعلية أو الواقع الفعلي.
المقولة الثالثة من مقولات المنطق الهيغليّ هي اللوغوس (الكلمة الصوتية) أو المفهوم ، وهو أيضاً العقل أو المبدأ العقلاني في الكون حسب الفلسفة اليونانية القديمة، وهو كلمة الله وهو المسيح في الفكر اللاهوتي: في البدء كانت الكلمة. جاء في سورة آل عمران: "إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم " [آل عمران/45]. وفي سورة النساء: "وكلّم الله موسى تكليما" [النساء/164] وفيها أيضاً: "إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته" [النساء/171]. والكلمة نوعان: كلمة طيبة، وهي نفس الأمر أو معنى حقيقة الواقع . وكلمة خبيثة هي ضرب من الهوى والضلال؛ "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة " [إبراهيم/24 "]. ومثل كلمة خبيثة كشــجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض" [إبراهيم/ 26 ]. و يتكون اللوغوس أو المفهوم أو ناموس الكون من ثلاث مقولات هي:
1- الذاتية 2- الموضوعية 3- الفكرة . أما مقولة الروح/ العقل فتشمل: 1- الـروح / العقل الذاتـــي 2- الروح/ العقل الموضوعي 3- الروح/ العقل المطلق أو نفس الأمر.
الطبيعة الميكانيكية تشتمل على ثلاث مقولات هــي: 1- الامتداد المجرّد 2- الميكانيكا المتناهية 3- ميكانيكا الأجرام السماوية. الطبيعة الفيزيائية تشتمل على ثلاث مقولات هــي: 1- المادة المفردة 2- المفرد الخاص 3- الجسم . الطبيعة العضوية وتشــمل: 1- الأرض 2- حياة النبات 3- حياة الحيوان .
لقد لاحظنا أن مقولة الروح/ العقل تشتمل على ثلاث مقولات هي الروح/ العقل الذاتي، والروح/العقل الموضوعي والروح/ العقل المطلق. يشتمل الروح/ العقل الذاتي على ثلاث مقولات هي : 1- النفــــس؛ الروح soul (الأنثروبولوجيا) 2- الوعي (الفينومينولوجيا) 3- السيكولوجيا أو علم النفس. بينما يشتمل الروح/ العقل الموضوعي على ثلاث مقولات هي: 1- الحق المجرد 2- المبدأ الأخلاقيّ أو قواعد السلوك الفردي 3- الحياة الأخلاقية. الروح/ العقل المطلق أو نفـس الأمر أو العرفان و يشتمل على ثلاث مقولات: 1- الفن (التعبير عن الحقيقة) 2- الدين (تمثيل الحقيقة) 3- الفلسفة (تفكير الحقيقة).
بالنسبة للدين، يقدم الحقيقة على شكل أمثال جاء في القرآن الكريم: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" [الحشر/21]، "ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة " [إبراهيم/ 24]. والضَّرْب: المِثْل [القاموس المحيط ص 107]. والكلمة: مِثـْل؛ وهي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد، وهي عند أهل الحق ما يُكنّى به عن كل واحدة من الماهيات وعن عين الشيء" [كتاب "التعريفات"، للشريف الجرجاني]
أما الفلسفة فتقوم على التجريد أو التفكير بالمفاهيم والمقولات التجريدية. وأما الفن فهو تعبير عن الحقيقة بأشكال فنية وجمالية مختلفة. و يشتمل على ثلاث لحظات: 1- [لحظة] الفن التصوري أو الذهني 2- أشكال الفن 3- الفنون الخاصة. أما الدين فيشتمل على المقولات التالية: 1- الدين بشــكل عام 2- الديانات المحدودة 3- الدين النصراني أو المسيحي .
يلاحظ – بما يخص الدين- أن هيغل متأثر بالنزعة المركزية الأوربية وبالمسيحية الغربية، ولم يذكر الدين الإسلامي مع أن الإسلام نسخ المسيحية ورفعها إلى مستوى العصر الذي ظهر فيه . بالتالي لم يفهم هيغل تطور الدراما الإلهية انتهاء بالإسلام ، أي لم يفهم تماماً دراما تطور وعي البشر بحقيقة وجودهم ومعنى هذا الوجود، والمعبّر عنه بالفكر الديني. و "من المفارقات الطريفة أن هيغل ينسى أن الديانة المسيحية هي ديانة شرقيّة ("سوريّة") "، وينظر إليها في كثير من الأحيان كما لو كانت أوربية " [ إمام عبد الفتاح إمام، هامش كتاب هيغل "تاريخ الفلسفة"] أما هيغل فيقول: "مفهوم الحرية على درجة كبيرة من الأهمية. ولم يعرف اليونان أو الرومان – دع عنك الآسيويين – شيئاً عن هذا المفهوم. لم يعرفوا أن الإنسان بما هو إنسان يولد حراً، وأنه حر. فلم يكن لدى أفلاطون، وأرسطو، و شيشرون، وفقهاء الرومان – ناهيك عن الشعب اليوناني والروماني- أية معرفة بهذا المفهوم" [هيغل، "تاريخ الفلسفة"] و "هذا نقد واضح ومباشر لفكرة أرسطو العنصرية التي كانت تقول إن الشرقيين يولدون عبيداً، وأنهم بطبيعتهم عبيداً، لا بسبب الظروف السياسية والدينية التي مروا بها" ["تاريخ الفلسفة" هامش المترجم ]. يقول أرسطو: "يتمثل الطغيان بمعناه الدقيق في الطغيان الشرقي حيث نجد لدى الشعوب الآسيوية – على خلاف الشعوب الأوربية – طبيعة العبد، وهي لهذا تتحمل حكم الطغاة بغير شكوى أو تذمر" ["تاريخ الفلسفة" هامش المترجم ]
الفلسفة أو تفكير الحقيقة أو الحقيقة مفكرة ومعقولة ، هي الضلع الثالث في مثلث الروح/ العقل المطلق أو العرفاني، وتشتمل على: 1- الفلسفة القديمة (الفكرة كتعرُّف، أو إدراك) ، 2- فلســفة العصور الوسطى 3- العصر الحديث (معرفة الفكرة لذاتها أو وعي الفكرة لذاتها). يكتب هبرماس: "إن العتبة التاريخية التي تقع حوالي العام 1500 لم يتم إدراكها كتجديد إلا في القرن الثامن عشر" [هبرماس، "القول الفلسفي للحداثة"]. ويضيف: "إن الصفة "حديث" لم تتخذ شكلاً اسمياً [أي لم تعي ذاتها كمعرفة حسب هيغل] ، في اللغات الأوربية الحديثة إلا في زمن متأخر جداً – تقريباً في منتصف القـرن التاسـع عشـــر" [هبرماس، "القول الفلسفي للحداثة"]
"الحـق المجرد" هــو المقولة الأولى من مقولات الروح/ العقل الموضوعي وتشتمل على ثلاث مقولات هي: 1- المِلْكيّة 2- العقد 3- الحق والجور(الظلم).
المقولة الثانية من مقولات الروح/ العقل هي المبدأ الأخلاقي أو قواعد السلوك الفردي وتشمل: 1- السلوك 2- التهمة 3- الصّالِح (هو الخالص من كل فساد، "كتاب التعريفات").
المقولة الثالثة من الروح الموضوعي هي مقولة "الحياة الأخلاقية" والتي تشمل: 1- العائلة 2- المجتمع المدني 3- الدولة .
أما مقولة الصالح فتشمل: 1- الصالح العام 2- الواجب 3- الوعي والبراعة. أما مقولة السلوك أو الفـعل فتشـــمل: 1- القصد 2- الصنيع (العمل، المأثرة) 3- المعصية (الإثم)
مقولة العِزْوة وهي إحدى مقولات الأخلاق الفردية أو قواعد السـلوك الفردي وتشــمل: 1- العزم والشدة 2- الكائن- الحسن (الخيِّر) (أيضاً للآخرين) 3 - حق الحاجات المُلحّة الخاصة.
مقولــة الغائية وتشمل: 1- الغاية الذاتية 2- الوسائل 3- الغاية المحققة.
أما مقولة الميكانيكية فتشـــمل: 1- باعث ميكانيكي 2- عملية ميكانيكية 3- الميكانيكية الخالصة.
الكيميائية وتشمل: 1- الباعث الكيميائي 2- العملية الكيميائية 3- تحول أو انتقال الكيميائية (إلى القصد أو الهدف).
مقولة الفكرة العامة/المفهوم، بما هو (في حد ذاته) تشمل: 1- الفكرة الكلية 2- الفكرة الخاصة 3- الفكرة الفردية . أما مقولة القياس المنطقي أو القياس فتشمل: 1- قياس الكيف 2- قياس الانعكاس 3- حكم الضرورة . ومقولة الحكم تشمل: 1- حكم الكيف 2- حكم الكم والضرورة 3- حكم الفكرة العامّة.
مقولة الدولة إحدى مقولات الحياة الأخلاقية وتشمل مقولة الدولة: 1- القانون الدســـتوري 2- القانون الدولي 3- تاريخ العالم . المقولة الثانية من مقولات الحياة الأخلاقية هي مقولة المجتمع المدني وتشمل مقولة المجتمع المدني: 1- الاقتصاد أو التنظيم الاقتصـادي للمجتمع 2- إدارة القضاء 3- المؤسسات المدنية (الاجتماعية) تشـــــمل مقولة التنظيم الاقتصادي: 1- الحاجات الضرورية وإشباعها 2- العمل 3- الأشغال (من حرف ومهن وصنائع). وتشـــمل هذه بدورها: 1- المزارعون، ملّاكو الأرض 2- التجارة والصناعة والحرف 3- موظف مدني أو حكومي. أما إدارة القضاء فتشمل: 1- الحق الشـــرعي 2- القانون المكتوب 3- المحكمة. أيضاً تشمل المؤسسات المدنية(السياسية): 1- البوليس/ الحكومة (تنظيم المجتمع) 2- الجمعيات/ النقابات (الشركات والمجالس البلدية وغيرها).
العائلة هي الضلع الثالث من مثلث الحياة الأخلاقية وتشمل: 1- الزواج 2- رأس المال 3- الانحلال . وإذا كان العقل يحكم العالم ويتجسد في التاريخ إلا أن المظهر السطحي للتاريخ يوحي لنا بأنه فوضى أو جنون أو عنف أعمى لا غاية له ولا عقلانية. ولذا فينبغي علينا أن نفرق بين التاريخ العميق أو الحقيقي، والتاريخ الظاهري السطحي. والشر في نظر هيغل ليس كله شراً. فلولاه لما اكتشف الناس الذين يصنعون التاريخ معنى الخير. ضمن هذا المنظور الهيغليّ الواسع يصبح للشر معنى ولا يعود شيئاً عبثياً أو اعتباطياً أو شاذاً. وإنما يصبح شيئاً ضرورياً لتحقيق التقدم في التاريخ. هذه هي فلسفة التاريخ العريضة لـ هيغل.
و الديالكتيك باقتضاب وإيجاز، عند هيغل، ثلاث لحظات: 1- طريقة هيغل 2- جدل المعرفة أو فينومينولوجيا الروح 3- جدل الكائن أو "المنطق" . وهذه اللحظات الثلاث هي عملية واحدة متكاملة. [راجع كتاب روجيه غارودي: "فكر هيغل"]
لقد لعبت فلسفة هيغل وخاصة الديالكتيك الهيغليّ دوراً كبيراً في تشكّل فكر ماركس و انجلز وفي الماركسية عموماً بكل تياراتها. وقد رجع لينين في السنوات 1914-1916 إلى قراءة وتلخيص "علم المنطق" لـ هيغل حيث ذيل هذا التلخيص بـ : "مخطط ديالكتيك (منطق) هيغل"، و حيث اعتبر أن الديالكتيك والمنطق ونظرية المعرفة هما لحظات لأمر واحد بالنسبة لـ هيغل، وبالنسبة لـ لينين، وبالنسبة للماركسيين عموماً. أما بخصوص موقف ماركس من هيغل، فسوف نقتطف ما قاله ماركس بخصوص ديالكتيك هيغل. يكتب ماركس في تذييله للطبعة الثانية من كتابه الشهير "رأس المال": "إن طريقتي الديالكتيكية من حيث أساسها لا تختلف عن طريقة هيغل وحسب، بل وتناقضها بصورة مباشرة . وبالنسبة إلى هيغل فإن عملية التفكير ، التي يحولها تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلة، هي خالق(مبدع) الواقع الذي لا يشكل سوى مجرد مظهر لتجليها الخارجي . أما عندي [والكلام لماركس] فعلى العكس، فالمثالي ما هو إلا مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحوّل فيه ". ويضيف ماركس: "ولقد انتقدت الجانب الصوفي من ديالكتيك هيغل قبل حوالي 30 عاماً حينما كان هذا الديالكتيك لا يزال على الموضة. بيد أنه عندما كنت منهمكاً في كتابة المجلد الأول من "رأس المال" شرع المقلدون الصاخبون ، المتصنعون والتافهون للغاية ، الذين يلعبون الدور الأول في ألمانيا المعاصرة المثقفة ، يستهينون بهيغل ، مثلما كان المقدام موزيس مندلسون في عهد ليسينغ يستهين بـ سبينوزا كـ "كلب ميْت" . لذلك أعلنت عن نفسي بصراحة أنني تلميذ لهذا المفكر العظيم ، وحتى أنني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلق بنظرية القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير . وأن الطابع الصوفي الذي ارتداه الديالكتيك على يدي هيغل لم يحل إطلاقاً دون أن يكون هيغل بالذات أول من قدم تصويراً شاملاً وواعياً للأشكال العامة لحركته. فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل . بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية" [تذييل الطبعة الثانية ص27-28]
إشارة أخيرة: هذا الاستعراض لمقولات علم الاقتصاد السياسي ليست خارج الديالكتيك بالمعنى المنهجي. لأن الديالكتيك تاريخي وهو ذو محتوى متجدد؛ أي ذو علاقة بتطور العلم في التاريخ. لم يكن يتضمن ديالكتيك هيغل ما يسمى فضل القيمة، بينما يتضمنها ديالكتيك ماركس كمحتوى علمي جديد. وهذا يصح على ديالكتيك لينين حيث يتضمن مقولة الإمبريالية كمقولة ومحتوى جديدين. لا يجوز في استعمال المنهج الديالكتيكي المرور على مقولة الإمبريالية وكأنها خارج المنهج، بل باتت أداة ضرورية و مفتاحية في أي تحليل جديد للاقتصاد العالمي، مثلها مثل مقولة فضل القيمة. إن محتوى العلم يدخل في المنهج ويغدو أداة تحليل من ضمن أدواته.
.نايف سلوم
حمص في 17/4/2006
- أرسطو طاليس 384-322 قبل الميلاد . فيلسوف يوناني، وعالم موسوعي. مؤسس علم المنطق وفروع أخرى من المعارف الخاصة. أطلق
عليه ماركس: "أعظم مفكر في العصور القديمة" [عن القاموس الفلسفي]
 - مؤلف كتاب "مدخل إلى هيغل" هو الباحث ستيفن هولغيت أحد المختصين بفكر هيغل والفلسفة الألمانية وهو يقدم مدخلاً جيداً إلى فلسفة التاريخ والسياسة عند هيغل. وقد استفدنا من هذا المدخل في إعداد هذا الكراس. واستفدنا أيضاً من كتاب يورغن هبرماس "القول الفلسفي للحداثة" منشورات وزارة الثقافة 1995 .
- عمانوئيل كانط 1724-1804 فيلسوف وعالم ألماني مؤسس المثالية الكلاسيكية الألمانية، ومؤسس المثالية النقدية والمثالية المتعالية. [عن القاموس الفلسفي]
- جان جاك روسّو: 1712- 1778 عضو في الجناح اليساري للتنويريين الفرنسيين ، فيلسوف وعالم اجتماع وجماليات وأحد منظري البيداغوجيا أو علم أصول التدريس. [عن المعجم الفلسفي]
- فريديدريك ويلهلم جوزيف شيلِنغ : 1775- 1854 ، فيلسوف ألماني، الثالث (من الناحية الزمنية) بين المثاليين الكلاسيكيين الألمان المشهورين (بعد كانط و فيخته ). كتب في الأعوام s1790 عدة مقالات حول مشكلات فلسفة الطبيعة. [عن المعجم الفلسفي]
- غوتليب جوهان فيخته: 1762-1814 فيلسوف ألماني؛ ثاني شخصية بعد كانط في المثالية الألمانية الكلاسيكية.، عمل أستاذاً جامعياً في جامعات يينا وبرلين ( طرد من الجامعة كونه اتُهم بالإلحاد) . [عن المعجم الفلسفي]
- جوهان فولفغانغ فون غوتّيه: 1749-1832 شاعر ألماني، عالم طبيعيات، ومفكر. دافع غوته عن فكرة وحدة النظرية والتجربة .
- جيوردانو برونو: 1548-1600 فيلسوف إيطالي، مناوئ للسكولاستية و للكنيسة الكاثوليكية؛ والسكولاستية، هي الفلسفة المدرسية (اللاهوت السكولاستي) السائدة في القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة، وقد بنيت على إخضاع فلسفة أرسطو للاهوت المسيحي والدوغما المسيحية. ومن أبرز ممثليها توما الأكويني. وقد اتهمت الكنيسة الكاثوليكية جيوردانو برونو بـ"الزندقة والردّة والطعن في العقيدة المسيحية.. والدعوة لنظرية كوبرنيكوس في الفلك وهي النظرية القائلة بدوران الأرض حول محورها وحول الشمس وهو ما يتنافى مع جغرافيا وفلك الكنيسة كما استخلصتهما من الكتاب المقدس ومن أرسطو، ومن بطليموس الجغرافي" [عن الموسوعة، وثورة الفكر لـ لويس عوض]
- فرا نسوا ماري أروي دي فولتير: 1694- 1778 كاتب، و فيلسوف و مؤرخ أحد قادة عصر التنوير الفرنسي. كانت نظرته إلى العالم متناقضة.
- أميل زولا 1840-1902 : روائي فرنسي . يعتبر مؤسس المذهب الطبيعي في الأدب. [عن المورد 1991، معجم الأعلام]
- غوتهولد أفرائيم ليسينغ 1729-1781 : منور وفيلسوف ألمانيّ، خبير بالشؤون العامة . كاتب مسرحي، ناقد، ومنظر في الفن. [عن القاموس الفلسفي]
- باروخ أو بينيدكت سبينوزا 1632- 1677 : فيلسوف مادي هولندي/ألماني Dutch ؛ محروم كنسياً بسبب تفكيره الحر، من قبل الجالية اليهودية في أمستردام. يعتبر سبينوزا مؤسس الطريقة الهندسية أو المنهج الهندسي. [عن القاموس الفلسفي]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

تصور هيجل السياسي Empty
مُساهمةموضوع: الهيغلية   تصور هيجل السياسي Emptyالخميس فبراير 21, 2013 6:41 pm

ج.ف.ف. هيغل (1770–1831) والهيغلية

هو غيورغ فيلهلم فريدريش هيغل الذي ولد في فورتنبرغ في العام 1770 من عائلة برجوازية صغيرة. تلقَّى في البدء تعليمًا كلاسيكيًّا مكثفًا؛ ثم، بدءًا من العام 1788 وحتى العام 1793، دَرَسَ الفلسفة وعلم اللاهوت في مدرسة توبنغن الإكليريكية، إلى جانب بعض أشهر معاصريه، كشيلنغ وهولدرلن. ونشير هنا إلى أنهم كانوا جميعًا آنذاك شديدي التحمس للثورة الفرنسية.

في العام 1818، عُيِّن هيغل أستاذًا للفلسفة في جامعة برلين – لكنه قبلئذٍ مارس العديد من الأعمال كي يعيل نفسه وأسرته: عمل كمدرس خصوصي، ثم كصحفي، ثم كمدير ثانوية في نورمبرغ؛ وأخيرًا عمل أستاذًا في جامعة هايدلبرغ، قبل أن ينتقل إلى برلين، حيث ذاع صيته وتبلور فكره تبلورًا كاملاً، فقام تلاميذه بتدوين دروسه، ثم استُخدِمَت هذه التدوينات بعيد وفاته لتدعيم ما ألَّفه من أعمال.

تعكس نصوصه الأولى (وخاصة منها حياة يسوع، حيث يظهر اهتمامُه بالمسألة الدينية) منظورًا كانطيًّا (كان سائدًا آنذاك في الجامعات الألمانية). لكننا سرعان ما نراه يتخلَّى عن إيديولوجية عصر التنوير، محتفظًا مع ذلك باحترام وتقدير خاصين لكلٍّ من كانط وروسو. إذ لقد تبيَّن له بدقة أنه ليس في وسع هذه الإيديولوجية التعبيرُ عن التحولات التي اكتسحت العوالم القديمة، كما هي تكتسح اليوم العالم الحديث. فمن واجب الفلسفة، من منظوره، أن تشرح منطقية ما سبق، شأنها في شرح منطقية ما هو سائد حاليًّا سواء بسواء: فللمرة الأولى نجد، عن طريق فكره، كيف تمَّ إدخال التاريخ ضمن نطاق الفلسفة كبُعد أساسي من أبعاد الوجود. فمجرى التاريخ لا ينبسط انبساطًا عشوائيًّا: فهو، على الرغم من التنافر الظاهري للأحداث، يعبِّر عن معنًى، لأنه يلبي هدفًا في نهاية المطاف، كما أنه يسعى إلى غاية هي التجلِّي التدريجي للفكرة الكونية.

فالفكر عند هيغل يتجاوز، من حيث مفهومه، ما كان يمثله، في نظر سابقيه، كصفة من صفات الروح الإنسانية. الفكر عنده يتجاوز هذا المفهوم ليتحول إلى محرِّك للواقع برمَّته. انطلاقًا من هذا الفهم، كانت مقولته الشهيرة القائلة: "كل ما هو منطقي حقيقي، وكل ما هو حقيقي منطقي." كذلك، من هذا المنظور، صار بالإمكان نعت فلسفته (التي تؤكد على تطابق الروح والكائن) بالفلسفة المثالية المطلقة. لكن هذا التطابق الذي لم يكن جليًّا في بداية التاريخ، حيث كانت نقطة البدء، أصبح واضحًا الآن عند نقطة الوصول، بعد أن اجتاز الفكر جميع المراحل التي مكَّنته في نهاية المطاف، وعبر ارتهاناته المتتالية، من أن يتجلَّى تجليًا كاملاً: فالمطلق ما هو في النهاية إلاَّ ما هو في الواقع.

في العام 1807، في مؤلَّفه دراسة في فينومينولوجيا الروح Phénoménologie de l’esprit، رسم هيغل ملحمة الوعي – هذا الذي كان، في كلِّ وقت من أوقاته، ينفي ما سبقه، ليرتقي، عبر هذا النفي، إلى درجة واقع أعلى متمِّم. لذلك ترانا ننطلق مبتدئين من ذلك "اليقين المحسوس" لنصل إلى "المعرفة المطلقة": وهذه كانت البانوراما التي صوَّبها وعي معاصر – وعي هيغل نفسه – الذي أعاد مراجعة مسيرة الروح الإنسانية برمَّتها، من خلال سعيها التدريجي إلى وعي مفهوم الحرية. ويصبح هذا الفهم الإجمالي صفة خاصة من صفات فيلسوفنا الذي كان أول من تفهم القانون الخفي الموجِّه للواقع وللفكر، الذي أصبح في وسعه، بالتالي، تجسيد شمولية المعرفة في سائر المجالات – وبشكل خاص في مجال الفلسفة، من خلال مفْصَلَة المنظومات الفلسفية السابقة كافة، للتوصل إلى نظام نهائي يتجاوزها جميعًا، عبر استيعابه لحقائقها الجزئية، موصلاً بذلك الفلسفة إلى تفتحها الكامل، وفي نفس الوقت إلى نهايتها الحتمية.

من هذا المنظور، متجاوزًا جميع واضعي المنظومات، يمكن النظر إلى هيغل كـ"آخر الفلاسفة"، ذاك الذي أعلن عن استبداله بالفلسفة معرفةً يتم التوصل إليها عن طريق التطبيق الصارم للجدلية – هذه (أي الجدلية) التي هي، في نفس الوقت، قاعدة الفكر والواقع معًا. لأنه، من هذا المنظور، كانت قطيعة هيغل مع مجمل الموروث الميتافيزيقي الذي لم يحتفظ منه إلا ببعض الثوابت العائدة إلى هيراقليطس واسبينوزا. فالكائن، من منظوره، لا يحتوي من الواقع بمقدار ما يحتوي من العدم. من هنا كانت بعض قواعده التي قد تبدو مشينة وغير مقبولة بنظر المنطق الكلاسيكي، كتلك التي تقول، مثلاً وليس حصرًا: "إن مفهوم الكائن يكافئ العدم من حيث انعدام مضمونه. وعلى العكس من هذا، في المقابل، وكانعكاس للفراغ، فإنه يمكن اعتبار العدم كائنًا في حدِّ ذاته، إن لم نقل إنه الكائن بسبب نقائه." لأنه لا وجود للواقع إلا في قلب الصيرورة (بمعنى التاريخ) وعبرها، الناجم عن "الفعل السلبي" وشميلة synthèse الكائن والعدم: أي أن التناقض الذي لم يكن مقبولاً بنظر الفلاسفة الذين سبقوه أضحى، مع هيغل، محركًا للفكر وللواقع. وما ذاك إلا لأنه فعَّال فعلاً في صيرورته، حيث يتحول كلُّ شيء إلى ما لم تكن عليه حالُه بعد، بحيث لا يبقى تمامًا كما كان عليه. من هذا المنطلق، تزول أية أهمية للكائن وللعدم "المحض" أو المنعزل؛ إذ وحدها تبقى مهمةً لعبةُ تفاعلهما.

هذا المنطق الجدلي، المبيَّن بشكل خاص في كتاب علم المنطق، ليس شكليًّا، لأنه المنطق الذي يحوِّل العالم في حدِّ ذاته ويطوِّره: فهو أونطولوجيا فعلية، وخطاب حول الكائن التاريخي.

وهذا المنطق هو الذي طبَّقه هيغل في تعليمه البرليني، حين أعاد استعراض سائر مجالات الحياة والثقافة، مضفيًا عليها مضمونًا جدليًّا – مضمونًا جعل من التاريخ والدين والفن والفلسفة لحظات واسعة ومتتالية يتجلَّى من خلالها التموضُع التدريجي للروح الإنسانية.

هكذا، مثلاً، يبيِّن كتاب مبادئ فلسفة الحق كيف تتحقق الروح كحقٍّ يحدد إرادة الظاهر؛ ثم بعدئذٍ تأتي المناقبية لتحقق استبطان العزيمة؛ وهذا هو العائق الأول الذي يجب على "المناقبية الموضوعية" أو "الحياة الأخلاقية" تجاوزُه. وتلك (أي الحياة الأخلاقية) تنقسم بدورها إلى ثلاث لحظات هي: العائلة، المجتمع المدني، والدولة، التي هي "التجسيد العملي للفكرة الأخلاقية الموضوعية".

وتمر الروح "عبر تحققها المحض" بثلاث مراحل هي: الفن، الدين، والفلسفة أو العلم، حيث الدين والفلسفة يعبِّران تعبيرًا متكاملاً عن المطلق: في البداية من خلال البيان؛ ثم بشكل شديد التصور – وعندئذٍ، "يتم شطب كلِّ عنصر دخيل على المعرفة، وتبلغ هذه الأخيرة حدَّ التساوي الكامل مع ذاتها"؛ وأخيرًا، حين يتم تخطِّي جميع التأملات، تتجلَّى الروح المطلقة تجليًا كاملاً.

لقد حققت المنظومة الهيغلية الواسعة، والطموحة بما لا يقارَن، نجاحًا كبيرًا في بداياتها. ثم تبع هذا النجاح شيء من النسيان، حتى أواسط القرن التاسع عشر ومجيء ماركس، الذي كان تقريبًا الشخص الوحيد الذي (على طريقته) كان مازال يعتبر نفسه حينذاك منتسبًا إلى هذه المنظومة. هذه المنظومة التي استعادت نفوذها في القرن العشرين، من خلال أعمال متنوعة لسارتر ولوكاتش وهنري لوفيفر وإريك فايل وماركوزي. أما الجمهور الفرنسي، فقد بدأ بالاهتمام به جديًّا بدءًا من العام 1930. وإذا كانت الفلسفة المعاصرة تبتعد عنه بسبب ارتيابها، على ما يبدو، من الأفكار الشمولية الكبرى، فإن منظومته تبقى ملزِمة لنا كحدٍّ أدنى، ورغم كلِّ شيء، بأخذ البُعد التاريخي للواقع بعين الاعتبار.

الدراسة الفلسفية التمهيدية

هي في الواقع نوطات هيغل الشخصية، التي كتبها عند تحضيره دروس الفلسفة للسنوات الثلاث الأخيرة لجيمناسيوم نورمبرغ، الذي كان فيلسوفنا قد عُيَّن مديرًا له في العام 1808. وميزة هذه الحواشي أنها تقدم بخطِّ يده موجزًا مكثفًا لفكره وبرنامجًا عمليًّا لما سيطوِّره بعدئذٍ (ما عدا هاهنا تاريخ الفلسفة التي كان يتخوف من أن تبدو تعسفية للطلاب).

حيث يقدِّم الدرس الأول (المعد للصف التمهيدي) عقيدة الحقوق والواجبات والدين. أما "الصف الأول" فيحظى بملخَّص لـ"دراسة ظاهرة الروح والمنطق": حيث يظهر الوعي، بادئ ذي بدء، ظهورًا محسوسًا، ثم بوصفه إدراكًا حسيًّا وفهمًا ذهنيًّا، قبل أن ننتقل إلى دراسة وعي الذات في حدِّ ذاته – فهو الرغبة، ثم جدلية الحوار بين السيد والعبد، فالوعي الكوني للذات. وهو في النهاية ولوج الوعي كـ"شكل أعلى للتماهي بين معرفة الشيء ومعرفة الذات"، حيث المعرفة حقيقية، وليست فقط مجرد يقين ذاتي. أما المنطق، فهو يدرس، على التوالي، الكائن والجوهر والمفهوم الذي يتخذ شكله النهائي في الفكرة، كتعبير عن "وحدة الروح والمفهوم".

أما الدرس الأكثف فهو ذاك المخصص لطلاب "الصف الأعلى". حيث نبدأ بتناول فكرة المفهوم بمزيد من التفصيل (من منظورَي المنطق – الحكم والقياس – والأونطولوجيا). هذا وتتعمق الموسوعة الفلسفية (القسم الثاني للدرس) في مفهوم المنطق الأونطولوجي من خلال استعراض خاص للصفات الأساسية لآلية عمل الجدلية (كالعلاقة بين الكلِّ وأجزائه، والفعل والفعل المتبادل)، ثم من خلال المنطق الذاتي (العودة إلى الحكم والقياس) واستعادة "مذهب الأفكار".

يلي هذا استعراضٌ سريع للعلوم الطبيعية (الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا) يسبق الجزء الأخير المخصص لـ"علم الروح": حيث إن وصف أبعادها الأساسية الثلاثة (الإحساس والتصور والتفكير) يتبعه تحققها التدريجي كمعرفة – في البدء من خلال الروح العملية (القانون والأخلاق ونظرية الدولة)، وفي النهاية من خلال الثلاثية الكبرى للفن والدين والعلم التي تثبت "تحققها المحض".

ونسجل هنا الأهمية الفائقة لهذه النوطات المدرسية، من حيث إنها تقدم أسُس الفكر الهيغلي في مختلف المجالات. حيث إننا، على الرغم من جفافها وتجريدها الكثيف (الأمر الذي لا ييسِّر قراءتها)، نجد فيها الترسيم المجمل الأساسي لمنظومة هيغل، مما يجعل بالإمكان استعمالها كفهرس عام موجِّه في دراسته.

علم الجمال أو الإستيطيقا

وهي الدروس التي ألقاها هيغل في برلين، وجُمِعَتْ في العام 1832، ثم أُغْنِيَتْ بعدئذٍ بإضافة مخطوطات مكمِّلة.

فالجمالية الهيغلية – وهي ليست معيارية – تقدم مثالاً جيدًا على كيفية فعل الجدلية عبر التاريخ (وخاصة حين يتعلق الأمر بتاريخ الفن): لأن الغاية هي بناء النظرية الفلسفية للفن وتبيان معانيه العميقة. لكن الإعلان عن هذه الأخيرة لا يمكن له أن يتحقق ما لم يفرض الفن طبيعته الخاصة بالكامل، أي عندما يحقق غايته. عندئذٍ – وعندئذٍ فقط – يصير في وسع الخطاب الفلسفي التصوري استكمال المسار من خلال دفع المضمون خطوة إضافية إلى الأمام.

بحسب هيغل، ليس في وسع الفن أن يعكس المطلق إلا عَكْسًا حدسيًّا ومحسوسًا: فالعمل الفني هو "التجلِّي المحسوس لفكرة" – ذلك الوسيط بين الإدراك الحسِّي للشيء العادي (الذي يتمايز عنه بحكم كونه لا علاقة له بالرغبة) والإدراك التصوري الصافي (الذي يبتعد عنه بفعل ماديته). وهذا يشرح لماذا "لا يجد الفن، البعيد عن كونه الشكل الأعلى للروح، كمَالَه إلا في العلم". لكن الفن يحمل، مع هذا، بصمات الروح والحرية – لهذا نجد أن هيغل، خلافًا لكانط، لا يقبل بوجود جمال "طبيعي"؛ ما يعني، بالتالي، أنه لا يمكن تبسيطه إلى مجرد نَسْخ للطبيعة أو محاكاة لها، أو اختزاله إلى مجرد قدرة تقنية.

إن كون العمل مكونًا من سفحين – أحدهما محسوس والثاني عقلي – يحدِّد ما بينهما ثلاث علاقات ممكنة، تُقابِل اللحظات الثلاث الكبرى في تاريخ الفن، حيث يلخِّص كلٌّ منها، على نحو ما، روح ثقافة ما، ويتحقق تحققًا مميزًا في الفن بشكل خاص.

وهكذا، عندما يستولي الجانب الحسِّي على الفكرة، فإننا نجد أنفسنا ضمن مجال الفنِّ الرمزي (فالرمز مبهم دائمًا، حيث يمكن لشكله أن يولِّد عدة معانٍ): وهذه حال الفن المصري – وذروة موسيقاه متمثِّلة في أبي الهول الذي يجسد الوظيفة الرمزية.

بينما يمتاز الفن الكلاسيكي بتوازن الجانب المحسوس مع الجانب العقلي. وهذا ما تجسده، على سبيل المثال، المنحوتات اليونانية التي تبين مثالية الجمال الطبيعي – لكن، في المقابل، نجد أن ما تقدِّمه التراجيديا اليونانية، من خلال تسلسل مؤلِّفيها الثلاث، هو ملخَّص لتاريخ الفن، حيث يمثل إسخيلوس الرمزية، بينما يمثل سوفوقليس الكلاسيكية؛ أما إفريبيدِس فيمثل الرومانسية.

ونجد أن الفن الرومانسي (المتوافق مع الثقافة المسيحية) يعبِّر عن تجاوز المضمون للشكل. فالفكرة غنية إلى حدٍّ لا يمكِّن المادة من استيعابها استيعابًا كاملاً. وتتحقق هذه المرحلة الأخيرة في عدة فنون، كالرسم والموسيقى والشعر، حيث يشكل هذا الأخير (أي الشعر) الفن الأكثر عقلانية بين الفنون، لأن المادة فيه تنمحي تقريبًا، بما يجعل بالإمكان صنع شميلات جزئية من كلِّ الفنون الأخرى: فالشعر الملحمي يبيِّن الجوانب التشكيلية والتصويرية؛ أما الشعر الغنائي فيغتني بالموسيقى؛ بينما يجمع الشعر المسرحي، أخيرًا، جميع هذه الصفات الروحية. ونشير هنا إلى أن الشعر، بلا ريب، لا يبلغ حدَّ نقاء المفاهيم، لكنه يمتاز عن غيره من الفنون بأن أداته هي اللغة فقط، مما يعطيه نقاء لا يضاهى في عالم الفن: فالشعر، على طريقته، يعلن قرب سيادة العلم.

إن هذه الإستيطيقا، الغنية بتحليلات عميقة لأعمال كثيرة ومعانيها ووسطها الثقافي، قد أثَّرتْ، إلى حدٍّ كبير، على علماء الجمال (ككروتشي وفوسيلون)، كما أثرت على النتاج الفني في حدِّ ذاته (فالسوريالية استخلصت منها، مثلاً، ضرورة أن تصبح جميع الفنون "شاعرية"). تبقى المشكلة ما تعلنه هذه الجمالية من "موت الفن"، لأنه من الواضح أن الفن مازال مستمرًا. لكننا نخطئ إن اعتقدنا بأن هذا البقاء يتعارض مع المفهوم الهيغلي لتاريخ الفن – لأنه قد يكون من الأفضل، ربما، أن نتساءل فيما إذا كانت الأعمال الحديثة تحقق الاهتمام بـ"تجلٍّ محسوس للفكرة".

دروس حول تاريخ الفلسفة

نُشِرَتْ أيضًا في العام 1832، ثم أُغْنِيَتْ بإضافة مخطوطات ملحقة. وتمثل هذه الدروس نوطات سبق أن كتبها هيغل، وقدمها عدد من الناشرين ما بين عامي 1816 و1828؛ الأمر الذي يفسر، ربما، سبب بعض ما قد نجد فيها من تكرار، وحتى من تناقضات – لكن قراءتها، التي ينبغي أن تكون متأنية، سهلة نسبيًّا؛ بمعنى أن ما تحويه من تكرار وتعبيرات متغيرة لنُسَخ مختلفة متتالية تسمح بتعميق فرضيات الفيلسوف.

ففي مقدمة في منتهى الأهمية، يبيِّن هيغل مفهومه لما يجب أن يكون عليه تاريخ الفلسفة – الأمر الذي ستكون له خلفيات عظيمة: لأنها تعادل العقلانية المتجسِّدة على أرض الواقع، أي ما يمكن تسويته بالوعي التدريجي للعقل المطلق. لأنه لا يمكن الفصل بين التصور النهائي للفلسفة وتاريخها – هذا التصور الذي يتحقق من خلال تطور مختلف المنظومات الذي لا يتم بناؤه بناءً عشوائيًّا وذهنيًّا بالمطلق، إنما كتحقق للحظات النفس المتتالية. لذا فإن فهم منظومة معينة ومبدأها يمكن له أن يتم من خلال مفهومين مختلفين: "المفهوم السلبي، ويرى ما في هذه المنظومة من حصرية؛ ومفهوم إيجابي، أو لنقل مؤيِّد، يرى ما تحويه من لحظة ضرورية للفكرة." وبالتالي، "لا يمكن دحض أية فلسفة، وفي نفس الوقت يمكن دحضها [الفلسفات] جميعًا"، بمعنى أن "ما يجري دحضه ليس هو المبدأ [في أية فلسفة]، بل ما يظهر وكأنه نهائي ومطلق، أو أن له قيمة مطلقة؛ بما يعني، في الواقع، اختزال قيمة المبدأ إلى مستوى اللحظة المحددة للكل".

إن هذا الكل، الذي لا يشتمل على مدارس الفكر الشرقي لأنها لا تعرف ما تعنيه حرية النفس، وهي، في أحسن الأحوال، مجرد إرهاصات للمسيرة الفلسفية الحقيقية – (هذا الكل) قد تطور عبر مراحل تاريخية كبرى ثلاث: في المرحلة الأولى (والمقصود هنا الفلسفة اليونانية)، يؤكد الفكر على حريته واستقلاليته؛ وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها في التعارض بين الرواقية والأبيقورية، تلك التي تجاوزتْها الريبية، التي ستمهد الطريق لتديُّن مفرط، أضاع العقل من خلاله استقلاليته.

أما المرحلة الثانية (وهي مرحلة الفلسفة المسيحية)، فقد كانت تعترف بثنائية رئيسية بين العقل والإيمان، بين ما يتجاوز المحسوس والمحسوس. وقد تطور هذا المفهوم في مجمل فلسفة العصر الوسيط.

وتعيد الفلسفة الحديثة إلى العقل حقوقه المتجسدة في الواقع (وبالتالي لم تعد مفارِقة). عندئذٍ، ينفتح المجال أمام وعي ذاتي للنفس كروحانية فاعلة في العالم، حيث المعرفة المطلقة هي الأفق الذي بالنسبة إليه تتجسد معاني جميع الجهود السابقة للتفكير الفلسفي وتترابط فيما بينها.

وهكذا كان هيغل يفسر جميع المنظومات الفلسفية كمساهمات في سبيل المعرفة المطلقة؛ الأمر الذي يستدعي بالضرورة تشوهات، لكن أيضًا آفاقًا لم يسبق لها أن طُرِقَتْ. حيث إن كانت الفلسفة على الإجمال تظهر وكأنها بناء بطيء للمعرفة، فإن كلَّ فيلسوف قد ساهم في وقته، بمقدار ما كان متوفرًا له من إمكانات، في "لحظته"؛ الأمر الذي يجعل جميع المنظومات مبرَّرة كتجسيد جزئي ومحدَّد لفكرة تتجاوزها من خلال إعادة الاعتبار إلى حقائقها وسط مسيرة كلِّية: "لأن تعاقُب المنظومات الفلسفية هو تاريخيًّا نفس تعاقب إرادات مفهوم الفكرة في تجلِّياتها المنطقية."

نصوص أخرى لهيغل: حياة يسوع (1795)، فينومينولوجيا الروح (1807)، علم المنطق (1812-1816)، ملخص موسوعة العلوم الفلسفية (1817)، مبادئ فلسفة الحق (1821).

نصوص طُبِعَتْ بعد وفاته: دروس في فلسفة التاريخ، دروس في فلسفة الحق، دروس في فلسفة الدين.

وكان لهيغل العديد من الأتباع في أثناء حياته؛ لكن نفوذه الحقيقي في ألمانيا لم يتجاوز العام 1850، حيث حلَّتْ محلَّه الروح الوضعية.

ومن المعتاد أن نميز في الفلاسفة الذين حاولوا تطوير منظومته بين جناح "يميني" (كميشليه وغالِبير وروزنكرانتس) وجناح "يساري" – كان الأوْزَن، لأنه ضمَّ خاصة كارل ماركس الذي طغى عمليًّا على محاولات شتراوس والأخوين باور وفويرباخ، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم ثوريين، حتى جاء ماركس ونَقَدَهم مفندًا، خاصة في كتابه الإيديولوجية الألمانية، حيث بيَّن أنهم مازالوا في الواقع مثاليين.

وهكذا، في قلب الماركسية، تطورت الهيغلية كفكر نقدي حي: فكُتُب لينين (دفاتر حول الجدلية) ولوكاتش (تاريخ الوعي الطبقي) وك. غروس (الماركسية والفلسفة) تبيِّن، بطُرُق مختلفة، مدى خصب الجدلية – حتى حين كانت تُستعمَل لمواجهة التفسيرات الرسمية والجامدة للماركسية.

وأيضًا، يمكن أن نصنِّف كهيغلية أعمال مدرسة فرانكفورت، وأعمال ماركوزي، وذلك ضمن فهمها للواقع، بتناقضاته القادرة على توليد إيجابياتها من خلال حركتها.

أما في فرنسا، فلم يكن هيغل محبوبًا إبان حياته؛ كما أنه لم يُفهَم فهمًا جيدًا (كان كوزان قد نصح له آنذاك بأنه إن رغب في نيل تفهم الجمهور الفرنسي، يجب عليه كتابة ملخَّص واضح لفكره)، حيث شُوِّه فكرُه من منظور سياسي عبر إعلاء القومية ومفهوم الدولة. وباستثناء السورياليين، فقد ظل مجهولاً لدى الجمهور الفرنسي حتى بداية ثلاثينيات القرن المنصرم، حيث ما بين عامي 1930 و1939 عقد ألكسندر كوجيف حلقة دراسية حول المفهوم الهيغلي لـ"نهاية التاريخ". بعد هذا، ونتيجة لتفسيرات متعددة، ولَّد فكر هيغل توجهات متعددة، سواء حين كان يجري التأكيد على علم الجدال لديه، حيث أثر على فوسيلون في فرنسا وكروتشي في إيطاليا)، أو فيما يتعلق بالأنثروبولوجيا، أو في السياسة (حيث أثر على هنري لوفيفر)، أو فيما يتعلق بالأهمية التي كان يعزوها إلى الوعي الذاتي. كما نجد له أثرًا واضحًا عند فلاسفة مهمين، كسارتر وجورج باتاي.

***

ملاحظة: تم تعريب هذا النص عن قاموس ناثان الفلسفي، تأليف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل.

تعريب: أكرم أنطاكي.

مراجعة: ديمتري أفييرينوس


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

تصور هيجل السياسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تصور هيجل السياسي   تصور هيجل السياسي Emptyالخميس فبراير 21, 2013 6:44 pm

القبيلة والدولة في عصر البداوة الجديدة
عبد الله السيد ولد أباه*

تشكل النظرة التقديسية للدولة من حيث هي التعبيرعن هوية الكيان الجماعي اتجاها قارا في فكر الحداثة، مما نلمسه في صيغتين:

اعتبارها الكيان المطلق الضروري للسلم والأمن (هوبز) أو النظر إليها بصفتها تجسيدا للإرادة المشتركة (روسو). وقد وصل هذا التصور مداه في فكر هيجل الذي يشكل صياغة مكتملة لفلسفات الحداثة.

وسنكتفي في هذا الحيز بالإشارة المقتضبة إلى نظريتي روسو وهيجل حول الدولة، لتبيين دورهما في التصورات السياسية الراهنة للدولة في مقابل الوحدات الانتمائية الخصوصية، التي نطلق عليها -ببعض التجوز- التشكيلات القبلية الخارجة عن النسق الكلي للدولة.

فروسو وإن انطلق من التصور التعاقدي للدولة بما يقوم عليه من مقاربة ذرية فردية تكرس أولوية الحقوق الذاتية، إلا أنه ينتهي إلى تحميل الدولة معقولية جوهرية تتجاوز الحيز الضيق للإرادات الفردية الحرة.

ففي مقابل هوبز الذي حافظ على التصور الاصطناعي الإرادي للعقد الاجتماعي، يرفع روسو العقد من إطاره القانوني إلى مستوى مقوم الحالة السياسية.

فمفهوم الإرادة المشتركة الذي بلوره روسو في الجزء الرابع من كتابه الرئيسي (العقد الاجتماعي) يؤسس لنظرة جوهرانية للدولة كتعبير عن روح (الشعب) الذي لم يعد يعني أفرادا متعاقدين أحرارا، بل ذاتا جماعية بهوية منسجمة.

يوضح روسو هذا التصور بقوله: (ما دام عدد من الأفراد المجتمعين يعتبرون أنفسهم جسما واحدا، فإن إرادتهم واحدة تتعلق بحفظ الوجود المشترك ورفاهية المجموع. وعندئذ تكون كل مرتكزات الدولة حيوية وبسيطة، وكل أوامرها واضحة ونيرة، لا أثر لنوازع غامضة ومتناقضة، فالخير الجماعي يبرز في كل مكان ببداهة، ويكفي الحس السليم لإدراكه)(1).

فالعقد -من حيث هو تعاقد بين الشعب ونفسه (وليس بين ذوات فردية متمايزة ومتصادمة المصالح والإرادات)- هو في الواقع تعاقد ذاتي بين الفرد ونفسه، ومن ثم لا يصدر عن نظام الطبيعة ولا الميكانيكا النفعية، وإنما عن الإرادة العقلانية.

فالإرادة المشتركة ليست حصيلة الإرادات الفردية أو نتاج صفقة توافقية بينها، وإنما تتحدد بغائيتها العقلانية التي هي المصلحة الجماعية، ومن ثم فإن لها طابعها المتعالي على مجموع الأفراد حتى في ائتلافهم وتعاضدهم، مما تكرسه فكرة سمو القانون على الإرادة البشرية.

ومن هنا يفضي تصور هيجل السياسي إلى الاستبدال بالإرادة الفردية الذاتية إرادة الكلي الجماعي الذي هو الدولة(2).

ولئن كان هيجل ينتقد بشدة التصور الروسوي للدولة، إلاّ أنّه يعتبر أنّ روسّو مَهّد للمثالية الألمانية بإعلائه من شأن الفكر والحرية، فهو الذي (جعل الإرادة مبدأ الدولة)، إلا أن هذه الإرادة الحرة تظل حتى في صيغتها الكلية (الإرادة المشتركة) مجردة غير جدلية، مما يفضي بها إلى تسويغ القمع والعنف.

فالوعي بالذات كإرادة مباشرة للكلي تتجذر في النزوع الذاتي والنفعي لعقلانية الأنوار. من هذا المنظور يقع نفي كل التحديدات المضمونية للحرية باسم المقتضيات الإطلاقية للفكرة، أي الذوبان الكلي للإرادات الفردية في الإرادة المشتركة. فلا مجال هنا لدوائر وسيطة بين الإرادة الطبيعية للفرد والإرادة العقلانية للدولة؛ لأن الموضوعية المتناهية لا يمكن أبدا أن تساوق لانهائية مفهوم الحرية(3).

في مقابل تأسيس الحالة السياسية على الإرادة الحرة المجردة، يذهب هيجل إلى تعريف الدولة بأنها (الواقع الفعلي للفكرة الأخلاقية)(4)، أي أنها التجسيد الموضوعي للإرادة، باعتبار أن السياسة كما يعرفها هيجل هي (علم الإرادة). وما دامت الإرادة تتماهى مع الحرية من حيث هي فكرة نفي التحديدات، إلا أن كل فعل حرية يقتضي تشكلا وضعيا، ومن ثم فإن الدولة هي شرط التحقيق التاريخي للحرية أي التجسيد الوضعي للنفي.

ويوضح هيجل هذا التصور بقوله: (إن الدولة هي العقلاني في ذاته ولذاته. فهذه الوحدة الجوهرية هي هدف في ذاته، مطلق وثابت، من خلاله تنفذ الحرية إلى حقها الأكثر سموا إزاء الأفراد الذين يتمثل واجبهم الأعلى في أن يصبحوا أعضاء في الدولة)(5).

فأهمية الدولة تكمن بالنسبة لهيجل في أنها تكفل للفرد انجاز نوازعه الأخلاقية، بتحويلها إلى انسجام مع المطلق الكلي. ويمكن القول هنا: إن هيجل يحن (كما هو بارز في أعمال الشباب) إلى نموذج المدينة اليونانية ككلية عضوية6، معتبرا أن الإنسان لا يمكن أن يعيش خارج الدولة؛ لأن (الدولة هي جوهر التاريخ الكوني الذي تدفعه تعددية الدول)(7).

ومع أن أريك فيل -أحد أهم قراء هيجل- اجتهد في دفع التهم التي كثيرا ما توجه لتصور هيجل للدولة بصفته تنظيراً للاستبداد والإطلاقية(Cool مبينا على الخصوص أن الدولة المطلقة لدى هيجل ليست سوى صياغة جدلية كلية للإرادة الحرة باستيعاب المضمون الليبرالي الفعلي للدولة - الأمة الحديثة(9)، إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن الدولة تظل بالنسبة لهيجل -على الرغم من كل الاحتياطات اللفظية- الشرط الضروري لتجسيد الجانب العقلاني الأخلاقي في الإنسان، فهي تؤدي في العصر الحديث دور الدين الإدماجي العضوي.

ومن الجلي أن هذا التصور الدولوي قد نفذ بقوة إلى الدراسات الاجتماعية، وغدا يشكل أحد ثوابت الفكر السياسي المعاصر. وتكتفي الإشارة المقتضبة إلى أبرز علمين في علم الاجتماع الحديث: إميل دوركايم وماكس فيبر (على اختلافهما الواسع في الخلفية والمنظور).

أما دوركايم فيتناول مسألة الدولة - في إطار إشكالية محددات التضامن الاجتماعي التي ارتكزت عليها أعماله النظرية والتطبيقية- من منطلقين: وصفي يتمثل الدراسة الوضعية للميكانزمات المنتجة للنسق الاجتماعي بالكشف عن منطقها الداخلي وآليات اشتغالها(10)، ومعياري يكمن في تحميل علم الاجتماع مهمة سياسية قوامها تدعيم التضامن الاجتماعي وتوطيد الهوية القومية على أساس نمط من الأخلاقية المدنية(11).

من هذا المنظور يميز دوركايم بين نمطين من التضامن بحسب طبيعة المجتمعات الإنسانية: التضامن الميكانيكي الذي يسم المجتمعات البدائية البسيطة، والتضامن العضوي الذي يطبع المجتمعات المعقدة الحديثة.

فالمجتمعات التقليدية المحدودة يقوم فيها التعاضد الاجتماعي على المشاعر المشتركة القوية والمعتقدات والقيم الجماعية التي تتمحور حول الدين، ولا مكان فيها للفرد داخل الدائرة الجماعية. فالقانون السائد في هذا الصنف من المجتمعات قمعي صارم يحول دون أي تميز أو انشقاق عن نظام المجموعة.

أما السمة المميزة للمجتمعات الحديثة فهي الفردية الناتجة عن عصر التصنيع وقسمة العملة المرتبطة به. فهي مجتمعات معقدة، شديدة التنوع، تعلي من شأن حرية الفرد واستقلاليته، وينمو فيها الوعي الفردي، مما ينتج عنه ضعف الوعي الجماعي. فالقانون السائد في هذا الضرب من المجتمعات تعويضي لا يرمي إلى نبذ الفرد المنتهك للنظم المعيارية القائمة وإنما حمله على إصلاح الخلل الذي أحدثه في النسق الاجتماعي.

فالتضامن الاجتماعي هنا يرتكز على مقتضيات التبادل والتكامل الناتجة عن تقسيم العمل. إلا أن هذا النظام يمكن أن يعاني من ظواهر مرضية سببها طغيان الفردية المشطة وتراخي الروابط الاجتماعية.

وينيط دوركايم الدولة وحدها مسؤولية إصلاح هذه الاختلالات، من حيث كونها تحافظ على الانسجام والتوازن والتعاضد من حيث كونها تسمو على الفرديات وتحافظ على القيم المشتركة.

وهكذا يماهي دوركايم بين الدولة والنسق السياسي المشترك، معرفا إياها بأنها (مجموع الأجسام الاجتماعية التي تختص بالحديث والتحرك باسم المجتمع). فمنذ أن وصلت المجتمعات السياسية إلى درجة معينة من التعقد، لم يعد بمقدورها أن تؤدي أي فعل جماعي خارج تدخل الدولة.

وإذا كانت وجدت مجتمعات بسيطة دون دولة، فإن تضامنها الذاتي قام على مجرد الغرائز الغامضة والمشاعر العاطفية، والدولة الحديثة هي وحدها التي حولت هذا التضامن الغريزي إلى مرتكزات عقلية مجردة وقوية. وهذا ما يهيئها لأن تكون (أداة العدالة الاجتماعية) بما أنها تقوم على الأخلاق المبنية على العقل الكلي وليس العاطفة الذاتية. كما أنها وحدها القادرة على تحرير الأفراد وضمان حقوقهم الفردية، من منطلق مبدأ المساواة والتجرد الذي تتأسس عليه(12).

ومع إن إشكالية ماكس فيبر تتمحور في سياق مغاير هو اجتماعيات الهيمنة (في مقابل اجتماعيات التضامن)، إلا أن الرجلين يلتقيان في رصد أثر العقلنة الحديثة على طبيعة انتظام المجتمعات الصناعية وعلى أنماط شرعيتها السياسية. من هذا المنظور يميز فيبر بين ثلاثة أصناف أساسية من الهيمنة: الكارزمائية (الانقياد لشخصية القائد)، والتقليدية (الخضوع لشخصية لمن تنتقل إليه السلطة عن طريق التقاليد الاجتماعية)، والعقلانية حيث الخضوع للمؤسسة المجردة غير الشخصية.

فهذا النوع الأخير من الشرعية هو الذي يميز المجتمعات الحديثة، وأبرز مظاهره هو التنظيم الإداري البيروقراطي القائم على التخصص الوظيفي والتسيير المستند للكفاءة الفنية، مما يكرس الولاء للدولة من حيث حضورها الشامل وتحكمها في الجسم السياسي، بصفتها (تحتكر العنف المشروع) حسب عبارة فيبر المشهورة.

ويربط فيبر بين مسار العقلنة الحديث وظاهرة (نزع القداسة عن العالم) التي تعني القطيعة مع الرؤية الدينية للكون وانسحاب المقدس من الشأن السياسي، ومن ثم فسح المجال لإدارة العلاقات الاجتماعية بمنطق المصالح البشرية والتواضعات الإنسانية الحرة(13).

ولا بد من التنبيه هنا إلى الاتجاه النقدي لمركزية الدولة في الدراسات والاجتماعية الذي ارتبط بأعمال العالمين الانتربولوجيين: الأمريكي مارشال ساهلنس والفرنسي بياركلاستر، وبالمدرسة الانتربولوجية الإنجليزية المدعوة بالانقسامية.

فما يجمع هذه الاتجاهات هو إعادة اكتشاف البنية الاجتماعية السياسية للمجتمعات غير الغربية ما قبل الحديثة، التي لم تعرف الأشكال المركزية للدولة، لاستجلاء أنسقتها السياسية الداخلية الكابحة للسلطة العمودية بدل النظر إليها كأصناف بدائية من المجتمعات بحسب النماذج المعيارية الغربية.

أما سلهنس فقد أوضح في كتابه الحدث (عصر الحجر) (الصادر عام 1972م) أن المجتمعات التي تطلق عليها الدراسات الاثنوغرافية القديمة تسمية البدائية ليست مجتمعات فقيرة عاجزة، بل هي مجتمعات وفرة محدودة الحاجيات، ليس وضعها نتاج تأخر تاريخي، بل حصيلة خيار ثقافي له منطقه الداخلي الذي لا يتسنى تفسيره بالمقاربات التطورية التاريخانية السائدة في الدراسات الانتربولوجية المتأثرة بالنظرة النفعية المهيمنة على الدراسات الاقتصادية المعاصرة(14).

وقد استفاد بيار كلاستر بوضوح من هذا التصور الجديد للمجتمعات البدائية، فذهب في كتابه المشهور (المجتمع ضد الدولة) -الذي صدر بعد سنتين من مؤلف سلهنس- إلى أن غياب الدولة في المجتمعات المذكورة ليس مظهر نقص أو تأخر تاريخي، بل يتعلق الأمر بصنف مغاير من التنظيمات الاجتماعية لا يحتاج لسلطة مركزية لتصريف شؤونه وإدارة روابطه الداخلية.

فالفوضوية هنا هي نظام سياسي متكامل بالنسبة لكلاستر، تقوم فيه علاقات الحكم على تبعية الحاكم للمجموعة، وليس للبنية الاقتصادية فيها أي وظيفة سياسية، بل تقوم الروابط الاجتماعية فيها على المساواة داخل التركيبة القبلية المتضامنة(15).

أما المدرسة الانقسامية فيمثلها عالمان انتربولوجيان بارزان هما ايفانس برتشارد الذي بلور نموذجه في دراسته على قبائل النوير في جنوب السودان، وأرنست غلنر الذي طبق النموذج ذاته على قبائل البربر في منطقة الأطلس المغربية.

وقد اعتبر بريتشارد أن المجتمعات الانقسامية هي نمط من المجتمعات التي تقوم بنيتها العلائقية على ثنائية الانشطار والانصهار المانعة لنشوء الدولة، بما يتجلى في الالتحام داخل المجموعة الضيقة والاصطدام الدائم داخل النسق العام للحيلولة دون بروز السلطة المركزية(16).

أما غلنر فقد خلص في دراسته الهامة حول (أولياء الأطلس) إلى أن القبائل البربرية الأطلسية تخضع لنفس التنظيم الانقسامي، ويؤدي فيها الصلحاء دوراً رمزياً معوّضاً للبنية القهرية للدولة(17).

وعلى الرغم من كل الانتقادات التي يمكن أن تُوَجَّهَ للمدرسة الانقسامية ومنها على الأخص اتهامها بالنظرة الضيقة الجامدة للحقل السياسي بالاكتفاء بالوقوف على البنيات القرابية الداخلية دون التنبه إلى علاقات الهيمنة وروابط السلطة المحايثة لها(18)، إلاّ أنّ هذه المدرسة أسهمت إسهاما مهما في إعادة النظر في الاجتماعيات السياسية، وأعطت دفعا قويا لنقد العقل السياسي الحديث في الفلسفات المعاصرة.

ومن النتائج المهمة لهذا الإسهام النظري إعادة الاعتبار للقبيلة والبداوة في مقابل الدولة وقيم الاستقرار والاكتمال التي ارتبطت بالنزعات التاريخانية والأيديولوجيات النسقية. وسنقف في هذا الحيز عند بعض الاتجاهات الفلسفية والاجتماعية الأخيرة في هذه المقاربة البديلة التي تلتقي فيما يمكن أن نطلق عليه (فكر البداوة) الجديدة.

وترجع هذه العبارة إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دلوز الذي طرح منذ كتابه المشهور (ضد أوديب) الفكر المترحل مقابل الفكر التمثلي القمعي للدولة الحديثة الذي يحاصر الاختلافات ويقصي المغاير ويولد الهويات المتجانسة(19).

ويلاحظ دلوز أن التاريخ كتبه دوما المدينيون المستقرون باسم جهاز الدولة، بينما المطلوب اليوم هو كتابته من وجهة البداة المقصيين، أي وضع ما اسماه (بداولوجيا) NOMADOLOGIE التي هي نقيض التاريخ (بمفهومه النسقي الغائي والأحادي) السائد(20).

ويرى دلوز (أن التاريخ لم يفهم أبداً البداوة، ولم يفهم الكتّاب أبداً الخارج. فعبر تاريخ طويل، كانت الدولة نموذج الكتاب والفكر:اللوغوس والفيلسوف - الملك وتعالي الفكرة، وباطنية المفهوم، وجمهورية الأرواح، ومحكمة العقل، وموظفو الفكر، والإنسان المشرع والذات. إنه طموح الدولة في أن تكون الصورة المبطنة لنظام العالم وأن تجذر الإنسان)(21).

من هذا المنظور يرفض دلوز القسمة الانتربولوجية السائدة بين مجتمعات الدولة المعقدة والمجتمعات الانقسامية البسيطة القائمة على السلاسل النسبية، معتبراً أن الدول الحديثة لا تقل انقسامية؛ لأنها تمارس سلطتها في تقسيمات تضعها وتغذيها وتحافظ عليها، كما أن لها طابعها الانقسامي الخاص الذي تفرضه. ولذا بدل الحديث عن ثنائية المركزي والانقسامي، يتوجب التمييز بين نمطين من الانقسامية: الوحدة (البدائية) والمرنة والوحدة (الحديثة) والقاسية(22).

فالجسم الاجتماعي بالنسبة لدلوز هو سيولة متدفقة وموجات متتالية متنقلة، تخضع دوماً للضبط والتقنين وفق استراتيجيات وموازين السلطة، لكن الأنساق التقنينية ليس بمقدورها سد منافذ الانفلات والهروب التي هي خطوط البداوة المترحلة.

وإذا كانت أفكار دلوز تبلورت في السبعينيات في سياق نقده للتحليل النفسي وللمنظومة الرأسمالية من منطلق نظريته في الرغبة والسلطة ذات الجذور النتشوية، فإن تصوراته للبداوة وظفت في الدراسات الاجتماعية والفلسفية الأخيرة في إطار التفكير المتجدد في الدولة في عصر العولمة وما يطرحه من تحديات غير مسبوقة على هوية وتركيبة الدولة الوطنية.

نذكر في هذا الباب نماذج ثلاثة هي: نظرية (القبلية الجديدة) لدى عالم الاجتماع ميشل مافزولي، ونظرية (الإمبراطورية) لدى الفيلسوف الايطالي توني نغري (ومايكل هاردت) وأطروحة (الإنسان البدوي) لدى المفكر السياسي والاقتصادي الفرنسي جاك اتالي.

أما مافزولي فيذهب في كتابه الصادر مؤخرا بعنوان (الأيقونولوجيات)(23) إلى أن حركية العولمة لم تفض -كما يظن عادة- إلى تنميط العالم وتقويض الخصوصيات الثقافية، بل أدت على العكس إلى تدمير شامل لمرتكزات الحداثة، بالرجوع إلى أنماط من الهويات ما قبل الحديثة، يعاد إنتاجها من المنظور التقني الجديد.

ويطلق مافيزولي على هذا الاتجاه عبارة (التجذر الديناميكي)، وتعني قولبة أشكال الماضي العتيق في صيغ ما بعد حديثة، مما نلمس آثاره في البنيات الاجتماعية أكملها من السياسة إلى الفن والخياطة.

فمن الجلي اليوم أن المجتمعات الغربية تعيش راهنا حنينا محموما للأشكال الثقافية العتيقة وللانتماءات الأصيلة، مما درسه الكاتب نفسه في كتاب سابق أطلق عليه (عصر القبائل)(24). ويعني تجدد القبيلة هنا نهاية البنيات الكبرى للحداثة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إيديولوجية.

فالحداثة عانت منذ البداية من مفارقة نادراً ما يتم الوعي بها وهي: التوحيد والتنميط بمحو الاختلافات والفوارق، بحيث يناط بالدولة من حيث هي التعبير الشامل عن النسق السياسي حماية الفرد من المجموعة. بيد أن الحداثة بقدر ما كثفت إمكانات الترابط الاجتماعي فرغتها من أي مضمون واقعي، في حين وفرت حركية ما بعد الحداثة فضاءات التواصل الحميمة الضيقة داخل الجسم الاجتماعي من خلال تفتيته الذي أطلق عليه مافيزولي مقولة القبلية الجديدة.

فالمؤسسات الاجتماعية الحديثة الكبرى ذات الطاقة التوحيدية التجميعية كالأسرة النووية والدولة القومية انهارت ولم تعد لها قبضة على النسق الاجتماعي المفكك، مما يفسر أزمات العالم المعاصر كالإرهاب والعزوف عن السياسة والانتخابات وانتعاشة الحركات الأصولية والتيارات الانعزالية...

فبعد عصر الحداثة المستقرة جاءت حقبة البداوة الجديدة التي هي سمة ما بعد الحداثة. ويتعلق الأمر ببداوة مترحلة تأخذ أوجها شتى، مهنية وجنسية وأيديولوجية وسياحية ودينية.... ومن المتوقع تعميم هذه السمة البدوية المترحلة.

وكما تغيرت مؤسسات الحداثة، تغيرت قيم العصر، فلم تعد تتمحور حول ثالوث العمل -المستقبل- العقل، وإنما حول القيم الجمالية الذوقية التي تعطي أهمية فائقة للجسد والمخيال واللعب.

إن هذه التحولات هي التي تسمح لمافيزولي بالقول: إن عصر ما بعد الحداثة هو أقرب للعصور الوسطى من العصر الحديث الذي كان قوساً قصيراً في تاريخ البشرية التي رجعت إلى قيم البداوة المتنقلة وأنماط التعاضد القبلية الضيقة(25).

وعلى عكس التصور التقديسي السائد للدولة القومية الحديثة (أي الدولة - الأمة كما تشكلت في أوروبا في القرن الثامن عشر) يستعير صاحبنا من الفيلسوف الأشهر ميشال فوكو نقده لاستبدادية الدولة الحديثة التي يطلق عليها صفة (الاستبدادية الرخوة) القائمة على النزوع الانضباطي الرقابي والتنميطي الشامل. فهذا النموذج الجديد من الدولة وإن نجح في احتكار العنف المشروع إلا أن النتيجة التي أفضى إليها كانت عودة أصناف العنف المقصية بطرق ملتوية تقمصت شرعية مموهة. وبقدر ما ارتكزت هذه الدولة على العقلانية المحضة همشت أشكال التعبير الثقافي غير العقلانية مما كانت نتيجتها عودتها بقوة في شكل التمثلات الدينية المنفلتة من الأنساق التقليدية المألوفة(26).

أما نغري فينطلق من مقاربة ماركسية جديدة في النظر لمرحلة ما بعد الدولة الوطنية التي أطلقت شكلا من القبلية الجديدة هي الجمهور في ديناميكيته المشتتة.

ويطلق نغري على عصر ما بعد الدولة الوطنية عبارة الإمبراطورية، التي لا تعني بالنسبة له -كما يظن عادة- قيادة أمريكا للنظام الدولي وتحكمها في حركية العولمة، بل الإمبراطورية هي كما يعرفها (جهاز لا مركزي ولا إقليمي من الحكم يدمج تدريجيا فضاء العالم كله داخل حدوده المفتوحة بصفة دائمة الاتساع. إن الإمبراطورية تسير الهويات الهجينة والتراتبات المرنة والتبادلات التعددية بضبط شبكاتها القيادية)(27).

إنها شكل جديد من الفضاء السياسي - الإقليمي يعوض الدولة القومية التي غدت عاجزة عن تسيير التبادلات الاقتصادية والثقافية، نتيجة لتغير بنية الإنتاج نفسه الذي انتقل من تسيير الثروة المادية إلى تسيير النوازع الحيوية والطبيعة الإنسانية ضمن ما دعاه نغري سيرا وراء فوكو بالسلطة الحيوية. وتستند هذه السلطة على التغير الذي طال شكل العمل الذي أصبح لاماديا ولا مركزيا يتمثل في المعلوماتية وإنتاج الشبكات والمشاعر والصور واللغة، مما نتج عنه نمط جديد من الاقتصاد هو الاقتصاد المعرفي - التفاعلي والسبرنتيقي.

وعلى عكس الرؤية المتفائلة التي تقدمها بعض الأدبيات العلمية الرائجة، يرى نغري إن السلطة الحيوية تولد أنماطا جديدة من الاستغلال والقمع، لا يمكن مواجهتها بمنطق الصراع الطبقي المألوف في الفكر الماركسي التقليدي.

ذلك إن الإمبراطورية لا مركز لها ولا خارج عنها، وليست موقعا ثابتا أو كتلة متجانسة، بل هي ديناميكية تشتيت وتجميع، تؤجج شتى الفوارق والتناقضات (القومية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية) وتخلق وسائط ضرورية لإزاحة القيود الإقليمية التي تعوق تمددها.

فلا حدود في الإمبراطورية، بل إن التخوم فيها مرنة دائمة التنقل، تتلاءم والقدرة الفائقة على إبداع الصيغ المتجددة من الذاتيات وأنماط الإنتاج والمعارف والعلاقات الاجتماعية(28).

وبقدر ما إن الإمبراطورية لا مركز لها ولا سبيل لأي دولة قومية أن تتحكم فيها، فإن مواجهتها من الخارج لا معنى لها، ولذا فالصراعات الاجتماعية الراهنة لا تدور بين طبقات أو قوى متمايزة، بل داخل الإمبراطورية ذاتها وعلى خط سلطتها الحيوية. وينيط نغرى هذا الصراع بالجمهور (وهي العبارة التي يستمدها من سبينوزا)، وهو مجموعة غير متجانسة من القوى والحساسيات والفرديات تتشكل في شبكات لمواجهة أصناف الاستغلال والقمع داخل الإمبراطورية أي أنها بعبارته (البديل الحي الذي ينمو في أحشاء الإمبراطورية)(29).

فالثورة الممكنة بالنسبة لنغري ليست انقلابيا راديكاليا من الخارج، بل مقاومة يومية دائبة لخصم غير محدد القسمات والوجه، مما يبعدنا عن التصورات الماركسية المألوفة.

أما أطروحة البداوة الجديدة التي يقدمها المفكر الفرنسي المعروف، جاك أتالي -في كتابه (الإنســان البــدوي)(30)- فتنطلق من القول، بأن الإنسان الذي بدأ منذ وجوده قبل ملايين السنين بدوياً راحلاً، عاد من جديد إلى أصله البدوي، عبر مسار العولمة الذي أفرز نمطا من البداوة الجديدة، ولم تكن محطة الاستقرار والتمدن سوى قوس قصير في تاريخ البشرية.

ويلاحظ أتالي أن الإنسان البدوي هو الذي أنتج العناصر المحورية لكل الحضارات، من اكتشاف النار إلى اللغات والأساطير والزراعة والتنمية الحيوانية والإبحار، انتهاء باكتشاف العجلة والديمقراطية والموسيقى والفنون، في حين لم يبدع الإنسان المستقر سوى القلاع والدولة والضريبة.

فالبدو لم يكونوا -على عكس الصورة الشائعة- أجلافا متوحشين يهدمون الحضارات ويقوضون المدن؛ بل هم في الحقيقة قوى الإبداع والاكتشاف الحقيقية التي أنشأت كل الإمبراطوريات من الصين إلى روما، ومن مصر إلى الإمبراطورية الأميركية اليوم. بل إن تجربة التاريخ تثبت أن المجتمعات تنحط وتتقهقر عندما تغلق حدودها وأبوابها دون الرحل والغرباء.

ويرى أتالي أنه في الوقت الذي نعيش اختفاء آخر الشعوب البدوية الأصلية بفعل العولمة، نلاحظ انبثاق أصناف جديدة من البداوة بأثر العولمة ذاتها وبفضل تقنيات التنقل الواقعية والافتراضية التي تقوم عليها.

فمن هم هؤلاء البدو الجدد؟

يجيب أتالي بتصنيف البشرية إلى ثلاثة أصناف:

- البداة المنحطون الذين يتوزعون إلى بقايا البدو الأصليين (الشعوب القديمة)، والبداة المضطرون الجدد مثل عديمي المأوى والعمال المهاجرين واللاجئين السياسيين والعمال المتنقلين وممثلي الوكالات التجارية.

ـ السكان المستقرون مثل المزارعين والتجار وموظفي الدولة والقطاعات العمومية والمهندسين والأطباء وعمال المصانع التقليدية والتقنيين والموظفين والمتقاعدين والأطفال.

ـ البداة الإراديون، أي الذين اختاروا بمحض إرادتهم نمط التنقل والترحال، ويتوزعون إلى قسمين هما من جهة، (البداة الأعلون) من مبدعين وأطر عليا وباحثين ومخرجين سينمائيين، ومن جهة أخرى بداة الترفيه من سياح ورياضيين وهواة لعب.

وستؤدي تطورات العولمة الاقتصادية إلى تعميق الهوة بين البداة المنحطين والسكان المستقرين من جهة، والبداة المتميزين الجدد من جهة أخرى. فالبداة المنحطون، وهم في المدى القريب أكثر من نصف البشرية، يتكدسون في الأحياء القصديرية المكتظة بمدن الجنوب، تتمايز أوضاعهم وتوجهاتهم بحسب السياقات الدينية والثقافية، يتأرجحون بين البحث عن حلول فردية لعوزهم عن طريق الاندماج في السوق بطرق شرعية أو غير شرعية، والثورة ضد السوق والإمبراطورية منطلقات أيديولوجية جماعية ذات غطاء ديني أو اجتماعي.

أما البداة المتميزون فيشكلون نمطا من الطبقة العليا المحظية، هم سادة العولمة، لا وطن لهم وليس لهم موقع شغل دائم، لا تهمهم الرهانات السياسية الضيقة حتى ولو كان البعض منهم يدافع عن نمط الديمقراطية الكونية، لا تحدهم حدود ولا يتعلقون بمؤسسات اجتماعية من أي نوع، تتأسس قيمهم على محض الرفاهية والتألق الفردي.

أما المستقرون، وأساسهم وكلاء الدولة وموظفوها والفئات المرتبطة بالاقتصاد التقليدي، فقد أصبح وضعهم هشا، يسعون عبثا إلى الوصول إلى مستوى البدو المتميزين الجدد، ويتخوفون دوماً من الانحدار إلى مستوى البدو المنحطين، يتمسكون بالهويات القومية والاجتماعية المهددة بالانحسار.

فالدولة القومية التي لم تعد تتحكم في مواردها، غدت تميل تدريجيا إلى التخلي لصالح السوق عن أغلب مصالحها السيادية بدءا من التربية والصحة العامة والأمن.

فباستثناء الإمبراطورية الأميركية التي يمكنها وضع القواعد حسب رغبتها، ستتحول الأمم قريباً إلى واحات تتنافس على استقطاب القوافل المتنقلة؛ إذ لم يعد يسكنها سوى فئات مستقرة هشة غير قادرة على التنقل أو بداة منحطون لا أمل لهم. لمواجهة هذه الاتجاهات المدمرة للدولة القومية تنزع بعض الأمم -كما هو الشأن في البلدان الأوروبية- إلى تقنين البداوة الجديدة داخل فضاء موحد (اتفاقات شنغان والاتفاقات المكملة لها التي تكرس بداوة قارية مفتوحة تدريجيا للمنطقة الآسيوية)، في حين تميل الولايات المتحدة إلى توسيع فضائها الاقتصادي مع الاحتفاظ بسيادتها القومية، فتشكل الإمبراطورية الوحيدة في العالم.

بيد أن أتالي يرى أن الإمبراطورية الأميركية تواجه تهديدا نوعيا خطيرا، ليس من الإمبراطوريات المستقرة المنافسة كما هو شأن أوروبا والهند والصين التي لن يكون بمقدورها التحكم في الاقتصاد العالمي، وإنما من المتمردين الذين يتحركون من داخل الولايات المتحدة وعلى حدودها. ولا يتعلق الأمر هنا بشعوب منظمة تثور على الهيمنة الأميركية، وإنما بقوى بدوية جديدة تنافس الإمبراطورية العالمية الكبرى وهي: السوق والدين والديمقراطية، ولكل واحدة منها مشروع كوني يسعى لتقويض الإمبراطورية والأمم.

أما قوى السوق التي انفصلت بالفعل عن أوروبا ودول الجنوب، فستستقل قريباً عن الدائرة الأميركية التي لا تزال تتكفل بإدارتها. فالرأسمالية بطبيعتها تنزع إلى العالمية وتطمح إلى أن تكون سلطة كونية متميزة عن الإمبراطورية الأميركية من حيث المصالح والقوانين والمقتضيات. فالبداة الأعلون الذين يحركون السوق سيعملون على إنشاء إمبراطورية بدون إقليم أو حدود تفرض قوانينها على كل الدول بما فيها الولايات المتحدة. كما أن الشركات البدوية لن تعترف بأي انتماء وطني، ولن يبقى من المؤسسات القومية سوى المنظمة العالمية للتجارة التي تسيّر الأسواق.

ولمواجهة هذا الخطر الماحق، ستسعى بعض الأمم إلى الانعزال عن اختراق إمبراطورية السوق التي ستنعت بإمبراطورية الشرّ، وستبرز أيديولوجيات كليانية تغلق الحدود وتطارد النخب، كما ستنبثق طوبائيات جديدة تدعو للعودة للبساطة والشظف، بيد أن الدين هو الذي سيوفر قوة التعويض الأساسية. ويرى أتالي أن الإسلام وحده هو الذي بمقدوره توفير طاقة التمرد المطلوبة، باعتبار الجمعية التعاضدية وطابعه الشمولي الذي أوحى لبعض المتشددين المنتمين إليه، برفض القيم الثقافية الغربية وخصوصاً الديمقراطية والسوق. فالإسلام إذن قادر على استمالة جموع غفيرة من سكان المدن المستقرين ومن البداة المنحطين، فيقدم لهم ما لا يستطيع السوق توفيره: أي أنماط ملموسة من التضامن والتآخي والتراحم تعزز لديهم الشعور بالكرامة وتولد لديهم الأمل وتخرجهم من العزلة والشك.

أما القوة الثالثة فهي الديمقراطية، التي هي مشروع كوني مناهض للإمبراطورية الأميركية وللبداوة الاقتصادية وللأيديولوجيات الاستبدادية المستندة إلى الدين. فالسوق تولد بذاتها طلبا ديمقراطيا بمستواها وحدودها، ومن ثم انبثاق مطلب إمبراطورية ديمقراطية على المستوى الكوني بدون حدود تكريساً لمفهوم المواطنة العالمية.

ولهذه الدعوة مناصرون عديدون، من بينهم البداة المنحطون الذين يطمحون إلى إسماع صوتهم خارج الأطر القومية والدينية، ويريدون استثمار تفوقهم العددي، ومن بينهم بعض السكان المستقرين الذي ينزعون إلى بناء ديمقراطيات إقليمية مندمجة (على غرار المجموعة الأوروبية) للوقوف ضد هيمنة السوق، كما أن بعض البداة المتميزين يتبنون المشروع ذاته؛ لأنهم يطمحون إلى إنشاء مؤسسات كونية دون حدود تفرض تدريجيا حق التدخل الإنساني، وتضع إطارا شاملا لممارسة الديمقراطية.

إن هذه القوى الثلاث التي تلتقي أحيانا وتتصادم أحيانا أخرى، تجمعها مناهضة الإمبراطورية الأميركية، وستنتصر في النهاية على هذه الإمبراطورية حسب توقع أتالي(31).

ولقد أحال براديغم البداوة إلى الدراسات الإستراتيجية الراهنة تفنيدا لإحدى الخرافات المألوفة في أيامنا وهي الاعتقاد السائد أن العالم صار قرية موحدة، انمحت حدودها واقترنت أحياؤها، بفعل حركية العولمة العابرة للقارات، فلم تعد للدولة الوطنية فيها قدرة على التحكم في حركة الناس والبضائع والأفكار.

ماذا لو كان المشهد معاكسا؟ ماذا إذا كانت قد نشأت أنماط جديدة من الحدود أكثر فاعلية وأبعد أثرا؟

ما القول في الجدار السميك الذي بنته الولايات المتحدة على حدودها مع المكسيك؟ والجدار الذي أقامته إسرائيل للفصل بينها والمناطق الفلسطينية المحتلة؟ وما القول في السور المنيع الذي ضربته سلطات الاحتلال الأمريكية داخل بغداد لتامين مراكزها ومكاتب الحكومة العراقية؟

تنضاف إلى هذه الجدران والأسوار الأحياء المقصية المعزولة في المدن الغربية الكبرى التي تخصص للاجئين السياسيين والمهاجرين غير الشرعيين والمهمشين اجتماعيا.

بل إن تحطم جدار برلين لم ينتج عنه على عكس الصورة السائدة انمحاء الحواجز التي كانت تمزق جسم أوروبا، بل كان بداية ظاهرة جديدة هي تكاثر الحدود وتنوع أشكال الأسوار والجدران.

ففي السنوات الخمس عشرة الأخيرة خطت عشرات آلاف الكيلومترات من الحدود السياسية الجديدة في أوروبا وآسيا من بينها 2800 كيلومتر في القارة القديمة ناجمة أساسا عن حروب البلقان.

بيد أن هذه الحدود التقليدية لم تعد وحدها هي نمط التخوم الفاصلة بين البلدان والأمم، ولعلها كانت أكثر وصلا وربطا بين الناس من أنماط الحدود الجديدة (ما بعد الحديثة). فالحواجز القديمة كانت تؤدي دوراً مزدوجاً من حيث هي في آن واحد خط فصل محدد ونقطة تواصل والتقاء. أما الحدود الجديدة التي قامت على أنقاض المفهوم التقليدي للمكان فتكرس القطيعة من خلال قناة التواصل ذاتها(32).

وقد بين الفيلسوف المعروف اتيان باليبار في كتابه (قريب جدا وبعيد جدا)(33) أن تفكك الدولة القومية الأوربية بفعل حركة الاندماج القاري الناجحة قوض آلية الفصل المألوفة بين الكيانات الوطنية التي تشكلت في العصور الحديثة من خلال الارتباط العضوي بين مفاهيم الشعب والدولة والأمة، مما نجم عنه انفجار أنماط جديدة من الحدود كانت مستوعبة في البنية المركزية القائمة.

وهكذا توحدت القارة اقتصاديا وسياسيا لكنها انقسمت ثقافيا ودينيا ولغويا فيما وراء خطوط الفصل الوطنية. فالخرائط اللغوية التي تشكلت في القرن التاسع عشر من منطلقات لسانية - تاريخية لم تعد فاعلة، فطفت مجددا الحدود اللغوية وأصبحت مدار نزعات إقصائية حتى داخل أكثر البلدان عراقة في المركزية القومية كما هو شأن فرنسا مثلا التي تحصى فيها الآن أكثر من عشر لغات غير اللغة الوطنية الأولى.

ولا شك أن الحالة القصوى اليوم في أوروبا هي الحالة البلجيكية، حيث مؤشرات التفكك بادية للعيان لأثر الصراع اللغوي بين الوالون والفلمان.

تنضاف إلى هذه الحدود البادية للعيان الحدود الثقافية التي أصبحت مدار اهتمام واسع في العالم، ورهانا استراتيجيا محوريا فيه. من منطق هذه الحدود تقصى مثلا تركيا من مشروع التوسع الأوروبي حتى لو كانت قد استوفت تقريبا كل شروط ومتطلبات الانضمام إليه، بما فيها الخيار السياسي العلماني.

من هذه المؤشرات أيضا الحدود الرقابية التي غدت تعوض الجانب الأوفر من مهمات الحواجز الإقليمية المادية. فالتقنيات الرقابية الجديدة أكثر فاعلية وفتكا من الفواصل التقليدية وتؤدي الدور نفسه بأساليب رخوة ناعمة. وكان ميشال فوكو قد نبه في أعماله حول نظام الرقابة والعقوبة إلى أن الدولة المعاصرة قد استبدلت آلية القمع البدني بتقنيات الانضباط التي تقوم على تسيير حياة الناس وتوجيه رغباتهم ومعارفهم، مما بلغ درجة تحققه القصوى في الفترة الراهنة.

من هذه الحدود الجديدة أيضا الحواجز المترتبة على انهيار نظام الأسرة التقليدي الذي لم يعد يقوم على الفصل بين الجنسين وإنما على أشكال متنوعة متداخلة من البنيات العائلية التي تفصل داخل الجنس الواحد بين أنماط متمايزة.

ليس إذن من الصحيح أن العولمة محت الحدود ووحدت العالم فأصبح مسطحا -حسب عبارة توماس فريدمان الشهيرة-(34) بل إن ما حدث هو انغلاق قوس المدنية المستقرة في تاريخ البشر وعودة الإنسان إلى بداوته الأثيرة، بفضائها الواسع وقيودها وحدودها الجديدة.

*************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من موريتانيا.

1-راجع:

DU CONTRAT SOCIAL ou principes du droit politique in

ROUSSEAU ECRITS POLITIQUES librairie générale française 1992 P 306.

2- راجع في هذا الباب مثلا:

S.GOYARD – FABRE politique et philosophie dans l oeuvre de rousseau Puf 2001.

JEAN ROY "penser l'état rousseau ou Hegel'' LAVAL THEOLOGIQUE 44

JUIN 1988 PP 169/190

3– نجد نقد هيجل لروسو في العديد من كتبه، على الأخص:

Principes de la philosophie du droit trad R.derathé vrin 1993 2 édition Encyclopedie des sciences philosophiques

Trad B.Bourgeois vrin 1972

Leçons sur l'histoire de la philosophie

Gallimard 1990

راجع في الموضوع:

J.D Hondt "le vieil Hegel et la critique des idées abstraites de Rousseau " in Rousseau ;die revolution und der junge hegel;

Publié par hans friedrich FULDA et rolf- peter HORSTMANN

.; stuttgart;klett-cotta 1991 pp 74-93 4-Hegel: principes de la philosophie de droit VRIN 1993 P 258 5-ibid p 258

6- حول تطور الفكر السياسي لهيجل راجع:

B.Bourgeois: la pensée politique de Hegel

Ceres Tunis 1994 PP 33-96

7- E.Fleishman: La philosophie politique de Hegel Gallimard 1992 P 256

8- من أهم من وجه هذا النقد لهيجل كارل بوبر في الجزء الثاني من كتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه)

K POPPER:open society and its enemies

Princeton university press 1971

9- E weil: Hegel et l'état vrin 1970 PP 11 – 23

10- Durkheim: les règles de la méthode

Sociologique(1895) édition puf 1967

11– Durkheim: De la division du travail social(1893) puf 1967

12– Durkheim: "l état " in textes t.3 fonctions sociales et institutions minuit 1975 pp 172- 178

13 – Max weber: Economie et société tome 1 plon 1971 pp 219-241

14- M.Sahlins:stone age economics aldine-atherton Chicago 1972

15- P.Clastres: la societé contre l'état minuit 1974 Edition ceres Tunis 1995

(Chap 2: la société contre l état pp 166-194

16 – Edward Evans-Pritchard:the Nuers oxford university press 1940

17- Ernest Gellner: Saints of the Atlas

The university of Chicago press 1969

18- راجع مثلا دراسات ادوارد كونت وعبد الودود ولد الشيخ وبيار بونت في

Ansab.la quête des origines.Anthropologie

Historique tribale <Editions de la maison des

Sciences de l homme paris 1991

19 – G.Deleuze: capitalisme et schizophrenie L ANTI-ŒDIPE،minuit 1972 pp 217- 236

20- G.Deleuze: mille plateaux minuit 1980

P 34

21- ibid p 36

22-ibid pp 255-256

قارن بالفكر البدوي لدى الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان

Daryush Shayegan: la lumière vient de l occident l aube 2001 pp 82-86

23- Michel Maffisoli:Iconologies Albin Michel 2008

24- Michel Maffisoli:le temps des tribus:_ déclin de l'individualisme dans les sociétés de masse

Meridiens klenckseck 1988

25 –Ibid p 114

26- قارن بأطروحة جان كلود غلبو الذي يتحدث عن إعادة القولبة القبلية للعالم في عصر العولمة التي على عكس الصورة السائدة لا تفضي للكونية بل تقوضها.

Jean – Claude Guillebaud: la refondation du monde seuil 1999 pp 194- 199

27- Antonio Negri (et Michael Hardt): Empire Exils 2000 p 17 28 Ibid Chap 2: transferts de la souveraineté pp 99-256

29- Antonio Negri (et Michael Hardt): Multitude la découverte 2004 p7

30- Jacques Attali: l'homme nomade fayard 2003

31- راجع بصفة خاصة الفصل الهام من كتاب اتالي الخاص بالبداوة الجديدة

Chap 8: un sédentaire ،trois nomades

Ibid pp 345-404

32- راجع مثلا:

Michel Foucher:L’obsession des frontières perrin 2007

Yves –charles Zarka (ss la direct):"murs et frontières du mur de Berlin aux murs du 21 siècle" cites،puf، oct-dec 2007 33- Etienne Balibar: Très loin et tout prés Bayard 2007

34– Thomas L.Friedman: The world is flat picador \farrar،strauss and Giroux new York 2007


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
salim 1979
التميز الذهبي
التميز الذهبي



تاريخ الميلاد : 27/05/1979
العمر : 45
الدولة : الجزائر
عدد المساهمات : 5285
نقاط : 100012179
تاريخ التسجيل : 06/11/2012

تصور هيجل السياسي Empty
مُساهمةموضوع: رد: تصور هيجل السياسي   تصور هيجل السياسي Emptyالإثنين فبراير 08, 2016 11:19 pm

اسهامات مهمة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تصور هيجل السياسي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» الفلسفة السياسية المعاصرة: تصور هيجل السياسي
» تصور لاستحداث نظام إسلامي لتصنيف برمجيات الألعاب الإلكترونية
» الفلسفة السياسية عند هيجل
» دراسة في ديالكتيكية هيجل
» فلسفة هيجل: مضمونها، أنواعها:

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى قالمة للعلوم السياسية :: ******** لسا نـــــــــــــــــــــــس ******** :: السنة الأولى علوم سياسية ( محاضرات ، بحوث ، مساهمات )-
انتقل الى:  
1