مفهــــوم "مسؤولية الحماية" في العمل الدولي
تمهيـــــد:
-أودعت " اللجنة الدولية للتدخل والسيادة " تقريرها لدى السيد كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، في شهر سبتمبر 2001، بعد تضمينه مختلف التحليلات والاقتراحات التي وضعتها اللجنة ،بناءا على المناقشات التي أشرفت عليها عبر مختلف عواصم العالم، و قد تضمن هذا التقرير في نهايته، توصيات من اللجنة إلى كل من الجمعية العامة للأمم المتحدة، مجلس الأمن و الأمانة العامة لمتابعة نشر مضمون هذا التقرير و ما توصلت له اللجنة من اقتراحات، و منذ ذاك عرف هذا المفهوم تفعيلا في مختلف المحافل الدولية، على رأسها تلك النشاطات على مستوى الامم المتحدة.
المطلب الأول: تفعيل مفهوم مسؤولية الحماية على مستوى الأمانة العامة.
- الفرع الأول: تقرير الفريق الرفيع المستوى.
- الفرع الثاني: تقرير الأمين العام ( في جو من الحرية أفسح).
المطلب الثاني: على مستوى الجمعية العامة و مجلس الأمن.
- الفرع الأول: على مستوى الجمعية العامة.
- الفرع الثاني: على مستوى مجلس الأمن.
المطلب الأول:
تفعيل" مفهوم مسؤولية الحماية" في أعمال الأمانة العامة للأمم المتحدة.
الفرع الأول:
تقرير الفريق الدولي الرفيع المستوى
- لقد تم تعيين الفريق الدولي الرفيع المستوى، سنة 2004 من طرف السيد كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، للقيام بدراسة تحليلية و تقديم مقترحات حول ثلاثة محاور متكاملة، هي، التهديدات، التحديات، و التغيير
- و قد وضع هذا الفريق تقريرا مفصلا حول المهمة الموكلة إليه،
ربط فيه بين هذه المحاور الثلاث، و آثارها على " الأمن الجماعي" للمجتمع الدولي، ولكن الأهم ، هو ما جاء فيه حول" مسؤولية الحماية" موضوع تحليلنا في هذا المبحث.
وقد انطلق هذا الفريق من فكرة أساسية مفادها أن"... منع الحروب داخل الدول و فيما بينها، أمر فيه مصلحة جماعية للجميع..."( )
والدراسة المتأنية لمضمون هذا التقرير، تبين بأن الفريق الرفيع المستوى يقترح رؤية جديدة "للأمن الجماعي "،تتناول جميع التهديدات الرئيسية للسلم و الأمن الدوليين التي يواجهها المجتمع الدولي في شتى أنحاء العالم ،حيث وصف هذا التقرير هذه الحالة بقوله "إن عصرنا تترابط فيه بصورة لم يسبق لها مثيل، تهديدات السلم والأمن الدوليين، و سرعة التأثر المتبادل بين الضعفاء والأقوياء."( ) مستخلصا بأن "الأمم المتحدة أكثر فعالية في التصدي للتهديدات الرئيسية التي يتعرض لها السلم و الأمن، مما أقر لها بالفعل، الا انه يلزم مع هذا إجراء تغييرات رئيسية إذ قدر للأمم المتحدة أن تتسم بالفعالية، والكفاءة، والإنصاف في توفير الأمن الجماعي للجميع في القرن الحادي و العشرين".( )
و في معرض تناوله لمفهوم "مسؤولية الحماية" فإن تقرير اللجنة الرفيعة المستوى أكد على مسؤولية الدولة الناجمة عن توقيعها لميثاق الأمم المتحدة،" عندما توقع الدول على ميثاق الأمم المتحدة، فإنها لا تستفيد من امتيازات السيادة، و لكنها تقبل أيضا مسؤولياتها."( ) فمفهوم السيادة" يتضمن اليوم التزاما من جانب الدولة بحماية رفاه شعبها و الوفاء بالتزاماتها إزاء المجتمع الدولي الأوسع نطاقا لكن، لكون أن التاريخ يدل بوضوح انه " لا يمكن افتراض أن كل دولة ستتمكن، أو ستكون مستعدة للوفاء بمسؤولياتها تجاه شعبها و تجنب إلحاق الضرر بجيرانها، و في ظل تلك الظروف فإن مبادئ الأمن الجماعي تعني أن جزءا من تلك المسؤوليات سيضطلع به المجتمع الدولي، الذي يتصرف وفقا لميثاق الأمم المتحدة، و الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أجل المساعدة في بناء القدرة اللازمة أو توفير الحماية الضرورية، حسب ما تكون الحالة" و هنا، تبريرا واضحا لضرورة تدخل المجتمع الدولي، إذا ما توفر شرط ثبوت عدم رغبة أو عدم قدرة الدولة في حماية مواطنيها، لكن الجديد في هذا المبرر، هو تأسيس واجب المجتمع الدولي على مطلب " الأمن الجماعي" الذي قد يلحق به انتهاك، سواءا جراء أعمال تلحق ضررا بشعب الدولة المعنية، أو ضررا يلحق بجيران هذه الدولة، مما يتسبب في انعدم الاستقرار على مستوى النظام الدولي.
و في معرض محاولة تفسيره لمضمون ميثاق الأمم المتحدة، و تطويعه ليتماشى مع فكرة "الأمن الجماعي" التي يروج لها هذا التقرير، فإن الفريق الرفيع المستوى حاول تفسير حماية ميثاق الأمم المتحدة للدول،" ليس لأنها خيرة بطبيعتها، و لكن لأنها ضرورية لتحقيق كرامة مواطنيها و توفير العدالة و إحقاقهم قدرهم و توفير سلامتهم ، و هذه هي القيم التي ينبغي أن تمثل لب أي نظام جماعي في القرن الحادي و العشرين، و لكن كثيرا ما فشلت الدول في احترامها و تعزيزها، و الأمن الجماعي الذي نسعى إلى بناءه اليوم يؤكد المسؤولية المشتركة بين جميع الدول و المؤسسات الدولية و أولئك الذين يتولون قيادتها على القيام بذلك بالتحديد."( )
و قد أورد الفريق في تقريره هذا، موجزا عن فكرة" الأمن الجماعي و تحدي المنع" جاء فيه:
" إن أي حادثة أو عملية تؤدي إلى وقوع خسائر في الأرواح على نطاق واسع والحد من فرص الحياة و تلحق الضرر بالدول، بوصفها الوحدات الأساسية للنظام الدولي، هي تهديدا للأمن الدولي" و حسب هذا التعريف، توجد مجموعة من التهديدات يعنى العالم بها الآن و في العقود القادمة وهي:
1- الصراع بين الدول.
2- الصراع الداخلي، بما في ذلك الحروب الأهلية و الإبادة الجماعية و الأعمال الوحشية الأخرى المرتكبة على نطاق واسع.
3- الأسلحة النووية و الإشعاعية و الكيميائية و البيولوجية.
4- الإرهاب.
5- الجريمة المنظمة غير الوطنية.
و قد أوضح الفريق الرفيع المستوى، أن" التحدي الأساسي الذي يواجه الأمم المتحدة و أعضاءها هو ضمان ألا تصبح التهديدات البعيدة وشيكة، و ألا تصبح التهديدات الوشيكة مدمرة فعلا، و هذا يتطلب وجود إطار للعمل الوقائي يتصدى بجميع الطرق لجميع هذه التهديدات التي تتردد أصداؤها في مختلف أجزاء العالم.."( )
و رغم أنها تعترف بمبدأ فعالية حل النزاعات و الصراعات الداخلية بالطرق السلمية من خلال الإحصائيات التي بينتها الفقرة 84 من تقريرها: انخفاض حاد في عدد الحروب الأهلية، و خاصة منذ 1998، بصورة مطردة، و بحلول عام 2003 تناقصت قرابة %40 و أصبحت اقل من 30% حربا، و في السنوات الـ 15 الماضية أنهيت حروب أهلية عن طريق التفاوض أكثر مما حدث في القرنين الماضيين " و يرجع هذا إلى حد كبير إلى أن الأمم المتحدة وفرت القيادة و أتاحت فرص التفاوض و التنسيق الإستراتيجي و الموارد اللازمة للتنفيذ، و هكذا أنقذت مئات الآلاف من الأرواح وجرى تعزيز الاستقرار الإقليمي و الدولي"( ). إلا أن لجنة الخبراء هده تعترف بعد ذلك، بحالات الفشل التي، رغم الوساطة التي تمت لحلها، فإن 25% من الحروب الأهلية لم تتوقف" وكانت لها نتاىج وخيمة في بعض الأحيان"، كما بينت اللجنة في تقريرها، فشل الأمم المتحدة في مجال وقف العنف المدني في مجال التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ومن الحالات الفشل التي استشهدت بها اللجنة، حالة رواندا، والبوسنة والهرسك، كوسوفو، و هناك حالة واحدة اعتبرتها نجاحا للأمم المتحدة، و هي حالة تيمور الشرقية.( )
- أما بالنسبة لفرضية استعمال القوة، فإن اللجنة تعترف بأن ميثاق الأمم المتحدة "لا يتسم (...) بالوضوح الذي يمكن أن يكون عليه عندما يتصل الأمر بإنقاذ الأرواح داخل البلدان التي تعيش حالات تشهد خلالها فضائح جماعية، فهو يؤكد الإيمان بالحقوق الأساسية للإنسان و لكنه لا يفعل الكثير لحمايتها، كما تحظر المادة2/7 التدخل في" الشؤون التي تكون من صميم سلطان دولة ما"( )
إلا أنها لجأت الى أحكام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية و المعاقبة عليها التي اعتبرتها كأساس للمسؤولية الدولية، حيث أن الدول، بموافقتها هذه، تعترف بأن" الإبادة الجماعية، سواءا ارتكبت في أوقات السلام أو أوقات الحرب، هي جريمة بموجب القانون الدولي، و قطعت على نفسها عهدا، بمنعها والمعاقبة عليها"( )، وبرأي اللجنة، فإنه "ظل مفهوما منذ ذلك الحين، أن الإبادة الجماعية تشكل، أينما ارتكبت، تهديدا لأمن الجميع و لا ينبغي أبدا التسامح معها، ولا يمكن أن يستخدم مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لحماية أعمال الإبادة الجماعية أو غيرها من الأعمال الوحشية مثل الانتهاكات الواسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي أو التطهير العرقي الواسع النطاق، وهو ما يمكن اعتباره عن حق تهديدا للأمن الدولي، و على هذا، فهو يستوجب إجراءا من مجلس الأمن"( ).
وبعد تعليقها على أن الكوارث الإنسانية المتعاقبة في الصومال ، البوسنة والهرسك ، رواندا ، كوسوفو، دارفور و السودان، أدت إلى تركيز الاهتمام ليس على حصانات الحكومات ذات السيادة بل على مسؤولياتها، سواءا اتجاه مواطنيها ذاتهم أو اتجاه المجتمع الدولي الأوسع، و القول بأن الأمر لا يتعلق بحق التدخل بل بـ "مسؤولية الحماية"، و ان" ثمة قبول متزايد لوجوب أن يتحمل المجتمع الدولي الأوسع، عندما تكون الحكومات ذات السيادة غير قادرة أو غير راغبة في حماية مواطنيها من كوارث من هذا النوع، رغم أنها هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسية في حمايتهم..."( ) فإن اللجنة أعلنت موقفها من مفهوم مسؤولية الحماية بقولها:
"ونحن نؤيد المبدأ المستجد المتمثل في وجود مسؤولية دولية جماعية في الحماية يمارسها مجلس الأمن بأن يأذن بالتدخل العسكري كملاذ أخير، عند حدوث إبادة جماعية أو عمليات قتل أخرى واسعة النطاق، أو حدوث تطهير عرقي أو انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، ثبت أن الحكومات ذات السيادة عاجزة عن منعها أو غير راغبة في منعها"( ) و قد اقترحت هذه اللجنة، أن يتم تبرير اللجوء إلى القوة، لا على أساس الشرعية القانونية فحسب، بل أيضا على إدراك مشترك لشرعية العمليات، " أي أن تكون قائمة على أسس متينة من الأدلة وأن تكون قد اتخذت لأسباب صحيحة أخلاقيا و قانونيا على السواء"( ) و ذلك في إطار ما يسمى بنظام "الأمن الجماعي" مضيفة بأنه حتى يكتسب مجلس الأمن الاحترام الذي يجب أن يتمتع به، بوصفه الهيئة الرئيسية في نظام الأمن الجماعي "... ينبغي للمجلس على وجه الخصوص، عندما يقرر الإذن باستعمال القوة أو عدم الإذن به، أن يعتمد و يتناول بشكل منهجي مجموعة من المبادئ التوجيهية المتفق عليها، متطرقا بشكل مباشر إلى ما إذا كان من الممكن قانونا استعمال القوة، بل إلى ما إذا كان ينبغي استعمالها، باعتبار أن هذا الاستعمال أمر يرضى عنه الضمير و يقره حسن الإدراك." و هذا الموقف، قد يتفق في رأينا، مع نظرية " الحرب العادلة " التي كانت سائدة في السابق( ).
لتخلص اللجنة إلى وضع المعايير التي تؤدي إلى استعمال القوة من طرف مجلس الأمن ، و هي التي اعتبرتها ب "معايير المشروعية" الخمسة الأساسية والمتمثلة في
)
(أ)- خطورة التهديد:
- هل التهديد بإلحاق ضرر بأمن الدول، أو البشر من النوع و بالوضوح والخطورة الكافيتين لتبرير استعمال القوة العسكرية، على أساس من اليقين الكامل؟ وفي حالة التهديدات الداخلية، هل ينطوي الامر على إبادة جماعية و غيرها من عمليات القتل الواسعة النطاق أو تطهير عرقي أو انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، سواءا كانت فعلية أو يخشى حدوثها قريبا جدا؟
(ب) – الغرض السليم:
- هل من الواضح أن الغرض الرئيسي للعمل العسكري المقترح هو وقف أو تفادي التهديد محل النظر، أيا كانت الأغراض أو الدوافع الأخرى؟
(ج)- الملاذ الأخير:
- هل جرى استكشاف كل خيار غير عسكري آخر لمواجهة التهديد محل النظر، وتوافرت أسباب معقولة للاعتقاد بأن التدابير الأخرى تكلل بالنجاح؟
(د)- الوسائل التناسبية:
- هل يمثل نطاق العمل العسكري المقترح و مدته و قوته الحد الأدنى اللازم لمواجهة التهديد محل النظر.
(ه) - توازن النتائج:
- هل تتوفر فرصة معقولة لنجاح العمل العسكري في مواجهة التهديد محل النظر، لا يكون من المرجح أن تترتب على العمل نتائج أسوأ من نتائج عدم اتخاذ أي إجراء؟.
و حتى يتم إدراج هذه المقترحات في القانون الدولي، فقد دعت اللجنة إلى إدماج هذه المعايير في قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة بقولها: " ينبغي تجسيد المبادئ التوجيهية المتقدمة للإذن باستعمال القوة في قرارات لها طابع الإعلان لمجلس الأمن والجمعية العامة."( ) كما تمنت اللجنة أن تتلقى مقترحاتها تأييدا من الدول: "وتعتقد أيضا أن يكون من المفيد أن تحظى هذه المبادئ التوجيهية بتأييد فرادى الدول الأعضاء سواء كانت أعضاء في مجلس الأمن أو لم تكن"
- إن ما يمكن ملاحظته على ما ذهب إليه تقرير اللجنة الرفيعة المستوى، هو أنه:
1)- حاول تحديد ووضع قائمة للتهديدات التي تواجه الدول خاصة، و المجتمع الدولي عامة، و التي صنفها في مجموعات تشكل كلها تهديدا للأمن الدولي.
2)- من بين هذه التهديدات، ما يحدث داخل الدول من حروب أهلية و إبادة جماعية و أعمال وحشية أخرى مرتكبة على نطاق واسع، وهذا النوع، وهو يصنف ضمن مجموعة التهديدات التي تواجه السلم و الأمن الدوليين، فإنه وفقا لتقرير هذه اللجنة، سيدخل مستقبلا ضمن المجالات التي يتناولها مجلس الأمن، تطبيقا للمادة 24-25 و 39 من ميثاق الأمم المتحدة، مما يضع حدا لذلك النقاش الذي دار حول أحقية مجلس الأمن من عدمه، في تناول انتهاكات حقوق الإنسان و ربطها بمفهوم الإخلال بالسلم و الأمن الدوليين و يؤسس بالتالي لقرارات المجلس التي ستصدر مستقبلا تحت هذا المبرر.
3)- أن تقرير اللجنة، في إطار تبريره لضرورة اللجوء إلى القوة، اعتمد على "المشروعية" كأساس، إضافة إلى الشرعية القانونية وذلك بقوله: "ولكي يكتسب مجلس الأمن الاحترام الذي يجب أن يتمتع به بوصفه الهيئة الرئيسية في نظام الأمن الجماعي (...) ينبغي (عليه) عندما يقرر الإذن باستعمال القوة أو عدم الإذن به، أن يعتمد ويتناول بشكل منهجي مجموعة من المبادئ التوجيهية المتفق عليها، متطرقا بشكل مباشر ليس إلى ما إذا كان من الممكن قانونيا استعمال القوة، بل إلى ما إذا كان ينبغي استعمالها، باعتبار أن هذا الاستعمال أمر يرضى عنه الضمير ويقره حسن الإدراك."( )
و قد وضع لهذه المشروعية، خمسة معايير ينبغي لمجلس الأمن النظر فيها قبل إذنه باستعمال القوة أو إقرار استعمالها، و هي:
1)- خطورة التهديد.
2)- الغرض السليم.
3)- الوسائل التناسبية.
4)- الملاذ الأخير.
5)- توازن النتائج.( )
وهذه المعايير، تتوافق وتلك المعايير التي وضعتها اللجنة الدولية للتدخل والسيادة في إطار اقتراحها لمفهوم " مسؤولية الحماية " و لكن اعتبرتها هذه الأخيرة كمعايير احترازية قبل اللجوء إلى القوة، لا كعناصر تؤسس لمشروعية استعمال القوة( ) و هنا يطرح السؤال، هل ذلك يغير من نظرية " مسؤولية الحماية" أم لا؟
- في رأينا، فإن اللجنة الدولية للتدخل و السيادة لا تعتبر أن هذه المعايير تؤسس للتدخل العسكري في إطار مفهوم " مسؤولية الحماية " بل تعتبرها كمبادئ احترازية على مجلس الأمن أن يأخذها بعين الاعتبار عند اللجوء إلى استعمال القوة كملاذ أخير، في حين أن الفريق الرفيع المستوى، يعتبر أن هذه المعايير لوحدها، تؤسس لمشروعية التدخل العسكري، باعتبار " أن هذا الاستعمال يرضى عنه الضمير و يقره حسن الإدراك، ما دام المجلس يحترم هذه المعايير و هي متوفرة.
- و بذلك، فإن اقتراحات الفريق الرفيع المستوى لم تؤد فقط إلى الاعتراف بمفهوم " مسؤولية الحماية " بل إلى نتائج أكبر من ذلك، أهمها:
1- إخراج قضايا انتهاك حقوق الإنسان من المجال المحفوظ للدول.
2- توسيع مجالات تدخل مجلس الأمن، مما يؤدي استنتاجا إلى توسيع مفهوم الأمن الجماعي .
3- الرفع من السلطة التقديرية لمجلس الأمن و سلطانه في تكييف الحالات.
4- إن اعتماد فكرة المشروعية كأساس لقرارات مجلس الأمن، يذكرنا بمفهوم "الحرب العادلة " ( la notion de la guerre juste) التي ظهرت في السابق على يد رجال الكنيسة من أمثال طوما الاكويني والقديس أوغستين( )، فهل هذا يمثل دليلا على تراجع المجتمع الدولي إلى تلك الأفكار السائدة في القرون ما قبل ظهور ميثاق الأمم المتحدة أم أن الأمر يعبر عن تقدم جديد كما يحاول دعاة التدخل الإنساني إبرازه.
- من جهة أخرى، يبقى السؤال مطروحا، حول ما إذا كان مجلس الأمن سيبقى في وضع القاضي و الجلاد في نفس الوقت؟ و هل سيمسح له المجتمع الدولي بذلك؟.
- إن الإجابة على هذا التساؤل لا يمكن لنا معرفتها إلا من خلال ما نقترحه في الفصل الثاني من هذا البحث، من خلال استعراضنا لمواقف الدول.
الفرع الثاني:
تقــــرير الأمين العام "في جـــو من الحرية أفسح "
منذ أن أطلق ذلك التحدي حول التوفيق بين مبدأ السيادة و حق التدخل الإنساني خلال الدورة الـ 54 للجمعية العامة سنة 1999، لم يتوقف كوفي عنان عن الدعوة إلى ضرورة اعتراف المجتمع الدولي بضرورة التدخل لحماية حقوق الإنسان، حتى وإن تطلب الأمر،اللجوء إلى القوة، داعيا في نفس الوقت، إلى إعادة النظر في المفهوم التقليدي لمبدأ السيادة.( ) كما تناول قضية مفهوم الأمن الذي يجب مراجعته، حيث أن هذا المفهوم لا يتعلق فقط بالدفاع عن الإقليم، و لكن أكثر من ذلك، يرتبط بحماية الأفراد، مما يستدعي مواجهة تهديدات النزاعات خلال كل مراحل تطورها ( )، مؤكدا مرة أخرى أن مبدأ السيادة الوطنية لا يستعمل لتغطية الجرائم ضد الإنسانية، موضحا بأنه في بعض الحالات الاستثنائية يمكن أن يكون من الضروري الاختيار بين مفهوم السيادة و الضرورة الإنسانية. و لا يمكن لمجلس الأمن أن يتحمل الواجب الأخلاقي في التدخل.( )
كما قال الأمين العام أمام مجلس الأمن في 20 تموز/يوليو 2000، أثناء مناقشة المجلس لموضوع منع الصراعات المسلحة، "أن منع الصراع يجب أن يكون حجر الزاوية في الأمن الجماعي في القرن الحادي و العشرين،" ( ) و أوضح الأمين العام "أن هذا لن يتحقق بالانماءات العظيمة أو بالتفكير القصير الأجل، و إنما يتطلب تغييرا في المواقف المتأصلة، و على القادة أن يسلموا بالحاجة إلى إجراءات وقائية، حتى قبل ظهور رأي بوادر تنم عن نشوب أزمة في بعض الأحيان، و عليهم أيضا أن يعترفوا بأنه يمكن للمجتمع الدولي أن يضطلع بدور بناء في الحالة الداخلية، مما قد يدعم السيادة بدلا من أن يضعفها. و سيكون على الدول أن تعطي المؤسسات التي تستهدف الوقاية المساندة التي تحتاج إليها احتياجا شديدا."( ) و لم يتوقف السيد كوفي عنان عند هذا الحد، بل راح يحضر المجتمع الدولي لضرورة قبول التدخل الإنساني في صيغته الجديدة، تحت مسمى " مسؤولية الحماية " ابتداءا من سنة 2004، حيث صرح في 26 جانفي 2004 في منتدى دولي انعقد في (ستوكهولم) حول الوقاية من الإبادة و ذلك باستعراضه لمختلف المجهودات التي بذلت خلال الفترة السابقة، بأن المجتمع الدولي هو في طريقه إلى الانتقال من مفهوم التدخل، إلى مفهوم المسؤولية الجماعية (Responsabilité collective) ، مسؤولية مجموعة الكائن البشري اتجاه كل عضو منا، واصفا ذلك بـ "نظرية جديدة " و " حاملة للآمال " و التي تتطلب التوضيح أكثر والعمل على تقبلها الصريح.( )، مضيفا لأنه بفضل اللجنة الدولية للتدخل و السيادة، فان ما نفهمه مستقبلا، لا يمكن الحديث عن " حق التدخل " و لكن تأكيدا عن المسؤولية في المقام الأول، تلك التي تتحملها الدول في حماية مواطنيها، و لكن أيضا، في النهاية، تلك التي تقع على المجموعة البشرية في أبعاد كل أعضاءها، في كل الظروف عن الانتهاكات الفظيعة.( )
كما جاء موقف الأمين العام حول نفس الموضوع، في خطابه أمام الجمعية العامة في دورتها الـ 59 في 21/09/2004، قال فيه "...و لابد لنا أن نفي بمسؤوليتنا إزاء حماية المدنيين الأبرياء من الإبادة الجماعية، و من الجرائم ضد الإنسانية و جرائم الحرب، و كما حذرت هذه الجمعية منذ خمس سنوات خلت، فان التاريخ سيحكم علينا حكما قاسيا ان نحن سمحنا لأنفسنا أن نحيد عن هذه المهمة، أو اعتقدنا أنه بوسعنا أن نعفي أنفسنا منها، منذ رعين بالسيادة الوطنية." ( )
و قد واصل السيد كوفي عنان في الدعوة لاعتراف المجتمع الدولي بمفهوم "مسؤولية الحماية" كما جاء في تقرير اللجنة الدولية للتدخل و السيادة، في تقريره المقدم أمام مؤتمر القمة للجمعية العامة، سنة 2005، أهم ما جاء فيه، مقترحات حول محور "حرية العيش في كرامة" حث من خلالها رؤساء الدول والحكومات على "الالتزام مجددا بدعم سيادة القانون، و حقوق الإنسان و الديمقراطية، و هي المبادئ التي تكمن في صميم ميثاق الأمم المتحدة و في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان( ) مقترحا عليهم القيام بما يلي:
- أ- "إعادة تأكيد التزامهم بحماية كرامة الإنسان باتخاذ إجراءات لتعزيز سيادة القانون، وكفالة احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية وتشجيع الديمقراطية من أجل تنفيذ المبادئ المعترف بها عالميا في كل البلدان".
-ب- " قبول مبدأ " مسؤولية الحماية" باعتباره أساسا للإجراءات الجماعية لمناهضة الإبادة الجماعية، والتطهير الأمني، والجرائم ضد الإنسانية، والموافقة على العمل على أساس تلك المسؤولية، اعترافا بأنها تقع في المقام الأول على عاتق كل دولة من الدول، وإن من واجب كل دولة حماية سكانها، و لكن إذا كانت السلطات الوطنية عازفة أو عاجزة عن حماية مواطنيها، فإن المسؤولية تنتقل عندئذ إلى المجتمع الدولي لكي يستخدم الوسائل الدبلوماسية و الإنسانية و غيرها للمساعدة في حماية السكان المدنيين، و إذا أشار ظاهر الأمر إلى عدم كفاية تلك الوسائل ، كان لمجلس الأمن أن يقرر بمقتضى الضرورة ، اتخاذ إجراءات بموجب الميثاق، منها إجراءات الإبعاد إذا اقتضى الأمر ".
- و ما يمكن ملاحظته على تقرير الأمين العام هذا، هو كيفية ربطه بين ثلاثة محاور رئيسية، هي " الأمن " " التنمية" و "حقوق الإنسان" و هي محاور لها علاقة بمعنى " الحرية" كمحور رئيسي لهذا التقرير و أكد رفضه للفاقة و الخوف، كما جاء في العنوان الفرعي للتقرير: " التنمية، الأمن و احترام حقوق الإنسان للجميع" وبذلك يؤكد على فكرة أنه " ليس هناك أمن حقيقي دون احترام لحقوق الإنسان، بينما يمثل احترام حقوق الإنسان، شرطا ضروريا للاستقرار و التنمية."( ) إن هذا التوجه، يمثل في حد ذاته، الضرورات الأساسية للمجهودات الوقائية من الأزمات و التي تعطى لمفهوم " الأمن" بعده الكامل( ). و هو نفس التوجه الذي دعى إليه تقرير التنمية البشرية لسنة 2005 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للتنمية، .(PNUD) ( )