القوة وأثرها في الأحلاف الدولية وصراعاتها
مجلة الدفاع الوطني
د.خليل حسين
أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية
من المسلمات ارتباط النظام الدولي بشكل أو بآخر بموازين القوى التي تنشأ عبر التحالفات بين الدول أو المنظمات أو غيرها، وأساس هذه الموازين هي القوة، فما هي أنواعها وطبيعتها وكيفية تأثيراتها ومداها، وانعكاساتها في نشوء الأحلاف الدولية وصراعاتها.
أولاً - ماهية القوة
ليس ثمة خلافات جوهرية، أو ذات شأن، في تعريف القوة أو تحديد المقصود منها. فمعظم التعاريف يقرِّر أن القوة هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين، أو التحكُّم في سلوكهم تجاه قضية معينة. ونظرًا إلى أن هذه التعاريف قد حصرت نطاقها بعملية التأثير، فإن المهتمين بالعلاقات الدولية وشؤونها قدّموا تعاريف أكثر وضوحًا نظرًا إلى ربط القوة بعلاقات الدول، وهو الأساس في تطبيقات القوة وآثارها العملية. وبصورة رمزية، فإن القوة هي قدرة (أ) على دفع (ب) إلى أن يفعل (س)، أو لا يفعل (ص)، بمعنى أن تسمح (أي العلاقة) بقيام إحدى الحكومات بحمل حكومة دولة ما على أن تتبع سلوكاً معينًا لم تقم باختياره بمحض إرادتها، كأن تجعلها تقدم على القيام بأعمال لا ترغب في القيام بها، أو تمنعها من القيام بأفعال ترغب في القيام بها. وتتمثَّل إحدى مشكلات هذا التعريف، في معظم الحالات، في أن يتمَّ التأكد من احتمالات قيام الطرف الثاني بالفعل (س) أو عدم قيامه بالفعل (ص)، إذا لم تكن تأثيرات قوة الطرف الأول قائمة(1) .
ومهما يكن من أمر التباين فإن أي أساس لتعريف القوة يستند إلى العلاقة السلوكية التي تجبر طرفاً على الانصياع لرغبة الطرف الآخر في الاتجاهات والخيارات التي تحقق رغباته، أو تتوافق معها، وذلك في فترة محدَّدة أو ممتدَّة في مجال معيَّن أو عدَّة مجالات. وبذلك يمكن الإشارة إلى عدة عناصر للقوة أبرزها(2) :
أ - تعتبر القوة، بشكل عام، وسيلة لتحقيق غاية معينة بذاتها، ولذلك من الصعب تصوّر أن دولة ما تنفق الأموال والطاقات لامتلاك القوة لمجرد امتلاكها أو لاستعراض قوتها في مواجهة الآخرين(3) . إلا أن المشكلة تكمن في أن القوة قد تكون هدفاً في حدِّ ذاتها، حسبما اتجهت المدرسة الواقعية كما في كتابات هانز مورغانثو التي أكَّدت أن القوة في حدِّ ذاتها قد تمثل قيمة مرغوبًا فيها(4) .
ب - ليست القوة فعلاً ساكنًا إنما علاقة بين طرفين يتم في إطارها تفاعل وسائل تأثير وأساليبه في الإرادات والسلوك Actor، فترة من الزمن تشكِّل في التحليل النهائي إما حوارًا أو صدام إرادات، تتحدَّد بناء عليه ملامح نمط العلاقة القائمة بين الطرفين. وقد تتخذ هذه العلاقة شكل الإيصال الصريح الذي تُستخدَم فيه أدوات القوة وأساليبها بوضوح، كما قد تتخذ أشكالاً إيحائية تتحرَّك عبرها رسائل مختلفة. إلا أنه ينبغي التنبّه إلى أن التأثير لا يسير دائمًا في اتجاه واحد طوال الوقت، فقد تكون دولة ما هي الطرف الفاعل Actor، وقد تكون الدولة الأخرى هي الهدف Target أو العكس، فمهما بلغت قوة أحد الطرفين فإنه معرَّض لردود أفعال، ومهما بلغ ضعف الطرف الآخر تكون لديه قدرة على القيام ببعض الأفعال المؤثرة. كما أن علاقات القوة قد لا تكون ثنائية في كثير من الحالات، فمعظم أنماط التفاعلات الدولية في العصر الحديث متعدِّد الأطراف على نحو يفرز أنماط تأثير شديدة التعقيد، وحتى في إطار بعض أشكال علاقات القوة التي يكون من الواضح أنها ثنائية، ربما يكون ثمة طرف ثالث يتدخَّل بشكل مؤثر.
ج - ليست القوة قيمة مطلقة بل تعتبر نسبية، فمن غير الممكن وصف طرف ما بأنه قوي أو ضعيف إلا في إطار مقارنته بطرف أو أطراف أخرى. وتلك المقارنة هي التي تحدِّد موقعه في هيكل القوة على المستوى الإقليمي أو الدولي(5) . فالفكرة العامة هي أن الدولة تكون قوية بمدى قدرتها على التأثير في سلوك الآخرين بأكثر مما يؤثِّر به الآخرون في سلوكها. إلا إن الأمر لا يبدو بهذه البساطة كذلك، فنسبية القوة لها تعقيداتها هي الأخرى بفعل التطورات العلمية والتكنولوجية المتسارعة(6) .
د - تتسم نماذج تأثير القوة بالتعقيد، فالقوة عملية Process تتضمَّن أكثر من مجرَّد قدرة دولة ما على التأثير في سلوك دولة أخرى في حالة محدَّدة، إذ أن عملية التأثير لا تتوقَّف عند رد فعل الدولة على الفعل الموجَّه إليها من الدولة الأولى، بخاصة وأن ردَّ الفعل قد يكون القبول ما يتطلَّب من الدولة المؤثِّرة فعلاً تعاونيًا ما لتدعيم الاتجاه الذي اتخذته الدولة المتأثِّرة، أو قد يكون عدم القبول ما يُضطرُّ الدولة المؤثرة إلى رد فعل مضاد، وبالتالي ثمة سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التالية التي يمتزج فيها الفعل برد الفعل بحيث يصبح كل طرف فاعلاً وهدفًا في الوقت نفسه(7) .
هـ - لكل عملية تأثير محدِّدات خاصة بها تتفاعل الأفعال وردود الأفعال المتصلة بها في مجال أو نطاق معيَّن، ووفقًا لقواعد لعبة معيَّنة تتحكَّم بكل عملية. فوصف دولة ما ـ في سياق تلك النقطة - بأنها قوية، لا يعني أنها قادرة على التأثير في سلوك الآخرين في جميع المجالات، وفي كل القضايا، أي أنها قادرة على هزيمتهم عسكريًا ومنحهم ماليًا والسيطرة عليهم ثقافيًا واختراقهم سياسيًا، فكوريا الشمالية مثلاًً يمكنها أن تؤثر في سلوك كوريا الجنوبية بتهديدها عسكريًا، لكن ليس لديها ما تؤثر به اقتصاديًا أو ثقافيًا من الناحية العملية. كما أن حيازة دولة ما عنصر قوة محددًا لا يعني أنها قادرة على استخدامه في التأثير على كل أنماط السلوك المحيطة بها، بما في ذلك سلوكيات ترتبط بالهدف الواسع من امتلاك هذا العنصر ذاته(
. إلا أن الأمر الأساسي المرتبط بمفهوم القوة هو أن تأثير أي دولة في توجُّهات الدول الأخرى أو سلوكها، لا يحقق أي نتائج ذات أهمية إلا إذا استندت على إمكانات مادية ومعنوية مختلفة، عبر تعبئة عناصر معينة منها كأدوات للتأثير إما بالإقناع أو الإغراء أو التهديد أو المعاقبة، في مواجهة الأطراف المستهدف التأثير فيها.
ومهما يكن من أمر، فقد وصلت أهمية توافر الإمكانات كعنصر من عناصر مفهوم القوة إلى حد تبلور تيَّار بين محلِّلي القوة يطرح تعريفًا آخر للقوة لا يستند إلى كونها عملية تأثير في الإيرادات، وإنما رمزًا لامتلاك القدرات(9) ، فمن يمتلك عناصر قوة (موارد ـ قدرات) معيَّنة يصبح قويًا، ومن لا يمتلكها يُعدُّ ضعيفًا، على نمط ما هو متصوَّر في التفكير العام بشأن القوة، خصوصًا وأن الإمكانات يمكن رؤيتها أو لمسها أو قياسها، بخلاف التأثيرات التي تصعب الإحاطة بأبعادها المختلفة. وعلى الرغم من أن التعريفات القائمة على امتلاك القدرات لم تصبح تعريفات سائدة، باعتبارها لا تقدم تفسيرات كافية لظاهر القوة، كما أنها تطرح إشكاليات أكثر تعقيدًا مما تطرحه التعريفات المتداولة بشأن فكرة التأثير، إلا أن أي تعريف للقوة لا يتجاوز مطلقًا مسألة أن أحد عناصرها الأساسية القليلة ـ التي تُضاف إلى الأفعال وردود الأفعال ـ هو امتلاك القدرات التي تجعل محاولة التأثير ممكنة أو فعَّالة(10) .
ثانيًا - عناصر القوة
تكمن أهمية القوة في قدرتها على التأثير، وتستند القوة بشكل عام على امتلاك الدولة لعناصر أساسية متعلِّقة بالخصائص والموارد والقدرات والمؤسسات التي تشكِّل بمجموعها قدرات الدولة الحيوية التي تمكِّنها من فرض خياراتها على الآخرين وفقًا للوجهة التي تخدم مصالحها. وتظهر هذه العناصر بأشكال متعدِّدة ومتنوِّعة كالمساحة الجغرافية، وعدد السكان، والموارد الطبيعية، والقدرات الاقتصادية، والقوة العسكرية، والبنية التكنولوجية، والفعاليات الثقافية، والمؤسسات السياسية، والحالة المعنوية للشعب وغيرها. و على الرغم من تداخل هذه العناصر وتشابكها لتشكِّل بمجموعها عوامل القوة الشاملة للدولة فإن العبرة تكمن أولاً وأخيرًا في كيفية استعمالها واستغلالها بكفاءة عالية عند تعرُّض الدولة لأي ضغوط خارجية. واستنادًا إلى ذلك تتم عملية تقييم القوة ومدى تأثيرها.
فمصادر القوة، وهي العناصر التي تمثل الموارد العامة التي يمكن أن تستخدمها الدولة على المدى الطويل لامتلاك قدرات معينة أو تطويرها، تُستخدم في عمليات التأثير، كالموقع الجغرافي، وعدد السكان، والموارد الاقتصادية، والقاعدة الصناعية، والإمكانات العلمية ـ التكنولوجية، والقيم الثقافية. فالسكان مثلاً لا يستخدمون مباشرة في الحروب، وإنما العناصر المنظَّمون القادرون على حمل السلاح منهم، والذين يسمَّون عادة جيشًا. وتمثِّل هذه المصادر عمومًا أسس قوة الدولة. أما قدرات القوة، وهي عناصر القوة التي تمثل قدرات محدَّدة، فيمكن أن تستخدمها الدولة مباشرة في عملية ممارسة التأثير في المدى القصير كالقوات المسلَّحة، والاحتياطيات النقدية، والأدوات الدبلوماسية، وأجهزة الاستخبارات. فالجيوش عادة ما تكون في وضع استعداد لاستخدام القوة المسلحة في أي وقت تتعرَّض فيه الدول للتهديد. وتمثِّل هذه القدرات أدوات قوة الدولة. وعلى الرغم من أن القاعدة في احتساب حجم القوة وتأثيرها يرتكز على هذه العناصر إلا إن هناك العديد من الاستثناءات لها، أبرزها:
أ - على الرغم من الدور الحيوي الذي تضطلع به القدرات المحدَّدة (العسكرية، المالية ..) في تشكيل موقع الدولة على خريطة النظام الدولي، إلا أن عدم استناد تلك القدرات على موارد كبيرة يحدُّ من تأثيراتها على هذا المستوى. فتصنيف دول العالم قوى عظمى، وقوى كبرى، ودولاً متوسطة القوة (قوى إقليمية كبيرة)، ودولاً صغيرة، يرتكز عادة على أسس القوة ذات الطبيعة الثابتة نسبيًا(11) .
ب - إن الكمية والكيفية المتعلِّقتين بعناصر القوة المتوافرة لمطلق دولة هما اللتان تحدِّدان طبيعة القدرات ونوعيتها والتي يمكن امتلاكها والتصرف بها في نطاق العلاقات الدولية. فالدول التي تمتلك موارد متواضعة لا تستطيع التأثير في مجرى العلاقات الدولية أو تغيير موازين القوى في النظام الدولي؛ فعلى سبيل المثال لو تمكَّنت سري لانكا أو موريتانيا من إقامة برامج مساعدات مالية لدول أخرى أو إنتاج مواد إعلامية كبيرة موجَّهة للخارج، أو إنتاج أسلحة نووية، لن يكون بمستطاعها التأثير بشكل فاعل في التفاعلات الدولية، بينما يبدو الأمر مغايرًا بالنسبة إلى دول أخرى كفرنسا وبريطانيا، فامتلاك الإمكانات الكبيرة يتيح لهذه الدول بناء جيوش قوية، وقواعد عسكرية خارج أراضيها، وامتلاك وسائل إعلام وبرامج معونات خارجية ذات تأثير فاعل، وإن كان توافر الموارد لا يتيح بشكل تلقائي امتلاك القدرات، فالعلاقة هنا غير مباشرة، لكنها واضحة ومؤثرة.
ج - إن تأثيرات عناصر القوة بين أي طرفين يمكن أن تكون حاسمة في المدى البعيد. فقد تمكَّنت ألمانيا العام 1942 من إلحاق الهزيمة بالجيش السوفياتي، وأيضًا من التوغُّل عميقُا في الأراضي السوفياتية. بيد أن عدة أمور قلبت موازين القوى من جديد، فنتيجة الطبيعة المناخية الشديدة البرودة واتساع الأراضي التي توغَّلت فيها القوات الألمانية، ونتيجة المقاومة العنيفة، أضطرت ألمانيا إلى الانسحاب. كما أن تمكن اليابان العام 1941 من تدمير الأسطول الأميركي في بيرل هاربور وسيطرتها على المحيط الهادئ لم يمكِّنْها من الاستمرار طويلاُ في هذا الوضع إذ أعادت الولايات المتحدة بناء قوتها من جديد لتعاود اجتياح القوات اليابانية في آسيا ـ الهادئ، وهزيمة اليابان واحتلالها العام 1945 (12) .
إن حصر عناصر القوة أو تحديدها لأي دولة يبدو أمرًا معقَّدًا ومستحيلاً في الوقت نفسه، فقوة الدولة هي مجموع العناصر الأساسية وما يتفرَّع عنها، الأرض والشعب والمؤسسات، وهي العناصر التي تحدِّد حجم الدولة وتأثيراتها في النظام الدولي(13) .
1 – الأرض
يتمثَّل هذا الجانب بالعامل الجغرافي ومميزاته، وقد استند عليه الكثيرون في الماضي، ويرتكز هذا العامل على العديد من العناصر، أبرزها:
أ - الموقع الجغرافي: فثمة دول تحتل مواقع إستراتيجية متميِّزة على خريطة العالم مثل بنما وتركيا واليمن ومصر، بينما تقع دول أخرى في مناطق معزولة كأيسلندا، أو داخلية كتشاد. ووفقًا للمقولات السائدة تمثِّل مواقع الدول عنصر قوة أساسي في تقييم وزنها، بخاصة إذا كانت تسيطر على ممرات مائية دولية رئيسة كقناة السويس، أو باب المندب، أو الدردنيل. ويرتبط بذلك أيضًا موقع الدولة بالنسبة إلى البحار والمحيطات، والذي يحدِّد طول سواحلها ومنافذها البحرية التي تتيح لها انفتاحا على العالم وثروات بحرية إضافية، وكذلك موقعها على خطوط الطول والعرض الذي يؤثر على مناخ الدولة الذي سادت بشأنه نظرية مثيرة في الماضي تربط بين المناخ الحار والتخلُّف، وبين المناخ البارد والتقدم، إضافة إلى ذلك شكل حدود الدولة وطبيعتها، وعدد الدول المجاورة لها وخصائصها، وهو عنصر يؤثر بشكل كبير في سياساتها وأمنها.
ب - ثمة دول تتمتَّع بمساحات شاسعة كروسيا وكندا والولايات المتحدة والبرازيل، ودول أخرى صغيرة كالبحرين وقطر وبلجبكا وفيجي وبروناي، وهناك اعتقاد شائع بأن ثمة علاقة قوية بين المساحة والقوة، فكلما اتسعت المساحة ثمة إمكان لاستيعاب أعداد أكبر من السكان، إضافة إلى إمكان زيادة احتمال وجود الموارد الاقتصادية الطبيعية. وعلى الرغم من صحته له استثناءات واضحة وكثيرة، فمساحة الأرض بالنسبة إلى كندا عامل سلبي مقارنة بالامتداد الجغرافي نحو القطب الشمالي وبرودته القارصة، وعلى الرغم من صغر الكويت ففيها إمكانات نفطية هائلة. كما أن شكل الدولة من حيث التضاريس الطبيعية (جبلية، سهلية)، أو الحدود الخارجية، أو كونها جزرًا أو أقاليم قارية، يؤثِّر بشدة على أهمية المساحة، ويطرح تداعيات معقَّدة بالنسبة إلى قوة الدولة.
ج - يشتمل إقليم الدولة ما تحته من موارد مختلفة تحدِّد قوة الدولة وقدرتها في استعمال هذه الموارد، كمصادر الطاقة (النفط، الفحم، الغاز، المواد النووية)، أو ثروات معدنية (كالحديد والقصدير والنحاس والفضة والذهب)، إضافة إلى ما يوجد على سطح الأرض من تربة (ومصادر مياه) تتيح إنتاج الموارد الغذائية أو الموارد الزراعية، ويشمل إقليم الدولة كذلك ما حول الأرض من مياه إقليمية في البحار والمحيطات، وامتداداتها تحت البحر (الجروف القارية). وتتمثَّل أهمية الموارد الاقتصادية في ما تتيحه للدولة من قدرات مالية تمثِّل عنصر قوة مزدوجًا (موارد + قدرة)، والأساس المادي للنمو الاقتصادي والتبادل التجاري في إطار الاقتصاد الدولي. وتتفاوت الدول بشدة من حيث امتلاك مثل هذه الثروات أو عدمه، وتأثيراتها على قوتها في حالة وجودها أو عدم وجودها.
2 – الشعب
يعبَّر عن هذا العنصر بالعامل الديموغرافي أو السكاني للدولة لجهة تشكيله رافدًا مهمًا للقوى المسلحة وعاملاً لافتًا في إدارة شؤون الدولة واقتصادها. وقد يمارس نمط القيم والثقافة السائدة فيه وإرادته القومية، أدوارًا مباشرة كأدوات قوة تؤثر في الشعوب الأخرى. لكن كل ذلك يتم في ظل تباينات شديدة في تقييم العلاقة بين العامل البشري وقوة الدولة، بفعل المتغيِّرات في تلك العلاقة. ويتضمَّن هذا العامل عناصر فرعية عديدة، أهمها(14) :
أ - تعداد السكان: ويعتبر الأبرز في عوامل القوة للدولة. فثمة دول يزيد تعدادها عن المليار كالصين والهند، وأخرى تعاني قلة السكان الأصليين كالكويت والإمارات العربية المتحدة حيث عدد المقيمين يناهز، إن لم يتجاوز، عدد مواطني الدولة. ويلاحَظ تفاوت نسب نمو هذا العدد من دولة لأخرى، ففي بعضها ينمو السكان بأسرع من قدرتها على الاستيعاب، وفي أخرى يتوازى معدل الولادات مع معدل الوفيات، وفى بعض آخر يلفت اتجاه عدد السكان إلى التناقص. وتتضح معالم هذا المؤشر أكثر بإضافة كثافة السكان إليه، أي نسبة عدد السكان إلى مساحة الدولة القابلة للحياة فيها، وتكمن أهمية ذلك في أنه يوضح حجم الضغط على الموارد، وشكل نمط الحياة في الدولة. وتشكِّل دول مثل بنغلاديش والهند والسويد والدانمرك حالات صارخة لتفاوت الكثافة، وإشكالاتها المختلفة. ووفقًا للمقولات التقليدية ـ التي تقلّصت أهميتها في العصر الحديث ـ فإنه كلما زاد حجم السكان (وانخفضت كثافتهم) كلما كان ذلك يدعم قوة الدولة بشكل عام.
ب - توزيع السكان: وهو العنصر الرئيس الذي يتحدَّد عليه بناء القيمة الحقيقية لعدد السكان كمورد قوة أساسي للدولة، ويتضمَّن عددًا لا حصر له من المؤشرات منها:
• التوزيع العمري للسكان الذي يُبيِّن قوة العمل والوعاء التجنيدي في الدولة، ومعدلات التقديمات الاقتصادية في المجتمع، كما يشير إلى بعض المشكلات السياسية المحتملة.
• مؤشر التوزيع الجغرافي للسكان على أقاليم الدولة، أو مدنها وأريافها، ويبيِّن مستويات التحضر، وأوضاع المدن، وتركات السكان.
• مؤشر التنوُّع العرقي ـ الديني للسكان، فوجود مشكلات عرقية، أو حساسيات دينية يؤثر بشدة على التجانس الاجتماعي، وقد يعرِّض الدول لمشكلات حادة، كما هو قائم في العراق، أو الجزائر، أو السودان، أو رواندا وبوروندي، أو منطقة البلقان، أو إندونيسيا، أو بريطانيا وكندا.
يضاف إلى ذلك التوزيعات الأخرى المتصلة بمؤشرات التنمية البشرية المختلفة، من تعليم وصحة وخدمات، حيث ان جميعها توضح حالة السكان في الدولة. ومهما يكن من أمر هذه العناصر ومدى تأثيرها في قوة الدولة، فإن الربط بينها رمزي في الواقع، إذ تختلف ظروف كل دولة مقارنة بغيرها، فعدد السكان بشكل عام يمكن أن يكون مفيدًا في حالات الدول المتقدمة اقتصاديًا، وعاملاً سلبيًا في الدول الفقيرة.
ج – المؤسسات: وهي الإطار القادر على تحويل عناصر القوة إلى قدرات أو أدوات قابلة للصرف في مجال التأثير في غيرها من الدول أو إهدارها وبالتالي عدم فائدتها(15) . وثمة دراسات لتحليل القوة لحظت مؤشرات مختلفة بشأن العناصر المرتبطة بقدرة النظام السياسي، سواء أكان يتم النظر إليها كمتغيِّرات وسيطة تحكم عملية تحويل الموارد إلى أشكال وأنماط جديدة لعناصر قوة الدولة، أو كعناصر قدرة مستقلة تُضاف كأدوات إلى إمكانات الدولة، ومنها:
• أولا - استقرار النظام السياسي للدولة. فهناك نظم سياسية غير مستقرَّة بمستويات أدت إلى انهيار هيكل السلطة المركزية، وتفكُّك الدولة في بعض الأحيان ( يوغوسلافيا، الصومال)، أو تفجُّر العنف المسلح داخل الدولة لفترة طويلة (أفغانستان)، ونظم أخرى تمتلك مؤسسات مستقرة تكفل إدارة العملية السياسية داخل الدولة من دون مشكلات قائمة أو محتملة، وتتيح اتخاذ القرارات القومية على أسس تتسم بالعقلانية وفق قواعد محددة كمعظم النظم السياسية في الدول المتقدمة
• ثانيًا - أداء النظام السياسي. ويرتبط بكفاءة النظام السياسي في إدارة شؤون الدولة، وامتلاكه الكوادر التنظيمية والمهارة الفنية اللازمة لتعبئة الموارد الأساسية واستخدامها لصالح المجتمع، بدءًا بتحصيل الضرائب، مرورًا بتطوير الاقتصاد وتحديث القوات المسلحة، وصولاً إلى إدارة السياسة الخارجية، فهناك دول تفتقر إلى الموارد كاليابان التي تمكَّنت من تعويض النقص عبر تطوير المهارات التنظيمية والفنية، والحالات العكسية تشمل معظم الدول النامية.
• ثالثًا: في قوة الوحدة الوطنية للدولة ومدى مساندة الشعب لحكومته. فالنظم السياسية بدون غطاء شعبي تصبح في مهب الريح.
ومهما يكن من أمر، فإن موارد القوة تمثِّل عنصراً رئيساً للقوة القومية، لكن مشكلتها هي أن تأثيراتها لا تسير في وجهة واحدة، كما أن تحوّلها إلى أدوات قوة يتوقَّف على عوامل مختلفة، وبالتالي فإنها تمثِّل في غالب الأحيان قاعدة لقوة الدولة، حيث يتم النظر إليها كأساس يمكن الاستناد إليه لتحويل القوة الكامنة ـ بدرجة أكبر أو أقل ـ إلى قوة فعلية، إضافة إلى ما تقدّمه في بعض الأحيان من تفسيرات جزئية لعملية التأثير في حالات عديدة(16) .
ثالثًا - وسائل القوة
تتطلَّع جميع الدول بشكل عام إلى التأثير في غيرها من الدول بما يتوافق مع مصالحها وبشكل يحفظ أمنها وتطور اقتصادها ومكانتها الدولية. ولكن تلك الأهداف تظلّ أمنيات ورغبات ما لم تقترن بامتلاك وسائل تنفيذها أي حجم ونوعية ما يمكنها الحصول عليه من أمن ورفاهية أو مكانة(17) . وفي الواقع، تمتلك غالبية الدول بعض الوسائل الهامة التي تراوح بين أدوات رمزية تتشكّل من عناصر محدودة الحجم والمهام، ومؤسسات ضخمة تزيد ميزانياتها أحيانًا عن الدخل القومي لدول أخرى بكاملها كالشركات المتعدّية الجنسية، وأبرز هذه الوسائل هي: