وجاء دستور 1976 و لم يفصح المؤسس فيه عن موقفه من حق الإضراب في القطاع العام عموما، سواء اداري، أو الإقتصادي، واكتفت المادة 61 منه بالاعتراف بحق الإضراب في القطاع الخاص.
ولم تحد قواعد القانون الأساسي العام للعامل عن المبدأ العام فلم تجز صراحة ممارسة حق الإضراب في القطاع العام الإقتصادي، بل أجازته وبصريح العبارة فقط في قطاع خاص (المادة 21) تجسيدا للمبدأ الدستوري.
وحمل دستور 1989 ولأول مرة شيئا جديدا بخصوص حق الإضراب تمثل في الاعتراف بممارسته في جميع القطاعات إلا ما استثنى بنص فنصت المادة 54 منه على أن الحق في الإضراب معترف به ويمارس في إطار القانون ويمكن أن يمنع القانون ممارسة هذا الحق أو أن يجعل حدودا لممارسته في ميادين الدفاع الوطني أو الأمن أو في جميع الخدمات أو الأعمال العمومية ذات المنفعة الحوية للمجتمع
وصدر بعده القانون رقم 90-02 المؤرخ في 06 فبراير 1990 المتعلق بالوقاية من النزاعات الجماعية في العمل وتسويتها وممارسة حق الإضراب المعدل والمتمم بالقانون رقم 91-27 المؤرخ في 21 ديسمبر 1991، وتضمنت قواعده كيفية ممارسة حق الإضراب وإجراءاته وآثاره. وأخيرا صدر الأمر 03.06 المؤرخ في 15 جويلية 2006 المتضمن القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية واعترفت المادة 36 منه للموظف بممارسة حق الإضراب في ظل التشريع المعمول به أي في ظل القانون 90-02 المعدل والمتمم.
- القيود الواردة على ممارسة حق الإضراب:
سبقت الإشارة أن الإضراب ينجم عنه عواقب وخيمة تعود بالسوء على المنتفع بالدرجة الأولى، لذا وجب أن يسعى المشرع إلى ضبط ممارسة حق الإضراب بقيود إجرائية تحول دون تعسف الجهة القائمة به. كما أنه بإمكان المشرع ولأسباب موضوعية أن يمنع ممارسة هذا الحق في قطاعات معينة. ورغم أن هذه القيود والإجراءات كثيرة ويطول شرحها، إلا أنه يمكن إجمال أهمها فيما يلي:
1- عقد اجتماعات دورية: درءا للخلافات الجماعية التي قد تسود داخل الإدارات العمومية أوجب المشرع بمقتضى المادة 15 من القانون 90 – 02 المذكور إجراء اجتماعات دورية بين ممثلي العمال وممثلي الإدارة المستخدمة. بهدف عرض الإشكالات المطروحة ومحاولة إيجاد حل لها كآليات الوقاية من المنازعات الجماعية.
2- رفع الخلافات إلى جهات الوصاية: إذا اختلف الطرفان في كل المسائل المدروسة أو بعضها يرفع ممثلو العمال أهم المسائل المختلف بشأنها إلى السلطات الإدارية المختصة على مستوى الولاية. وإذا كان الخلاف يكتسي طابعا جهويا أو وطنيا يرفع الأمر إلى الوزير أو من يمثله. وتتولى هذه السلطات إجراء المصالحة بحضور ممثلي السلطة المكلفة بالوظيفة العامة ومفتشية العمل المختصة إقليميا وتعد محضرا تضمنه المسائل المتفق بشأنها والمسائل المتنازع حولها .
(1)- جاء في المادة 43 من القانون 90- 02 بأن الإضراب يمنع على: القضاة، الموظفين المعينين. بمرسوم – أعوان مصالح الأمن – الأعوان الميدانيين العاملين في مصالح الحماية المدنية- أعوان مصالح استغلال شبكات الإشارة الوطنية في وزارتي الداخلية والشؤون الخارجية- الأعوان الميدانيين العاملين في الجمارك عمال المصالح الخارجية لإدارة السجون.
3- إحالة الخلاف على مجلس الوظيفة العمومية المتساوي الأعضاء: أعلنت المادة 21 من القانون 90.02 عن ميلاد مجلس متساوي الأعضاء يتكون من الإدارة وممثلي العمال.يوضح تحت السلطة المكلفة بالوظيفة العامة وهو عبارة عن جهاز مصالحة في مجال منازعات العمل.
4- موافقة جماعة العمل: اذا كان الإضراب حقا دستوريا فان ممارسته تخضع لجملة من الظوابط يأتي على رأسها موافقة جماعة العمل على اللجوء للإضراب. وهذا لا يتم إلا بعقد جمعية عامة في مواقع العمل المعتاد تضم نصف عدد العمال على الأقل ويبت في هذا الأمر باعتماد أسلوب الاقتراع السري.
5- الإشعار المسبق: ويتمثل في أجل محدد لا يقل عن ثمانية أيام يتم الاتفاق عليه مفاوضة بين أطراف الخلاف وينجم عن انتهاءه الدخول في الإضراب. وقد أوجب القانون إيداع الإشعار بالإضراب لدى المستخدم مع إعلام مفتشيه العمل.
6- اتخاذ إجراءات المحا فظة على الممتلكات: ان اللجوء للإضراب لا يعني هجر الإدارة المستخدمة ومواقع العمل هجرا جماعيا، بل يلزم العمل باتخاذ التدابير اللازمة للمحافظة على ممتلكات الإدارة المستخدمة. وهذا من باب تطبيق مبدأ الاستمرارية.
7- ضمان الحد الأدنى للخدمة: إذا كان الإضراب يمس المرافق العمومية الأساسية تعين على العمال وفقا للمادة 37 وما بعدها من القانون المذكور ضمان حد أدنى من الخدمة تجسيدا لمبدأ سير المرفق بانتظام واطرد. وعليه يلزم عمال البريد والصحة والمواصلات والطاقة وعمال الشحن والتفريغ ومصالح الدفن ومصالح المياه والمؤسسات المالية وغيرها بضمان حد أدنى من الخدمة تقدره الاتفاقيات والعقود الجماعية وهذا أيضا من باب تطبيق مبدأ الاستمرارية.
8- إمكانية اللجوء للتسخير: يمكن أن يؤمر بتسخير العمال المضربين في الهيئات أو الإدارات العمومية أو المؤسسات بغرض أداء أعمال ضرورية لضمان استمرار بعض الحاجيات الضرورية ويعد عدم الإمتثال لإجراء التسخير خطأ جسيما.
- تنظيم ممارسة حق الاستقالة:
بغرض المحافظة على حسن سير المرفق العام واستمرارية نشاطه أرسى القانون الأساسي للوظيفة العامة الأول الصادر بموجب الأمر 66-133 المؤرخ في جوان 1966 مبدأ عاما مفاده أن الانقطاع عن العمل لا يتم بمجرد تقديم الإستقالة كتابيا والتعبير عن الإرادة في التخلي عن القيام بأعباء الوظيفة، وانما بقبول وموافقة الجهة التي لها سلطة التعيين وهذا مانصت عليه المادة 63 من القانون المذكور بقولها: " لا يمكن أن يكون للاستقالة مفعولا الا بطلب خطي يقدمه المعني ويعبر فيه عن إرادته بلا غموض وقطع الصلة التي تربطه بالإدارة...ويرسل الموظف طلبه عن طريق السلم الإداري الى السلطة التي تمارس حق التعيين ويبقى مكلفا بالقيام بالالتزامات المرتبطة بوظيفته الى أن تتخذ السلطة المذكورة قراراها ". وعليه فان ترك منصب عمله وتخلى عن القيام بواجبات الوظيفة دون انتظار قبول الجهة التي لها سلطة التعيين يعرض مقدم طلب الإستقالة الى العزل ويحرمه التمتع ببعض حقوقه وهذا ما نصت عليه المادة 67 من ذات القانون.
غير أن المشرع ومنعا لأي تعسف قد يحدث من جانب الإدارة أجاز للموظف المعني في حالة رفض الطلب بعد انتهاء ثلاثة أشهر أن يرفع أمره إلى اللجنة المتساوية الأعضاء التي تصدر رأيا ثم تسلمه الى الجهة التي لها صلاحية التعيين.
وأحسن المشرع في نصوص لاحقة عندما اعتبر الاستقالة حقا وهذا ما نصت عليه المادة 93 من القانون الأساسي العام للعامل وأكدته المواد من 133 وما بعدها من القانون الأساسي النموذجي لعمال المؤسسات والإدارات العامة لسنة 1985. وتبدو الحكمة في الاعتراف بالاستقالة كحق، أن إلزام الموظف بالعمل لحساب المؤسسة المستخدمة رغم إرادته يشكل صورة من صور المساس بحرية العمل والتي بات معترف بها في سائر التشريعات الحديثة. ومن جميع ما تقدم نستنج أن حرص المشرع على أن يكون طلب الاستقالة مكتوبا ومسببا ثم إلزام الموظف بالعمل بعد تقديم الطلب لمدة محددة هي مدة الإشعار. وإلزامه بالعمل أيضا بعد فوات هذه المدة مع الاعتراف له بحق رفع طلب جديد للجنة المتساوية الأعضاء وغيرها من الإجراءات انما الهدف منها ضمان استمرارية أداء النشاط والخدمة من جانب المرفق.
ولقد أحسن المشرع عندما فرض الكتابة كأداة لإفصاح الموظف رغبته في التخلي عن الوظيفة لما في ذلك من فرصة أمام الموظف ليدرك من ذلك خطورة التصرف الذي يقدم عليه. فلو ترك المشرع للموظفين سبيلا مفتوحا للتخلي عن مهامهم بمجرد تقديم طلب الاستقالة لنجم عن ذلك المساس بمبدأ سير المرفق العام بانتظام واطراد.
ورجوعا للأمر 06-03 المذكور والمتضمن قانون الوظيفة العمومية الجديد نجده لم يورد الاستقالة تحت عنوان حقوق الموظف وانما ورد ذكرها في الباب العاشر تحت عنوان إنهاء الخدمة وان كانت المادة 217 من الأمر المذكور قد اعترفت بصريح العبارة أن الاستقالة حق للموظف يمارسه ضمن إطار القانون. وأكدت المادة 218 و 219 على وجوب تقديم طلب كتابي يعبر فيه الموظف عن رغبته في قطع العلاقة الوظيفية يرسل عن طريق السلم الإداري للسلطة المخولة بصلاحية التعيين ويلزم بالاستمرار في أداء عمله الى غاية صدور القرار. ومتى قبلت الإستقالة فلا مجال للتراجع فيها.
وألزمت المادة 220 من ذات القانون السلطة المكلفة بالتعيين باتخاذ قرارها خلال شهرين ابتداءا من تاريخ إيداع الطلب. ويجوز لها في حالة الضرورة القصوى للمصلحة أن تؤجل الموافقة لمدة شهرين بعد انتهاء الأجل الأول (أي الشهرين الأولين) وبانقضاءها تصبح الاستقالة نافذة وفعلية.
- عدم جواز الحجز على أموال المرفق:
يحتاج كل مرفق للقيام بنشاطه إلى أموال كالعقارات والمنقولات. ولو خضع المرفق في مجال الحجز للقواعد العامة لأدى ذلك إلى مباشرة إجراءات الحجز على ممتلكاته وهو ما يترتب عليه الحاق بالغ الضرر بالمنتفعين من خدمات المرفق.
لذا وإعمالا لمبدأ حسن سير المرفق العام بانتظام واطراد وجب أن تخضع أموال المرفق إلى نظام قانوني متميز يهدف إلى المحافظة عليها تحقيقا للمقصد العام وهو تمكين المرفق من أداء خدمة للجمهور. وإذا كان المرفق يسير عن طريق الإدارة مباشرة فليس هناك أي إشكال يطرح لأن نص المادة 689 من القانون المدني واضحة صريحة فلم تجز التصرف في أموال الدولة أو الحجز عليها أو تملكها بالتقادم، فهي إذن محصنة من الناحية المدنية.
ولكن الإشكال طرح وبعمق في الفقه بخصوص الحماية المدنية للمال في حالة إدارة المرفق بأسلوب الامتياز. ورغم أن الأفراد طالبوا في هذه الحالة بحقهم في الحجز على ممتلكات المرفق بغرض الحصول على ديونهم الا أن القضاء العادي المقارن رفض تمكينهم من هذا الحق محافظة على مبدأ سير المرفق بانتظام واطراد. وهو مسلك نؤيده ويدل على تطور المبادئ الإدارية.
ولقد خرج المشرع الجزائري عن المبدأ العام الذي يكفل حماية مدنية للمال توجب عدم الحجز عليه، وذلك في القانون التوجيهي للمؤسسات الاقتصادية الصادر تحت رقم 88- 01 المؤرخ في 12 جانفي 1988. وأورد قيدا مفاده قابلية المال العام للتصرف وللحجز عليه في حدود معينة، حيث جاء في المادة 20 منه: تكون الممتلكات التابعة لذمة المؤسسة العمومية الاقتصادية قابلة للتنازل والتصرف فيها وحجزها حسب القواعد المعمول بها في التجارة ماعدا الجزء من الأصول الصافية التي تساوي مقابل قيمته رأس المال التأسيسي".
ب-الضمانات القضائية (من صنع القضاء):
لقد ساهم القضاء الإداري في فرنسا مساهمة كبيرة في اظهار النظريات التي تخدم مبدأ حسن سير المرفق بانتظام واطراد ويتجلى ذلك خاصة من خلال نظرية الظروف الطارئة ونظرية الموظف الفعلي.
1- نظرية الظروف الطارئة:
الأصل في مجال التعاقد أن العقد شريعة المتعاقدين. ولا يعفى المتعاقد من التزاماته الا في حالة القوة القاهرة. وهي الحادث غير المتوقع الذي لا يمكن دفعه، وهذه القاعدة لا يمكن العمل بها على اطلاقها في مجال العقود الإدارية لذا أنشأ القاضي الفرنسي نظرية سميت بنظرية الظروف الطارئة دعت اليها ظروف موضوعية نسوقها نظرا لأهميتها.
عقب الحرب العالمية الأولى ارتفعت أسعار الفحم ارتفاعا كبيرا الى درجة أن شركة الإضاءة في بوردو وجدت أن الرسوم التي تتقاضاها لا تغطي نفقات الإدارة ولهذا طلبت من السلطة رفع السعر ولكن السلطة رفضت وتمسكت بتنفيذ عقد الإلتزام. وبلغ الأمر مجلس الدولة فاذا به يقرر مبدأ جديدا استمده من دوام سير المرفق العام بانتظام واطراد مفاده أنه إذا وجدت ظروف لم تكن في الحسبان وقت التعاقد وكان من شأنها زيادة الأعباء المالية الملقاة على عاتق الملتزم إلى حد الإخلال بتوازن العقد إخلالا جسيما فللملتزم الحق في أن يطلب من الإدارة ولو مؤقتا المساهمة في الخسائر.
2- نظرية الموظف الواقعي:
ضمانا لمبدأ استمرارية الخدمة العامة صاغ القضاء الفرنسي نظرية الموظف الفعلي وهذا لتحقيق ذات المقصد بالنسبة لنظرية الظروف الطارئة. والموظف الفعلي شخص يمارس اختصاصا إداريا معينا رغم وجود عيب جسيم في قرار تعيين شغله لهذه الوظيفة أو لعدم صدور قرار التعيين.
وتقتضي مبادئ القانون إلغاء جميع تصرفاته لأنها صادرة عن غير ذي مختص. غير أن القضاء وسعيا منه عدم ارتباك أداء الخدمات العامة بانتظام واطراد أضفى مشروعية على هذه الأعمال رغم العيب المذكور وميز بشأن تأصيل هذا القرار بين حالتين حالة الظروف العادية وحالة الظروف الإستشنائية.
أ- في الظروف العادية: نجح القضاء الفرنسي في تأسيس قراراته بالاعتراف ببعض الأعمال الصادرة عن ما اصطلح على تسميتهم بالموظفين الواقعيين ولقد برر ما ذهب إليه بفكرة العمل الظاهر. فإذا صدر قرار بترقية شخص معين ونجم عن الترقية تغييرا في المهام وتبين فيما بعد أن أحد أسس الترقيه غير متوفرة فإن أعماله تظل صحيحة منتجة لآثارها القانونية. وذات الآثار تنطبق في حالة تفويض الرئيس الإداري لمرؤوسيه إذا تبين وجود خطأ في التفويض.
ب- الظروف الاستثنائية: تقتضي نظرية الظروف الاستثنائية أنه إذا بادر شخص أو مجموعة أشخاص في حالات استثنائية كالحروب و الكوارث بالقيام بأعمال تنتج آثارها القانونية رغم أنها صادرة عن شخص أو أشخاص لا يكتسبون صفة الموظف القانوني. فاذا حلت بالبلدية ظروف استثنائية كالحرب مثلا وتخلى عن أداء الوظيفة أعضاء من المجلس البلدي وحل محلهم مواطنون فقاموا بعمل تحت عنوان السلطة، فإن عملهم ينتج آثاره القانونية. وهو ما أكده القضاء الفرنسي والتأسيس القانوني لإضفاء الطابع الرسمي على هذه الأعمال هو فكرة الموظف الواقعي وتبقى أن النظرية اجتهادا قضائيا فرنسيا قد لا يلقى التأييد في دول أخرى.
3- مبدأ قابلية المرفق العام للتغيير:
سبق القول أن المرافق العامة تخضع لقوانين وتنظيمات وهذه القوانين والتنظيمات منها ما يحكم المرفق العام من حيث تنظيمه وهيكلته. ولا يقتصر التغيير على القواعد المنظمة للمرفق، بل يمتد أيضا لأسلوب إدارته فيجوز تغير أسلوب الإدارة من الإدارة المباشرة الى المؤسسة العامة. او من المؤسسة العامة إلى الشركة المختلطة. وللمرفق أيضا أن يفرض رسوما لقاء الخدمات التي يقدمها أو أن يخفض من هذه الرسوم اذا رأى في ذلك مصلحة. ولا يجوز لأي كان الإحتجاج على هذا التغيير. ولقد أكد القضاء الإداري في مصر هذا المبدأ بقوله: " من المسلم قانونا أن للجهة الإدارية سلطة وضع الأنظمة التي تتولاها سيرا منتظما ومنتجا وكذلك لها تعديل هذه الأنظمة بما تراه متفقا مع الصالح العام دون أن يكون لأحد من الناس الإدعاء بقيام حق مكتسب في استمرار نظام معين."
وبناءا على هذا المبدأ إذا غيرت الإدارة في نظام المرفق من أسلوب الى آخر فليس للموظفين التمسك بالنظام القديم الذي كان يحكمهم. كما أنه ليس من حق المنتفعين التمسك بمجانية الخدمة خاصة اذا غيرت الإدارة الأسلوب من طريقة الإستغلال المباشرة الى أسلوب المؤسسة.
وترتيبا على ذات المبدأ ليس من حق المتعاقد مع الإدارة في عقد الإلتزام أن يحول دون ممارسة حقها في تغيير بعض بنود العقد بما يتماشى ومصلحة المنتفعين مع الإحتفاظ بحقه في التوازن المالي على نحو سبق شرحه. وهذا الحق الذي تتمتع به لها أن تمارسه وان خلا العقد من الإشارة لذلك.
المطلب السادس: طرق إدارة المرافق العامة.
سبق القول أن المرافق العامة أنواع، ولهذا كان من الطبيعي أن تتباين طرق إدارتها فما صلح لمرفق لا يصلح بالضرورة لآخر. كما أن المرافق تختلف من حيث صلة نشاطها بالجانب السيادي للدولة فطبيعة مرفق الأمن وكذلك الدفاع والقضاء والضرائب تفرض أن تسير من قبل الدولة مباشرة فلا نتصور أن تعهد به إلى أشخاص القانون الخاص لإدارته لما في ذلك من خطورة كبيرة قد تهز كيان الدولة. وهذا خلافا لمرافق أخرى فلا مضرة من أن تعهد إدارتها للأفراد أو الشركات مثلما هو الحال بالنسبة لاستغلال آبار البترول أو استغلال الكهرباء والغاز أو استغلال الموانئ وغيرها، شريطة أن يتم ذلك بالكيفية والحدود التي يبينها القانون.
وتأسيسا على ما تقدم فان المرافق تختلف من حيث وضع يد الدولة عليها، فأحيانا نجد الدولة هي من تحتكر النشاط وهي من تنفق الأموال وتعين الموظفين وتراقب سير المرافق ونشاطه وغيرها. وهو ما اصطلح عليه بطريقة الاستغلال المباشر، وأحيانا أخرى نجد الدولة تكلف وفي إطار القانون أحد أشخاص القانون الخاص للقيام بأداة المرفق على نفقته وأن يتكفل بتوفير اليد العاملة وكل ما يلزم لقيام المرفق بالخدمة للجمهور على أن يتقاضى رسوما من هؤلاء. وهذا ما أطلق عليه بطريقة الامتياز. وبين الطريقة الأولى والثانية هناك طرق أخرى.
وتجدر الإشارة أن اختلاف طرق إدارة وتسيير المرفق العام يدل على اتساع مجال الخدمة العامة. فلو كان نشاط الدولة مقتصرا على جانب الأمن والقضاء والدفاع فقط كما كان من قبل، لتولت الدولة بنفسها إدارة هذه المرافق بصفة مباشرة وتركت بقية المجالات للأفراد، ولترتب على ذلك وجود طريقة واحدة لإدارة المرافق العامة هي طريقة الإستغلال المباشر.
غير أن تنوع وظيفة الدولة وتدخلها في الميدان الإقتصادي والإجتماعي والثقافي وسع من نطاق الخدمة وفرض التفكير في طرق جديدة لإدارة المرافق العامة. ولعب الجانب المالي أيضا دورا في هذا المجال، فعادة ما تفرض الحالة المالية للدولة التفكير في نقل بعض النشاطات للأفراد لإدارتها بأموالهم وتكتفي الدولة بمراقبة هذا النشاط.
وانطلاقا مما قلناه يمكن تقسيم طرق ادارة المرافق العامة الى قسمين. فاما أن يدار المرفق بواسطة جهاز حكومي أو أن يدار بواسطة شخص من أشخاص القانون الخاص، وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولا: إدارة المرفق العام بواسطة جهاز حكومي.
وهذه الطريقة بدورها يمكن تقسيمها الى قسمين ادارة المرفق بطريقة الإستغلال المباشر وادارة المرفق عن طريق مؤسسة عامة.
1- الإستغلال المباشر (Regie):
ويقصد به أن تقوم الدولة أو هيئاتها بادارة المرفق بنفسها مستعملة في ذلك أموالها وموظفيها ومستخدمة وسائل القانون العام. وهذه الطريقة هي أقدم طرق ادارة المرافق اطلاقا. وقد لازمت الدولة منذ ظهورها. وتدار بها الآن جميع المرافق الإدارية. لأن نشاطها لا يستهوي الأفراد وعادة ما يعزفون ويمتنعون عن القيام به لأنه لا يدر عليهم ربحا خلافا لنشاط المرافق الإقتصادية.
ولا تقتصر طريقة الإستغلال المباشر على المرافق الإدارية، بل تمتد أحيانا للمرافق التجارية والصناعية فالنقل بالسكك الحديدية يعد نشاطا تجاريا ورغم ذلك قد تقوم به الدولة بمفردها خاصة وقد ثبت عجز الأفراد على القيام بهذا النوع من المشروعات حتى في الدول الليبيرالية ويترتب على طريقة الإستغلال المباشر خضوع المرفق للرقابة المباشرة للدولة أو أحد هيئاتهاو يخضع لقواعد المحاسبة العمومية ويستفيد من ميزانية سنويا، كما يخضع للقانون العام خاصة اذا كان المرفق إداريا.
- الإستغلال المباشر في القانون الجزائري:
أجاز المشرع للبلدية بموجب المادة 134 من قانون البلدية استغلال مصالح عمومية بصفة مباشرة على أن تقيد الإيرادات والنفقات المتعلقة بهذا الإستغلال ضمن ميزانية البلدية. طبقا لقواعد المحاسبة العمومية، ونفس الرخصة نجدها في قانون الولاية وهو ما أعلنت عنه المادة 122 وما بعدها اذ مكنت الولاية أن تستغل أحد المصالح العمومية استغلالا مباشرا تسجل ايراداته و نفقاته في ميزانية الولاية.
وتجدر الإشارة أن الإستغلال المباشر لا يتمتع بوجود قانوني متميز ومستقل. ولا يكتسب الشخصية المعنوية. وليس بامكانه التعاقد. ولا يملك حق التقاضي. فهو عبارة على تنظيم داخلي لا غير، يخضع في نظامه القانوني لما يخضع له الشخص العام الدولة الولاية البلدية....).
- أسلوب المؤسسة العامة (Etablissement Public):
يعتبرأسلوب المؤسسة العامة وسيلة من وسائل ادارة المرفق العام وأكثرها شيوعا وانتشارا وتتميز عن الأسلوب الأول أن المؤسسة العمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي،وتعتبر قراراتها قرارات ادارية وعمالها موظفون عموميون لا أجراء وأموالها أموال عامة. وقد أطلق الفقه عليها باللامركزية المرفقية كمقابل للامركزية الإقليمية. ويترتب على استقلالية المؤسسة عن الدولة ما يلي:
- أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن الدولة.
- أن يكون لها حق قبول الهبات و الوصايا.
- أن يكون لها حق التعاقد دون الحصول على رخصة.
- أن يكون لها حق التقاضي.
- أن تتحمل نتائج أعمالها وتسأل عن الأفعال الضارة التي تلحق بالغير.
وقد ضبط هذا الإستغلال بقيدين هما قيد التخصص وقيد خضوع المؤسسة لنظام الوصاية الإدارية.
- قيد التخصص: ويقصد به أن كل مؤسسة عمومية يناط بها القيام بأعمال محددة في نص انشائها هي ملزمة بأن لا تحيد عنها وتمارس نشاطا آخر غير النشاط المذكور تشريعا أو تنظيما، فالجامعة مؤسسة عامة عهدت اليها السلطة العامة مهمة التكوين في مجال التعليم العالي وليس لها أن تخرج عن هذا الإطار وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسة التكوين المهني أو المؤسسات الصحية.
- خضوع المؤسسة لنظام الوصاية:
إذا كانت المؤسسة العامة تشكل صورة من اللامركزية في جانبها المرفقي فان ذلك لا يعني قطع كل علاقة بينها و بين سلطة الوصاية. بل تظل المؤسسة خاضعة لنظام الوصاية. فمن حق الإدارة العامة المركزية أن تراقب نشاطها بهدف التأكد من عدم خروجها عن المجال المحدد لها. وهذا أمر تفرضه مقتضيات المصلحة العامة اذ القول بخلاف ذلك يعني ببساطة اطلاق يد المرفق في القيام بكل الأعمال وهو مايؤدي في النهاية الى إساءة استعمال هذه الحرية. ونظرية لأهمية أسلوب المؤسسة العامة فقد لقيت إهتمام رجال الفقه في كل الدول. فهذا المؤتمر العربي الثاني للعلوم الإدارية الذي عقد في الرباط في الفترة بين 31 جانفي الى 4 فبراير 1960 اعترف بالفوائد المترتبة على انشاء المؤسسات العامة والتخفيف من الأعباء عن الإدارة المركزية خاصة وأن نشاط الدولة في ازدياد وتطور واتفق المؤتمرون أن استقلال المؤسسة هو الأصل والوصاية هي الإستثناء كما اتفقوا على ضرورة مراعاة طبيعة نشاط المؤسسة عند صياغة نشاطها القانوني.
- أنواع المؤسسات العامة:
إن تنوع نشاط الدولة يفرض وجود أنواع كثيرة للمؤسسات تحدثها الدولة بغرض مساعدتها في القيام بواجب توفير الخدمات للجمهور. ولا تتخذ المؤسسات العمومية شكلا واحد بل يختلف شكلها عما اذا كانت مؤسسة ادارية أو مؤسسة صناعية وتجارية.
والدارس للتشريع الجزائري خاصة ابتدءا من 1988 يلاحظ مدى التطور الكبير الذي عرفه أسلوب المؤسسات والتصنيفات التي طرأت عليها والتي يمكن ارجاعها الى أربعة أصناف أساسية هي كما يلي:
- المؤسسة العامة الإدارية (ذات الطابع الإداري).
- المؤسسة العامة ذات الطابع الصناعي والتجاري.
- المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي والتكنولوجي.
- المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي الثقافي والمهني.
وهو التقسيم المكرس في المادة 2 من المرسوم الرئاسي 02-250 المتعلق بتنظيم الصفقات العمومية. ومكرس أيضا بموجب المادة 2 من الأمر 06-03 المذكور المتعلق بالقانون الأساسي للوظيفة العمومية.
1- المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري:
وهي التي تمارس نشاطا اداريا. وتسمى بالمؤسسة العامة التقليدية. وتخضع هذه المؤسسة لقيد التخصص ولنظام المحاسبة العمومية وتخضع للقانون العام. كما تعرض منازعاتها على القضاء الإداري ويعتبر عمالها موظفون عموميون وقراراتها قرارات ادارية وتخضع في عقودها لقانون الصفقات العمومية وتعتبر أموالها أموالا عامة تتمتع بالحماية القانونية التي فرضها التشريع. وقد استعملت منذ الإستقلال وبشكل واسع جدا من اجل ضمان الخدمات العامة للجمهور. والأصل في عمل هذه المؤسسات هو مبدأ المجانية ما لم تقرر النصوص الخاصة خلاف ذلك. ومن أمثلة هذا النوع من المؤسسات:
- الوكالة الوطنية لحماية البيئة المنشأة بموجب المرسوم رقم 83-457 المؤرخ 23 جويلية 83.
- المدرسة الوطنية للإدارة المنظمة بموجب المرسوم التنفيذي رقم 06- 416 المؤرخ في 222 نوفمبر 2006.
وقد تتخذ هذه المؤسسات طابع المؤسسة العمومية الوطنية أو المحلية.
2- المؤسسات العمومية ذات الطابع الصناعي و التجاري:
ما يميز هذا النوع من المؤسسات العمومية انها حديثة النشأة نسبيا. وقد عرفت في الجزائر خاصة أيام المرحلة الإشتراكية انتشارا واسعا بحكم تدخل الدولة في الميدان الصناعي والتجاري. ولقد عرف المشرع الجزائري في المادة 44 من القانون 88- 01 هذه المؤسسة بأنها " المؤسسة العمومية التي تتمكن من تمويل أعبائها الإستغلالية جزئيا أو كليا عن طريق عائد بيع انتاج تجاري يحقق طبقا لتعريفه معدة مسبقا ولدفتر الشروط العامة الذي يحدد الأعباء والتقييدات وكذا عند الإقتضاء حقوق وواجبات المستعملين".
ولا يمكن اعتبار العاملين في هذه المؤسسات موظفين عموميين ينطبق عليهم تشريع الوظيفة العامة. كما لا يمكن اعتبار قراراتها بالقرارات الإدارية وتلزم بمسك محاسبة على الشكل التجاري.
وتطبيقا لذلك ذهب مجلس الدولة الجزائري في قرار له صدر بتاريخ 22-01 -2001 الغرفة الثالثة قضية ب.أ ضد الوكالة العقارية ما بين البلديات (غير منشور) الى الإعتراف بعدم اختصاصه للفصل في منازعات هذه المؤسسات.
وتتميز هذه المؤسسات أيضا أن علاقتها بالدولة خاضعة للقانون العام أما علاقتها هي بالأفراد والمتعاملين تخضع للقانون الخاص. ومن أمثلة ذلك الشركة الوطنية للكهرباء والغاز ومؤسسة الجزائرية للمياه المنشأة بموجب المرسوم التنفيذي 91-147 المؤرخ في 12 ماي1991) ومؤسسة التلفزيون.
3- المؤسسة العموميةو ذات الطابع العلمي و التكنولوجي:
لقد نجم عن التطور الإقتصادي والإجتماعي بل وحتى السياسي تغير أنماط التسيير والنظرة لتصنيف المؤسسات العمومية. فبعد المصادقة على القانون التوجيهي والبرنامج الخماسي حول البحث العلمي والتكنولوجي 1998 – 2002 صدر مباشرة المرسوم التنفيذي 99- 256 المؤرخ في 16 نوفمبر 1999. مبينا كيفيات انشاء المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي والتكنولوجي وتنظيمها وسيرها.
وبينت المادة 17 من القانون 98 – 11 المتضمن القانون التوجيهي والبرنامج الخماسي حول البحث العلمي والتطور التكنولوجي أعلاه بأن هذه المؤسسة تتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي وأن الغرض من انشائها تحقيق نشاطات البحث العلمي والتكنولوجي من خلال تنفيذ برامج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي. اما عن أداة الإنشاء فنصت المادة 2 – و 4 من المرسوم التنفيذي 99- 256 المذكولا أنها تتم بمرسوم تنفيذي وتحل بذات الشكل.
ولقد نص القانون 98 -11 على خضوع هذا النوع من المؤسسات لنظام الرقابة المالية البعدية كخطوة تميز هذه المؤسسة عن غيرها خاصة ذات الطابع الإداري وهذا بهدف بعث نوع من المرونة على نشاطها العلمي وأدائها.
4- المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي و الثقافي و المهني:
وهي مؤسسة حديثة العهد في الجزائر من حيث التصنيف وقد ورد تعريفها في المادة 32- من القانون 99- 05 المؤرخ في 4 أفريل 1999 المتضمن القانون التوجيهي للتعليم العالي بالصيغة التالية:
" المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي والثقافي والمهني هي مؤسسة وطنية للتعليم تتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي". وبينت المادة 38 من القانون المذكور اشكالها: الجامعة، المركز الجامعي، المدارس والمعاهد.
ومن المفيد الإشارة أن الفقه والقضاء وجدا صعوبة كبيرة في تحديد الطبيعة القانونية للمرفق العام خاصة عندما يكتفي المشرع باحداث المرفق دون ذكر لطبيعته. وللخروج من هذه الإشكالية تبنى القضاء الإداري فكرة النشاط الغالب. فاذا كانت المؤسسة تغلب عليها مظاهر القانون العام فهي تعتبر ذات صيغة ادارية اما اذا كانت تغلب عليها مظاهر القانون الخاص فان المؤسسة تعتبر ذات صيغة تجارية أو صناعية.
ولم يقتنع الفقه في بعض الحالات بالوصف الذي قد يضفيه المشرع على مرفق ما يخالف حقيقته وطبيعته كأن يعتبر المشرع مؤسسة ما بأنها ذات صبغة تجارية أو صناعية في حين أن نشاطها في واقع الأمر اداري.
أسلوب الإمتياز أو عقد الإلتزام:
- تعريف الإمتياز:
يقصد بالإمتياز ان تعهد الإدارة ممثلة في الدولة أو الولاية أو البلدية الى أحد الأفراد أو أشخاص القانون الخاص بادارة مرفق اقتصادي واستغلاله لمدة محدودة وذلك عن طريق عمال وأموال يقدمها الملتزم وعلى مسؤليته وفي مقابل ذلك يتقاضى رسوما يدفعها كل من انتفع بخدمات المرفق.
ومثال ذلك أن تعهد الدولة لأحد الأفراد استغلال خدمات توزيع المياه أو الكهرباء أو الغاز أو استغلال البترول أو المرجان أو استغلال ميناء أو منطقة حرة.
ولقد اعتبر القضاء الإداري عقد الإمتياز بأنه عقد اداري من نوع خاص موضوعه ادارة مرفق عام يتعهد بمقتضاه الملتزم وعلى نفقته وتحت مسؤوليته وبتكليف من الدولة أو أحد هيئاتها بالقيام بنشاط معين وخدمة محددة والحصول على مقابل من المنتفعين.
ولقد عرف القانون 83- 17 المؤرخ في 16 جوان 1983 والمتضمن قانون المياه المعدل بموجب الأمر 96- 13 المؤرخ في 15 جوان 1996 وتحديدا المادة 4 منه عقد الإمتياز بأنه عقد من عقود القانون العام تكلف الإدارة بموجبه شخصا اعتباريا عاما أو خاصا قصد ضمان أداء ذات منفعة عمومية.
ومن التعريف أعلاه يتجلى لنا الفرق بين أسلوب الإمتياز وغيره كالإستغلال مباشر وأسلوب المؤسسة على الوجه الآتي تفصيله.
أ- من حيث أداء الدولة للنشاط: في أسلوب الإمتياز لا تتولى الدولة بنفسها ادارة المرفق بل تعهد به لأحد أشخاص القانون الخاص. خلافا لأسلوب الإستغلال المباشر حيث تتولى هي مباشرة القيام بالنشاط بأموالها وموظفيها وقد تعهد بذلك لمؤسسة عامة مع تمتعها الشخصية المعنوية كما رأينا.
ب- من حيث التمويل: يتكفل الملتزم بالتغطية المالية للمشروع وما يحتاجه من عقارات ومنقولات على اختلاف أنواعها بحسب ما يقتضيه نشاط المرفق بينما تتكفل الدولة ماليا في حالة الإستغلال المباشر.
ج- من حيث اضفاء صفة الموظف: لا يتمتع الأجراء العاملون لحساب الملتزم بصفة الموظفين العموميين بل عمالا يحكمهم تشريع العمل لا تشريع الوظيفة العامة خلافا للعاملين في مشروع الإستغلال المباشر.
- الطبيعة القانونية للإلتزام:
ذهب بعض الفقهاء الى القول ان الإلتزام عمل انفرادي من جانب السلطة بمقتضاه ترخص للملتزم القيام بنشاط معين بعد قبوله للشروط التي تحددها الإدارة.
ولقد عاب البعض على هذا الرأي كونه يؤدي تقريبا الى تجاهل ارادة الملتزم ومركزه القانوني لأنه سلط الضوء أكثر على الإدارة ومكنها من حق وضع الشروط أو تعديلها أو انهاء الرابطة التعاقدية وغيرها.
وذهب أتجاه آخر في الفقه الى اعتبار عقد الإمتياز من العقود المدنية ويخضع لأحكامها، ويترتب على هذا القول تجريد الإدارة من بعض السلطات التي قد تستعملها تجاه الملتزم من ذلك مثلا سلطة التعديل وهذا نتيجة اعمال المبدأ العام في العقود المدنية العقد شريعة المتعاقدين.
وخلافا لذلك ذهب العميد ديجي الى القول أن عقد الإمتياز عمل مركب فهو من جهة يتضمن أحكاما تعاقدية لا تعني سوى أطراف العقد دون سواهم كالأحكام المتعلقة بحقوق أطراف العقد والتزاماتهم. ومن جهة أخرى يتضمن العقد أحكاما تخص المنتفعين كأحكام المالية المتعلقة بالرسوم التي يتقاضاها الملتزم من الجمهور مباشرة، وهو الرأي الراجح على حد قول كثير من رجال الفقه.
ولم يحد الفقه الإداري في بعض الدول عن هذا الرأي فهذا القضاء الإداري المصري قد تبناه بصريح العبارة بقوله " ان الدولة وهي المكلفة أصلا بادارة المرافق العامة فانها اذا ما عهدت الى غيرها أمر القيام بها لم يخرج الملتزم في ادارته الى أن يكون معاونا لها، ونائبا عنها في أمر هو من أخص خصائصها، وهذا النوع من الإنابة أو بعبارة أخرى هذه الطريقة غير المباشرة لإدارة المرفق العام لا تعتبر تنازلا أو تخليا من الدولة عن المرفق العام، بل تظل ضامنة ومسؤولة قبل أفراد الشعب عن اداراته واستغلاله في هذا السبيل والقيام بهذا الواجب تتدخل في شؤون المرفق العام كلما اقتضت المصلحة العامة ذات التدخل.......ولذلك فان عقد الإلتزام ينشء في أهم شقية مركزا لائحيا يتضمن تخويل الملتزم حقوقا مستمدة من السلطة العامة يقتضيها قيام المرفق واستغلاله.... أما المركز التعاقدي فيعتبر تابعا وليس من شأنه أن يحول دون صدور نصوص لائحية جديدة تمس الإلتزام...
- أركان الإلتزام (الإمتياز):
يتمتع عقد الإلتزام بأركان خاصة تميزه عن غيره من العقود الأخرى هي كما يلي:
1- الأطراف: يتمثل أطراف عقد الإلتزام في ادارة مرفق عام عادة ما يكون اقتصاديا فلا يتصور أن تعهد الإدارة كما قلنا لأحد الأفراد أو الشركات من جهة أخرى.
2- المحل: ينصب عقد الإلتزام على ادارة مرفق عام عادة مايكون اقتصاديا فلا يتصور أن تعهد الإدارة كما قلنا لأحد الأفراد أو الشركات بادارة مرفق اداري لما في ذلك من خطوة تمتد آثارها لفئة المنتفعين.
3- الشكل: ان نقل ادارة المرفق لأحد الأفراد أو الشركات يتم بموجب وثيقة رسمية تتضمن جميع الأحكام المتعلقة بالمرفق والتي وضعتها الإدارة بارادتها المنفردة و يجب على الملتزم التقيد بها اذا رضي التعاقد مع الدولة أو الولاية أو البلدية.
وعليه فلا الزام الا بموجب دفتر للشروط تحدد فيه الإدارة سلفا سائر الأحكام المتعلقة بارادة المرفق بما في ذلك الأحكام التي تمتد أثارها لفئة المنتفعين.
- آثار الإلتزام:
يرتب عقد الإلتزام كسائر العقود الأخرى حقوقا والتزامات بالنسبة لأطرافه. ولعله من المفيد التذكير بأن هذه الآثار تمتد لفئة المنتفعين كما رأينا غير أننا سنقتصر على دراسة آثار العقد بالنسبة لأطرافه.
* آثار العقد بالنسبة للملتزم:
- من حيث الإلتزامات: يلزم المتعاقد مع الإدارة بما يلي:
1. التنفيذ الشخصي للإلتزام: يلزم المتعاقد مع الإدارة بأن يعمل شخصيا على تنفيذ ما تعهد به. وفي حالة اخلاله بالتزاماته تقع عليه المسؤولية كاملة. وهذا القيد يمنع الملتزم من أن يعهد للغير القيام ببعض المهام المتعلقة بموضوع العقد.
2. ضمان استمرارية سير المرفق: يلتزم المتعاقد مع الإدارة بأن يقدم الخدمة للمنتفعين على سبيل الإستمرارية والتواصل وأن يوفر من الإمكانات المادية والبشرية لضمان توافر هذا المبدأ.
- من حيث الحقوق:
1. الحصول على مساعدات من جانب الإدارة: لما كان نشاط الملتزم على علاقة مباشرة بجمهور المنتفعين تعين على جهة الإدارة أن تقدم بعض الوسائل لتمكينه من أداء هذا النشاط من ذلك مثلا بعض المساعدات المادية. فاذا كان نشاط المرفق يعتمد على الخشب و الإسمنت وفقدت هذه المادة في السوق فعلى الإدارة تقديم يد المساعدة للملتزم بمالها من سلطة بهدف مساعدته على توفير الخدمة للجمهور.
وتحقيقا لنفس الغرض وهو توفير الخدمة للجمهور اعترف القضاء الإداري للملتزم بالإستفادة من بعض قواعد القانون العام كقاعدة عدم جواز الحجز على أموال الملتزم ذات العلاقة بالنشاط موضوع التعاقد. وأكثر من ذلك اعترف له بالإستفادة بنزع الملكية للمنفعة العامة على يد الإدارة .
2. الحصول على المقابل المالي: لما كان الملتزم تكفل بالتغطية المالية للمشروع فان من حقه الحصول على عائدات مالية مباشرة من المنتفع لقاء ما قدمه من خدمة. فالملتزم تعاقد مع جهة الإدارة بغرض الحصول على ربح يتقاضاه من المنتفعين.
* آثار العقد بالنسبة للإدارة:
استعرضنا فيما سبق جزءا من آثار العقد بالنسبة لجهة الإدارة (الوجه المتعلق بالإلتزامات) وبقي أن نبين حقوقها أو ما يفضل البعض تسميته بسلطات الإدارة وتتمثل في:
1. حق الرقابة والإشراف: ان ادارة المرفق عن طريق أشخاص القانون الخاص (فرد أو شركة) لا يحجب حق الرقابة والإشراف على الإدارة فلها أن تمارسها بالكيفية والشكل الذي حدده القانون. وهذا بهدف رعاية مصلحة العامة وللتأكد من أن أداء الخدمة للجمهور تم كما هو متفق عليه. وغنى عن البيان أن سلطة الرقابة هذه لا وجود لها في العقود المدنية وهذا ما يؤكد الطبيعة الخاصة لعقد الإلتزام.
2. حق التعديل: لما كان عقد الإلتزام عقدا اداريا جاز للإدارة أن تمارس بمقتضاه حق تعديل بعض أحكام العقد اذا كانت موجبات المصلحة العامة تفرض ذلك. وهذا أمر طبيعي طالما تمتعت الإدارة أصلا بوضع أحكام العقد أو شروط التعاقد بادارتها المنفردة. وهذه ميزة لا نراها في العقود المدنية التي تفرض أن يحتل طرفا العقد مركزا واحد ولا وجود للتعديل المنفرد. ومثال حق التعديل أن تعهد الإدارة للملتزم القيام بتوفير خدمات في مجال النقل وبموجب خطوط تم الإتفاق عليها غير انه وبعد مدة نتج عنها تطور العمران وزيادة السكان يجوز للإدارة اضافة خطوط جديدة يلزم المتعاقد معها بتوفيرها وأن تغير في مواقيت النقل. ولا يجوز للمتعاقد أن يحتج على الإدارة بسبب ممارستها لهذا الحق.
ولقد أكد القضاء الإداري في مصر هذه السلطة أو الحق في كثير من أحكامه من ذلك حكمه الصادر في 15 ديسمبر 1957 والذي جاء فيه; " ومن حيث أنه استقرت الأحكام بأن المتعاقد مع السلطة الإدارية في ادارة مرفق عام يجب أن يضع نصب عينيه وجوب ضمان سير المرفق العام بانتظام واطراد مع وجوب تفضيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ولو اقتضى الدخول الى ذلك تعديل نصوص العقد الإداري... وحق الإدارة في تعديل شروط العقد أو انهائه يرتكز على سلطتها بالنسبة للعقود الإدارية ".
3. حق استرداد المرفق قبل نهاية المدة: قد تفرض مقتضيات المصلحة العامة على جهة الإدارة استرداد المرفق قبل انتهاء المدة المتفق عليها في العقد شريطة أن تعوض الملتزم كل الإضرار التي لحقت به، وليس للملتزم أن يتمسك بفكرة الحق المكتسب أو القوة الملزمة للعقد وهذا ما أكده الفقه والقضاء.
4. حق أو سلطة توقيع الجزاء: إذا أخل الملتزم بأحد الشروط المتعاقد عليها جاز للإدارة وبارادتها المنفردة أن توقع عليه بعض الجزاءات منها الجزاء المالي المتمثل في الغرامات التأخيرية أو فسخ العقد.
- نهاية الالتزام:
ينتهي الالتزام بعدة طرق يمكن تصنيفها الى طرق عادية أو طبيعية وطرق غير طبيعية.
فالطريقة الطبيعية لنهاية الإمتياز تتمثل في انتهاء المدة المنصوص عليها في العقد، اما الطرق غير العادية فتتمثل صورها مثلا في صدور حكم قضائي موضوعه حرمان الملتزم من الإمتياز بسبب ارتكابه لخطأ جسيم، أو انهاء الإمتياز من جانب الإدارة لأسباب فرضتها مقتضيات المصلحة العامة.
- أسلوب الإمتياز في التشريع الجزائري:
قد يمنح الإمتياز في التشريع الجزائري من جانب السلطة المركزية باعتبارها ممثلة للدولة أو من جانب الإدارة المحلية (الولاية البلدية).
أ- امتياز من جانب السلطة المركزية:
رجوعا للمرسوم التنفيذي 02-40 المؤرخ في 14 جانفي 2002 المتضمن المصادقة على اتفاقية امتياز استغلال الخدمات النقل الجوي الممنوعة لشركة الطيران الخليفة للطيران نجد المادة الأولى من هذا المرسوم قد ورد فيها صراحة عبارة تمنح الدولة بموجب هذه الإتفاقية شركة الخليفة للطيران التي تقبل امتياز استغلال خدمات جوية للنقل العمومي. وذكرت المادة 2 أن مدة الإمتياز حددت ب 10 سنوات من المصادقة على الإتفاقية و يمكن تجديدها. أما المادة 4 فحملت صاحب الإمتياز مسؤولية ادارة الإستغلال وهذا طبقا للمرسوم التنفيذي 2000 -43 المؤرخ في 26 فبراير 2000. وحملت المادة 8 صاحب الإمتياز أيضا مسؤولية تجاوز الأسعار المصادق عليها من قبل السلطة المكلفة بالطيران المدني. وأعطت المادة 16 من دفتر الشروط الخاص للدولة الحق المطلق بالشراء مقابل تعويض عادل و منصف و في حالة الخلاف على المبلغ ترفع الدعوى أمام القضاء المختص. واعتبرت المادة 17 من الإتفاقية تحويل الإمتياز للغير باطل ولا أثر له بما يؤكد على طابعه الشخصي وحدد الملحق الخطوط الداخلية و الخارجية.
وتضمن المرسوم التنفيذي رقم 02- 41 المؤرخ في 14 جانفي 2002 المصادقة على اتفاقية امتياز استغلال خدمات النقل الجوي الممنوحة لشركة الطيران أنتينيا للطيران وقد أبرمت هي الأخرى باسم الدولة كما ورد في المادة الأولى من المرسوم أعلاه. وحددت مدتها ب 10 سنوات (المادة الثانية) وضبط المرسوم مسؤولية صاحب الإمتياز (المادة4) والزامه خاصة باحترام الأسعار (المادة
وحدد الملحق الخطوط الداخلية والخارجية.
ب- امتياز من جانب الإدارة المحلية:
نصت المادة 130 من قانون الولاية على أنه اذا تعذر استغلال المصالح العمومية الولائية بشكل استغلال مباشر أو مؤسسات يمكن للمجلس الشعبي الولائي أن يرخص باستعمالها عن طريق الإمتياز:
يصادق على العقود المبرمة في هذا الصدد بقرار من الوالي وينبغي أن تكون مطابقة لدفتر الشروط النموذجي المصادق عليه وفقا للقواعد والإجراءات المعمول بها ونصت المادة 138 من قانون البلدية على ما يلي: " اذا لم يكن استغلال الممصالح العمومية البلدية استغلالا مباشرا دون أن ينجم عن ذلك ضرر جاز للبلديات منح الإمتياز يصادق الوالي على هذه الإتفاقيات التي حررت لهذا الغرض بموجب قرار اذا كانت مطابقة لنماذج الإتفاقيات المعمولة حسب قواعد الإجراءات السارية المفعول ".
ورجوعا لأحكام المرسوم رقم 323.95 المؤرخ في 21 أكتوبر 1995 المتعلق باستغلال الموارد المرجانية نجده قد وضع شروطا لإستغلال في هذا المجال من جنسية للملتزم وقائمة المستخدمين الوطنيين والأجانب وشروط تتعلق بامكانات التقنية والبشرية .