المحاضرة السادسة:
من الإقطاع إلى نظام الدولة: تحولات الواقع الأوروبي في العصور الوسطى
الخميس: 08/11/2012
عرفت فترة الألف عام في التاريخ الأوروبي بالعصور الوسطى Middle Ages ، وقد ظلت الثقافة الرومانية حية ومستمرة، خاصة في أوساط الحكام الجرمان (الألمان)، الذين تحولوا آنذاك إلى النصرانية. كما تعرضت أوروبا طوال هذه القرون لحملات الفايكنغ من الشمال، وفتوحات المسلمين العرب من الجنوب، والمجر من الشرق وقد نتج عن هذه الأحوال المضطربة، والحروب المستمرة ظهور نظام سياسي وعسكري جديد عرف باسم الإقطاع، مكن من إقامة حكومات قوية استطاعت أن تشيع السلام، وتحيي التجارة من جديد، فأقيمت المدن، وتطورت الزراعة، وزاد عدد السكان، وازدهرت الآداب خاصة عندما أوجدت التجارة صلات مع الحضارة البيزنطية والحضارة الإسلامية. وقد شهد القرنان الثاني عشر والثالث عشر الميلاديان ظهور أولى الجامعات الأوروبية، مثل جامعة بولونيا في إيطاليا وجامعة باريس في فرنسا.
كان شعب أوروبا الغربية، في العصور الوسطى، يتألف من ثلاث فئات هي: السادة أو اللوردات (مؤنثها الليدي ) الذين حكموا إقطاعات كبيرة وكان عملهم القتال، ورجال الدين الذين كانوا في خدمة الكنيسة. والفلاحون الذين كانوا يعملون في الأرض.
01- نشأة النظام الإقطاعي
نشأ النظام الإقطاعيFeudalism ليفي بحاجات عصره، ففي القرن الخامس الميلادي غزت القبائل الجرمانية أراضي الإمبراطورية الرومانية الغربية، وقامت بتقسيمها إلى ممالك عديدة، وكانت هذه الشعوب الجرمانية ¬ لا تَدين بالولاء إلا لزعماء قبائلها أو أسرها، وهكذا زالت الحكومات المركزية والمحلية القوية التي أنشأها الرومان، وحلّت العادات البربرية مكان القوانين الرومانية، وقد أدت هذه التغيرات والغزوات اللاحقة إلى حالة من الفوضى العامة والحروب المستمرة في السنوات التي تلت غزو البرابرة للإمبراطورية الرومانية الغربية، وقد ساعد النظام الإقطاعي في إقامة النظام في أوروبا في ظل هذه الأوضاع.
لما أصبحت المدن الأوروبية غير آمنة على نفسها أثناء الغارات الألمانية، انتقل أعيان هذه المدن إلى قصورهم الريفية وأحاطوا أنفسهم بأتباعهم من الزراع، وأسر من "الموالي" وأعوان عسكريين، وزاد حركة التفرق التي تهدف إلى تكوين وحدات اقتصادية شبه مستقلة في بلاد الريف قيام الأديرة التي كان رهبانها يفلحون الأرض ويشتغلون ببعض الصناعات اليدوية؛ ولم تعد الطرق صالحة للاحتفاظ بوسائل النقل وتبادل المتاجر لما أصابها من التخريب بسبب الحروب والإهمال من جرّاء الفقر، ونقصت إيرادات الدولة بسبب كساد التجارة واضمحلال الصناعة، وعجزت الحكومات الفقيرة عن حماية الحياة والملك والتجارة. واضطرت قصور الأعيان في الريف بسبب العقبات القائمة في سبيل التجارة أن تسعى للاكتفاء الذاتي من الناحية الاقتصادية، فأضحى الكثير من الأدوات التي كانت تشترى من المدن تصنع في الضياع الكبيرة منذ القرن الثالث الميلادي.
لقد نشأ الإقطاع ليكون نظاماً عسكرياً لمجتمع زراعي غير مطمئن على نفسه؛ وكانت فضائله حربية أكثر منها اقتصادية ، وكان جيش الإقطاع هو الأداة الحكومية الإقطاعية، تنظمه روابط الولاء الإقطاعي وينقسم انقساماً دقيقاً إلى طبقة فوق طبقة حسب درجات الشرف والمنزلة، فالأمير، والمركيز، والكونت، ورئيس الأساقفة، وهم قواد الجيش، والبارون، والسيد، الأسقف، ورئيس الدير، هم رؤساء الفرق، وكان الفرسان Knights أو Chevaliers هم راكبي الخيل، وكان الأتباع هم خدم البارونات أو الفرسان، وكان حملة السلاح men-at-arms-الجيش المرابط في المقاطعات أو القرى-يحاربون مشاة.
انقسمت معظم أوروبا، خلال القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، إلى دول إقطاعية، وكان يحكم كل دولة من هذه الدول سيد قوي وكأنه ملك عليها، ولم يحكم الملوك أنفسهم سوى أراضيهم الملكية الخاصة.
ففي فرنسا لم يحكم الملك سوى المنطقة التي دعيت باسم جزيرة فرنسا ، وهي قطاع ضيق من الأرض، كان آنذاك يقع بالقرب من باريس، أما بقية فرنسا فقد قسمت إلى دول إقطاعية، مثل أكيتين وأنجو وبريتاني وفلاندر ونورمنديا، ولم يكن في بعض الدول الإقطاعية سيدٌ يملك من القوة ما يكفي ليقيم حكمًا قويًا، بينما استطاع السادة الأقوياء، في كل من آنجو والفلاندر ونورمنديا، أن يقيموا حكومات قوية، كما أصبحت إنجلترا في عهد وليم الفاتح، أقوى دولة إقطاعية في أوروبا منذ سنة 1066م ، وأنشأ الصليبيون دولهم في الشرق الأدنى على أُسس النظام الإقطاعي، وقد بلغ النظام الإقطاعي قمته بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين
لم يوفر النظام الإقطاعي الذي قام في كل من ألمانيا أو إيطاليا حكمًا قويًا، وذلك لأن الدوقات الأقوياء قاتلوا الملوك لمئات السنين، ولم تحقق ألمانيا ولا إيطاليا وحدة لأراضيها حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
لقد شجع الاتحاد الشخصي بين الملوك، على التحالفات "مثال زواج آن دوكييف، بنت الدوق الأكبر لروسيا، مع ملك فرنسا، هنري الأول في عام(1049)، وكذلك عن طريق القواعد الميراثية، مما يوسع في المناطق، وتتبادل الممالك ومقاطعات الإقطاعيات الأخرى الرسل اسم "السفراء" وهم محميون طبقاً لوضع خاص ، وأبرم الملوك معاهدات فيما بينهم، وأخذوا يسوون خلافاتهم عن طريق التحكيم أكثر فأكثر، من قبل شخص ثالث- البابا أو الامبراطور في أغلب الأحيان-. وفسحت الحرب الخاصة بين الإقطاعيين المجال أمام الحروب بين الممالك شيئاً فشيئاً، وتطور قانون الحرب خصوصاً من أجل وضع حد للأعمال العدوانية: "الهدنة، وقف إطلاق النار، معاهدات السلام" ومن أجل تسوياتها "معاملة الأسرى". وحدث تطور في التجارة في أوقات السلم، مما أدى إلى ظهور القناصل اعتباراً من القرن الثاني عشر "من أجل السماح للتجار المغتربين بتسوية أمورهم الشخصية، مثل الزواج والميراث، طبقاً للقوانين المطبقة لدى دولهم" وظهور قانون البحار.
كانت اللاتينية اللغة المشتركة لرجال الكنيسة والمثقفين، ومن العلمانيين، حتى الشروع في تشكل اللغات الوطنية انطلاقاً من اللغات ذات المصدر اللاتيني، مثل "الإيطالية، الفرنسية، الإسبانية"، ومن اللغات البربرية [الانكليزية، الألمانية، الفلمنكية... الخ].
أصبحت سلطة الكنيسة القوة الوحيدة الكبيرة التي ربطت أوروبا مع بعضها خلال الفترة الإقطاعية، فقد مست الكنيسة حياة كل فرد تقريبًا بأشكال عديدة ومهمة، فكانت تُعمِّد الفرد عند ولادته، وتقوم بمراسيم الزفاف عند زواجه، وتتولى مراسيم الدفن عند وفاته، و كان البابا يجسد سلطة عالمية، فهو نفسه الذي كان يرسم الأباطرة، وعندما لا يحترم أمير ما قانون الكنيسة، يطبق البابا عليه شكلاً من "العقوبة الدولية" ، بأن يوقع على مملكته حرماناً، فيمنع كل خدمة دينية، على أراضي ذلك الإقطاعي "مقترف الذنب" ، كان الحرمان الكنسي (أي الطرد من الملة النصرانية) واحدًا من أعظم أسلحة الكنيسة، إذ إن طرد شخص من الملة النصرانية يعني فصله فصلاً كاملاً من الكنيسة، وحرمانه من أمل الذهاب إلى الجنة الموعود بها في نظرهم، وإذا استمر أحد السادة في التمرد بعد هذا الطرد، فإن السلطة الدينية تأمر بإغلاق كل الكنائس الموجودة في أرضه، وعندئذ لا يستطيع أي إنسان يعيش في تلك الأرض، أن يتزوج أو أن يدفن بمباركة الكنيسة، كما أن أجراس الكنائس لا تقرع إطلاقًا فيها، وكان الناس ـ والحالة هذه ـ يتذمرون تذمرًا شديدًا إلى حد التمرد، الأمر الذي كان يجبر ذلك السيد، في نهاية المطاف، على الإذعان للكنيسة.
كان البابا أيضا ينظم الحروب "العادلة"، ويدفع الناس غير المؤمنين إلى اتباع كنيسته والإيمان بها، ويوجه عنف الإقطاعيين إلى هذا الهدف ، وعلاوة على دور البابا في التحكيم في النزاعات بين الأمراء المسيحيين، فإنه كان يمنح المناطق "بدون مالكين" لبعض أتباعه، وهو القانون الذي اعترض عليه توماس الإكويني.
أدت الحروب والكوارث الطبيعية دورًا كبيرًا في توقف التقدم الأوروبي في العصر الإقطاعي؛ فقد اندلعت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا، التي استمرت منذ عام 1337م حتى عام 1453م. وأعاقت هذه الحرب التجارة واستنفدت اقتصاديات الأمتين، كما أدى تحلل النظام الإقطاعي ونظام الإقطاع الأوروبي إلى حروب أهلية في شتى أرجاء أوروبا تقريبًا. وقام الفلاحون بثورات دموية للحصول على الحرية من السادة، أشهرها ما عرف بثورة الفلاحين Peasants' Revolt في بريطانيا في عام 1381م، وحرب الفلاحين Peasants' War كإشارة إلى تمرُّد الفلاحين الألمان على الملاك في الفترة من عام 1524 - 1525م، وكانت أضخم انتفاضة شعبية في التاريخ الألماني، ولقد زاد في شقاء الناس ما عرف بالموت الأسود الذي أودى بحياة ربع سكان أوروبا، تقريبًا، مابين سنة 1347 وسنة 1350م، والموت الأسود هو شكل من أشكال الطاعون Plague ، وكان واحدًا من أسوأ الأوبئة، كما أدت سنوات القحط القاسية والفيضانات الموت والمرض والمجاعة، وانخفاض نسبة المواليد إلى إبقاء السكان قليلي العدد ، ولم يكن متوسط عمر الفرد سوى ثلاثين سنة ، في وقت لم يكن بالإمكان زراعة نصف الأراضي، على الأقل، لكثافة الغابات والمستنقعات، وكان السفر أو الاتصال قليلاً، وأقل من 20% من السكان هم الذين كانوا يذهبون لمسافة أبعد من 16كم عن مسقط رأسهم.
كما أن معظم البيوت كانت مصنوعة من الخشب. وكان من الممكن بالنسبة إلى حريق هائل أن يمسح مدينة بأكملها من الوجود. فمدينة رون بفرنسا احترقت جميعها ست مرات ما بين 1200م و 1225م.
تضافرت عدة وقائع حدثت في أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي، لتقود في النهاية إلى تداعي النظام الإقطاعي. فقد أدت النهضة الاقتصادية إلى تداول مزيد من المال، ولمّا كان ممكنًا تشغيل الجنود بالأجر، فقد تضاءل عدد السادة الإقطاعيين الذين كانوا يعتمدون على المقطعين في توفير خدمات الفرسان.كما أدى اختراع البارود وأسلحة أخرى مثل القوس الطويل والمدافع إلى إضعاف سيادة الفرسان. ولم تعد القلاع الحجرية التي كان يقيم فيها السادة الإقطاعيون قادرة على الصمود أمام المدافع. ونمت المدن وازدادت ثراءً، وتعاظمت أهميتها، وقلّت حاجة الحكام إلى الطبقة الأرستقراطية، وقام أفراد من الشعب تلقوا التدريب على الخدمة الحكومية، بشغل تلك الوظائف، التي كان يؤديها المقطعون في إقطاعاتهم.
2-مجتمع الدول المستقلة:
تطابقت نهاية القرون الوسطى مع تحول اقتصادي وسياسي وديني في أوربا، إذ حل اقتصاد السوق محل اقتصاد القوت، حيث أخذت السلع بالانتشار أبعد فأبعد، وبدأت الرأسمالية بالظهور في القرن الخامس عشر.
وفرض الكيان الإقليمي الأكبر الدولة نفسه على مستوى التنظيم السياسي، إذ توسعت الإقطاعيات التي قامت على الروابط الإقطاعية، إلى أن أصبحت دولاً، حيث جرى امتصاص بعضها وفقدت المدن التي حصلت على الاستقلال في القرن الحادي عشر والثاني عشر، في معظم الحالات، استقلالها، وأخذت كلمة الشعب أو الأمة تشير في البداية إلى مجموعة إنسانية من أصل واحد "ولادياً"، ويتجمع المشاركون في الجامعة وفي الأسواق وفي المجامع الكنسية، في "الأمة" من جديد. ويتطور استخدام الكلمة اعتباراً من القرن الرابع عشر، وشجعت حرب المائة عام (1337-1453) على ظهور الوعي الوطني الكامل في فرنسا وفي انكلترا، ولم تعد كلمة "الأمة" مرجعاً علمياً في النصوص لدى رجال الدين، بل أخذت تتطابق مع إحساس أو عاطفة تعيش شرعياً.
وتعَلْمَنت الدول [أصبحت غير دينية]، وأخذت شرعية السلطة السياسية تصبغ بالمهابة، وانخفضت قوة الكنيسة، وتراجعت اللغة اللاتينية، وحلت محلها اللغات المحلية، خصوصاً بين النخبة.
03- تقاسم العالم كإطار جديد للعلاقات الدولية
تقاسمت البرتغال وإسبانيا المناطق في العالم الجديد، مع تفضيل المفاوضات ، وظهر ذلك فيما عرف بخط الحدود Line of demarcation وهو خط وهمي رسمه البابا ألكسندر السادس لتسوية الحقوق المتعلقة بالأرض من خلال توزيع المناطق التي اعتبرت "بدون مالكين". ، وذلك عام 1493م بعد عودة كولمبوس من رحلته الأولى للأمريكتين، وكان البابا يأمل أن تؤدي تلك التسوية إلى منع النزاعات بين أسبانيا والبرتغال حول الحق في استكشاف وتملّك الأراضي في آسيا والأمريكتين. يجري الخط من الشمال إلى الجنوب على مسافة حوالي 563كم إلى الغرب من جزر الآزور وجزر كيب فيرد، ويكاد يمس الساحل الشرقي لأراضي أمريكا الجنوبية الرئيسية التي لم يكن اكتشافها قد تم بعد. وسُمح لأسبانيا بتملّك الأراضي غربي الخط بينما تستطيع البرتغال أن تتملّك الأراضي شرقي الخط.
لم تقتنع كلٌ من الدولتين بهذه التسوية، لذلك قامتا في العام التالي بنقل الخط غربًا إلى نقطة تبعد نحو 2,084كم إلى الغرب من جزر كيب فيرد، وذلك بموجب معاهدة تورديسيلاس(Tordesillas) عام (1494)، وبهذا - استطاعت البرتغال وضع يدها على المنطقة التي تُعرف الآن بشرقي البرازيل.
استطاعت البرتغال وضع يدها على جزر الفلبين لتمديد خط الحدود حول الكرة الأرضية، وحتى نصف الكرة الشرقي. اعترفت أسبانيا بذلك في معاهدة سراقوسا عام 1529م، التي حدّدت الخط بـ 17°شرقي مولوكاس (جزر البهار). في معاهدات لاحقة مع أسبانيا، تنازلت البرتغال عن جزر الفلبين، واستولت على باقي البرازيل. إلا أن البرتغال وأسبانيا لم تستطيعا المحافظة على جميع الأراضي المكتشفة حديثًا لأن كلاًّ من فرنسا وإنجلترا وهولندا لم تتقيد بخط الحدود، واستولت على بعض المناطق.
وأدت هذه التحولات الجديدة في العلاقات الدولية إلى إدخال العالم في شكل جديد من الصراعات أساسه البعد المذهبي ، المستند خصوصا إلأى حالة الإصلاح الديني الذي عرفته أوروبا، مما خلق جوا من الاحتشاد المذهبي ،غير أن ذلك لم يمنع تقديم المصلحة على الانتماء المذهبي، حيث يكتب مثلا (بيوسيولكس) Puysieulx وزير خارجية لويس الثالث عشر، عام (1620): "يجب علينا ككاثوليكيين جيدين، أن نميل إلى الجانب الكاثوليكي على الدوام، مع ذلك، إنكم تعلمون ما هي الهيمنة الإسبانية، انها تتصرف من أجل تغطية نواياها الدنيوية، باسم هذا اللقب الديني" .
لقد حدث تحول مهم في تاريخ العلاقات الدولية مع بروز الدول الحديثة، ففي حين كانت تمارس السلطة الإقطاعية على الأشخاص، كانت الدولة تمارس سلطتها على الأرض، وكان على الملك أن يعرف إلى أي حد تمتد سلطته، ثم كان عليه أن يقيم جبهة "للمحافظة على الحدود" ليحمي نفسه من التهديدات الخارجية، فالأرض المحددة بحدود، هي إذن مشاركة من قبل تابعيه في الدولة، من حيث الجوهر، وتدار الدولة من قبل عائلة أميرية، أسست قوتها على الحرب وعلى وسيلتها: الجيش، وكان الأمراء يلجؤون إلى الضرائب من أجل تمويل الجيش، وشيئاً فشيئاً أدى ذلك إلى النقص في الترابط الإقطاعي الذي كان يشير إلى خصوصية العصور الوسطى، وسمحت الحرب بتوسيع أراضي الدولة، وكذلك في فرض ضرائب جديدة على السكان الذين يقطنون فيها، وهذا ما سمح للدولة بالعمل على احترام النظام الداخلي، وكذلك الحق في امتلاك العنف المشروع، وأكدت الدولة على احتكارها للوظائف التي كانت تسمى بـ"الحق الملَكي"، وفي "حق السلطة في تطبيق القانون وفي سك النقود"، وكذلك جرى ترتيب العناصر التي تحدد الدولة حسب القانون الدولي: أرضاً ومكاناً وَطِراز الحكومة "السلالة الحاكمة"، ويصبح مماثلة الدولة مع ملكها الطابع الملكي الأوربي من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر. وقام نيكولا مكيافيلي (Nicolas Machiavell) بتحليل الإقطاعيات، ووصف فن الحكم، في كتابه "الأمير" عام (1513). ويؤكد جان بودان (Jean Bodin) في ست كتب عن الجمهورية عام (1576) أن السيادة كونها لا تتجزأ وأبدية، يجب أن ترجع إلى ملك وراثي، منطقياً، وتصبح المملكة- التعبير المشتق من كلمة الملك- الصفة الجوهرية للدولة بعد ذلك، وتصبح لازمَته المساواة القانونية، أساس المجتمع الدولي.
انتظمت العلاقات الدولية في أوربا المجزأة إلى دول ملكية متساوية، واحتلت الحروب مكاناً هاماً في حياة الدول، وأصبح القانون الدولي مقسماً بين قانون الحرب وقانون السلم، واستمرت المعاهدات والتحكيم في الاستخدام، وجرى تأسيس الدبلوماسية عن طريق إنشاء وزارات الخارجية والسفارات الدائمة، وكذلك عن طريق تنظيم وضع الدبلوماسيين والقناصل. وتطورت العلاقات البحرية، وتأكدت القوة التجارية التي كانت أولاً لـ(جنوا) (Genes) ثم للبندقية، ثم لاهانس، ثم هولندا، وأخيراً انكلترا، ونتج عن ذلك قانون البحار، الذي بات محدداً أكثر "مبدأ التكافؤ"- الشكل الأول لـ"نص الدولة الأكثر رعاية"- وقد ظهر في المجال التجاري، وتصدر الاستيلاء على الأراضي من قبل الملوك وسط تلك الحقبة من استعمار أمريكا كنظام احتلال حقيقي.
4- نظام الدولة State - system
يعبر نظام الدولة عن مصطلح يطلق على العلاقات التي تم تطويرها بعد أن أصبحت الدولة الطرف الفاعل الهام، ثم السائد، في السياسة الكلية، لقد جاء ظهور الدول بوصفها الأطراف السياسية الفاعلة بالدرجة الأولى على اثر الأفول المتدرج للرابطة السياسية والاجتماعية التي عرفت في أوروبا الغربية باسم الإقطاعية (feudalism). فقد ظهرت ملكيات قوية مركزية في انجلترا (أسرة ثيودور)، وفي السويد (أسرة فاساس)، وفي اسبانيا (أسرة هابسبورغ) وفي فرنسا (أسرة بوربون) لتتحدى مؤسسات تتخطى الحدود القومية مثل الكنيسة الكاثوليكية والامبراطورية الرومانية المقدسة. وكانت الملكية المطلقة – كما سمي هذا النظام – قد أصبحت الشكل السائد للحكومة في بداية القرن السادس عشر وتم دعم هذه التطورات من قبل البورجوازية الجديدة، في معارضة طبقة النبلاء الإقطاعيين، وقد وجدت هذه الطبقة الجديدة في الملوك حلفاء طبيعيين, ولذا فقد دعمت نمو الحكومة المركزية القوية. وقد جاءت معاهدة وستفاليا 1648 لتؤكد هذه التطورات وتعززها.
وكانت السياسة فيما بين الدول، كنشاط، مجالاً محفوظاً على الأجندة لهؤلاء الملوك، ومستشاريهم الشخصيين وسفرائهم. وكان النشاط الأكثر أهمية يقترن بعملية خوض الحرب: عقد التحالفات، خوض المعارك وإبرام التسويات ومعاهدات السلام. وكان طابع وروح هذه التحالفات يتصفان بشكل نموذجي في كثير من الأحيان بالسرية والعدوان، على خلاف أفكار القرن العشرين. وعدا عن خوض الحرب، كانت الأنشطة الرئيسية لحكم الملوك المطلق سياسات كياسة البلاط المقترنة بتدبير الزيجات وتعزيز النمو الاقتصادي عبر السياسات التجارية التي كانت تعكس على نطاق واسع مصالح الدولة والتي أصبحت تعرف باسم المركنتلية (mercantilism).