الفوضى Anarchy
مفهوم أساسي في العلاقات الدولية لكنه موضع الكثير من الجدل ومعناها الحرفي هو "غياب الحكومة" لكنها كثيراً ما تستعمل كمرادف لعدم النظام والتشوش والارتباك. وبالمعنى الرسمي فإنها تشير إلى عدم وجود سلطة مركزية. وبهذا المعنى فإنها بالتأكيد سمة من سمات النظام الدولي وتحدد الإطار الاجتماعي/ السياسي الذي تحدث فيه العلاقات الدولية. وبهذا المعنى ليست لها دلالة إيجابية ولا سلبية. فهي وصفية لا آمرة، وضع عام لا بنية متميزة. وبهذه الطريقة فإنها تعتبر "نقطة الانطلاق" للتفكير بشأن العلاقات الدولية. على أن البعض يرون أن الفوضى (anarchy) تعني ضمنياً غياب أية مؤسسات ذات سلطة أو قواعد أو معايير فوق الدولة ذات السيادة. وهذا الرأي يقود إلى الافتراض الخاطئ كل الخطأ بأن العلاقات الدولية هي بشكل دائم في "الحالة الطبيعية" وهي بحد ذاتها "حالة حرب الجميع ضد الجميع". هذه الرؤية للعلاقات بين الدول التي يفترض أنها مشتقة من عمل توماس هوبز (Thomas Hobbes) (1588-1679) موضع تساؤل كبير ولا تبررها أي قراءة متأنية لأدبيات الموضوع – ولا سيما كتابات هوبز نفسه.
وإذا طرحنا جانباً هذا الوصف السلبي فإن الفوضى تظل مفهوماً مثيراً للجدل في أساسه في العلاقات الدولية يمكن انطلاقاً منه إعطاء وصف معقول، وإن كان ينطوي على تبسيط مفرط، لتاريخ الفكر في مجال العلاقات الدولية. وهكذا كثيراً ما يتم عرض النظرية الدولية، في النصوص التقليدية أو الكلاسيكية، بوصفها حواراً أو جدلاً بين أولئك الذين يقبلون ظروف الفوضى ولكنهم يجادلون بأن هذا لا يستبعد بالضرورة النظام والمجتمع أو الجماعة بما يتجاوز الدولة – الأمة، (الواقعيون) وأولئك الذين يجادلون بأن الفوضى لا تنسجم مع هذه الأهداف التي لا يمكن تحققها إلا عندما يتم استبدال الفوضى بالحكم من نوع أو آخر، (المثاليون أو الليبراليون). فبالنسبة للأُول نجد أن القياس المحلي – الحجة القائلة إن أوضاع حياة اجتماعية منظمة هي ذاتها بين الدول كما هي ضمنها – هذه الحجة غير صحيحة. فعدم وجود حكومة عامة أو سلطة عالمية هو ما يميّز المجال الدولي عن المحلي للسياسة والقانون. وبالنسبة للواقعيين فإن تفكيك المركزية هي السمة المحددة للعلاقات بين الدول ذات السيادة. ومن جهة معاكسة يقول الآخرون إن القياس المحلي حاسم ويجادلون بأن الشروط المسبقة لعالم سلمي ومنظم هي أن يتم تكرار المؤسسات الحكومية فوق وما بين الدول. وفقط عندما يتم التغلب على الفوضوية سيكون من الممكن الحديث عن مجتمع دولي حقيقي أو جماعة دولية حقيقية. ويتمثل فلاسفة السياسة المتماهون بشكل أوثق مع هذه المواقف النظرية في هوبز (انظر الفصل 13 من كتابه Leviathan) وكانط (Kant) (انظر كتابه "السلام الدائم" (Perpetual Peace)، ويقف المحامي الدولي غروتيوس (Grotius) في مكان بينهما.
وفي حين أن المنظِّرين المعاصرين يعتبرون هذا الجدل عقيماً وغير منتج نوعاً ما فإن الفروق الأساسية المتعلقة بمعنى الفوضوية ومضامينها تبقى في التوتر الجاري بين الواقعيين الجدد المتمركزين على الدولة والليبراليين الجدد الأكثر تعددية. غير أن المُنظِّرين النقديين ومُنظِّري ما بعد الحداثة يرفضون المدرستين على حد سواء لأن جذورهما مغروسة في "الفوضوية الإشكالية" (anarchy problématique)، حيث تسعى الأولى إلى العمل ضمن قيودها البنيوية، والثانية تسعى إلى تحسينها (Ashley, 1984). وفي النظرية الدولية الأنجلو - أمريكية السائدة تظل الفوضوية الافتراض الأساسي للسياسة الدولية. وبهذا المعنى فإنها تطرح أسئلة البحث الأساسية في الموضوع. فما هي الظروف التي تتعاون في ظلها الدول التي تحترم نفسها؟ هل توجد حدود لهذا التعاون؟ هل يمكن التغلب على المعضلة الأمنية التي أوجدتها الفوضوية؟ ما هو التوزيع الأمثل للقوى الذي يؤدي إلى السلام و/أو الاستقرار؟ إلى أي مدى يتلاءم الاستقلال مع الترابط؟ إذا كانت أهمية الدولة في أفول، فما الذي يحل محلها؟ هل يمكن بقاء التمييز بين السياسة العليا والسياسة الدنيا في وجه عدم فائدة القوة العسكرية؟ كيف يتم تنفيذ التغيير ومن هو الذي يكون أكثر تأثراً بالتغييرات التي تحدث في النظام الدولي؟
هل تؤثر الاختلافات في التدابير السياسية المحلية في السلوك والنتائج الدولية؟ هل الكسب النسبي أكثر أهمية من الكسب المطلق؟ إن جميع هذه "الأحجيات" التي تطرحها النظرية الدولية المعاصرة تتصل اتصالاً مباشراً بالافتراضات المتعلقة بـ "الفوضوية الدولية" وكان جي. لوويس ديكينسون(G. Lowes Dickinson) أول من استخدم هذه العبارة عام (1916)، وتداعياتها بالنسبة للواسطة والعملية والبنية. فجميعها تدور حول السؤال الأساسي عما الذي لا يتغير والذي يكون قابلاً للتغيير في الفوضوية.
من حيث الظاهر نجد أن منطق الفوضوية حاسم: فالدول هي العناصر الفاعلة الرئيسية الموجودة في بيئة المساعدة الذاتية والتي تكون فيها المعضلة الأمنية ملحة. ويفترض أن الدول تتصرف بشكل عقلاني من حيث إدراكها للمصلحة الوطنية، لكنها ليست غير مهتمة كلياً بالقواعد والمعايير. لذا فإن التعايش بين الصراع والتعاون ممكن بل هو قائم ضمن الوسط الاجتماعي ذاته. وهذا هو المجال الذي يحتله ( وإن كان موضع نزاع بالطبع) ورثة التقليدَيْن الواقعي والمثالي. ويجادل المنشقون قريبو العهد عن هذا الخطاب ( ويشار إليهم في بعض الأحيان بصفتهم "تأمليين") بأنه لا يوجد "منطق" متأصل للفوضوية. فالمفاهيم التي تبدو منحدرة منها – المساعدة الذاتية، سياسة القوة، السيادة – هي في واقع الأمر مؤسسات منشأة اجتماعياً وليست سمات أساسية للفوضوية. فالفوضوية هي، في واقع الأمر، "ما تفهمه منها الدول" (Wendt, 1992). وبهذه الطريقة بدأ التفكير الجديد في مجال العلاقات الدولية يشكّك بالوضع الابسيمولوجي (المعرفي) والاونتولوجي (الوجودي) للنظرية التقليدية ويجادل بأن افتراض الفوضوية ينطوي على قصر نظر ولا تاريخي وينطوي على خدمة ذات متأصلة. وهو بشكل خاص يعطي امتيازاً للدولة لا للناس أو الأفراد ومن خلال الإصرار على التمييزات الثنائية للفوضوية – عام/ خاص، داخلي/ خارجي، الذات/ الآخر... الخ – فإنه يشوه الحقيقة من خلال التهميش والاستبعاد والإسكات. فهو يغفل من منظوره قطاعات كبيرة من الحياة الاجتماعية التي يجب أن تلقى الاهتمام من الذين يدرسون العلاقات الدولية. والخلاصة، ان النزعة للنظر إلى الفوضوية بوصفها الوضع الأساسي للعلاقات الدولية يقوض غموضها المتأصل ويبالغ في تقدير قدراتها التفسيرية.