مجلة الدفاع الوطني
الفلسفة السياسية للمحافظين الأميركين الجدد: أيديولوجية الفوضى الخلاّقة
محمود حيدر
صحاقي وباحث في الفكر السياسي-رئيس مركز "دلتا" للصحافة والأبحاث
تسعى هذه الدراسة إلى الإضاءة على التحوّلات التي شهدتها الإستراتيجية الأميركية العليا مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة مطلع القرن الجاري. ولسوف يتم التركيز على الحلقة الأكثر مدعاة للسجال في هذه الإستراتيجية، وهي تلك التي شاع الكلام عليها بما سُمِّي بــ "نظرية الفوضى الخلاَّقة".
المعروف عن هذه النظرية أنها وجدت دينامياتها الفعلية بعد زلزال الحادي عشر من أيلول/سبتمبر .2001 وهي تقوم على فلسفة سياسية تفترض وجود خطر داهم من عدو مجهول يتهدّد الأمن القومي الأميركي في كل لحظة. كما تقوم على افتراض ألاَّ يكون التهديد بالضرورة، حاصلاً بالفعل من دولة أو من منظمة إرهابية لكي تخاض ضده الحرب الوقائية، وإنما يكفي أن يتم تصوُّره من جانب مراكز التخطيط الإستراتيجي في البيت الأبيض والبنتاغون للمبادرة إلى تلك الحرب.
ولكي تأخذ هذه الإستراتيجية مسارها التطبيقي، عكف كثيرون من منظِّري ومفكِّري المحافظين الجدد على وضع فلسفة متكاملة لتبرير الحروب. ولعلَّ نظرية "الفوضى الخَّلاَّقة" التي شكَّلت إحدى أهم وأبرز منجزات هؤلاء، إنما تعني في حقيقتها السعي الإستباقي نحو تفكيك كل المواقع والجغرافيات المفترض أنها تشكِّل مصادر تهديد لأمن ومصالح أميركا في العالم.
ولئن كانت نظرية الفوضى الخلاَّقة تتأسس نظرياً على ثنائية التفكيك والتركيب، فذلك يعني أن الفكر الإستراتيجي الأميركي بصيغته الراهنة لم يعد لديه اليقين إلاَّ بعالم تكون الفوضى فيه سبيلاً لإعادة تشكيله وفق مهمة أميركا في بناء العالم الجديد.
فكيف ظهرت هذه النظرية في سياق التحقيق التاريخي لنظريات الهيمنة في الفلسفة السياسية والأمنية للولايات المتحدة الأميركية؟
*****
ما كان لأحد أن يتصوَّر مدى ما بلغته الإيديولوجيا السياسية الأميركية وهي تستعيد نظرية الإحتلال، بوصفها فضيلة لا غنى للعالم عنها في رحلة القرن الحادي والعشرين.
فقط أولئك الذين نظَّروا "للإمبراطورية الفاضلة" أمثال لويس لافام رئيس تحرير مجلة هاربرز (Harper's Magazine) وبالطبع الفريق المتحلِّق حول الرئيس جورج دبليو بوش، كانوا على يقين ممّا ذهبوا إليه. الأمر بالنسبة إلى هؤلاء يتعدَّى الجانب الأخلاقي كما أراده التنوير الغربي سحابة ثلاثة قرون متواصلة. إنَّهم ينطلقون من قَبْليّة اعتقادية تعود في جذورها إلى ثقافة الإستيطان الأنكلوساكسوني، ومؤدّاها أنَّ التاريخ لا تعمِّره البراءة، إذ البراءة عندهم ـ حسب وصف غراهام غرين، الكاتب المسرحي الإنكليزي ـ تشبه مجذوماً أبكم أضاع جَرَسَه، ثم راح يطوف العالم، ولا يقصد ضرراً لأحد...
وعلى عقيدة المحافظين الأميركيين الجدد، إنَّ ما ينبغي على أميركا أن تفعله لكي تحقِّق رسالتها إلى العالم، هو النأي بنفسها عن البراءة، وأن تمضي بعيداً في السجّية الماكيافيللية القائلة بفضيلة "أن تخيف الآخر بدل أن تكسب حّبه لك"...
عندما خسرت الولايات المتحدة مقعدها في لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيأة الأمم المتحدة في جنيف في مطلع أيار/مايو من العام 2001، أصيب كثيرون في نيويورك وواشنطن بالدهشة الحقيقية. جلُّ هؤلاء كانوا من النُّخب الأميركية والغربية التي صدَّقت ما تختزنه العمارة الإيديولوجية من براءات ذات صلة بالقانون الدولي وشرعة حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية. للوهلة الأولى لم يعرف أولئك المخدوعون ما إذا كان الذي سمعوه إشاعة خاطئة أو نكتة حمقاء، وتساءلوا: كيف يمكن لمثل هذه الأمور أن تحدث.. وأين ذهب التعقُّل ؟ وحسبُهم أنَّ أميركا هي التي أوجدت مفهوم حقوق الإنسان، وهي التي هرعت دائماً إلى إنقاذ الأطفال المفقودين، وانتشال الديمقراطيات الفاشلة. ولم يحدث قط أن استُبعدت الولايات المتحدة من غُرف لجنة الضمير خلال أربعة وخمسين عاماً من وجودها. كذلك لم يسبق أن حدث في الذاكرة الحيّة أن تتعرَّض القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى مثل هذه السخرية غير المستحقَّة على أيدي أتباعها الجاحدين(1).
يومئذٍ كان بديهياً أن يصبّ الأميركيون جام غضبهم على الأوروبيين، وبالأخص على فرنسا. فعلى ما بيَّن منظِّرو اليمين الأميركي، فإنَّ الفرنسيين تحديداً خانوا الأمانة والتبعية وصوَّتوا لإخراج الولايات المتحدة من واحدة من أهم وأخطر أسلحة الدعاية والتدخل في شؤون العالم. ومع ذلك فإنَّ القضية لم تتوقف عند هذا النوع الطبيعي من ردّات الفعل.
كان ثمة ما هو أدنى إلى المفارقة إذ إنَّ "المطبخ الفلسفي ـ الإيديولوجي" للإدارة الأميركية سينبري إلى إسكات المحتجِّين والمدهوشين، ثم ليمضي في عزفٍ منفرد مؤثراً اللاّمبالاة وإدارة الظهر لهذه القضية، معتبراً أنَّ أميركا ليست في حاجة إلى مَنْ يمنحها شهادة سلوك حسن أو يصحِّح خطأ ترى إليه على أنَّه جزء عزيز في مسلكها العام.
إنَّ هذا ما سيعبِّر عنه الكاتب في مجلة "التايم" تشارلز كروثامر (Charles Krauthammer) على نحو لا شوب في صراحته: "ليست أميركا مجرد مواطن عالمي. إنَّها السلطة المهيمنة في العالم، وأكثر هيمنة من أي قوة أخرى منذ عهد روما. ووفقاً لذلك، فإنَّ أميركا في وضع يؤهِّلها لإعادة تشكيل المعايير وتغيير التوقعات وخلق حقائق جديدة. أمّا كيف يكون ذلك ؟ فيكون ـ برأيه ـ عن طريق إظهار إرادة غير اعتذارية لا سبيل إلى تغييرها"..(2)
المسألة إذاً، هي وجوب أن تفعل أميركا أيّ شيء من دون أن تبرِّر أو أن تعتذر. وحتى لو جرى ذلك الفعل مجرى إيذاء أمم وشعوب بأكملها فلا ينبغي أن يُحجِمَ القادة عن إتمام المساحة المتبقِّية لبلوغ الهدف. فالاعتذار بحسب هذا الاعتقاد، يشكِّل منقصة لصاحبه، وإخلالاً في شبكة المعايير والمفاهيم ، التي عليها تتأسَّس استراتيجيات التحكُّم بالأوضاع.
فلسفة الإستهتار بالآخر
على هذه الفلسفة السياسية المتجددة سيغيب منطق الإقناع والتحاور في العلاقات الدولية. وبدا أنَّ منعطفاً كهذا، راح يؤتي أُكُلَه مع "الانتصارات المدوِّية" التي خاضتها الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول /سبتمبر .2001 والمثل العراقي سيعزِّز هذا المنطق حيث أفلحت الولايات المتحدة في جعله شبيهاً بالمثلين اليوغوسلافي والأفغاني. لكن ثمة جانب آخر من المشهد لا يبدو أنَّه سيكون مريحاً، أو مربحاً، للسلوك الأميركي المُشار إليه. فالولايات المتحدة ربحت الحروب التي خاضتها حين استعملت الحدّ الأقصى من جبروتها العسكري. لكنَّها راحت بعد ذلك، تجد صعوبات جمّة في ربح السلام. وهذا ما ذهب إليه الخبير الاستراتيجي الفرنسي باسكال بونيفاس الذي أكَّد أنَّ أميركا بدأت تفقد حبّ الناس لها، بل إنَّها صارت مكروهة على امتداد العالم أجمع.
"البارانويا" الأميركية التي بلغت ذروتها مع السنة الأولى للألفية الثالثة، رأت إلى النقد الأوروبي، والفرنسي على الخصوص بعين السخرية والإستهتار. ولقد سبق للكاتب الأميركي لويس لافام أن ساجل النزعة الإنتقادية لأميركا لدى الفرنسيين. سوف يلاحظ أنَّ الفرنسيين لم يستوعبوا ما يسمّيه بــ "مذهب البراءة الأميركية" بشكلٍ كامل. هذا المذهب الذي فهمه البيوريتانيون (حركة إصلاح بروتستانتية سعت إلى تطهير الكنيسة الإنكليزية من بقايا الباباوية الرومانية الكاثوليكية في القرنين 16 و17).. الأوائل في براري ماساتشوسيتس الموحشة، على أنَّه اختيارهم من قبل الرَّب (...) وفي معرض إعطاء المذهب الأميركي بعده الميتافيزيقي يزعم "لافام" أنَّ الله اختار أميركا لتكون موقع إنشاء الجنّة الأرضية. فقد كان الهدف الأميركي عادلاً دوماً، ولم يكن هنالك أي شيء أبداً يمكن أن يُقال فيه أنَّه غلطة أميركا. ويضيف: "إنَّ الأجيال المتلاحقة والسياسيين الأميركيين عبَّروا عن إيمانها هذا بكلماتٍ مختلفة من مثل: "أميركا الأمل الأخير للبشرية"، "أميركا سفينة الأمان" وناشرة الحضارة الخ.. إلاَّ أنَّه سيذهب إلى مسافة أبعد في خلع الأوصاف فيعلن أنَّ "الشر لم يكن أبداً جزءاً عضوياً من المشهد الأميركي أو الشخصية الأميركية. فالشر ـ على ادعائه ـ سلعة قاتلة ومستوردة من دون ترخيص من خارج، إنَّما هو مرضٌ أجنبي يتم تهريبه عن طريق الجمارك في شحنة "فلسفة ألمانية" أو رز آسيوي(...) ولأنَّ أميركا بريئة بالتعريف، فقد يخونها الآخرون دوماً، كما في "بيرل هاربر" وليتل بيغ هورن، وخليج الخنازير، وبما أنَّه تمَّت خيانتنا، نستطيع دوماً أن نبرِّر استخدامنا للوسائل الوحشية، أو المخالفة للروح المسيحية في سبيل الدفاع عن سفينة الأمان في وجه خيانة العالم(3).
لم يكن عرض هذا الكلام فقط للرد على ما يسمّيه لويس لافام عدم فهم الفرنسيين وجهلهم بحقيقة "الروح السياسية الأميركية"، بل هو يعني أكثر من رسالة دأبت المسيحية الصهيونية الحاكمة في الولايات المتحدة على توجيهها إلى العالم كله منذ وقت بعيد.
وأما المقصود من هذه الرسالة اليوم فإنَّه يتعدَّى الكلّيات الاعتقادية. فهي تتوجَّه إلى الذين يطالبون بوجوب قيام مرجعية أممية تعيد الاعتبار للقانون الدولي. ولأنَّ القوانين تدخل في صلب "البراءة" التي أسقطها الأميركيون من حسابهم، فلا حاجة إليها كما يقول "لافام". فالقوانين ـ عنده ـ "وضعت لغير المحظوظين الذين ولدوا دون جينات الفضيلة".
إنَّ هذا الحّد المُشْرَع على اللاّمتناهي في التفكير الأميركي الجديد، هو الذي يؤسِّس لأميركا القرن الحادي والعشرين. وسنجد من تظاهرات هذه الرؤية اللاّهوتية ما لا حصر من الأحداث اللاّحقة، حيث تصبح القوانين الدولية وشرعة الأخلاق التي تحكم التوازنات في النظام العالمي، مجرد نصوص لا فائدة منها.
لاهـوت القـوة
ظلَّ ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركي الأسبق يردِّد في خُطَبِهِ العصماء الموجَّهة إلى الجيش والشعب هذه الكلمات: "الله مع أميركا، الله يريد أن تقود أميركا العالم". في ذلك الوقت كانت حرب فيتنام تتجه إلى جحيمها المحتوم. وكان عليه لكي يشحذ الهمم، ويدفع حجج منتقديه، أن يستعيد ثقافة المؤسِّسين الأوائل ليبيِّن أنّ لاهوت القوة ليس إلاَّ منحة إلهية لدفع الشر في عالم ممتلئ بالفوضى.
خلال السنوات الإنتقالية بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، أسقطت الولايات المتحدة في يدها صفوة أوراق اللعبة الكونية الرئيسية. لقد صار اتخاذ أي قرار، وتقرير أي حل نهائي، من دون رضاها، ضرباً من المستحيل. فما الذي نستطيع انتزاعه من المشهد العام؟؟..
مع نهاية الحرب الباردة أخذ منظِّرو الإستفراد الأميركي يصوغون المقدِّمات العملية لفلسفة السيادة المطلقة. كان كل شيء في المقدمات النظرية جاهزاً. العامل الإيديولوجي شكَّل أساساً ثقافياً ودعائياً لهذه الفلسفة. ولنا أن نعرف أنَّ الولايات المتحدة مرَّت ضمن سيرورة تاريخية ساهمت الإيديولوجيا شيئاً فشيئاً في تكوينها. فقد قامت ـ هذه الفلسفة ـ انطلاقاً من نواة إيديولوجية ذات محورين: الأول، الإعتقاد بأنَّ أميركا مكلَّفة برسالة. والثاني، اليقين بأنَّ أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كل الوسائل بلا تحريم. وممّا يميِّز السياسة الأميركية منذ مولدها: الثبات في العمل على قَدْرِ الديمومة في متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الإيديولوجي المولِّد للعمل. ولا شك في أنَّ هذه السياسة بلغت ذروة تحقّقها في فجر القرن الثامن عشر، وزادت أيضاً في مطلع القرن التاسع عشر. لكن ميشال بوغنون موردان في كتابه "أميركا التوتاليتارية" (L'Amérique Totalitaire) الصادر في باريس في العام 1997(4) يذهب إلى "أنَّ الإيديولوجيا الأميركية لم تتورَّع عن خلع صفة الأزلية على أميركا، حيث إنَّ ادعاء الرسالة الإلهية لم يغب يوماً عن ناظرها. ثم يورد كلاماً لمعاون الرئيس السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القومي أنطوني لاك، فيه "إنَّ مصالحنا ومُثُلنا لا تلزمنا بالتدخُّل وحسب، بل تلزمنا أيضاً بالقيادة(...) يضيف: "من واجبنا تطوير الديمقراطية واقتصاد السوق في العالم لأنَّ هذا يحمي مصالحنا وأمننا، ولأنَّ الأمر كذلك يتعلَّق بانعكاس القيم، حيث هي في آن قيم أميركية وعالمية"(...). وهكذا فإنَّ انتصار الأميركيين الأبرز (5) ـ يعلَّق "بوغنون": هو، بكل تأكيد، الحضور الكلِّي لإيديولوجيتهم . فالليبرالية، وهي أكثر عقيدة اقتصادية خالصة، تمثِّل أيضاً رؤية قويمة للعالم، استقبلها الكثير من المالكين ومجموعات المصالح بوصفها نعمة وخلاصاً. لقد صارت الليبرالية ـ حسب بوغنون ـ رؤية وعقيدة تخدمان مصالح الأميركيين وتنقذان المظاهر، الأخلاقية، على الأقل، ما دامت الليبرالية، كمفهوم، تنطوي على ركيزة دينية. وهو ما كان لاحظه توكفيل لجهة وجوب اعتبار الدين بالنسبة للأميركيين بمثابة المؤسسة السياسية الأولى. ثم إنَّ جمهور الناس، أولئك الذين لا يفهمون شيئاً كثيراً من الألعاب السياسية والاقتصادية، اقتنعوا بفعل الحملات الإعلامية، بعدم وجود أيَّة عقيدة أفضل من هذه العقيدة (...) ولقد رأينا منذ الأصل، وقبل أن تصبح أميركا هي الولايات المتحدة، أنَّها كانت تزعم شمولية نمطها التنظيمي الخاص. ولم يَسْعَ مفكِّروها ـ من أساتذة وكتَّاب وكهنة ورجال دولة ـ لحظة واحدة إلى إخفاء هدفهم الأخير وهو: فرض نمط حياتهم على بقية العالم، وذلك عبر آليات أخلاقية تكتظ بالتعالي على الآخر، أيّ آخر، منها في المقام الأول، بما يسميه بوغنون بــ "القدوة". أي من خلال تأدية عروض مثيرة تُظهر "الصورة الساطعة لأمَّة جديدة اختارها الله لغاية وحيدة هي تزويد كل الشعوب بالرسالة الوحيدة ذات المستقبل المُصاغ بصورة زاهية. ثم في المقام الثاني بوضع الآخر جبراً في منطقة القبول بالقدر الأميركي. فثمة يقين لدى "فقهاء الأمركة" بأنَّ إذعان الآخرين عنوة ـ كائناً ما كان شكل الإكراه ـ أمرٌ محتوم في مواجهة هذه الممانعة أو تلك. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها كلّية لا تُضاهى. وبهذه الصفة، لا تتصور ذاتها إلاَّ متفوِّقة على مجمل المناطق التي يتحرَّك في داخلها أفراد وأمم، وترى إنَّ من واجبها احتواءها. إنَّها ـ على ما يزعم فقهاؤها ـ هي العالم، ما دامت العناية الإلهية أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقاً للخطط الإلهية. ومن المقدَّر ـ تبعاً لهذا الزعم ـ أن تقع على كاهلها مسؤولية إملاء قانونها، القانون الذي شرَّعته السماء، وفرضته على الأمم والشعوب".(6)
تاريخية الإستعلاء
حين سئل الرئيس تيودور روزفلت عمّا إذا كانت الإستراتيجية الأميركية العليا، عازمة على تشييد فضائها الإمبراطوري ـ وكان ذلك في مستهلّ القرن العشرين ـ أنكر ما يرمي إليه سائله وقال: "إنَّ البلد الذي قام على فضيلة الحرية، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الإمبراطورية!"...
هل يبيِّن مثل هذا "الإنكار" أنَّ ثمة منطقة نائمة في العقل السياسي الأميركي تستيقظ في المحطات الكبرى للتاريخ.. أم أن هذه المنطقة التي يصدر منها كلام كهذا، هي مجرد دائرة صغيرة، يجري استخدامها متى دعت الحاجة إليها ؟
ربما كان روزفلت على شيء من يقين، من أن قوله هذا لا يتعدى حدود الأخلاق النظرية. وحين حرص على نفي الطموح الإمبراطوري، مساوياً، بينه وبين الخطيئة، كان يعي كم للخطاب الأخلاقي من أثر حاسم في لعبة القوى وتكوين حقائق التاريخ. فالضرورة الإيديولوجية للخطاب السياسي، إذاً، هي التي ستحمل الرئيس الأميركي إلى ما يمكن وصفه بالجمع بين متناقضين يشغلان الفكر السياسي الأميركي في ذلك الوقت: قيم الحرية، والطموح الإمبراطوري / الاستعماري.
هل أميركا إمبراطورية؟ هل هي إمبريالية جديدة ؟ أم أنها دولة / أمّة من ذلك النوع السياسي الذي يمكث في "منطقة استثنائية" بعد حادثين تاريخيين متقاربين وعظيمي الشأن: نهاية الحرب الباردة (1990) وزلزال الحادي عشر من أيلول /سبتمبر (2001).
كانت الولايات المتحدة الأميركية في أثناء الحرب الباردة إمبريالية من طراز خاص. لم تقم بعمليات الإخضاع والهيمنة على طريقة الإمبرياليتين البريطانية والإنكليزية عبر الإستعمار المباشر للدول المستعمرة. كان عليها أن تتبع حكاية "القرصان الأكبر" الذي يقطع الطريق على القراصنة الصغار ويلتهم حصادهم. لقد عمدت الولايات المتحدة إلى إخضاع القوى الإمبريالية القديمة لنظامها الخاص. لذا لم تؤدِ الحرب الباردة التي شنتها الولايات المتحدة إلى هزيمة العدو الاشتراكي، وربما لم يكن ذلك، قطّ، هدفها الأول في حقيقة الأمر. لقد انهار الإتحاد السوفياتي تحت وطأة تناقضاته الداخلية الخاصة. ولم تفعل الحرب الباردة، في الحدود القصوى، أكثر من إفراز بعض شروط العزلة التي ما برحت، عبر تردد أصدائها في الكتلة السوفياتية نفسها، أن ضاعفت تلك التناقضات القابلة للانفجار. لعل أهم آثار الحرب الباردة هو التعرُّف على خطوط الهيمنة داخل العالم الإمبريالي. تلك الخطوط التي دأبت على تسريع عملية تدهور القوى القديمة، ورفع مستوى مبادرة الولايات المتحدة على صعيد تأسيس نظام إمبراطوري. وبحسب عدد من المفكرين الإستراتيجيين فإنه لو لم يكن قد تمَّ الإعداد مسبقاً لنمط جديد من المبادرة الهيمنية، لما خرجت الولايات المتحدة منتصرة في نهاية الحرب الباردة. المسألة إذاً، تتعلق ببعد تاريخي للتكوين الأميركي السيادي، فالمشروع الإمبراطوري هو مشروع سلطة متشابكة يشكّل المرحلة أو الصيغة الرابعة من التاريخ الدستوري الأميركي. وعلى ما يبيِّن مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما إمبراطورية العولمة الجديدة(7) فإنَّ تحقيق فكرة السيادة والهيمنة الأميركية اتخذ مسيرة طويلة تطوّرت عبر مراحل مختلفة من تاريخ الولايات المتحدة الدستوري. فالمعروف أن الدستور الأميركي، كوثيقة مكتوبة بقي دونما تغيير ذي شأن، (باستثناء بعض التعديلات) غير أن الدستور يجب فهمه، أيضاً، بوصفه منظومة مادية من التفاسير والممارسات الحقوقية التي يعتمدها، لا المحلفون والقضاة فحسب، بل والأفراد في المجتمع. وبالفعل فإنَّ هذا التأسيس المادي الاجتماعي قد تغيَّر جذرياً منذ تأسيس الجمهورية. ويذهب بعض علماء القانون والتاريخ السياسي إلى تقسيم أميركا دستورياً إلى أربع مراحل أو أربعة نظـم متمايزة
ـ مرحلة أولى تمتد من إعلان الاستقلال إلى الحرب الأهلية وعملية إعادة البناء.
ـ مرحلة ثانية وهي مثقلة بالتناقضات، وتتزايد مع الحقبة التقدمية، مغطيَّة انعطافة القرن، من مبدأ تيودور روزفلت الإمبريالي، إلى إصلاحية وودرو ولسون الأممية.
ـ مرحلة ثالثة، وتمتد ممّا يسمى الصفقة الجديدة (New Deal) والحرب العالمية الثانية إلى فترات اشتداد الحرب الباردة.
ـ مرحلة رابعة، وهي التي سبق أن أشرنا إلى بعض وجوهها، وهي بدأت خلال عقد الستينات عبر نشاط الحركات الاجتماعية واستمرت إلى حين تفكيك الإتحاد السوفياتي وكتلة أوروبا الشرقية. فالمراد من حصيلة هذه المراحل الدستورية القول إن كلاً منها شكّل خطوة إلى الأمام في التشكُّل التاريخي للسيادة الإمبراطورية للولايات المتحدة.(9)
عندما وصلت الأزمة المالية الكبرى سنة 1929 جاء الإنقاذ بانتخاب "فرانكلين روزفلت" (ابن عم الرئيس الذي سبقه، تيودور روزفلت). ومع الرئاسة الأولى لروزفلت الثاني 1932، وبعد سياسة العدل الاجتماعي الجديد التي أعلنها وطبَّقها وعادت بها الولايات المتحدة إلى حياتها الطبيعية ـ أخذ الحلم الإمبراطوري يشغل نخبها السياسية والبيت الأبيض في المقدمة. ومن واشنطن كان فرانكلين روزفلت يتابع ما يجري في أوروبا وشغله "صراع الإمبراطوريات"، الذي عاد (كما لو كان متوقّعاً) يتجدد مرة أخرى دافعاً إلى القارة نذر عواصف تتجمع من جديد . لقد بدأت إيطاليا تشهد صعوداً للحركة الفاشية بقيادة "بنيتو موسوليني" الذي وصل إلى السلطة ، وشعاره مرة أخرى هو الشعار الروماني القديم في وصف البحر الأبيض المتوسط بــ "إنه بحرنا".
وفي ألمانيا التي نهضت من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي، سيجري انتخاب أدولف هتلر، وستصعد النازية إلى السلطة في قلب أوروبا الغربية، ثم ليعلن هتلر أنه جاء ليحيي "الرايخ الثالث" الذي ينبغي أن يعيش ألف عام كما كان يقول.(10)
في اليابان كانت الصورة مشابهة حيث كان الحزب العسكري المطالب بالتوسع الياباني باتجاه العالم انطلاقاً من آسيا الشرقية / الجنوبية يمسك بسلطة القرار في طوكيو فارضاً نفسه على الإمبراطور هيروهيتو.
أما في روسيا فقد ازدادت سطوة الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الذي خلف لينين في قيادة الحزب والدولة. لقد أمسك ستالين البلاد الشاسعة القوية بقبضة فولاذية، مستغلاً موارد بلد هو الآخر بحجم قارة ومحاولاً أن يبني من التخلّف القيصري دولة صناعية قادرة على المنافسة والتفوّق(...)
كان تقدير روزفلت أنَّ هناك حرباً عالمية في الأفق، وتوقّعه أنها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانيا وإيطاليا من ناحية وبريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى. وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح. وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى "روزفلت" تصوّر واضح لمسلك الإتحاد السوفياتي ولا لمسلك اليابان، ولعله ظنَّ أن كلا البلدين سوف ينتظر حتى يرى اتجاه العواصف ثم يقرر كيف يستفيد من هبوبها ويستغل التطوّرات والنتائج.(11)
لكنّ المراقبة الأميركية لصورة العالم آنئذٍ راحت تتخذ مسلكاً مخصوصاً، بحيث ترصد بدقة اتجاهات القوة بين الإمبرياليات المتحاربة من دون أن تستغرق في حروب مباشرة غير محسوبة النتائج بالكامل لصالحها، بينما كان الطموح الإمبراطوري وتحقيق السيادة العالمية هو الناظم المركزي للإستراتيجية الأميركية العليا.
آخر الصابرين وأول الوارثين
لقد كانت مجمل تقديرات الرئيس روزفلت الثاني تركِّز على العلامات الفارقة التالية:
أولاً: الحرب التي تلوح نُذُرَها الآن هي ـ الفرصة السانحة للولايات المتحدة لكي تقفل صفحة الإمبراطوريات القديمة، وتفتح صفحة الإمبراطورية الأميركية، لأنها وحدها الأجدر بـ "فرض سلام" تقدر عليه مواردها وطاقاتها ـ وهي ليست قادرة على ذلك فقط، وإنما هي تستحقه لأنها قلعة الغنى في العالم وذروة تقدمه.
ثانياً: في ما يتعلّق بالصراع الأوروبي، وهو دائرة الحرب الأساسية، كانت خطة الولايات المتحدة، أن تكون أكثر عنفواناً، وبالتالي فإنَّ "هتلر" لا يجب أن ينتصر، وكذلك "موسوليني".
ثالثاً: هذا معناه أنَّ بريطانيا وفرنسا لا بد أن تخرجا من حمّام الدم الأوروبي سالمتين، وفي نفس الوقت غير قادرتين هذه المرة على الاحتفاظ بإمبراطوريتيهما الشاسعتين (في آسيا وأفريقيا). وهذا معناه أيضاً، أن انتصار الحلفاء والأوروبيين يصح أن يتم داخل حدود لا يمكن تجاوزها، وإلاَّ فإنَّ ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى سوف يتكرر بعد الحرب العالمية الثانية، ولا تتمكَّن الولايات المتحدة من فرض رأيها ورؤيتها لمصائر العالم فوق سطوة إمبراطورياته القديمة المتهالكة...
رابعاً: من الأنسب للولايات المتحدة هذه المرة أيضاً، أن تظل بعيدة عن ميادين القتال حتى آخر لحظة. على أنها خلافاً لموقف "ويلسون" والحرب العالمية الأولى، لن تعلن حيادها "فكراً" و"فعلاً"، وإنَّما عليها أن تكشف وتظهر انحيازها الفكري ضد النازية، لأنَّ تلك مسألة أخلاقية. وأما عملياً فإنَّها سوف تترك بريطانيا وفرنسا وحدهما وسط "عاصفة الحرب" وتراقب هي من بعيد حتى ينزف كلا الطرفين دمه، ويترنَّح تحت مطارق الحديد.
خامساً: إذا كانت سياسة الإتحاد السوفياتي واليابان هي الانتظار والمتابعة حتى تظهر حركة الموازين، فإنَّ الولايات المتحدة سوف يتعيَّن عليها التذرُّع بالصبر الطويل، وهي قادرة على ذلك بحكم أمان المحيطات. ففي حين أنَّ روسيا ملاصقة من الشرق لغرب أوروبا بحيث يصل إليها صدى المدافع، فإنَّ الولايات المتحدة بعيدة. كما أنّ حال اليابان هو الشيء نفسه، لأنها على تماس مباشر مع أطراف الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في آسيا (الهند والهند الصينية). وعليه أخذت تنشأ تلك المقولة الذهبية التي ترى أنَّ الولايات المتحدة تقدر وتملك أن تكون آخر الصابرين لكي تكون أول الوارثين(12).
سوف تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها لتسفر عن استناف واقعي لرحلة أميركا في ما وراء الحدود. وفي هذا المسار سيُفتح الباب للولايات المتحدة الأميركية لتحفر مجراها الجيو ـ ستراتيجي بوصفها دولة عالمية. لقد أفلحت الولايات المتحدة في أن ترِث الإمبرياليات التقليدية وتؤسِّس على هذا الإرث آليات جديدة للسيطرة الأمنية والاقتصادية والإعلامية، (اصطلح على هذه الحقبة في أوساط اليسار العالمي بـ "حقبة الاستعمار الجديد"). وبقطع النظر عن مدى صحة أو مطابقة هذا الإصطلاح للواقع التاريخي الدولي بسبب من دخالة الإيديولوجيا المكثفة وأثرها في نشوئه، فإنَّه سيأخذ سياقه الفعلي في نظام الصراع اللاَّحق الذي حكم العالم بما عُرف بــ "الحرب الباردة".
لقد كشفت الحرب الباردة حقائق مدويّة ما كان لها أن تظهر لولا أن أصبحت الولايات المتحدة وجهاً لوجه مع العالم. لم تعد أيديولوجيا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والليبرالية الاقتصادية مجرد حجاب يخفي وراءه نزعة الهيمنة. صارت هذه الأخيرة بآلياتها ووقائعها وأنساقها وأنظمتها هي الحاكمة والمحدِّدة لعلاقة أميركا بالعالم، إذ على نزعة الهيمنة ستنشأ المقدمات الفعلية للعالمية الأميركية. فخلال الحرب الباردة، بل وعبر مسيرة القرن العشرين، بات واضحاً بصورة متزايدة باطّراد ، أنَّ الولايات المتحدة شقَّت طريقها باتجاه العالم تحت شعار إمبراطورية الحرية.
على أنَّ هذا الإغراء بالحرية سيؤدي ـ ضمن معادلة الحامي للحرية والمتسلط على مقادير الثروة العالمية ـ إلى ظاهرة استعمارية أكثر عمقاً واتساعاً. بعبارة أخرى، ما لبثت حماية البلدان في سائر أرجاء العالم، من الشيوعية، أن أصبحت متعذّرة التمييز. فكان لا مناص من تحقيق السيطرة بأساليب وتقنيات إمبريالية. لذا عمدت إلى استرجاع الآليات التقليدية للإستعمار البائد. ولعلَّ التجربة الفيتنامية في هذا الإطار هي التجربة الأكثر دلالة وسطوعاً على هذا النوع من السيطرة. فلقد كانت الحرب في فيتنام متناغمة مع الإستراتيجية السياسية العالمية القائمة على حماية "العالم الحر" من الشيوعية. غير أنَّ هذه الحرب لم يكن بوسعها أن تكون، عملياً، إلاَّ عملية استئناف في العمق لأشكال السيطرة الأوروبية التقليدية. وليس من شك في أنَّ الهزيمة التي لحقت بأميركا في فيتنام ستكون واعظاً لها لتغادر السياق الكلاسيكي للسيطرة وتتجه إلى صياغات استراتيجية جديدة تقوم على حكم إمبراطوري من طراز جديد.
إنَّ الجدل العميق الذي اشتعل داخل حقول الفكر الإستراتيجي الأميركي بعد حرب فيتنام أدَّى بحسب زبينغيو بريجنسكي إلى اعتراف متزايد بضرورة إعادة تحديد دور أميركا العالمي. ذلك أنَّ اندفاع أميركا في العالم بنموّها الخاص وبفعل حربين عالميتين، جعلها تحرّك بنشاط في البداية، ثم تضمن، استعادة الغرب لاقتصاده ولأمنه العسكري. وهذا الوضع ـ النابع من الضرورة المتميزة بالهموم العسكرية الثقيلة ـ أخذ يتحول بشكل متزايد نحو مزيد من التورط في المشاكل الأكثر أساسية وذات الطابع السياسي الأقل، والتي تواجه الإنسانية في الثلث الأخير من القرن العشرين. وعلى رأي بريجنسكي ـ فإنَّ جون كينيدي هو الذي سيمسك بروح الوضع الأميركي الجديد في العالم عندما قال عن نفسه أنه أول رئيس أميركي يعتبر العالم كله من شؤون السياسة المحلية بمعنى أو بآخر. ومن المؤكَّد أنَّ كينيدي كان أول رئيس "عالمي" للولايات المتحدة. فروزفلت برغم كل اتجاهاته الدولية كان يؤمن في الأساس باتفاق عالمي يشبه اتفاق 1815، حيث "الأربعة الكبار" كان لهم دوائر نفوذ خاصة. أما ترومان فلقد تجاوب قبل كل شيء لتحدٍّ شيوعي معّين وأظهرت سياساته أنها تعطي أولوية واضحة للمشاكل الإقليمية. واستمر أيزنهاور على نفس الطريق مطبِّقاً بين الحين والآخر سوابق أوروبية على مناطق أخرى. وهذه التحوّلات كانت معبِّرة عن تغيُّر دور الولايات المتحدة. إلاَّ أنَّه مع كينيدي كان الشعور بأنَّ كل قارة قادرة، وكل شعب له الحق في أن يتوقع القيادة والطموح من أميركا، وإنَّ أميركا ملزمة بنفس القدر من الانغماس والتورط في كل قارة وكل شعب. إنَّ أسلوب كينيدي المثير ـ كما يلاحظ بريجنسكي ـ أنه ركَّز على الطابع الإنساني العالمي للمهمة الأميركية بينما كان افتتانه الرومانسي بفتح الفضاء يعكس قناعته بأنَّ زعامة أميركا العالمية ضرورية لفعالية دورها العالمي.(13)
إسـتعادة المفارقـة
خلال الحقب الرئيسية الأميركية التي تلت حقبة كينيدي، لم تغادر جدلية الهيمنة على العالم وحمايته الرسالية المدَّعاة، العقل الإستراتيجي الحاكم في الولايات المتحدة. كان ثمة استيقاظ دائم لنزعتي الهيمنة والمهمة الرسالية، وإن كانت هذه الأخيرة باقية على الدوام كذريعة أيديولوجية تسوّغ لمنطق القوة وتمهِّد له سبيل الفلاح.
في كتابهما(14) الذي نشراه في باريس عام 2003 تحت عنوان: (أميركا المقبلة: قياصرة البنتاغون الجدد) يبيِّن الباحثان الإستراتيجيان الفرنسيان جيرار شاليان (Gerard Chaliand) وأرنو بلين (Arnaud Blin) الخلفية التاريخية والثقافية التي تحمل الفكر السياسي الأميركي على الجمع الدائم بين هاتين النزعتين المفارقتين (الهيمنة والرسالية)، ثم يتساءلان عن السبب الذي يجعل إدارة جورج بوش الثاني تحرص وتقاتل بحزم للحيلولة دون ظهور قوة منافسة لها على وجه الأرض، وعن موضوعية البحث عن الدوافع المحرِّكة لهذه الإدارة في ما ترفعه من شعارات. وللإجابة يؤكدان أنَّ الجذور التاريخية هي وحدها التي يمكن أن تمدنا بالمشهد وخلفيته معاً. فتاريخ أميركا منذ توماس جيفرسون وحتى جورج دبليو بوش عرف ظهور توجّهين اثنين، توزعت بينهما الإدارات، أحدهما مثالي حالم، والآخر واقعي ماكيافيللي شرس. ولكي نعبِّر عن الأمر بلغة فلسفية، نستطيع القول إنَّ إحديهما تعود إلى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز القائل: "إنَّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، في حين تعود الأخرى إلى كانط الفيلسوف المثالي "الترانساندانتالي، المتسامي، العالمي، وأيضاً إلى جان جاك روسو اللذين تحدَّثا عن إمكانية "السلام الدائم" و"التعايش السلمي" العالمي، وكانا يريان إلى الإنسان كائناً محكوماً بالأخلاق والنوايا الطيبة والطبيعة الخيّرة على عكس هوبز ومكيافيللي. ومن هذا المنطلق فإنَّ أميركا الواعظ الإنجيلي جيمي كارتر تختلف ـ سياسياً وموضوعياً ـ عن أميركا المحافظ اليميني المتطرّف رونالد ريغن، تماماً كما أنَّ إدارة الداعية الديمقراطي الساعي إلى تحقيق رسالة أميركا بإشاعة الحرية في العالم ـ بيل كلينتون ـ تختلف عن إدارة اليميني المحافظ وذي التوجه الإمبريالي جورج دبليو بوش المرتمي في أحضان جماعة المحافظين الجدد، بكل مشروعها وأطروحاتها المتطرّفة والكوسموبوليتية. ويرى المؤلفان أنَّ تاريخ الولايات المتحدة كمشروع سياسي عرف مرحلتين رئيسيتين، إحداهما أطلقها الآباء المؤسسون، وقدمت هذه الدولة الهائلة كمشروع طوباوي من قبيل "مدينة الشمس" لكامبانيلا، أو "مدينة الله" لتوماس مور، ومشروعها الإنكفاء على نفسها واستغلال مواردها الهائلة لتحقيق دولة الرفاه التي تجسّد الفضيلة أخلاقياً، والعدالة سياسياً، والتي تتعاطى دائماً مع السياسة الخارجية من المفهوم المثالي الأخلاقوي وأحياناً النقوي الطهوري.
أما المرحلة الثانية فتبدأ منذ الحرب العالمية الثانية حين أصبحت أميركا قوة عظمى، وبالتالي وجدت نفسها تخرج من حدودها السوسيوـ تاريخية التي اعتادت عليها لتمارس الهيمنة على العالم، وأيضاً ـ ويا للمفارقة ـ لتتبادل الأدوار مع أوروبا التي كانت خلال المرحلة سالفة الذكر، ]خصوصاً في القرن التاسع عشر[ تلعب دوراً إمبريالياً، وتتعاطى مع السياسة بالمفهوم الهوبزي الماكيافيللي، والتي جنحت منذ انتهاء الحرب، وبضغط من موروثها الفاشي ـ النازي "إلى التعايش السلمي، وإلى تغليب المفهوم المثالي للتعاطي مع السياسة عامة والخارجية منها خاصة.
وإذا كانت إيديولوجيا فتوحات أوروبا الإستعمارية في القرن التاسع عشر تحرص على تعميم "رسالة الرجل الأبيض"، فإنَّ العنوان الذي سيرفعه قياصرة "البنتاغون" الآن للخروج بالدور الأميركي إلى الحد الأقصى من حلمه إلى واقعيته هو "نشر النموذج الأميركي" عبر العالم، وذلك تعبيراً عن إيمان راسخ لدى الأميركيين عامة بما يعتبرونه رسالة قدرهم ترويجها وإشاعتها عبر العالم هي "القدر البيّن للشعب الأميركي"، الذي يعني أنَّ أميركا قبل أن تكون دولة أو قوة عظمى هي فكرة ورسالة عظيمة وحلم جميل حافل بالوعود(15).
عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها التي ظلت على مدى نحو نصف قرن تقيِّد الطموحات الجيو ـ استراتيجية للولايات المتحدة، صار سهلاً إحداث تغيير راديكالي في آليات صنع تلك الطموحات. فإذا كان رونالد ريغن قد أوصل النزاع مع الشيوعية السوفياتية إلى نهايته المدوّية ممثلة بسقوطها، فإنَّ جورج بوش الأول سيكمل ما تبقّى من آثارها في الشرق الأوسط عبر حرب الخليج الثانية في العام .1991 لكنّ الرئيس بيل كلينتون الذي سيخلف الرئيس بوش سيتّخذ لنفسه منحنى آخر، من دون أن يقطع مع المنطق الإجمالي لمن سبقوه إلى الإدارة. فعلى رأي الذين قرأوه فإنَّ كلينتون كان أول رئيس أميركي منذ أيام فرانكلين روزفلت يصوغ أفكاره حول القضايا العالمية من دون أن يضطر لمواجهة الإتحاد السوفياتي. وفي خطابه عن "حال الأمّة" في شهر كانون الثاني /يناير 1999، استعاد كلينتون صدى الكلمات التاريخية التي أطلقها الملياردير والقطب الإعلامي الشهير هنري لوس في شباط/فبراير 1941، أي قبل عشر سنوات من دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية. يومها قال لوس: إنَّ الأميركيين فشلوا طوال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين في التنبُّه إلى مدى سيطرة بلدهم على مصير العالم، وهذا ما جعل المسار التاريخي للبشريةيأخذ منعطفاً بائساً.. ثم ليضيف: "إنَّ أميركا كمركز فعّال للحلقات دائمة التوسع في حقل الأعمال.. أميركا كمركز تدريب لخدّام الجنس البشري المَهَرَة.. أميركا الكريمة التي تؤمن مجدداً أن العطاء مبارك أكثر من الأخذ، وأميركا كمحطة لتوليد المثل العليا في الحرية والعدالة ـ من المؤكد أنه من جميع هذه العناصر يمكن أن نكوِّن رؤى عن القرن العشرين نستطيع أن نكرس أنفسنا لها بكل محبة ونشاط وحماس".. وبعد ثمانية وخمسين عاماً نظر كلينتون إلى قصدّية لوس نظرة المقتدي والمقلِّد، لا سيما لناحية وجوب أن يبسط الأميركيون أيديهم للقرن الأميركي. فقد ظهرت أطروحة لوس، كما لو أنها أطروحة مأثورة ينبغي الأخذ بها عن ظهر قلب. غير أنَّ هذه الاستعادة التي أخضعت للتأويل الإيجابي من جانب كلينتون، أي بوصفها صيغة للتعاون بين الأمم.. سرعان ما تهافتت وعادت إلى غائيتها الأولى كمادة أيديولوجية وسياسية وثقافية لـ أمركة العالم.
أميركا هي العالم ؟!
سوف تظهر أطروحة العالمية الأميركية بقوة أشدّ بعد الحادي عشر من أيلول /سبتمبر .2001 فلم يكن للعقيدة السياسية الأميركية بعد هذا التاريخ سوى إماطة اللثام عن واحدة من أبرز أطروحاتها المعاصرة، عنينا بها أطروحة: "أميركا هي العالم والعالم هو أميركا".
إنَّ تجديد هذه الأطروحة بعد هذا التاريخ، ينطوي بلا ريب على فعليّة كثيفة. ذلك لأنَّ عالمية أميركا هذه المرة لم تعد مجرد شعار ينبغي إخراجه من القوة إلى الفعل. فالعالمية الأميركية بعد انصرام الحرب الباردة ثم بعد زلزال الحادي عشر من أيلول، غدت واقعاًموضوعياً وذاتياً بالنسبة لدولة كأميركا راحت تتصرف حيال أي وضع في العالم بصفته وضعاً متصلاً بقوة بالأمن القومي الأميركي..
إذا كان الخطاب السياسي ميّالاً كالعادة إلى ضربٍ من الديماغوجيا لإظهار محاسن الطموح الإمبراطوري للولايات المتحدة، فالخطاب الإعلامي الموجَّه يبدو أقل تكلُّفاً في ارتداء الأقنعة. هذا ما سيجدُّ في بيانه الباحثان البريطانيان ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس في مقالتهما المشتركة التي وَضَعَاها تحت عنوان "أميركا هي العالم والعالم هو أميركا"(16). يستهل الباحثان مقالتهما تلك بالإشارة إلى المسلسل التلفزيوني الشهير (ألياس) Alias التي تعرضه محطة آي. بي. سي (A.B.C) الأميركية. فقد قرَّرا أنَّ صراحة هذا المسلسل الذي يروي قصة طالبة تعمل في الخفاء كعميلة سرية من مستوى عالٍ، توسّع إلى حد كبير أفق المعرفة بالنسبة إلينا جميعاً. فقد صُنِّف "ألياس" بأنه برنامج ترفيهي مسلٍّ لا يستدعي أيّ اهتمامات. لكن هذا المسلسل العادي والسطحي، والذي يحبس الأنفاس عبر حبكة غريبة، يكشف للمُشاهد أشياء كثيرة عن أميركا والطريقة التي تنظر بها إلى العالم. ويضيف صاحبا المقالة:
إنَّ السينما والتلفزيون يعكسان "الواقع" ويوجدانه في الوقت نفسه. وكما أشار إلى ذلك الروائي والناقد الإيطالي أمبرتو إيكو، فإنهما لا يكتفيان بنقل أيديولوجيا: إنهما الأيديولوجيا الأميركية في حدِّها الأقصى(...) بهذه الدلالة تتمظهر أميركا بوصفها هي العالم، بحسب مسلسل "ألياس". إذ يمكن أن ينتقل سير أحداث حلقة نموذجية بسرعة الضوء من لوس أنجلوس إلى القاهرة أو إلى موسكو، وإلى روما أو إلى أوكسفورد، وإلى توسكانا أو إلى جنيف، ومن مستشفى للأمراض العقلية في بوخارست إلى صحراء أرجنتينية قبل أن يعود إلى لوس أنجلوس. إذاً، ليست بقية العالم سوى شرفة أميركا حيث يُقدم الأشرار ـ أعداء الــ "سي.آي.إي" و "SD-6" ـ باعتبارهم "الآخرين"، ويؤدون دورهم ويظلّون على ما هم عليه. وحيثما تقود المهمات العملية السرية، فإنَّ العالم بأسره، وباستثناء بعض التفاصيل الثانوية وبعض السكان الأصليين المثيرين للإعجاب ، يشبه تماماً لوس أنجلوس، حيث يتم تصوير المسلسل. وحيثما توجه سيدني نظرها، فإنها تكتشف الأفق نفسه. لذا ليس مفاجئاً أنها تنتقل في العالم غير الأميركي كما تنتقل في حديقتها الخلفية، وأنها تعود من كل مهمة وكأنها لم تقم إلاَّ بجولة صغيرة في مركز تجاري مجاور. أما في ما يتعلق بأعدائها، فإنهم موجودون في كل مكان ومن كل الأجناس ـ عرب وصينيون وروس وكوبيون ـ ويعملون جميعاً كشبكات مستقلة وسرية.
إنَّ ما يعرضه "ألياس" بثقة كبيرة ـ كما يبيِّن الباحثان ـ ليس القول أنَّ أميركا تريد أن تحكم العالم، وإنما التوكيد بأنها تحكمه بكل بساطة. فالدول الأمم والحدود الجغرافية والهيكليات السياسية تتحول إلى مجرد سخافة. فالمهم هو وجود شبكات متنافسة تسعى كل منها إلى ضمان مصالحها على المسرح العالمي ـ مسرح يغفل التنافس بين القوى العظمى بما أنه ليس هناك سوى قوة عظمى وحيدة ومصدر وحيد للنظام العام. وعليه، فإنَّ الحديث عن "إمبراطورية أميركية" أو عن "إمبريالية أميركية"، في ظل نظام طبيعي من هذا النوع، يصبح بلا معنى، هذه الخطب والتحليلات باطلة إلى حد خطير، إذ إنَّ فكرة الإمبراطورية تعني وجود مستعمرات يتم فيها قمع سكان يرفضون الخضوع. كما إنَّ الإمبريالية هي تعريفاً حاضرة مزدهرة تسعى جاهدة للسيطرة على الأسواق وفرض قوانينها على بلد بعيد. أما حالياً، فإنَّ العالم يمثِّل إمتداداً للمجتمع الأميركي، إذ ـ تحديداً ـ يلتحق الأفراد والجماعات بحماس بثقافتها وقيمها. وهكذا تصبح المسافة، كما يظهر مسلسل "ألياس" ذلك بمهارة كبرى، بلا أي معنى. فباستثناء "دول مارقة" شاذة، لم يعد هناك "بلدان بعيدة" ثمة حاجة إلى "إخضاعها للنفوذ" من جانب الإمبريالية الواضحة للعيان. إذاً، لا تقدم أميركا نفسها كقوة إمبريالية بالية تبحث عن "دوائر نفوذ" وتتنافس مع إمبراطوريات أخرى؛ إنها قوة عظمى لا مثيل لها. وعليه، كيف يفاجئنا بأن ينظر مسلسل "ألياس" إلى العالم بصفة كونه أميركا ؟(17)
يجيب صاحبا المقالة عن سؤالهما، بضرب من الاستفهام المنطقي، فلئن كان العالم هو أميركا، فهذا يعني أنّ مصالح أميركا هي بالضرورة مصالح العالم، وأنّ أولئك الذين يعملون ضد مصالح أو ثقافة أو رؤية أميركا للعالم، يلحقون الضرر في الحقيقة برفاه العالم وأمنه(...) هذا هو المنطق الذي حكم كل التدخلات العسكرية الأميركية منذ أكثر من قرن. كانت المعادلة بسيطة جداً: تدخّلت أميركا عسكرياً في الخارج بسهولة وباستمرار تماماً مثلما تنطلق العميلة المزدوجة الخارقة "سيدني" في مهمة. وهكذا أرسلت الولايات المتحدة قواتها إلى الصين وكوريا وفيتنام وأندونيسيا وكذلك إلى بلدان أكثر قرباً مثل كوستاريكا وغواتيمالا وغرانادا في خلال عقود الحرب الباردة. وفي أثر تفجيرات الحادي عشر من أيلول /سبتمبر مباشرة نشر المناضل الأميركي من أجل السلام والمتعاون المنتظم مع المجلة المتطرفة "كونتر بانتش" زولتان غروسمان قائمة تحت عنوان: "قرن من التدخلات العسكرية الأميركية: من ونديد كني إلى أفغانستان"، وقد جرى إعدادها استناداً إلى أرشيف الكونغرس ولحساب البحوث في مكتبة الكونغرس. وتحصي القائمة 134 تدخلاً محدوداً أو واسع النطاق، عالمياً أو داخلياً، ممتدة زمنياً على فترة 111 عاماً بين عامي 1890 و.2001 وتظهر هذه الوثيقة أنَّ الولايات المتحدة قامت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية بـ 15,1 تدخلاً سنوياً كمعدل وسطي. ثم وصل هذا الرقم إلى 29,1 تدخلاً خلال الحرب الباردة. أما بعد سقوط جدار برلين، فقد ارتفع الرقم ليبلغ تدخلين سنوياً. وعليه، كلّما توسَّعت الإمبريالية العظمى الأميركية، تتزايد التدخلات من أجل حماية "مصالحها". إلى ذلك، وكما يبيِّن جوهان غالتنغ، مدير "ترانسند" (شبكة إنترنت من أجل السلام والتنمية) في "البحث عن السلام" (2002)، فإنَّ التوزيع الجغرافي للتدخلات تبّدل أيضاً في فترة ما بعد الحرب. ففي مرحلة أولى، ركَّزت الولايات المتحدة تدخلاتها بعنف شديد في شرق آسيا (كوبا، فييتنام، أندونيسيا، وكذلك إيران). ثم جاء دور أوروبا الشرقية (بما في ذلك الإتحاد السوفياتي).
لكنّ العمليات العسكرية كانت هذه المرة أقل عنفاً ظاهراً بسبب وجود قوى عظمى منافسة. وفي المرحلة الثالثة، تركّزت التدخلات في أميركا اللاتينية، بدءاً من كوبا قبل أن تشمل القسم الأكبر من القارة. وقد مورس العنف هذه المرة على مستويات متدنّية ومرتفعة، لكنها لم تصل إلى المستوى الذي بلغته في شرق آسيا. أما في المرحلة الرابعة، والتي نشهدها حالياً، فإنها تمتد من الشرق الأدنى إلى آسيا الوسطى: بعد فلسطين وإيران، ثم ليبيا والمنطقة اللبنانية ـ السورية، انتقلت العمليات إلى العراق في التسعينات، ثم إلى أفغانستان والعراق مطلع القرن الواحد والعشرين. بكلام آخر، تحوّلت أهداف هذه التدخلات من المجتمعات الكونفوشوسية والبوذية إلى الثقافات المسيحية والكاثوليكية، ثم إلى الحضارة الإسلامية. إن بقية شعوب العالم يكوِّنون إلى حد كبير جداً الفكرةالتي لديهم عن أميركا، وكذلك نظرة أميركا إليهم، من خلال المسلسلات التلفزيونية، على غرار "ألياس" وأفلام هوليوود مثل فيلم "القرار الأخير" أو "منع التجول". لكن هذا الإدراك يستند أيضاً إلى تجربة معيوشة ـ على سبيل المثال سلوك الولايات المتحدة في منابر دولية، على غرار الأمم المتحدة ـ على أن هذا السلوك ليس مختلفاً بتاتاً عن سلوك " SD-6 " في مسلسل "ألياس": بما أننا نهيمن على العالم، يمكننا أن نتصرف إلى حد كبير كما يحلو لنا. وكما كتب الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي في كتابه "الأمم المتحدة المهزومة: مأثرة الولايات المتحدة ـ الأمم المتحدة"، فإنَّ الأمم المتحدة هي حالياً ملكية حصرية لقوة عظمى وحيدة ـ الولايات المتحدة ـ التي تستغلّ، من خلال استخدام الترهيب والتهديدات وحق النقض (الفيتو)، المؤسسة الدولية لخدمة مصالحها فقط، إذ أن الولايات المتحدة تستخدم المنظمة وفق ما يناسبها لتشريع تحرّكاتها وتشكيل الإئتلافات وفرض عقوبات على "الدول المارقة". أما عندما يتصدّى لها الرأي العام العالمي، فإنها تعامل المنظمة باحتقار كبير.(18)
فلسـفة تبريـر الحـرب
هنالك إذاً، ممارسة مركّبة للهيمنة على العالم. هي ممارس