للدكتور حمدي الطاهري
عاش العرب طويلا يعتبرون المياه سلعة سهلة يمكن الحصول عليها دون عناء أو مشقة،فقد أغناهم الله بنهر النيل والفرات وكذلك نهر الليطاني والأردن عن مواجهة أزمات الجفاف وصعوبة الحصول على المياه .
واليوم نحن على مشارف حقبة تاريخية جديدة تتميز بالكثير من الاحداث مثل زيادة عدد سكان العالم العربي ونقص الغذاء وسيطرة التكنولوجيا التي مهما تقدمت في جميع المجالات بعيدا عن الزراعة،فأنها لن تطعم مئات الملايين من الافواه الجائعة التي تتزايد عاما بعد عام .
الزراعة في حاجة إلى الماء سواء عن طريق المطر أو المياه الجوفية أو الأنهار . وقد شاهدنا خلال عقود ثلاثة مضت أن المناخ في العالم بدأ يتغير، وبدأت كثير من الاراضي خاصة في أفريقيا، تتصحر وقل المطر وجدبت الأرض ولم تعد صالحة للزراعة .
بالإضافة إلى المخططات الاجنبية من أجل السيطرة على مصادر المياه في الوطن العربي حيث يتوقع الخبراء أن تتسبب ندرة المياه في منطقتنا بتصعيد التوترات في العالم وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، حيث بدأ الجميع يدرك أن هناك مخططا ( اسرئيليا ) يستهدف نهري النيل و الفرات بعد أن أصبح نهرا الليطاني و الاردن تحت اليد الإسرائيلية .
و أمام هذا الخطر القادم ظهر في الأسواق المصرية حاليا كتاب حديث يتناول (( مستقبل المياه في العالم العربي )) للدكتور حمدي الطاهري الذي يتعرض فيه لمصادر المياه في الدول العربية وأنواعها واستخداماتها، ومدى وفرتها و دراسة للانهار المشتركة والعلاقات السياسية بين الدول التي تجري فيها الانهار واحتمالات المستقبل بالنسبة للوضع المائي لهذاه الدول .
واهمية هذا الكتاب تكمن في شخصية مؤلفه السياسي المخضرم الدكتور حمدي الطاهري الذي قضى جل حياته في العمل الدبلوماسي و السياسي جوالا بين مختلف دول العالم فاكتسب بذلك الخبرة الطويلة التي جعلته كعربي غيور يوجه انذارا من خلال كتابه للأمة العربية بأن تتيقظ لأخطر قضية ستواجهها في المستقبل القريب وهي قضية المياه العربية، عصب الحياة، بل هي اصل الحياة , فمن الماء خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء .
ويحتوي كتاب ((مستقبل المياه في العالم العربي )) على 6 أبواب كاملة تتناول مشكلة المياه في عالمنا العربي و الحاجة إلى وضع استراتيجية عربية متكاملة بين دول الجامعة العربية مجتمعة وتوفير التمويل اللازم للمشروعات والاستثمارات العربية المشتركة في مجالات الري و الصرف وبناء السدود ومشروعات ازالة ملوحة مياه البحر .
عند القاء الضوء على الصراع الدائر الآن حول نهر النيل و أهميته لكل من مصر و السودان وأثيوبيا يورد المؤلف أحد التقارير الصادرة عن معهد الدراسات الإستراتيجية في واشنطن عام 1984 حيث يقول التقرير أن تلك الدول سوف تعاني نقصا خطيرا مع نهاية القرن الحالي بسبب ظروف الجفاف في (( المنابع الأثيوبية )) للنهر وأيضا بسبب الزيادة الهائلة في عدد السكان، حيث يتوصل هذا التقرير في نهاية حديثه عن الأزمة المائية في دول حوض النيل إلى أن ضغوط الجفاف ستسبب مجاعة وستدفع تلك الدول للدخول في مواجهات عسكرية مع بعضها البعض إذ يشير التقرير إلى جفاف المنابع الأثيوبية فقط مما يستدل منه على أن الدولة التي ستتضرر من هذا الجفاف هي مصر لما يصلها من المنابع الأثيوبية وبالتالي تبرز أهمية اثيوبيا بالنسبة للأمن المائي لمصر . وعلى الرغم من العلاقات الجيدة بين مصر واثيوبيا والزيارات المتكررة لوفود البلدين , فإن تنظيم مياه النيل يعد من المسائل المعلقة بين البلدين والتي لم يتم الاتفاق بشأنها .
والواقع أن مشكلة المياه في مصر مشكلة إستراتيجية وليست مرتبطة بالارتفاع سنة والانخفاض سنة أخرى ولا يجب بالتالي ربط مشكلة المياه بفترات الجفاف .
ويحلل المؤلف الموقف باستعراض عدد من النقاط الجوهرية وهي :
1- أن كل سكان مصر لا يتمتعون حاليا بمياه الشرب و المياه اللازمة للاستخدامات الأخرى وفق المستويات المطلوبة في هذا الشأن .
2- أزمة الغذاء على المستوى القومي والعلمي تحتم سرعة التوسع الزراعي أفقيا ورأسيا لتحقيق الأمن الغذائي . والمشكلة سوف تكون دائما تدبير الموارد المائية اللازمة، ولكي تحقق مصر اكتفاءً ذاتيا في الغذاء ويحصل المواطنون على احتياجاتهم من مياه الشرب والاستخدامات الأخرى في اطار الاسس المثلى لاستخدامات المياه، لا بد من توفير نحو 1800 متر مكعب سنويا من المياه لكل فرد على أرض مصر .
وهذا يعني أنه اذا كان عدد السكان 70 مليون نسمة فانهم يحتاجون لنحو 85 مليار متر مكعب من المياه لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مختلف المجالات .
وفي عام 2020 سيصل عدد السكان لنحو 100 مليون نسمة سيحتاجون لنحو 145 مليار متر مكعب من المياه . و أمام هذا الوضع المتردي فأنه لا بديل عن انشاء هيئة حوض النيل لتتولى مشروعات تخزين مياهه و ترشيد استهلاكها و انشاء بنوك للمعلومات بأحدث الأساليب الهيدرولوجية و الأرصاد الجوية النهرية واستعمال القياس الرياضي للتنبؤ بحجم فيضان النهر فضلا عن انشاء مركز متقدم للتنبه بإيراد النيل عن الأقمار الصناعية ويتنبأ بحجم الأمطار قبل 6 أشهر من سقوطها على الهضبتين الأثيوبية والاستوائية لنعرف مقدما : هل يفيض النهر هذا العام وكل عام أو لا يفيض؟ ولكن تبقى تساؤلات أثيوبية تبحث عن اجبات مصيرية خصوصا وأن لاثيوبيا موقفا رسميا من اتفاقية مياه النيل حيث أنها ترى فيها ( اتفاقية لاثنين ) تخص طرفيها فقط مصر والسودان . و تطالب باتفاقية واسعة تشمل كل دول حوض النيل التسع .
أما بالنسبة للوضع بين مصروالسودان، فمطالب السوداان اقل بكثير من مصرلقلة سكانه البالغ عددهم 20 مليونا واعتماد الكثير منهم على الرعي و تمتع السودان بقدر من المطر المنتظم الذي يزداد في كميته كلما اتجهنا جنوبا باستثناء السودان الشمالي، كل ذلك يجعل السودان أقل حاجة إلى مياه النيل من مصر إلا أن هذا لا يمنع من أن مشكلة مياه النيل تنحصر اساسا بين مصر و السودان وهي تتمثل في تنظيم جريان النهر وضبطه حتى يمكن الاقلال أن لم يكن المنع . ولهذا الغرض كان من الضروري وضع برامج ثابتة لمشروعات ضبط النهر لمواجهة الاحتياجات المتزايدة في الماء في اقليمي مصر والسودان اتفق عليها عام 1949 لتخزين المياه على النحو التالي :
1- مشروع خزان بحيرة فيكتوريا
2- مشروع قنطرة كيوجا
3- مشروع خزان بحيرة (( موبوتو ))
عند مخرج النهر من بحيرة موبوتو لخزن الماء وتنظيم صرفه .
وأخيرا مشروع قناة جو نجلي أو مشروع منطقة السدود الذي توقف ألان بفعل الحرب الدائرة في السودان بين الحكومات السودانية والجيش الشعبي بزعامة قرنق، حيث كان يتضمن شق قناة جديدة ينساب منها الماء بدلا من مجرى النيل في بحر الجبل . الا أن الوضع الآن ما زال شائكا بين الدول الثلاثة مصر والسودان واثيوبيا.
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى أزمة مياه نهر الفرات التي وصلت إلى ذروتها بين العواصم الثلاثة انقرة وبغداد ودمشق في الثالث عشر من يناير ( كانون الثاني ) 1990 عندما أعلنت الحكومة التركية قطع منسوب نهر الفرات لمدة شهر بهدف تسريع ايصال الماء إلى سد اتاتورك الكبير في إطار مشروع ري جنوب شرق الانضول . وجاء هذا القرار الأخير ليصل بالعلاقات السورية - التركية , والعراقية - التركية إلى درجة التوتر الشديد رغم تأكيد الرئيس التركي تورجوت اوزال على أن قضية تحويل مياه نهر الفرات (( قضية تقنية وليست سياسية )) وان كانت جذور الازمة ليست وليد القرار التركي الاخير بل هي مدار بحث على مدى ثلاثين عاما بين الأطراف المستفيدة من مياه نهر الفرات .
وما ينطبق على نهري النيل و الفرات ينطبق أيضا على أزمة المياه في نهر الأردن وكذلك الليطاني ومحاولات إسرائيل الدؤوبة للتحكم و استغلال منابع تلك الأنهار و الحرب المائية بين كل من سورية ولبنان و الأردن من جهة وإسرائيل من جهة أخرى , حيث أن الإطماع الصهيونية في المياه العربية ومحاولة اغتصابها قائمة منذ مطلع هذا القرن . وقد أراد الإسرائيليون أن يقننوا هذا الاغتصاب برسم حدود تضم جميع منابع المياه العربية حيث أنها ترنو إلى المزيد . فهي تحصل في الواقع على مياه نهر الأردن حاليا وتنهب مياه الليطاني . وكانت على وشك الحصول على جزاء من مياه النيل في عهد الرئيس انور السادات ولكن لم يتم الأمر .
أما تركيا فقد أقامت وصممت عدة سدود على نهري الفرات ودجلة .. ووجهة النظر التي اعلنها مسؤولون اتراك رسميا تتخلص في أن المياه يجب أن تكون سلعة اقتصادية كأية سلعة اقتصادية أخرى . وموقف تركيا لا ينعكس عل العراق وسورية وحدهما , لكن الامر له انعكاساته المباشرة وغير المباشرة على مناطق عديدة أن تركيا دولة منبع واقرارها لسياسة مائية جديدة سيؤثر على كل دول المنطقة . وستحاول دول المنبع الاخرى أن تحذو حذوها لاسيما وأن البعض يطالب بأن يكون الماء مقابل البترول .
ويرتبط بذلك الوضع المائي بين اسرائيل من ناحية وبين الأردن وسورية ولبنان من ناحية أخرى، فالجميع يعانون ازمات مائية واسرائيل إذا لم توفر 60 مليون متر مكعب من المياه سنويا قبل عام 2010 فانها لن تستطيع أن تحقق المستوى الحالي من التنمية رغم استخدمها لكل التقنيات العلمية فهي في ازمة مائية اضافية .