نظرية الحروب الاستباقية ومبدأ ترومان

نظرية الحروب الاستباقية ومبدأ ترومان

في مارس من عام ,1947 كان الرئيس الأميركي - هاري ترومان - يستعد للإعلان عن توجه رئيسي جديد في السياسة الخارجية للبلاد

وهو توجه يحدد معالم السياسة الخارجية الأميركية في مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية. وكان هذا التوجه قائماً على تدخل الولايات المتحدة في شؤون العالم بهدف - احتواء انتشار الشيوعية في العالم بالقوة إذا اقتضى الأمر.‏

ولتأمين دعم وتأييد الجمهور الأميركي للسياسة الجديدة, أدرك - ترومان - أن عليه أن يحدد معالم مبدئه من حيث الالتزام القوي بالدفاع عن القيم الأميركية مثل الحرية والحريات الفردية. لكنه كان يرغب أيضاً في أن يوافق الكونغرس على الالتزام بتقديم دعم اقتصادي وعسكري كبير لليونان وتركيا اللتين كانت حكومتاهما المواليتان للغرب مهددتين من قبل حركات - التمرد الشيوعي.‏

وقتها طلب ترومان المشورة عند بعض زعماء الكونغرس أثناء استعداده للإعلان عن مبدئه, ولعل أكثر نصيحة أبهرت ترومان هي تلك التي تلقاها من السيناتور - آرثر فاندنبورغ - الذي قال له:
( سيدي الرئيس, إن الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تحقق بها هذا الأمر تتمثل في أن تلقي خطاباً وتثير الفزع والذعر في البلاد ) وهكذا شرع ترومان في إفزاع البلاد, فرسم صورة قاتمة للأزمة في اليونان,
حيث قال: ( إن وجود اليونان اليوم أصبح مهدداً من قبل الأنشطة الإرهابية التي يقوم بها بضعة آلاف من الرجال المسلحين, بزعامة الشيوعيين, الذين يتحدون سلطة الحكومة).‏

لقد ربط ترومان أمن الولايات المتحدة الأميركية بحرب شعواء على - الشيوعية - كما ربط بوش أمن الولايات المتحدة بالحرب على - الإرهاب - بعد أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر عام 2001 . وفي هذا الإطار, قال ترومان: ( إن الأنظمة المفروضة على الشعوب الحرة, بشكل مباشر أو غير مباشر تضعف أسس السلام الدولي, وبالتالي تضعف أمن الولايات المتحدة ).‏

ورسم العالم على ثنائية الخير والشر, حيث دعا شعوب العالم إلى الاختيار بين الجانب الصالح: الديمقراطيات الغربية واقتصاديات السوق الحر -, والجانب السيىء: الأنظمة الشيوعية - إذ قال: (يجب على كل دولة تقريباً في المرحلة الراهنة من التاريخ البشري أن تختار نمطها من بين أنماط الحياة).‏

وقال أيضاً: ( من بين أنماط الحياة الموجودة , نمط يقوم على رغبة الأغلبية, ويتميز بوجود مؤسسات حرة). وأما نمط الحياة الثاني فيقوم على رغبة أقلية تفرض على الأغلبية بالقوة, وتقوم على الترهيب والقمع). وبعد ذلك يمضي ترومان إلى الإعلان عن الأسس الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية, أو ماعرف لاحقاً ب - مبدأ ترومان - حيث قال: ( أعتقد أنه ينبغي أن يكون قوام سياسة الولايات المتحدة على دعم الشعوب الحرة التي تقاوم الاستعباد والخضوع اللذين تحاول الأقلية المسلحة أو الضغوط الخارجية فرضهما).‏

وبموازاة ذلك تم تقديم التسويغ اللازم لتطبيق مبدأ ترومان, حيث أعلن وكيل وزارة الخارجية الأميركية - دين أتشيسون - عن النظرية التي أصبحت تعرف لاحقاً ب - نظرية الدومينو - إذ قال لأعضاء الكونغرس ومسؤولي وزارة الخارجية: إن الخطر أكبر من ذاك الذي يتهدد بقاء الحكومتين اليونانية والتركية, محذراً من أنه إذا سمح لهذين البلدين بالسقوط في الشيوعية, فإن بلداناً أخرى, من إيران إلى الهند, ستسقط في الشيوعية أيضاً.‏

وقد مثل مبدأ ترومان Troman Doctrine التزاماً كبيراً لم يسبق للولايات المتحدة أن اعتمدت مثله, وإعلاناً رسمياً للحرب الباردة التي حددت توازن القوى في العلاقات الدولية لما يزيد على 40 عاماً. كان المبدأ يقوم على تهويل التهديد السوفياتي والمبالغة فيه, واستغلال مخاوف الشعب الأميركي من هذا التهديد. فقد رأى وزير الخارجية جورج مارشال أن الرئيس ترومان بالغ في الأمر, بل حتى جورج كنان, الدبلوماسي الأميركي في موسكو الذي كانت تحاليله تشدد على ضروة احتواء الاتحاد السوفياتي , فوجىء بالمدى الواسع لمبدأ ترومان الذي جعل من الاحتواء سياسة خارجية أميركية رسمية. ومن جانبه, استغل جورج بوش عندما أعلن عن مبدئه, المخاوف التي أثارتها مأساة الحادي عشر من أيلول, حيث عمد إلى تحريف الحقائق وتهديد بلدان مثل العراق. كما لجأت إدارته إلى التلفيق والكذب لتبرير سياستها الحربية. وإذا كان مبدأ ترومان يقوم على رد الفعل, حيث كان يقضي بتحرك الولايات المتحدة لاحتواء التهديد الشيوعي حيثما ظهر, من كوريا إلى فيتنام, فإن مبدأ بوش استباقي, يقضي بتنفيذ الولايات المتحدة أولاً لضربات ضد أهداف تختارها في إطار حرب أزلية غير محددة على الإرهاب.‏

= وعلى غرار ترومان, عبر بوش عن رؤية ثنائية مظلمة لعالم تقسمه قوى الخير وقوى الشر المتعارضة. وإذا لم يكن المرء برأيه واقفاً إلى جانب قوى الخير, فإن ذلك يعني بالضرورة أنه يقف إلى صف قوى الشر. وفي هذا الصدد, قال بوش في خطابه أمام الكونغرس في 20 أيلول / سبتمبر عام 2001 : ( على كل أمة في كل منطقة أن تختارإما أنكم معنا أو أنكم مع الإرهابيين).‏

وتبريراً لنظرية ترومان, لجأت إدارة بوش إلى نظرية الدومينو لتبرير استراتيجية حربها الاستباقية. وفي هذا الإطار, قال رامسفيلد وزير الدفاع للجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ: (إذا غادرنا العراق قبل الأوان فإن العدو سيأمرنا بأن نغادر أفغانستان, ثم الانسحاب من الشرق الأوسط. وإذا غادرنا الشرق الأوسط, فسيأمرنا بمغادرة الأراضي الإسلامية المحتلة, من اسبانيا إلى الفلبين).‏

ولعل مايميز مبدأ بوش هو قوته وعدوانيته, فهو لايسعى إلى احتواء العدو فحسب, وإنما أيضاً إلى القيام بضربات دون سابق إنذار - بهدف هزيمة العدو بسرعة انطلاقاً من ( وضع ردع متقدم) للحفاظ على الهيمنة الأميركية على العالم بالقوة.‏

لكن المتتبع لسير الأحداث ومايجري على الساحة وماتواجهه القوات الأميركية المنتشرة في العالم من انكسار وتراجع لإيديولوجيتها وتدمير قوتها العسكرية ومايلحق بجنودها من قتل وإهانة وفرار, يدل على انفلات الأمور وعدم قدرتها على التحكم بقراراتها التي تواجه الفشل في كل مكان .‏