تواجه الأحزاب السياسية الفرنسية مشاكل أساسية منذ نشأتها. ويمكن حصرها في مشكلتين أساسيتين: الحصول على ثقة المواطنين بها, والتوسع جماهيريا لزيادة عدد أعضائها. فمجموع أعضاء الأحزاب مجتمعة لا يتعدى 500000 عضو يمثلون 1 % من عدد السكان البالغين. (فرنسوا بلاتون . الأحزاب السياسية في فرنسا 2003).
ويُرجع البعض أسباب عدم الثقة بالأحزاب التي تعاقبت على السلطة منذ عام 1981 إلى عدم مقدرتها على حل المشاكل الرئيسية كالبطالة. ولأنها لا تولي اهتما حقيقيا وفعالا لمشاكل المواطنين. وخاصة بعد قضايا الفساد المالي والسياسي التي طالت العديد منها. كما أن التنافس بين قادتها وبين تياراتها والتطلع للسلطة قبل كل شيء ضاعف من هذا الحذر. وسوف نشير لاحقا إلى أهم هذه الأحزاب,( دون ادعاء الإحاطة أو المعرفة الكاملة بها, فعلى الراغب في ذلك العودة إلى المؤلفات الرئيسية بهذا الشأن ونذكر منها: الأحزاب السياسية. لموريس ديفرجيه.. 1976. الأحزاب السياسية في فرنسا اليوم. لبوريلا فرنسوا. 1990 . . الأحزاب السياسية الفرنسية, الدراسات.الوثائق الفرنسية. 2001, بيرشون . مؤسسات وحياة سياسية. 2005 . إضافة لإعمال ونشرات متخصصة لا يحصى عددها ) .
يقوم النظام السياسي الفرنسي على التعددية الحزبية. أحزاب لها تاريخ متنوع, ورؤى سياسية متعددة بتعددها. ومسيرات سياسية عرفت تحالفات و انشقاقات. ورغم ذلك جرى تصنفيها, وان كانت الدقة تعوز هذا التصنيف غالبا, تحت مسميات اليمين. واليسار (أصل التسمية يعود إلى المكان في الجمعية التأسيسية لعام 1789 حيث كان يجلس أنصار الملكية وأنصار السلطات في الجمعية وهذا الفصل بين موقع الفريقين معمول به إلى اليوم) . ومن الجدير بالذكر أن في الانتخابات التشريعية لعام 2002 قد استُعملت أكثر من 50 سمة حزبية.
لم تكن فرنسا أول البلدان الغربية التي تظهر فيه الأحزاب السياسية. فظهورها ارتبط بالنظام البرلماني في القرن السابع عشر في بريطانيا الملكية. حين تطورت الكتل النيابية إلى حزب سياسي بالمعنى الحالي. كما ظهرت أحزاب من خارج البرلمان منبثقة عن التنظيمات التي لم تكن بالضرورة سياسية. فحزب العمال البريطاني تشكل من اتحاد النقابات العمالية. وقد حلت الأحزاب السياسية محل الكتل النيابية واللجان المحلية للنبلاء. توجه نشاطها بالدرجة الأولى للانتخابات التي لم تعد النقابات تعطيها أولويتها تاركة ذلك للأحزاب. وعليه تفردت هذه الاخيرة بخصائص مختلفة عن تلك التي تُعرف بها النقابات, و جماعات الضغط, أو الحركات الأخرى.
وفي فرنسا كان يجب انتظار أواخر القرن التاسع عشر لظهور المفهوم الحديث للأحزاب السياسية. في الأيام الأولى للثورة الفرنسية 1789 ظهرت نواد club تشبه من بعض الوجوه الأحزاب السياسية الحديثة. ومنها ناد اليعقوبيين وكان من أهم أعضائه روبسبيير (1758 ـ 1794 ) و سان جيست (1767 ـ 1794 ) .
حسب القاموس الفرنسي" روبير" يعود أصل كلمة " حزب " إلى المصطلحات العسكرية . وأصبحت تعني في بداية القرن العشرين "مجموعة أشخاص تدافع عن نفس الرأي". ومن أشهر التعاريف التي أعطيت للأحزاب السياسية تعريف جوزيف بالومبرا وماريون وينار, على أنها تمتاز بأربعة خصائص أساسية: وجود بتنظيم دائم. كامل. إرادة ممارسة مباشرة للسلطة. إرادة البحث عن مساندة شعبية. ولعل التعريف الأكثر استعمالا هو أن الحزب السياسي عبارة عن جمعية منظمة بشكل دائم متواجد على كامل إقليم الدولة بهدف للوصول إلى السلطة وممارستها على المستوى الوطني.
ويرى موريس ديفرجيه ان نظام الأحزاب هو نتيجة عوامل عديدة ومعقدة. منها العام. ومنها ما هو خاص بكل بلد. ويمكن حصر العوامل العامة في ثلاثة أساسية: عوامل اجتماعية و اقتصادية تتعلق بشكل أساسي بتأثير البناء الطبقي الاجتماعي على الأحزاب السياسية وهذا التأثير كبير. عقائدية. فالعقائد السياسية تتعلق بالوضع الطبقي. عوامل تقنية متعلقة بالانتخاب. أما فيما يتعلق بالعوامل الخاصة بكل بلد فيمكن الإشارة إلى: التقاليد والتاريخ , والمعتقدات الدينية , والتركيب ألاثني, والتنافس القومي.
وفي الإطار القانوني لتنظيم الأحزاب أشارت المادة الرابعة من الدستور الفرنسي ( للجمهورية الخامسة) إلى أن الأحزاب السياسية تساهم في التعبير عن الاقتراع. تتشكل وتمارس نشاطها بحرية. ويجب أن تحترم مبدأ السيادة القومية والديمقراطية. ولم يشر الدستور إلى الأحزاب إلا على أنها مساهمة في النشاط الانتخابي متجاهلا أدوارها الأخرى في الحياة الديمقراطية. ولم يضع أية قيود على تشكيلها أو عملها ونشاطها, وحريتها مطلقة طالما بقيت تحترم المبادئ الأساسية للنظام السياسي.
تصنيف الأحزاب السياسية الفرنسية.
سنكتفي هنا بالإشارة السريعة لبعض الأحزاب, التي تقع تحت تصنيف اليمين , و تلك التي تصنف على أنها أحزاب يسارية.
ـ أحزاب اليمين
UMPـ الاتحاد من اجل حركة شعبية.
حزب سياسي كان يسمى عند تشكيله الاتحاد من اجل أغلبية رئاسية لمساند شيراك في انتخابات عام 2002 . يضم التجمع من اجل الجمهورية RPR الذي يستوحي الديغولية والدور التاريخي للرئيس ديغول. ويشبه حزب المحافظين في بريطانيا. وحزب والديمقراطية الليبرالية. والتحق به ثلثي نواب الاتحاد من اجل الديمقراطية الفرنسية UDF فهو تجمع من القوى الديغولية الليبرالية واليمين الوسط. ( الحزب الوحيد الذي أسسه ديغول بنفسه هو RPF , 1947 ـ 1953 ).
وقد أعلن في برنامجه الانتخابي لعام 2007 ان هدفه الأساسي هو إعطاء السياسة الفرنسية " نفسا جديدا". ودفع المواطنين للتخلي عن الحذر من السياسة. وجعل شعاره : " الاستماع للمواطنين. العمل معهم. العمل من أجلهم". ويقوم على نظرية الحرية الاقتصادية ورفض النظم التي تقيد الاقتصاد. والإيمان بالفردانية. والتصدي بعنف لسياسة اليسار . كما ينادي بتشجيع العمل ومكافأته. وتشجيع الجدارة والابتكار. بهدف خفض البطالة. وبالتالي خفض كل ما يترتب عليها من مشاكل اجتماعية واقتصادية. والاحترام الكامل للقانون. ويعلن أن عدد أعضائه بلغ 347000 عضوا عام 2007.
الاتحاد من اجل الديمقراطية الفرنسية UDF
واجه الاتحاد منذ نشأته مشاكل علاقاته بالديغولية. وكان يناضل من اجل إثبات استقلاله تجاه حلفائه. وقام على مساندة فالري جيسكار ديستان في حملته الرئاسية. جاعلا هدفه تجميع أحزاب الوسط واليمين غير الديغولي. لمواجهة الحزب الديغولي RPR . ولا يعتبر الاتحاد حزبا وإنما تجمعا من اتحادات مثل : الحزب الجمهوري. PR . الوسط الديمقراطي الاجتماعي CDS . الحزب الاجتماعي PSD . الحزب الشعبي من اجل الديمقراطية الفرنسية PPDF . ومن الأعضاء الذين دخلوا مباشرة للاتحاد من اجل الديمقراطية الفرنسية دون أن يكونوا أعضاء في الأحزاب المكونة لهذا الاتحاد. (فرنسوا بلاتون. المرجع السابق).وقد بقي فرنسوا بايرو رئيسا لهذا الاتحاد إلى أن انفصل عنه حديثا و شكل حزبه الجديد, الحركة الديمقراطية MoDem .
لم يستطع الاتحاد المذكور إبراز هوية خاصة به. ولا التغلب على الخلافات التي تسود العلاقات بين مكوناته. وقد تحدد دوره في التنسيق لاختيار المرشحين التابعين له في للانتخابات. بلغ عدد المنتسبين للاتحاد 100000 منتسب عام 2003 ليتقلص إلى 33000 منتسب عام 2007.
الجبهة الوطنية FN
تتشكل الجبهة الوطنية من تيارات تقع في أقصى اليمين : بقايا ملكيين. من تبقى من المعجبين بحكومة فيشي, والمتعاونين مع النازية. كاثوليك متطرفين. قدماء أنصار الجزائر فرنسية. قوميون متطرفون.من توجهات مختلفة. مؤسس الجبهة جان مار لوبان. واسمها الأساسي الجبهة الوطنية من أجل الوحدة الفرنسية. وتصنف على أنها حزب يميني متطرف ذو نزعة فاشية.
طروحاتها السياسية حسب برامجها الانتخابية تتمثل في :
ـ تحديد الهجرة. باعتبار المهاجرين خطر حقيقي وحال على الثقافة الفرنسية.
ـ إعادة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية. وكذلك أبناءهم ممن يحملون الجنسية الفرنسية, في حالة ارتكابهم لجنحة أو جناية وتطبيق ما يعرف بازدواجية العقوبة ضدهم.
ـ تعزيز السيادة الوطنية في وجه الولايات المتحدة الأمريكية, والمنظمات الدولية كالحلف الأطلسي, والاتحاد الأوروبي.
ـ الحفاظ على التقاليد الفرنسية في الحياة اليومية, وإيقاف بناء المساجد.
ـ إعادة عقوبة الإعدام. وخاصة فيما يتعلق بالإرهاب, والمخدرات, والاعتداء على القاصرين والمسنين.
حتى عام 1983 كانت الجبهة هامشية و لا وزن لها في الحياة السياسية. وبعد هذا التاريخ تزايد عدد مناصريها. ليصل رئيسها إلى الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية لعام 2002 , ويحصل على 17,8 % من أصوات الناخبين. أي ما يعادل 5,5 مليون ناخب.
لقد استطاعت الجبهة الوطنية استغلال الأزمة الاقتصادية المستمرة. والبطالة, وانعدام الأمن في العديد من المناطق. ومن ملفات الفساد المالي والسياسي لبعض أحزاب اليمين واليسار. وقد انشق عن الجبهة, عام 1998, الرجل الثاني فيها برينو ميكريه وأسس حزبا خاصا به يحمل نفس الأفكار المتطرفة.
تلقى مواقف الجبهة الوطنية من الهجرة والمهاجرين والمسلمين استنكارا كبيرا من منظمات حقوق الإنسان والمثقفين . و تعتبرها في توجهاتها وممارساتها فاشية. يتواجد ناخبو الجبهة الوطنية بشكل أساسي في النصف الشرقي من فرنسا. و خاصة جنوب شرق الالزاس, وفي محيط باريس. والمناطق التي تعاني من الأزمة الاقتصادية. واشد المعارضين لها هم من النساء, والكاثوليك المتدينين المعتدلين, والمدرسين في كل درجات التعليم. والمثقفين ثقافة عالية. بلغ عدد منتسبيها عام 2007 حسب بياناتها الرسمية 40000 منتسب.
ولكن الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر ماي/ أيار 2007. والانتخابات التشريعية التي تلتها , كانت صفعة قوية للجبهة بين مدى حجمها الحقيقي. ولم تحصل على أي نائب. مما دفع رئيسها لإعلان حملة يستجدي فيها الفرنسيين لدفع الديون المتربة على الحملة الانتخابية التي لم تستطع بلوغ النسبة القانونية التي تمكنها من الاستفادة من مساعدة الدولة.
ـ أحزاب اليسار
سوف نكتفي تحت هذا العنوان بالتعرض للحزبين الرئيسين من أحزاب اليسار وهما الحزب الاشتراكي, والحزب الشيوعي.فمساحة هذا المقال لا تسمح بالتعرض لأحزاب البيئية. والخضر, والراديكاليين واليسار المتطرف ,على الرغم من نتيجة الانتخابات التشريعية التي اعتبروها مرضية.
ـ الحزب الاشتراكي.
عرف الحزب الاشتراكي الفرنسي خلال تاريخه انشقاقات وانقسامات وهو اليوم الحزب الرئيسي الأول لليسار. نشأ عام 1905 في مؤتمر كلوب Globe في باريس من اتحاد الاشتراكيين, الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الاشتراكي الثوري PSR في أعقاب مؤتمر الاشتراكية الدولية في أمستردام 1914 وأصبح " الفرع الفرنسي للدولية العمالية SFIO "قاده جيل كيسد Jules Guesde , ثم جان جوريس Jean Jaurès وادوار فيلان Edouard Vaillant وبول لافارك Paul Lafargue . واثر الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة البلشفية الروسية حدث انشقاق في الحركة الاشتراكية على المستوى العالمي. و انشأ لينين وأنصاره الدولية الثالثة . عام 1920 في مؤتمر تور قررت غالبية الفرع الفرنسي للدولية العمالية الانضمام إلى هذه الدولية واخذ بعدها اسم الحزب الشيوعي . مما نتج عنه بروز حزبين يدعي كل منهما انه الممثل الوحيد للطبقة العاملة.
عام 1936 تشكلت الجبهة الشعبية التي ضمت الحزب الشيوعي الفرنسي والفرع الفرنسي للدولية العمالية والحزب الراديكالي. وفازت في الانتخابات التشريعية التي جرت في 3 ماي/ايار 1936 وحصلت على 376 مقعدا من أصل 618 مجموع مقاعد الجمعية. وشكل جان بلوم ولأول مرة حكومة اشتراكية.
خلال الحرب العالمية الثانية انشق الفرع الفرنسي للدولية العمالية فساند تيار منه حكومة فيشي والتيار الآخر الذي يشكل الغالبية التحق بصفوف مقاومة الاحتلال النازي. ضعف الحزب في ظل الجمهورية الرابعة (1946 ـ 1958 ) وكان لمواقفه من الحرب في الجزائر ومن الجنرال ديغول اثر في موقعه في المعارضة.
عام 1960 عرف الحزب الاشتراكي الموحد بزعامة ميشال روكار مدا كبيرا في أوساط الطلاب والمثقفين. رغم ما كان يمر به من صعوبات داخلية. وفي عام 1965 استطاع اليسار أن يقدم مرشحا وحيدا للرئاسة في مواجهة ديغول وهو فرنسوا ميتران الذي حصل على نسبة 32% من الأصوات في الدورة الأولى و 45% في الدورة الثانية. مما سهل قيام فدرالية اليسار الديمقراطي والاشتراكيين والراديكاليين. التي انحلت بعد أحداث عام 1968.
عام 1971 وفي مؤتمر ايبناي Epinay تشكل الحزب من قدماء الفرع الفرنسي للدولية العمالية , ومن أعضاء من نواد سياسية وحركات يسارية بزعامة فرنسوا ميتران. وقد أعلن هذا الأخير رفض التحالف مع اليمين وتمتين علاقاته مع اتحاد اليسار بهدف جعل الحزب الاشتراكي الأقوى في اليسار الموحد. والحزب الأول في فرنسا لتمكينه من الوصول للسلطة.
وقد عرف الحزب الاشتراكي تزايدا مضطردا في عدد منتسبيه. فمن 80000 منتسب عام 1971, إلى 150000 عام 1975, و 180000 عام 1978 و 213000 عام 1982. 125000 عام 2003 ليصبح 220000 عام 2007.
الحزب الشيوعي.
في اجتماع تور في 30 ديسمبر 1920 انضمت أغلبية من الاشتراكيين من الفرع الفرنسي للدولية العمالية إلى الشيوعية الدولية التي أسسها لينين عام 1919 بعد الثورة الروسية. والتزم الشيوعيون الفرنسيون بمقررات هذه الدولية. وأصبحوا يعرفون ب" الفرع الفرنسي للدولية الشيوعية SFIC ". وبقيت هذه التسمية حتى عام 1943.
التزاما بسياسة الدولية المذكورة لم يعد يتبنى الحزب مهادنة الأحزاب التي اعتبرها أحزابا برجوازية. بما فيها الفرع الفرنسي للدولية العمالية. في عام 1924 حصل الحزب المذكور على 26 مقعدا من مقاعد الجمعية الوطنية, ثم عاد ليفقد نصفها عام 1928 .
ولكن اثر أحداث عام 1934 وضع موريس تويز Thorez الأمين العام للحزب سياسة جديدة اقل حدة فيما يتعلق بالتحالفات. وكانت ثمرة اتفاقهم على " البرنامج المشترك" مع الاشتراكيين والراديكاليين حصولهم على نسبة 15% من أصوات الناخبين و 72 مقعدا في الجمعية الوطنية. وساند الحزب حكومة بلوم الاشتراكية دون المشاركة فيها.
بعد تحرير فرنسا من الاحتلال النازي أصبح الحزب الشيوعي من الأحزاب السياسية الفرنسية الرئيسية وحصل على 29% من أصوات المقترعين. وأصبح له حضور معتبر في المناطق الفرنسية. واشترك وزراء منه في الحكومات الفرنسية المختلفة بين عام 1944 إلى 1947.
اثر قيام الحرب الباردة عام 1947 بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي واضطرار موريس توريز للذهاب للعلاج في الاتحاد السوفيتي والبقاء فيه مدة طويلة ,حدث في الحزب نوع من الاختلاف الإيديولوجي وتم طرد عدد كبير من أعضائه. وبعد موت ستالين عام 1953 والتغيرات في تقييم المرحلة ومحاولات الخروج من الستالينية . وبتأييد الحزب الشيوعي الفرنسي للتدخل السوفيتي ضد الثورة الشعبية في هنغاريا عام 1956, زاد تعقيد الأوضاع الداخلية للحزب, وتراجع التأييد الشعبي له. و فاقم ذلك كله معارضة الحزب لقيام الجمهورية الخامسة بعد عودة ديغول للحكم عام 1958.
في أحداث ماي عام 1964 لم بساند الحزب الشيوعي في الوقت المناسب الحركة الطلابية التي اعتبرها دون برنامج ودون أهداف إيديولوجية واضحة. ولكنه عاد, متأخرا , للانضمام إليها بعد الإضراب الذي سانده الاتحاد العام للعمل CGT .
وبحثا عن الدعم لرفع شعبيتهم من جديد وقع الشيوعيون برنامج عمل مع الحزب الاشتراكي عام 1972 كانت له نتائج عكسية عليه, لتصب في فائدة هذا الأخير. مما جعلهم يتخلون عن البرنامج المذكور عام 1978.
وفي المجال العقائدي تخلى الحزب عام 1976 عن المرجعية السوفيتية متوجها نحو نموذج شيوعي أوروبي. وتخلى عن النظرية الماركسية في دكتاتورية البروليتاريا prolétariat معلنا استقلاله الكامل عن موسكو. وتأييده لمفهوم الحريات العامة. وبدا ذلك من تغيير الخطاب السياسي الذي كانت تنشره جريدة الحزب ليمانيته l’Humanité ابتداء من العام المذكور.
منذ عام 1980, وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي, واتساع الخلافات في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي, أخذت شعبيته تنهار سريعا. وحاول, من موقع الضعيف, أن يعدل ذلك عن طريق الاشتراك في حكومات اليسار, حتى عام 1984, ولكن كل ذلك لم يخدم إلا مصالح الحزب الاشتراكي.
فبعد أن كان الحزب الأول في فرنسا بدأ الحزب في ظل الجمهورية الخامسة يتراجع بشكل متسارع ومتواصل وهذا ما تبينه نتائج الانتخابات التي نذكر بعضها هنا:
عام 1981 حصل جورج مارشيه الأمين العام للحزب في الانتخابات الرئاسية على 15 % من أصوات الناخبين,
عام 1984 حصلت لائحة مارشية للانتخابات الأوروبية على 11%.
عام 1988 حصل مرشح الحزب الشيوعي لرئاسة الجمهورية ,انديه لاجواني , على 6,75%.
عام 2002 حصلت مرشحة الحزب, الأمين العام, السيدة ماري جورج بيفه على 3,37%
عام 2007 حصلت نفس المرشحة للرئاسة على 1,93%.
غياب الفرنسيين من أصول مهاجرة.
لا وجود لأحزاب من أصول مهاجرة. وان تواجد هؤلاء في الأحزاب القائمة المشار إليها أعلاه, موزعين بين يمين و يسار و وسط, تبقى نسبتهم لا تتلاءم مع أعدادهم في فرنسا. وهذا ما يجعلهم خارج الجمعية الوطنية Assemblée nationale وخارج كل تمثيل. الأمر الذي يعيب تكوين الجمعية المذكورة. خاصة وان ألف باء الديمقراطية تقتضي بان يكون لهؤلاء تمثيل فعلي يتناسب مع عددهم الذي يتجاوز المليونين.
ــ لاشك أن الناخبين من أصول أجنبية معنيون بدرجة كبيرة بالانتخابات بأنواعها. ولكن السؤال هل سيبقون غائبين عن الجمعية الوطنية؟ والتمثيل في كل المؤسسات المنتخبة؟ أليس من حقهم تمثيلا متناسبا مع عددهم في المجتمع الفرنسي كما تقتضي أصول الديمقراطية ؟ الم يحن بعد الوقت لرفع
الحصار غير المعلن ــ متعددة أسبابه ــ والانفتاح على مشاركة تجسد مفاهيم المساواة , والمواطنية , واللاعنصرية, وعدم الإقصاء؟.
ــ لا شك أن سوء التنظيم وعدم وضوح الرؤية عند الغالبية من هؤلاء المواطنين لا تقول بإمكانية التمثيل حاليا.
ــ لاشك ان اختيار رشيدة داني وزيرة للعدل لفترة قصيرة, على أهمية المنصب, لم يكن نتيجة لسياسة وفاعلية الفرنسيين من أصول أجنبية, أو لمكانتهم في الأحزاب السياسية الحاكمة حاليا, أو لكفاءة غير متوفرة في غيرها, وإنما مبادرة سياسية من اليمين الذي يسعى بالدرجة الأولى لأصوات هؤلاء, ولتهدئة ما يعرف بالأحياء الساخنة بأقل " الخسائر" السياسية. فسياسة الإرضاء على الطريقة الساركوزية لا يجب أن تكون بديلا عن الاعتراف العملي والصريح بالحقوق لأصحابها, في دولة تقول بأنها دولة القانون.
ــ لا شك أن المقاعد في الجمعية الوطنية وفي المؤسسات الوطنية والإقليمية, والأوروبية المنتخبة, لا تقدم هبة. وان الطريق طويل أمام المواطنين من أصول أجنبية للوصول إليها. واللعبة السياسية لا مكان فيها لغير المبالين.
المطلوب من هؤلاء تمثّل الحياة السياسية بأبعادها المتكاملة و الدخول فيها. وتشكيل أحزاب تأخذ حقائق الواقع الفرنسي وقوانينه وأنظمته, ومصالح المجتمع القائم على التعددية ضمن الانسجام والتسامح والتعامل الحضاري. والجمع, دون تعارض, بين «الخصوصية" ـ التي لا يطالب احد بالتخلي عنها أو تذويبها ــ وبين ما هو وطني. وعدم حصر الأهداف بأمور ومطالب تتعلق بالحياة اليومية, على أهميتها, والوقوف عندها. فلا بد من صياغة برامج متكاملة فيها الوطني والمحلي و الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني. لا ينفصل فيها الخاص عن العام و لا يتناقض معه.