عنوان المداخلة:
تفعيل العمل الجمعوي لمكافحة الفساد
وإرساء الديمقراطية المشاركاتية في الجزائر.
د. صالح زياني
أستاذ محاضر، قسم العلوم السياسية، جامعة باتنة.
هاتف: 0550524077 / 0772789397
هاتف / فاكس قسم العلوم السياسية-باتنة: 033864224
مقدمة :
إن القصور الذي لازم عملية التنمية السياسية في الجزائر خلال العقدين الأخيرين يجد تفسيرا له من خلال طبيعة النموذج الديمقراطي الذي تم الأخذ به. ان نموذج الديمقراطية التمثيلية الذي لازلنا نعتمده في تسيير الشأن العام في الجزائر يتحمل جزءا مهما من هذا القصور .فهذا النموذج قد استوفى كل شروط نجاعته القانونية والسياسية ضمن مجتمعات تتميز بقدر كبير من التلاحم والإنصهار الإثني، والإستقرار السياسي، وتحكمها ثقافة سياسية مبنية على أسس التنافس والتداول والتمثيل. في حين وبالرجوع إلى حالة المجتمعات النامية والناشئة التي تتميز بالانقسام المجتمعي، والاختلافات الاثنية والعرقية والسياسية ، وصعوبة الاستقرار السياسي المصحوب بحالات العنف والتمرد الاجتماعي فانه يكون من المنطقي أن يتم التفكير في نموذج بديل يمكن ان نسميه بالديمقراطية المشاركاتية.
يعتقد الباحثون ضمن هذا السياق ان نموذج الديمقراطية المشاركاتية لا يستمد مكونات نجاحه من خلال الإرث والخبرات التاريخية المتنوعة والغنية، كما هو عليه الأمر في الديمقراطيات التمثيلية بل يبلوره واقع المجتمعات التي تتميز بالانقسامات الاثنية والجهوية واللغوية والثقافية، والتي تتميز ايضا بتنظيم للأحزاب ومجموعات المصالح وفق التقسيمات الآنفة الذكر.
تثير هذه الورقة تساؤلا محوريا مفاده ما هو موقع العمل الجمعوي والحركة الجمعوية ومؤسسات المجتمع المدني بشكل عام في عملية التنمية السياسية في الجزائر ؟ وهل يمكن لهذا العمل الجمعوي ان يكون رافدا مؤثرا لبناء نموذج الديمقراطية المشاركاتية لإحلال الديمقراطية المنافساتية التي أصابها الكثير من الوهن ضمن الحالة الجزائرية .
سأقوم من خلال هذه الورقة بمعالجة النقاط التالية :
1- التعريف بالتنمية السياسية والديمقراطية المشاركاتية.
2- فحص واقع العمل الجمعوي والحركة الجمعوية في ظل التحولات الراهنة في الجزائر.
3- تحديد أهم المجالات التي يمكن للعمل الجمعوي ان ينخرط فيها لتجسيد مبدأ الديمقراطية المشاركاتية.
يمكن القول أن التنمية السياسية تعني ضمن نطاق واسع تنمية المؤسسات والمواقف والقيم التي تشكل منظومة السلطة السياسية للمجتمع.
من أهم الصياغات الأكاديمية لموضوع التنمية السياسية ، الصياغة التقليدية التي نربطها سواء بالحصول على السيادة الوطنية ووحدة الدولة مع التقيد بالالتزامات والتعهدات الدولية . كما تربطها نفس الصياغة بمجموعة من الخصائص المحلية تتعلق ببناء منظومة دستورية متكاملة وتحقيق الاستقرار السياسي ، يكون بلوغهما من خلال آلية مستقرة للحكم وإجراءات موثوق بها للتداول على القيادة. لقد ألهمت هذه الصياغة العديد من الزعامات السياسية في مجتمعات ما بعد الاستعمار بآسيا وإفريقيا ضمن مجهوداتها لبناء دولها وأممها. كما تم اعتماد هذه الصياغة من قبل العديد من الأبحاث الدراسية التقليدية حول السلطة القانونية الرشيدة من خلال تركيزها على مواضيع السلطة القسرية وطرق الإخضاع وتكوين البيروقراطيات وتقسيم العمل والتخصص الوظيفي والتسلسل الهرمي والقيادي والتعيين على أساس الجدارة .
بحسب الصياغة التقليدية فان التنمية السياسية تساهم في تعزيز قدرة الدولة على تهيئة وتخصيص الموارد والى تحويل مدخلات السياسة العامة الى مخرجات من خلال القرارات المختلفة وهو ما يساهم في حل المشكلات وتفادي الأزمات والتكيف مع المتغيرات البيئية وتحقيق الأهداف المرجوة
فيما يتعلق بالصياغات الجديدة للتنمية السياسية فهي عديدة ومتنوعة . فقد عرفت الدراسات السياسية العديد من المقاربات ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين .يمكن تصنيف هذه المقاربات من حيث منطلقاتها الى ثلاث مقاربات أساسية. أولها، المقاربة التي تنظر إلى موضوع التنمية السياسية من خلال إحداث تغيرات معينة في المنظومة المؤسساتية للدولة. أما المقاربة الثانية فتركز على ربط التنمية السياسية بالتنمية الاقتصادية ، أما المقاربة الثالثة فتربطها ضرورة إحداث تغييرات على مستوى النمط القيمي السائد في المجتمع (1).
تستمد المقاربة الأولى مفاهيمها ومنطقها الداخلي من المقاربة التقليدية للتنمية السياسية وتربطها من خلال مؤشرات معينة وعلى رأسها القدرة على بناء الأمة ، وتطوير الهيكل الإداري للدولة والمطواعية نحو التغيير وتحقيق قدرا من الاستقلال لأجزائه المختلفة. ويمكن القول بان بؤرة تركيز هذه المقاربة هو تأكيدها على مشاركة المواطنين في صنع القرار، وتحويل الأنظمة السياسية من أنظمة تقليدية الى أنظمة حديثة قوامها الشرعية ، بحيث تحظى، ومن خلال الاختيار الشعبي، بدعم جمهورها الذي يتم إشراكه فعليا في العملية السياسية.
اما المقاربة الثانية للتنمية السياسية فهي تلك التي تربطها بمقدار ما يتحقق من انجاز في مجالي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فقد أشار عالم السياسية الأمريكي مارتن ليبست Martin lipset في مطلع الستينات من القرن الماضي انه كلما كان حال الأمة أفضل كانت فرص تعزيز الديمقراطية أعظم. لقد برهن ليبست على أن الديمقراطيات عموما تكون اقرب لان يكون مستوى تطورها الاقتصادي أعلى من اللاديمقراطيات.(2)
ضمن مجال ربط التنمية السياسية بالتنمية الاقتصادية ، حاول بعض الباحثين على رأسهم Joseph Siegel قلب طرح مارتن ليبست رأسا على عقب. فقد أكد سيجل أنه لتتطور الدول الفقيرة إقتصاديا ينبغي عليها أن تكون ديمقراطية. فباستخدام مؤشرات الرفاهية الإجتماعية توصل سيجل إلى أن الديمقراطيات الفقيرة برهنت انها تنمو بشكل افضل من الاتوقراطيات الفقيرة، كما أن رفع شعار "التنمية أولا" أعطى مبررات لبقاء وتخليد الأنظمة المستبدة، وحصول هذه الأتوقراطيات المستبدة على دعم واضح من الغرب خشية سقوطها في فخ القوى الخارجية او الداخلية المناهضة والمهددة للمصالح الغربية فيها.(3)
أما المقارنة الثالثة ضمن الصياغات الجديدة للتنمية السياسية فهي تلك التي تربطها بالقيم السياسية السائدة في المجتمع ، بحيث يتم طرح موضوع القيم من خلال وصفات الشعوب .فالقيم التي تتميز بالنفاق واللاعقلانية هي قيم غير محفزة للتنمية السياسية. وعليه فان القيم تعد سيفا ذو حدين ، إما أن تكون حاملة لأفكار الفساد والمحسوبية والتحلل والهدر وانعدام المسؤولية وعدم حرمة المال العام . وإما أن تكون حاملة ومحفزة لاحترام القانون والنظام وتعزيز المساءلة والمحاسبة وما يرتبط بها من قيم اضافية كالنزاهة والمسؤولية.(4)
تعد المقاربة الأخيرة أكثر المقاربات رصانة وعمقا وفهما وقوة للطرح لموضوع التنمية السياسية لاسيما بالنسبة للمجتمعات الناشئة. فالافتراض الأساسي لهذه المقاربة يتضمن طرحا مميزا للغاية مفاده ان الأنظمة التسلطية تكون حاملة لقيم متخلفة لا تخدم التنمية السياسية بروافدها المختلفة وعلى رأسها التحول الديمقراطي . ومن هنا يتم طرح بديل بامكانه ان يحمل قيما مختلفة عن تلك التي أشاعها النظام التسلطي، وهذا البديل يكمن في مؤسسات المجتمع المدني والعمل الجمعوي بقيمه الجديدة القائمة على المواطنة والحرية والمساواة والمسؤولية والتعددية. فالمجتمع المدني المدعوم بشبكة واسعة من المنظمات العامة والخاصة يمكنه ان يؤثر بشكل فعال في المسارات المختلفة للأنظمة ذات الصبغة التسلطية. في واقع الأمر، يمكن لمؤسسات المجتمع المدني وللعمل الجمعوي أن يدفع ليس فقط نحو انفتاح الأنظمة التسلطية، بل والإرتقاء بهذا الإنفتاح ليتجاوز مرحلة المنافسة ليؤسس لمرحلة المشاركة.
إن تفعيل العمل الجمعوي كمحفز ورافد مهم من روافد تأسيس الديمقراطية المشاركاتية يستدعي أن تضطلع الحركة الجمعوية بمهمة المشاركة في صياغة وبلورة إستراتيجيات بإمكانها أن تساهم في التخفيف من وطأة العديد من التحديات التي يواجهها المجمع الجزائري حاليا. سأقتصر في هذه الورقة على معالجة تحديين، أو مستويين هامين وهما إنخراط المجتمع المدني والحركة الجمعوية في مجالي التنمية المحلية، ومكافحة ظاهرة الفساد. إن التركيز على هذين المستويين له مايبرره. فتحقيق التنمية السياسية وتجسيد الديمقراطية المشاركاتية يمر حتما عبر الإهتمام بالشأن المحلي بإشراك المواطن بشكل فعلي في إدارة هذا الشأن. كما أن تجسيد تلك الديمقراطيةيستدعي أيضا توفير المناخ المناسب لها، وهو مناخ الشفافية والمساءلة والمحاسبة كضمانات ضرورية تحمي هذه الديمقراطية من الفساد الذي أخذ أبعادا خطيرة خلال السنوات الأخيرة.
العمل الجمعوي وتفعيل التنمية المحلية لإحلال الديمقراطية المشاركاتية
يعد مفهوم المشاركة أو التشاركية مفهوما مرتبطا بالمجتمع المفتوح الديمقراطي ، وهو مكون أساسي من مكونات التنمية البشرية كما يفهمها و يسعى من أجل تحقيقها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي . إنها تعنى بشكل مبسط أن يكون للمواطنين دورا ورأيا في صناعة القرارات التي تؤثر في حياتهم سواء بشكل مباشر، أو من خلال مؤسسات شرعية وسيطة تمثل مصالحهم. ويقوم هذا النوع من المشاركة الواسعة على حرية التنظيم وحرية التعبير، وأيضا على قدرات المشاركة البناءة. ويعد مبدأ المشاركة حاليا من الهواجس التي تؤرق بال مختلف المجتمعات والدول وكذا المنظمات الدولية، لاسيما وأن تقارير التنمية البشرية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة تشير إلى أرقام جد مرتفعة فيما يتعلق بسكان العالم الذين يعجزون في فرض أي تأثير حقيقي على الأداء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمعات التي يعيشون فيها.
تؤكد معظم الأدبيات السياسية والاجتماعي بدورها في الوقت الحاضر على محورية مفهوم المقاربة التشاركية كطريق لإشراك الحركة الجمعوية في تدبير الشأن المحلي. ويتم تعريفها على أنها إحدى منهجيات العمل المرتبطة بتدبير الشأن المحلي والوطني ضمن مسلسل تواصلي يمكن الأفراد والأطراف المعنية من تحديد احتياجاتهم وأهدافهم والتزاماتهم، ويؤدي إلى قرارات مركزة تأخذ في الاعتبار حسب الإمكان آراء وتطلعات كل المجموعات والأطراف المعنية.(5)
تتميز المقاربة التشاركية بعدة مزايا تساهم في ترقية وتنشيط العمل الجمعوي في ميدان التنمية المحلية وذلك بحكم أنها تساهم في تحديد الاحتياجات الحقيقية للسكان وكذا المشاريع التي ينبغي الاهتمام بها وتساعد في تفادي التصادم الذي ينجم أحيانا عندما تتعارض مقترحات ومشاريع الجهات الرسمية مع طموحات وتطلعات السكان على المستوى المحلي. إضافة على أنها تمد الخبراء بجدوى وأهمية المشاريع المقترحة وكذا فعاليتها.
يمكن للعمل الجمعوي وفي ظل فشل العمل الحزبي الحالي في الجزائر أن يحقق العديد من الطموحات التنموية ولى رأسها التنمية السياسية، وأن يكون قاطرة أساسية لتحقيق الأهداف التنموية على المستوى المحلي بحكم احتلاله لمكانة مهمة في تأطير وتعبئة العديد من الفئات الاجتماعية لاسيما الشبانية منها. فعن طريق العمل الجمعوي، يمكن المساهمة في تأطير ركن أساسي من أركان التنمية ألا وهو العنصر البشري. فالعمل الجمعوي بما يحمله من قيم يعد حقلا خصبا يساهم في ترسيخ الكثير من القيم الاجتماعية الهادفة والجادة وعلى رأسها زرع روح تحمل المسؤولية بشكل جماعي والدفع بالعديد من الفئات الاجتماعية لاسيما الشبانية منها بتحرير إبداعاتها وتحقيق ذواتها، وبالتالي التمهيد لإحلال الديمقراطية المشاركاتية.
رغم مركزية العمل الجمعوي في عملية التنمية المحلية إلا أن الدارس والمهتم بعمل الكثير من الجمعيات يلاحظ أن النشاط الجمعوي في الجزائر يعاني من عوائق عديدة، ابتداء من عدم احترام الرسالة الحقيقية للعمل الجمعوي وأهدافها، وذلك من خلال محاولة العديد من أجهزة السلطة وكذا العديد من الأحزاب السياسية احتواء وتوجيه نشاط الجمعيات لأغراض تكون في بعض الأحيان زائلة بجعل هذه الجمعيات مكاتب خدمات ودعاية. وكذلك وجود الكثير من الاكراهات والعوائق الإدارية والقانونية، ونقص احترافية العاملين في العمل الجمعوي وقلة الوسائل وشح الموارد والأطر، وانحصاره في فئات اجتماعية معينة، وقلة انتشاره في المناطق الريفية وغيرها.(6)
تعد المشكلات الآنفة الذكر نتيجة حتمية أفرزتها عوامل موضوعية وذاتية وعلى رأسها المنهجية والسياسة التي انتهجتها الدولة في التعاطي مع الجمعيات والعمل الجمعوي بشكل عام. إذ يلاحظ أن تعاطي السلطة مع الحركة الجمعوية والمجتمع المدني ككل يتسم بالارتجالية والمناسباتية. فلا توجد سياسة واضحة لدى الدولة تقوم على إشراك كل المؤسسات الشعبية، بما في ذلك الجمعيات في تدبير الشؤون المحلية. وبطريقة منهجية يمكن القول أن هذه السياسة تعاني من قصور واضح ضمن مستويات عديدة يمكن حصرها في مستويين أساسيين:
ا/ تعاني البنية التحتية للجمعيات من مشكلات عديدة وعلى رأسها ضعف الميزانية التي تخصصها الدولة لهذا القطاع. فإذا أخذنا في الاعتبار ضعف القطاع الخاص المنتج في الجزائر، والذي يمكن أن يساهم في تمويل العمل الجمعوي، فإنه يمكن عندئذ تصور حجم المعاناة التي يواجهها نشاط الجمعيات . فكما هو معروف، تعد الموارد التي تمتلكها مؤسسات وجمعيات للمجتمع المدني من أهم متطلبات قيامه بأدواره المختلفة وإدارة علاقته بالهيئات الرسمية للدولة بما يضمن استقلاله في التعاطي معها. فبقدر ما تعتمد مؤسسات المجتمع المدني على إعانات الدولة بقدر ما يؤثر ذلك سلبا على استقلال نشاطها. ونشير هنا إلى ان العديد من الدراسات السوسيولوجية والسياسية الحالية تربط قوة تشكيلات المجتمع المدني بمدى وجود قاعدة مادية او سند مادي لها.(7)
يعد شح الموارد المالية من أبرز وأعقد التحديات التي تواجه العمل الجمعوي على المستوى المحلي في الجزائر. إن الاختلالات الهيكلية العميقة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني، والذي يتزامن مع بروز ما يمكن أن نطلق عليه باصطلاح البورجوازية الكسولة، يعدان عاملان من جملة عوامل أخرى عطلت بناء مؤسسات جمعوية نشيطة وحرة بحكم اعتماد العديد من هذه المؤسسات على إعانات الدولة المالية والمادية، لاسيما في ظل عدم مجازفة الرأسمال الخاص في دعم الحركة الجمعوية. وعليه يمكن القول أنه في ظل الوضعية الحالية للاقتصاد الجزائري والمنهجية التي يتم بمقتضاها التعاطي مع مؤسسات المجتمع المدني، يكون من الصعب فعلا على الحركة الجمعوية أن تضطلع بمهامها على أكمل وجه.
ينبثق عن التحدي السابق مشكلة إضافية وهي ازدواجية التعاطي الرسمي مع العمل الجمعوي، إذ يلاحظ إغداق بعض الجمعيات بالمنح وحجبها عن جمعيات أخرى، بل ويتم التضييق على نشاط جمعيات ذات أهداف جادة في مقابل دعم نشاط جمعيات ذات أهداف آنية. ويمكن التأكد من هذه الملاحظة لاسيما من خلال تتبع الدعم الذي تحصل عليه بعض الجمعيات خلال الفترات الانتخابية بحكم توليها مهمة الدعاية الانتخابية والسياسية لأحزاب وشخصيات سياسية معينة.
ب/ من أبرز التحديات الأخرى التي تواجه العمل الجمعوي في الجزائر تحديا يمكن اعتباره مفصلي وهو المتعلق بسعى العديد من الأطراف والمؤسسات وعلى رأسها السلطة السياسية القائمة احتواء جمعيات المجتمع المدني أو على الأقل منافستها أدوارها وهو الأمر الذي ينعكس سلبا فيما يتعلق باحتفاظ الجمعية بشخصيتها والقيام بمهامها.
يلاحظ وفي سياق التجربة الجزائرية هيمنة الأجهزة البيروقراطية على العمل الجمعوي وسجنه في سياق إستراتيجيات كثيرا ما تكون محدودة لا سيما عندما لا يتم احترام ضوابط العمل الجمعوي وخلطه مع العمل السياسي. فقد لاحظنا مثلا وخلال مواعيد انتخابية سابقة ظهور مبادرات لا يمكن تصنيفها البتة على أنها مبادرات بريئة، حاولت تعبئة وتوجيه العمل الجمعوي لتحقيق أهداف إنتخابة زائلة . إذ بمجرد انتهاء المواعيد الانتخابية تنتهي معها الدعاية التي رافقت تلك المبادرات.
في واقع الأمر يعد هذا التوجه سلوكا نمطيا يعكس طبيعة السلطة السياسية أينما كانت، والتي غالبا ما تخضع لمنطق عقل الدولة. فالدولة المعاصرة تسعى لامتصاص بريق المجتمع المدني من خلال تبديد طاقاته وتشتيته لتجعل منه ظاهرة مائعة. فإمكانياتها الهائلة أكسبتها خبرة في ترويض الكيانات التي تنافسها. وعليه فهذه الدولة لا تبيد المجتمع المدني،بل تقوم فقط بإفراغه من أهدافه عبر إستراتيجيات متنوعة.(
إن التشوه والتشوش في الثقافة السياسية لدى دوائر عديدة في السلطة الحاكمة يجعلها ترى في وجود مجتمع مدني قوي تهديدا لكيانها، وذلك على الرغم من أن مؤسسات المجتمع المدني لا تصارع الدولة كما هو متداول بل تصارع الاستبداد أينما وجد. فالبحوث السياسية المعاصرة تؤكد إن الدولة في الوقت الحاضر، إن لم يكن بجانبها مجتمع مدني فإنها سوف توجده بوسائلها وطرقها المباشرة وغير المباشرة، لأنها تعي حيويته لديمومتها. وعلى هذا الأساس فالدولة تحتاج للمجتمع المدني، ليس كمجال لممارسة سلطتها فحسب، ولكن كآلية ضرورية لبسط هذه السلطة.(9)
إن مراجعة النصوص القانونية التي تحكم العمل الجمعوي في الجزائر تفضي إلى تثبيت ملاحظة هامة وهي أننا مازلنا أمام ظاهرة تحدث عنها آدم فرغسون خلال القرن التاسع عشر ألا وهي عسكرة الدولة للمجتمع. فالنصوص القانونية التي تحكم العمل الجمعوي في الجزائر تؤكد توجه الدولة لممارسة ضبطا معتبرا على الأفراد والمجموعات سواء من الناحية القانونية أو الأمنية، وهو ما يمثل حاجزا أمام إمكانية تحرر الأفراد واستقلال مؤسسات المجتمع المدني المختلفة. ونكون هنا بصدد حالة تصفها الباحثة ثناء فؤاد عبد الله عند تقييمها لعلاقة الهيمنة التي تكبل عمل جمعيات المجتمع المدني في سياق الأنظمة التسلطية في العالم العربي والإسلامي، إذ ترى أن موقف الدولة إزاء مؤسسات المجتمع المدني يتسم إما بالتردد أو عدم الثقة، فالدولة تسن قانونا بالجمعيات والتنظيمات المدنية ربما اعترافا منها بقيمة إحياء هذه المؤسسات، ولكنها في الوقت نفسه تضع من القيود القانونية والإدارية، ما يجعل لها اليد الطولي في مراقبة هذه الجمعيات أو المؤسسات أو حلها أو تحديد مجال حريتها. وعليه تبقى في حالة وجودها مجرد منحة من المؤسسة العليا، أي الدولة، وهو الأمر الذي يعنى أنه من حق المانح منح وسحب عطاياه وقتما شاء.(10)
يضع الإطار القانوني الذي يحكم النشاط الجمعوي في الجزائر العديد من القيود التي تؤثر على فعالية هذا النشاط، وعلى رأسها التصريح المسبق بتشكيل الجمعيات وإثقال كاهلها بالمصاريف عند تكوينها لملفها الإداري إضافة لتعدد الجهات الوصية على العمل الجمعوي. تعد القيود السابقة حجر عثرة أمام بروز العديد من الجمعيات التي كثير ما تفشل وتموت قبل أن يتم اعتمادها. فتجربتنا داخل الجامعة أكبر دليل على المعاناة التي يواجهها الطلبة لتأسيس الجمعيات حتى وإن كان طابعها علمي وثقافي بحت.
تقدم لنا نماذج بعض الدول المتقدمة صورة مشرقة على الدور والفعالية التي يكتسيها العمل الجمعوي كآلية محفزة لبلوغ فضاء الديمقراطية المشاركاتية عن طريق إندماج هذا الصنف من العمل في مبادرات مختلفة، لاسيما على المستوى المحلي. فإذا أخذنا مثلا جانب الجدوى الإقتصادية للعمل الجمعوي نلاحظ أنه في الوقت الذي لا يمكن فيه تحويل جمعية إلى شركة من الناحية القانونية في الجزائر إلا أنه في فرنسا مثلا يتجه العمل الجمعوي لهذه الغاية. فالجمعيات في هذا البلد تدفع ضرائب عن مداخيلها لاسيما بعد أن أصبحت فكرة الجمعية المقاولة فكرة سائدة ومنتشرة بشكل جدي في الوقت الحاضر .
يسمح القانون الفرنسي للجمعية المرخص لها من مزاولة أنشطة اقتصادية حتى ولو كانت تلك الأنشطة أساسية بالنسبة للجمعية، وما يتم إشتراطه فقط على هذا النشاط الاقتصادي للجمعيات هو أن يكون فقط غير متعارض مع أهداف الجمعية. فعلى مستوى دفع الضرائب مثلا فإن القانون الذي تخضع له الجمعيات يرتبط بالقانون العام . فالجمعية مكلفة ومسؤولة قانونا أما الجهات المعنية بالضرائب والرسوم المرتبطة بأنشطتها.(11)
على الرغم من أن التشريع الجزائري لا يمنع مزاولة الجمعيات للأنشطة الاقتصادية المدرة للدخل ، إذ أن المادة 26 الفصل الرابع من القانون رقم 90/31 الموافق لـ 4 ديسمبر 1990 والمتعلق بالجمعيات تقر في إحدى فقراتها بأن موارد الجمعيات يمكن أن تتحصل عليها من العائدات المرتبطة بأنشطتها. لكن وعلى الرغم من وجود التشريع الذي لا يحضر مزاولة الجمعيات للأنشطة الاقتصادية التي تحقق مداخيل مالية إلا أنه، من جهة أخرى، يمنع توزيع الأرباح التي تحققها الجمعية على أعضائها. فالمادة الثانية (02) من القانون المذكور أعلاه تنص على أن الجمعية تمثل اتفاقية تخضع للقوانين المعمول بها ويجتمع في إطارها أشخاص طبيعيين أو معنويين على أساس تعاقدي و لغرض غير مربح.كما أن المادة 27 من نفس القانون 90/31 تنص على أنه يمكن أن يكون للجمعية عائدات ترتبط بأنشطتها شريطة أن تستخدم تلك العائدات لتحقيق الأهداف المحددة في القانون الأساسي والتشريع المعمول به.(12)
من جانب آخر، وضمن سياق تنمية الجمعية لرصيدها المالي، فإن التشريع الجزائري يعطي الحرية للجمعيات لتكوين رصيد مالي، إلا أن هذا الرصيد يجب أن يراقب رقابة صارمة من قبل الجهات المختصة . فمقاسمة هذا الرصيد بين أعضاء الجمعية ممنوع بموجب القانون. فالمادة 46 من قانون (90/31) تنص على أن استعمال أملاك الجمعية في أغراض شخصية أو في أغراض أخرى غير واردة في قانونها الأساسي يعد خيانة للأمانة ويعاقب عليه وفقا لأحكام قانون العقوبات.
مما سبق، يبدوا أن العمل الجمعوي، وضمن شقه الإقتصادي في الجزائر يحتاج إلى قوانين تفعل أدائه ليكون مجديا. لكن يلاحظ قصورا واضحا ضمن الحالة الجزائرية. فالاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الجزائري تدفعنا للتفكير جديا في حلول للتخفيف من وطأتها. فالجزائر التي تعرف حاليا انطلاقا متواضعة للنمو خارج قطاع المحروقات تواجهها تحديات مفصلية وعلى رأسها مشكلة امتصاص البطالة. وعليه يمكن للاستثمار المحلي عبر العمل الجمعوي أن يكون وسيلة ناجعة في ذلك، لا سيما انه بالإمكان الاستفادة من بعض البرامج الحكومية الحالية لتحقيق هذا الهدف.
في كيفية تحفيز المسار التشاركي للعمل الجمعوي
إن مواجهة التحديات والمشكلات التي سبق التطرق إليها، والتي تواجه النشاط الجمعوي كقاطرة لتفعيل التنمية السياسية وإحلال الديمقراطية المشاركتية، يقودنا للتفكير بشكل جدي في أنجع السبل التي تمكن المجتمع المدني من المساهمة بشكل فعال في هذه العملية.
في واقع الأمر تعود إثارة موضوع المقاربة التشاركية إلى الأهمية والمزايا التي يكتسيها ويوفرها العمل الجمعوي، لاسيما المحلي منه في خدمة أهداف التنمية السياسية. ويمكن حصر هذه الأهمية والمزايا فيما يلي:
أ- تعد مؤسسات المجتمع المدني والعمل الجمعوي تعبيرا حقيقيا عن الإرادة الشعبية بحكم التصاقها بهموم وتطلعات المواطنين. وتبدو هذه الأهمية محورية في المناطق النائية على وجه الخصوص أين تختفي العديد من مظاهر التأطير لهؤلاء المواطنين سواء كان تأطيرا من قبل مؤسسات الدولة أو الأحزاب السياسية، وعليه تصبح الجمعيات الفضاء الأساسي والملجأ الرئيسي الذي يمكن المواطنين من طرح قضاياهم وانشغالاتهم.
ب- من خلال تعقب وتفحص تجارب العديد من الدول التي يتميز فيها النشاط الجمعوي بالحيوية والفعالية، لا سيما في البلدان المتقدمة يلاحظ مدى تعاظم دور جمعيات المجتمع المدني في تنمية الخبرات المحلية وخدمة المواطن من خلال إنجاز مشاريع مختلفة تكون مصدرا لتوفير فرص لإندماج السياسي عبر الإنخراط في مبادرات متنوعة. فعلى مستوى إنخراط العمل الجمعوي في مبادرات إقتصادية كإيجاد فرص الشغل ، وتعزيز البنى التحتية فإن ذلك ينعكس إيجابا على الإدماج الحقيقي للعديد من الفئات الاجتماعية المقصية من عملية التنمية السياسية. ويمكن لنا أن نتصور ليس فقط حجم العائد المادي، بل وحتى السياسي والمعنوي من خلال عملية الإدماج هذه. إن دمج المواطنين محليا من خلال تفعيل العمل الجمعوي يعد وسيلة هامة لإرساء قواعد الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي.(13)
د- يساهم تفعيل المجتمع المني محليا في تحقيق فوائد إضافية ومنها الاستعانة بالمواطنين لتحقيق هدف تنمية الموارد البشرية. ويكفي لنا أن نستشهد هنا بتجربة جمعية إقرأ التي تعد أداة فعالة لمحاربة الأمية في الجزائر. من ضمن هذه الفوائد كذلك مساهمتها في ترقية مشاركة المواطنين في الحياة المحلية وبالتالي تمكينها للمواطنين من تقييم وإعادة النظر في الاحتكار الذي يمارسه منتخبيهم في طرح همومهم وقضاياهم. بل وتؤدي إعادة النظر هذه في صياغة علاقة جديدة بين هؤلاء المواطنين وممثليهم، صياغة تأخذ في الاعتبار الحق في إبداء الرأي ومراقبة ممثليهم. وأخيرا تضطلع هذه الجمعيات بوظيفة هامة وتتعلق بتشخيص وتحديد الحاجات وتهيئة المشاريع.
مكافحة الفساد كمدخل لإحلال الديمقراطية المشاركاتية:
رغم أهمية ومركزية العمل الجمعوي حاليا في مكافحة الفساد إلا أن الوضع يبدو بطيئ للغاية في الجزائر. فعلى المستوى الدولي ولا سيما في الأنظمة الديمقراطية التقليدية والتي تسعى لتكريس مباديء الديمقراطية المشاركاتية، تساهم مؤسسات المجتمع المدني في محاربة هذه الظاهرة من خلال رفعها لشعار "عدم الرأفة" ، إذ تقوم العديد من هذه المؤسسات بتنظيم وهيكلة نفسها بطريقة فعالة لخوض حملة متواصلة، من أجل جعل النخب السياسية والاقتصادية تعمل وفق مبادئ الشفافية والمحاسبة والمساءلة، وتجنيب مجتمعاتها السقوط في فخ ما هو متعارف عليه حاليا في الأدبيات التي تهتم بتحليل ظاهرة الفساد بالمصيدة الاجتماعية.
2. في التعريف بالمصيدة الاجتماعية:
يتم التعبير عنها أيضا بـ"معضلة الفعل الجماعي"، إذ من بين أعراض هذه المعضلة أن يقوم الأفراد باختيار استراتيجية تكفل لهم تعظيم مكاسبهم دون الاكتراث بما سيقدم عليه الفاعلين الآخرين، ويحدث ذلك عندما تتراجع ثقتهم بمدى التزام الآخرين بقواعد السلوك المتفق عليها. وتعتبر الرشوة والاختلاس والابتزاز إحدى مظاهر الفساد التي تنشأ بسبب "معضلة الفعل الجماعي"، ولكن لدى استشرائها فإن الأمر ينقلب إلى مصيدة اجتماعية يصعب الإفلات منها، ويعبر ذلك عن وضع يكون فيه الفساد أمرا مستساغا وطبيعيا بل ويعجز الأفراد عن تصور أنه بإمكانهم تسيير شؤونهم الحياتية دون تعاطي بعض مظاهر الفساد.(14)
ومن هنا فإنه من الطبيعي أن يكون العلاج الذي يجب أن تحظى به البلدان التي وقعت في "مصيدة الفساد الاجتماعية" مختلفا، وذلك بتمكينها أولا من الإفلات من المصيدة، ويقترح الباحث جواكيم آنقر اتخاذ التدابير التالية لتحقيق هذا الهدف:(15)
• تعزيز وظائف الرقابة: عبر تفعيل هيئات مراجعة الحسابات المستقلة، ضمان حرية وسائل الإعلام، تمكين تنظيمات المجتمع المدني. إضافة إلى عدد من الآليات المؤسساتية مثل: استقلالية القضاء وفعاليته، دورية الانتخابات ونزاهتها، وحكم القانون.
• تغيير منظومة الحوافز: من خلال القيام بتعيينات تستند إلى الجدارة والاستحقاق لا إلى الزبونية والمحاباة، ضمان حرية الوصول إلى المعلومة، تحصين الموظفين والمسؤولين من خلال نظام مناسب للرواتب والتعويضات والتأمين الاجتماعي.
• تعزيز المنظومة القيمية: عبر مدونات السلوك وتحفيز القيمين على تسيير الشؤون العامة للتقيد بمنظومة أخلاقية تضمن التساند للتنمية.
ويبدو واضحا أن النقطتين الأولى والثالثة -وإذا استثنينا التدابير ذات الطابع المؤسساتي- فإن تفعيلهما لا يمكن أن يكلل بالنجاح دون التمكين للمجتمع المدني المحلي لممارسة الدور المنوط به.
في واقع الأمر، إن الولوج في مسار الديمقراطية المشاركاتية يشترط تبني سياسات متكاملة لمكافحة الفساد, إجراءات يتم التمكين فيها للعمل الجمعوي أن يضطلع بأدوار معينة لمكافحة هذه الظاهرة كشرط ضروري لتفعيل هذا المسار. لكن، وبشكل عام، يلاحظ عدم فاعلية العمل الجمعوي في مكافحة الفساد في العديد من البلدان النائية ومنها الجزائر. ترجع العديد من الأبحاث المهتمة بهذا الموضوع عدم الفاعلية هذه إلى الطبيعة الزبونية لتلك لأنظمة والتي يتم بموجبها مقايضة الولاء بالريع، مما ينجم عنه ليس تحييد تنظيمات العمل الجمعوي فحسب، بل واستمالتها وأحيانا اختراقها لتمارس أدوارا مرسومة لها سلفا، وذلك مقابل الحصول على التمويل الذي يمكنها من الاستمرارية، وهو ما أدى إلى سعي الناشطين للتربح على حساب الرسالة التي قامت لأجلها تنظيماتهم.(16)
ب/ تتميز العمل الجمعوي في الجزائر بعدم التنظيم وغياب الاحترافية لدى الناشطين ضمنه، وهو الأمر الذي يجعل هذه العمل غير قادر للانخراط بشكل فعال في مواجهة الكثير من المشكلات التي تواجه الجزائر وعلى رأسها مشكلة الفساد. لقد أدى ضعف هذه المؤسسات من ناحية التنظيم والاحترافية أن أصبحت جدواها متواضعة عند المساهمة في تنفيذ الاستراتيجيات والبرامج المختلفة للحكومات المتعاقبة في الجزائر.
جـ/ من المفارقات المهمة التي يمكن تسجيلها عند فحص وتقييم دور مؤسسات المجتمع المدني في مكافحة الفساد بالجزائر، وقوع هذه المؤسسات أو لنكون منصفين بعض هذه المؤسسات تحت طائلة مشكلة الفساد نفسه. فبالرجوع لتقارير منظمة الشفافية العالمية مثلا. نجد أنها تشير إلى انحراف العديد من هذه المؤسسات عن أهدافها التي عادة ما ترتكز على أرضية أخلاقية صلبة. إذ يلاحظ أن هذه المؤسسات نفسها تتعاطى الفساد.
نحو تبني إستراتيجية متكاملة لإحلال الديمقراطية المشاركاتية من خلال مكافحة الفساد
أ/ يمكن القول أن قيام مؤسسات الدولة وحدها لمكافحة الفساد يعد أمرا عسير المنال، إذ يمكن للعمل الجمعوي أن يمد بيد المساعدة. لذلك ينبغي ألا ينظر لهذا النشاط الجمعوي على أنه في وضعية تحدي لمؤسسات الدولة. إن إصلاح العلاقة بين هذين الكيانين يعد أمرا ضروريا. فهذه المؤسسات تمتلك مخزونا معتبرا من القيم، يمكن الاستعانة بها لتعبئة المواطنين بطرق لا تستطيع الحكومات القيام بها. ونؤكد هنا على الدور الذي يمكن للنخبة الحاكمة أن تقوم به تجاه مؤسسات المجتمع المدني. إذ يمكنها أن تهتم بتصميم إطار مناسب لتسهيل انخراط المجتمع المدني في مكافحة الفساد ليشمل هذا الإطار إجراءات قانونية وتنظيمية بل وحتى توفير تحفيزات مالية لتفعيل دور هذه المؤسسات في مكافحة الفساد.
ب/ إن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني والعمل الجمعوي في الجزائر يمر أيضا عبر تطوير النخبة الحاكمة نظرتها للديمقراطية على أنها لا تعني فقط إجراء الانتخابات والمشاركة فيها بل تعني مشاركة فعلية ذات معنى للمجتمع المدني من خلال مساهمته لصياغة وإعداد البرامج والسياسات المختلفة لهذه النخبة. إن الطريق لذلك يمر عبر مراجعة هذه النخبة لدستورها وقوانينها وجعلها تنحوا اكثر نحو تبني مبدأ المشاركة كمكون محوري فيها. إن مأسسة المجتمع المدني يعد أمرا بالغ الأهمية لأن هذه المأسسة تجعل منه شريكا حقيقيا لهذه النخبة في مقاومة مشكلة الفساد. كما أن الأمر يبدو أكثر أهمية إذا نظرنا له من خلال الفلسفة التي تقوم عليها معظم المبادرات التنموية حاليا والتي تقوم على مفاهيم الحكم الراشد والمحاسبة والشفافية.(17) وعليه فإن مشاركة مؤسسات المجتمع المدني تبدو اكثر من ضرورية لدعم مايعرف حاليا بالحكم الصالح.
ج/ إن الحديث عن التنمية السياسية في الجزائر يظل بغير ذي معنى إذا لم تتوفر استراتيجيات متساندة لمكافحة الفساد، حيث أثبتت الدراسات وجود روابط وثيقة بين تعاطي الرشوة والمحسوبيات وتلقي العمولات عن الصفقات العامة وبين تباطأ النمو وحرمان غالبية فئات المجتمع من الخدمات التعليمية والصحية وغيرها من مقومات التنمية المتساندة. وبالتركيز على هذه النقاط يمكن لناشطي المجتمع المدني والعمل الجمعوي تصميم حملات دعائية وتعبوية واسعة النطاق تستهدف زيادة الوعي الجماهيري بضرورة المشاركة في محاصرة الفساد. وإذا رجعنا إلى المبادئ التي أقرها البنك العالمي كشرط ضمان تساند استراتيجية مكافحة الفساد نجد أن اثنتين من أصل ستة مبادئ تعتمد على تمكين المجتمع المدني لتجسيدها:(18)
1/ إيجاد منافذ لتمرير مزيد من الإصلاحات: تعتبر المصيدة الاجتماعية عقبة رئيسة في وجه اتخاذ تدابير ملموسة لمكافحة الفساد في العديد من البلدان النامية ومنها الجزائر، ولذلك فإن الدور المنوط بناشطي الحركة الجمعوية يعتبر حيويا لدى الشروع في معالجة البلدان المنهكة من الفساد، حيث تصطدم خطط الإصلاح بمجموعة تمتلك مصالح راسخة في استمرار ما يمكن تسميته بالفساد المقنن. وفي هذه الحالة، يتوجب على هؤلاء الناشطين تعبئة الجماهير وتعزيز الوعي العام بغية تحقيق تحول في إدراكات المسؤولين الفاسدين يقضي بأن التشبث بالوضع القائم ومقاومة الإصلاحات سيقوض سلطتهم مما يجبرهم على إقرار عدد من الإصلاحات في النظم الضريبية والبنكية وإضفاء بعض الشفافية على العملية السياسية. وبعد تحقيق هذا الهدف، يمكن للحركة الجمعوية الاستفادة من جو الحريات النسبية للمرور إلى المرحلة الثانية والتي تنطوي على الضغط من أجل مزيد من الإصلاحات والرقابة بالاعتماد على وسائط الاتصال لإحداث ضغط في المجال العام.
2/ إرساء آليات الإنذار المبكر: تعتمد هذه الآلية على مراكز الدراسات والمراصد الحقوقية، وهي تنطوي على فحص المنظومة القانونية وإجراءات التقاضي وقوانين الموزانة السنوية لاكتشاف أية ثغرات قد يستهدفها الفساد.
تعد الجوانب السالفة الذكر محورية لجعل العمل الجمعوي آلية فعالة بإمكانها أن تساهم في محاربة الفساد والتأسيس للديمقراطية المشاركاتية. ويمكن كذلك ذكر عناصر إضافية يمكنها أن تساهم في تفعيل هذا العمل ومنها:
- بناء قاعدة شاملة من المعلومات والمعارف المختلفة حول الفساد وتجلياته المختلفة.
- الانخراط في حوار جاد وتبني سياسات مناسبة يتم إشراك مؤسسات المجتمع المدني فيها وذلك حول القضايا التي تؤثر في المجتمع مثل مشكلة الفساد.
- ضمان المزيد من الشفافية والمحاسبة ليس على مستوى مؤسسات المجتمع المدني وحدها بل على مستوى القطاع العام والمبادرات الخاصة.
- المساهمة والمشاركة بشكل إيجابي لدعم بناء منظومة قانونية مناسبة تمكن العمل الجمعوي من النشاط بشكل حر وبعيد عن ضغوط النخبة الحاكمة في الجزائر.
- دعم مؤسسات المجتمع المدني لتأخذ على عاتقها مسؤولية إنتاج السلع والخدمات كأحد أهم مقتضيات التنمية المستدامة. ويعبر هذا الوضع عن اتجاه عام يميز نشاط مؤسسات المجتمع المدني في العديد من الديمقراطيات الغربية ضمن ما يعرف حاليا بالمجتمع المدني التشاركي، والذي تعرضنا له بالتوصيف والتحليل ضمن سياق هذه الورقة.
يمكن القول، ومما سبق، أنه في ظل هذه الاثار التدميرية الناجمة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الجزائر، وفي ظل فقدان الدولة لكثير من قدراتها والتزاماتها التنموية، وفي ظل إستفحال مشكلة الفساد، أضحى العمل الجمعوي أمرا ضروريا بفعل قدراته الكامنة التي يمكن أن يسخرها قصد الاستجابة لهموم المواطنين. فمؤسسات المجتمع المدني التي تعد حاضنا لقيم المواطنة والعدالة والمشاركة يمكنها أن تساهم بفعالية في مسار التنمية السياسية وإحلال الديمقراطية المشاركاتية لا سيما في ظل افتقاد الدولة لاستراتيجية واضحة فيما يتعلق بهذا الموضوع. فإذا أخذنا في الحسبان أن فلسفة التنمية السياسية إلى هذه العملية على أنها نشاط تشاركي ودينامكي شامل وتراكمي من أجل إحراز تقدم في التلبية العادلة والمستدامة والمتضامنة للحاجيات الإنسانية، فإن دور العمل الجمعوي في ترقية وتحصين هذه التنمية يصبح أمرا ضروريا.
الخاتمة :
لقد سعيت من خلال هذه الورقة أن أقدم تصورا لكيفية التأسيس للديمقراطية المشاركاتية كبديل للديمقراطية المنافساتية التي أصابها الإنهاك في الجزائر. وتوصلت إلى أن الطريق لتحقيق هذا الهدف ليس بالأمر الهين ، اذ يتعين إحداث ترميمات وإصلاحات جذرية تمس جوانب عديدة من المنظومتين القيمية والمؤسساتية القائمة. أكدت من خلال الورقة ان تشجيع العمل الجمعوي يعد أداة مناسبة لمباشرة تلك الإصلاحات بفعل مخزونه القيمي الذي يمكن الاستفادة منه لتجسيد هذا البديل الديمقراطي.
إن جعل العمل الجمعوي ذا معنى يستلزم وكما جاء في الورقة ،توجيه بؤر اهتمام هذا العمل لينخرط في مجالات شائكة لكنها مفصلية لتحقيق الديمقراطية المنافساتية.فمن جهة يتعين إشراك العمل الجمعوي نحو التنمية المحلية بمفهومها الواسع كمنطلق يفرضه منطق الديمقراطية المشاركاتية التي تركز على جعل المواطن فعالا في محيطه من خلال إسهامه في بلورة وصياغة معظم القرارات التي تتعلق بمصيره، أما من جهة ثانية فان تجسيد الاتجاه التشاركي والتأسيس للديمقراطية المشاركاتية لا يمكن ان يثمر نتائج ايجابية في ظل مناخ سياسي واقتصادي يقسم بالفساد ، الذي أصبح حاليا مؤسسة قائمة بحد ذاتها ، بل ومؤسسة المؤسسات للمفسدين من نفوذ وتاثير وقوة لإجهاض العديد من التوجهات والاختيارات الإصلاحية حاليا . لقد أكدت من خلال هذه الورقة ان التمكين للعمل الجمعوي الفعال يمكن ان يؤثر ايجابا في مواجهة ظاهرة الفساد وما ينجم عن ذلك من إمكانيات التأسيس للديمقراطية المشاركاتية.