الجغرافيا السياسية الجديدة والعنف في العالم العربي
د. كمال السعيد حبيب
تبدو الثورات العربية، في بعض جوانبها، تأسيسا لجغرافيا سياسية جديدة للعالم العربي، فهناك نظم تسقط، وأخرى تولد. وبين السقوط والميلاد، تحدث توترات عنيفة، مصحوبة بالضرورة بقدر من العنف. وبين ذلك كله، يمكن للباحث أن يخلص إلى أننا في العالم العربي نشهد تشكل جغرافيا سياسية جديدة لهذا العالم.
ولهذه الجغرافيا السياسية الجديدة ملمحان بدآ يبرزان ويتصاعدان بقوة خلال الأشهر الماضية، الملمح الأول يشير إلى أن هذه الجغرافيا السياسية الجديدة تؤسس لعنف ذي أبعاد جديدة. أما الملمح الثاني، فيشير إلى تجزئة محتملة على أسس طائفية. هذان الملمحان يبدو كذلك أنهما قد يكرسان التحاق عالمنا العربي بالغرب، وتحقيق مطامعه ومخططاته من حيث لا ندري. في هذا المقال التأسيسي والاستشرافي لتلك الجغرافيا السياسية الجديدة، يمكننا الحديث عن موضوعين رئيسيين، هما أولا: نماذج التغيير في العالم العربي والجغرافيا السياسية الجديدة للعنف، ثانيا: العلاقة مع الغرب وسياق التأسيس لتلك الجغرافيا السياسية الجديدة للعنف.
أولا- نماذج التغيير والجغرافيا السياسية الجديدة:
يمكننا القول إن هناك نماذج ثلاثة للتغيير في العالم العربي، سترسم ملامح الجغرافيا السياسية للعنف فيه، وهذه النماذج هي:
1-الثورة والعنف في مصر وتونس:
ثورات الربيع العربي في تونس ومصر تتسيد المشهد فيهما قوي اجتماعية وسياسية تنتمي للطبقة الوسطي الباحثة عن نظام أكثر حرية وعدلا. ورغم التحولات الكبيرة التي حدثت في المشهد السياسي العربي، فإن الجماهير لم تلجأ إلى العنف.كان لدينا ما أطلقت عليه "نموذجا جديدا مختلفا للتغيير"، هذا النموذج قوامه الملايين من البشر، تتدفق إلى الميادين، يقودهم شباب مستخدمين للإنترنت وللشبكات الاجتماعية الحديثة. قوة البشر في مواجهة القمع أسقطت نظما من أعتى نظم الاستبداد في المنطقة، بداية من نظام بن علي، وحتى نظام مبارك.
الآمال الكبيرة المعلقة على الثورات العربية تراجعت بعد تعثر مسار الثورة في مصر على مدي عام ونصف عام، وبينما كان مسار الثورة أكثر يسرا في تونس، واجهت مشكلات بين الترويكا الحاكمة حول قضايا متصلة بالدستور، وسيطرة حركة النهضة، وظهور التيارات السلفية الجديدة كتحد. وفي كل الأحوال، فإن الدول التي لديها مؤسسات سياسية وطبقة وسطي واسعة، كان التحول السياسي فيها من الثورة إلى الدولة أكثر أمانا وبعدا عن العنف السياسي.
هنا لدينا نموذج للثورة وللتحول السياسي، يشير إلى أن العنف لم يكن حاضرا في المشهد الثوري، وإنما قوة الشعب والشباب والجماهير في مواجهة الطغيان والاستبداد طلبا للحرية والديمقراطية، والعدل الاجتماعي، والكرامة الإنسانية.
ظهر العنف لاحقا في حالة مصر وتونس، متخذا من لافتة "السلفية الجهادية" تعبيرا له. وهنا، يثور التساؤل: هل فتحت حالة التفكك والانهيار في الدولة القديمة، سواء في مصر أو تونس، الباب أمام القوي الإسلامية المتخذة من العنف سبيلا لها لتجد لنفسها موطئ قدم في المشهد الجيواستراتيجي الجديد؟
صحيح أن هذه القوي لم تشارك في الثورة مع الجماهير والناس، وإنما كانت موجودة على هامشها تراقب وترفع أعلامها، وتجمع قواها.
وبشكل عام، فإن انهيار النظم السياسية القديمة، وعدم اكتمال بناء النظم السياسية الجديدة فتحا الباب للقوي التي تتبني الفكر السلفي الجهادي لتتخذ لنفسها موطئ قدم، وتمثل تحديا حقيقيا للوافدين الجدد للسلطة، وهنا نجد أنفسنا أمام استقطاب إسلامي - إسلامي. فالسلفية الجهادية ترفض الديمقراطية وتراها كفرا. ومن ثم، فإن الإخوان الذين يحكمون في مصر، وحركة النهضة التي تحكم في تونس يمثلان خروجا عن المسار الإسلامي الصحيح في طريقة وصولهما إلى السلطة من منظور السلفية الجهادية.
في مصر، حيث كان الرافد الجهادي السلفي لا يزال قويا، فهناك إسلاميون جهاديون رفضوا المراجعات، ومن ثم ظلوا متمسكين بالفكر السلفي الجهادي، وقد خرجوا من السجن، كما أن صلاتهم بروافد القاعدة مفتوحة. وقد تبدي فائض القوة والعنف لديهم في عمليات عسكرية بأطراف الدولة المصرية في منطقة سيناء، حيث تغيب السلطة المركزية، ويتفشي الشعور بالتهميش والتمييز، وحيث تسود الروح القبلية ذات الطابع البدوي المتماهية مع منطق السلفية الجهادية الأقرب إلى الفكر الخوارجي في التاريخ الإسلامي والفكر الفوضوي في التاريخ الغربي، وهو فكر يرفض السلطة والدولة، ويسعي لحالة أقرب إلى العودة لحالة البداءة الأولي منها إلى دولة حديثة.
في هذا السياق، برز الحديث عن الإمارة الإسلامية في سيناء، والهجوم على مقار الشرطة في العريش، وتفجير خط الغاز لمنعه من الوصول لإسرائيل. بيد أن عملية رفح، التي قُتل فيها 16 جنديا مصريا وهم يفطرون في رمضان، كانت ناقوس الخطر الأكبر في بلوغ التيار السلفي الجهادي في مصر حدا لا يمكن السكوت عنه من قبل الدولة المصرية التي يحكمها تيار إسلامي أيضا، وهم الإخوان المسلمون. وحين تفجرت مشكلة الفيلم المسئ للنبي - صلي الله عليه وسلم - فإن السلفية الجهادية اقتحمت أسوار السفارة الأمريكية في مصر، ورفعت علم السلفية الجهادية مكان العلم الأمريكي في الذكري الحادية عشرة ليوم 11 سبتمبر. وهنا، انتقل التحدي السلفي الجهادي من الدولة المصرية إلى الولايات المتحدة، وأصبحت السفارة الأمريكية عنوانا للجهاد العولمي للتيار السلفي الجهادي في قلب القاهرة.
في تونس، ظهر عنف التيار السلفي الجهادي في البداية محتجا على عدم السماح للطالبات المنتقبات بدخول الجامعة، و على قناة "نسمة" التي شخصت الذات الإلهية، ويدعو التيار إلى إقامة إمارة إسلامية في تونس هو الآخر. كما أن تيارا لأنصار الشريعة في تونس، يتزعمه سيف الله بن حسين المكني بأبي عياض، وهو قاتل في أفغانستان، سعي لتأسيس ما يطلق عليه "الجماعة الإسلامية المقاتلة في تونس"، وقد فتحت أجواء ما بعد الثورة في تونس، كما هو الحال في مصر، السبيل لقادة التيار السلفي الجهادي للخروج من السجن كما هو الحال في مصر.
بيد أن الفيلم المسئ للنبي - صلي الله عليه وسلم - فتح الباب واسعا لبروز تحدي التيار السلفي الجهادي لحكومة حركة النهضة الإسلامية، حيث حاول التيار السلفي الجهادي في تونس اقتحام السفارة الأمريكية، وهو ما أدي لقتل عدد من الأفراد. إن هذا جعل الزعيم التونسي لحركة النهضة، راشد الغنوشي، يقول إن التيار السلفي الجهادي في تونس يمثل خطرا على الدولة، ولابد من اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع هذا الخطر. وفي مصر، قال زعيم التيار القطبي، عبد المجيد الشاذلي، إن التيار السلفي الجهادي في مصر هو تيار خوارجي وعبثي، ولابد من استئصاله.
انتقل فائض المقاومة في غزة إلى سيناء، حيث هناك تجاور بين التيار السلفي الجهادي في سيناء وغزة. وفي تونس، سوف نجد التجاور بين التيار السلفي الجهادي في تونس من ناحية الغرب، والفضاء الواسع الذي تتحرك فيه تنظيمات التيار السلفي الجهادي في منطقة المغرب العربي والصحراء، وهو ما قد يعني فائضا للقوة يمثل ظهيرا محتملا لدعم التيار السلفي التونسي في المستقبل في مواجهة الدولة والمصالح الأمريكية والغربية معا. كما أن التجاور الجغرافي مع ليبيا لا يمكن نكران تأثيره في التيار السلفي الجهادي في تونس أيضا.
2- العنف والحرب الأهلية والتدخل الدولي في ليبيا:
ليبيا نموذج مختلف للتغيير، فالطريقة التي سقط بها نظام القذافي كانت حربا أهلية، حمل فيها الشعب الليبي السلاح، وتدرب عليه بدعم غربي وعربي، وهو ما خلق بيئة مهيأة لانتشار العنف، خاصة مع غياب مؤسسات الدولة الليبية في عهد القذافي، وضعف الطبقة الوسطي الليبية، والمؤسسات الأهلية والمدنية المعبرة عنها. بدأت الاضطرابات في ليبيا في منتصف شهر فبراير في عام 2011 واستمرت لثمانية أشهر كاملة، حتي انتهت في النصف الأول من شهر أكتوبر 2011 وتدخل المجتمع الدولي بصدور قرار دولي من مجلس الأمن بتدخل قوي الناتو، وفرض مناطق حظر جوي على نظام القذافي. وظهرت قوة الإخوان المسلمين، كما شاركت وبقوة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، التي كانت قد أعلنت أنها تحولت للحركة الإسلامية الليبية. وظهر المجلس الوطني الانتقالي كهيئة وحيدة معبرة عن الدولة الليبية، إبان الثورة وبعدها، والذي ضم إسلاميين من الإخوان، ومن الجماعة الليبية المقاتلة.
فتحت الحرب الأهلية في ليبيا الأبواب على مصراعيها على مخازن الأسلحة الليبية، والتي كانت فرصة ذهبية لتجار السلاح والمغامرين، وصناع الحروب، ومهندسي مناطق التوتر، وصانعي الجغرافيا السياسية للعنف. عاد المرتزقة الذين كانوا يقاتلون إلى جانب كتائب القذافي بأسلحتهم إلى مالي، وتحالف الطوارق الموالين للقذافي (حركة أزواد)، والعائدين بأسلحتهم مع تنظيم القاعدة (حركة أنصار الدين وحركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا)، حتي استطاعوا أن يسيطروا على شمال مالي تقريبا، ويربكوا دولا في إقليم المغرب العربي وغرب إفريقيا وحتي نيجيريا.
لم يقتصر أمر مخازن السلاح المفتوحة في تأثيره على منطقة الغرب الإفريقي وإنما امتد ليشمل منطقة المشرق العربي حتي سيناء وغزة، وبالطبع مرورا بمصر. بيد أن منطقة سيناء كانت هي الأكثر استقبالا للسلاح القادم من ليبيا، عبر طرق ومسالك يعرفها تجار السلاح. فتشبع قطاع غزة بالسلاح جعل سيناء أحد مصادر استقباله وتخزينه.
فتح ضعف بنية الدولة الليبية، وعدم استكمال بناء مؤسساتها، خاصة الجيش والشرطة، الباب واسعا لفراغ أمني، عبرت عنه بشكل واضح حادثة مقتل السفير الأمريكي "كريستوفر ستيفنز" وأربعة من الدبلوماسيين. وهنا، فإن نموذج الحرب الأهلية في التحول نحو نظم جديدة، مع ضعف مؤسسات الدولة وقواها الاجتماعية والسياسية، خاصة طبقتها الوسطي، يفتح الباب على جغرافيا عنف سياسية في محيط تلك الدولة. وهنا، فإن ليبيا بقدر ضعف التيار السلفي الجهادي فيها فإنها ذاتها - كحالة انتقال عسرة إلى نظام سياسي جديد - تفتح الباب واسعا لاحتمالات رسم حدود لجغرافيا سياسية للعنف. وعلينا تذكر أن مقاتلين من مصر وتونس والجزائر قاتلوا في ليبيا ضد القذافي، وانتقلوا من ليبيا إلى سوريا بعد ذلك. فحالة الحرب الأهلية الطويلة نسبيا هي عامل جاذب لبناء جغرافيا سياسية ذات طابع عنيف.
3- العنف الطائفي والحرب الأهلية في سوريا:
يمثل الاقتتال الدائر في سوريا، الذي يتخذ صورة الحرب الأهلية الطويلة التي لا أفق لها - أو ما يمكن أن نطلق عليه الصراع الاجتماعي الممتد - أحد مصادر ترسيم خرائط العنف في المنطقة العربية. فهناك استقطاب طائفي سني - سلفي - شيعي يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للعنف في المنطقة، وهناك جذب لمنتمين لتيار السلفية الجهادية من الجزائر وليبيا وتونس ومصر. كما أن معلومات تشير إلى انتقال نشاط تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من اليمن إلى سوريا، برعاية مخابراتية أمريكية - سعودية. وتشير المعلومات أيضا إلى أن العرب في منطقة وزيرستان، والمناطق التي تنشط بها طالبان باكستان، يغادرون إلى سوريا، حيث تغض المخابرات الباكستانية الطرف عنهم للتخلص منهم.
وهكذا، يمثل الشحن الطائفي المذهبي أحد مصادر الجذب والحشد في المعركة الدائرة في سوريا اليوم. نحن أمام حرب أهلية لا يريد الغرب أن يتدخل فيها، كما حدث في ليبيا، ومن المتوقع استمرارها، رغم أنها بدأت من مارس 2011 ولا تزال مستمرة، فهي الحرب الأهلية الأطول في ثورات الربيع العربي. ومن المتوقع أن تتخذ وجها طائفيا أعمق، كما يتوقع أن تظهر أدوار للتيارات السلفية الجهادية فيها أكبر، كلما طال عمرها.
هنا، العنف أكثر تركيبا، فهو عنف يتأسس على منطق طائفي، بحيث يكون القتل أو الحرب أو العنف على الهوية، وهو ما يهدد التركيبة الاجتماعية - السياسية للعالم العربي في مشرقه. ولا يمكننا أن نفصل ما يجري في سوريا اليوم عما جري من قبل في العراق. فالعنف الطائفي في العراق أدي إلى تفكيكه وضرب وحدته برعاية أمريكية. واليوم، يجري في سوريا تطييف العنف برعاية أمريكية - خليجية - تركية.
لا أحب أن يفهم أحد من ذلك أنني ضد ثورة الشعب السوري في مواجهة حاكمه المستبد، ولكن ما يجري في سوريا ا ليوم هو تأسيس لعنف طائفي وحرب أهلية، تختبر فيها القوي الدولية والإقليمية ما يطلق عليه "حروب ما بعد الحداثة". هناك شعور بخطر تكرار التجربة الأفغانية في قلب عاصمة الأمويين، وهو ما سيقود إلى خطوط جغرافيا سياسية جديدة، ستعمدها الدماء والأفكار والعقول التي سترسم وجها عنيفا في العالم العربي لسنوات قادمة.
ثانيا - العلاقة مع الغرب وسياق رسم الجغرافيا السياسية الجديدة للعنف:
لا ترسم ملامح الجغرافيا السياسية ا لجديدة للعنف في العالم العربي في فراغ، وإنما هناك قوي ومصالح ونظم هي التي تؤسس لتلك الجغرافيا، والغرب الذي تقوده الولايات المتحدة وأوروبا هو الطرف الرئيسي في التأسيس لتلك الجغرافيا الجديدة. صحيح أن الثورات في تونس ومصر بدأت شعبية ومفاجئة لأجهزة المخابرات الغربية، بيد أن الغرب سرعان ما حاول استيعاب تأثيرها والتكيف معها لتحقيق مصالحه. وكان أهم ما عبر عنه الغرب في هذا السبيل هو التعامل مع القوة الإسلامية الجديدة القادمة إلى السلطة، بدلا من الأنظمة الاستبدادية البائدة.
كما تحدثت العديد من الدراسات الغربية عن أن النموذج الشعبي السلمي المتوافق، واسع التأييد من الجماهير، طرح بديلا عن الأصوات الجهادية التي تقصد المصالح الغربية بالاستهداف. وأشارت إحدي تلك الدراسات - وهي دراسة ناثان شيلدز Nathan E. Shields المنشورة في عدد ربيع 2012 في مجلة "Global Security Studies” تحت عنوان "الاضطراب في الشرق الأوسط: التداعيات السياسية بالنسبة للإرهاب الدولي وسياسة مكافحة الإرهاب"- إلى أن قوة الشعب وكسر الخوف في نفسه هما الضمانة لمنع الإسلاميين من أن يبقوا في السلطة للأبد، أو أن يتحولوا إلى نظم أوتوقراطية.
وأشارت دراسات أخرى إلى ضرورة تخلي الغرب عن الحرب ضد الإرهاب، بحيث تتحول السياسة عبر العنف إلى الحرب بلا عنف للاستفادة من الربيع العربي، ويقول بات بروكتورPat Proctor في دراسته المنشورة في مجلة Strategic Security عدد صيف 2012 تحت عنوان "حرب بلا عنف: الاستفادة من الربيع العربي للانتصار في الحرب على الإرهاب": " على الغرب أن يحرر نفسه من الحرب على الإرهاب بدعم الأصوات التي لديها القوة والقبول والجاذبية، في مواجهة السلفية الجهادية في العالم العربي". وأشارت الدراسة أيضا إلى مواجهة السلفية - الجهادية بدعم السلفية السياسية التي تتمتع بقبول واسع في الشارع العربي.
وأشارت دراسات أخرى - مثل دراسة ناهد كلباسي أناراكي Nahid Kalbasi Anaraki "الفساد والإرهاب: هل يقوضان الربيع العربي؟"، المنشورة في "مؤشر الحرية الاقتصادية لعام 2012" (Index of Economic Freedom)- إلى العلاقة بين الفساد وتجذره وبين احتمالات انتشار العنف في العالم العربي، ومن ثم رأت أن القضاء على الفساد واعتماد التحول الديمقراطي ودعمه هي إحدي أدوات مقاومة العنف في العالم العربي.
هذه الدراسات تعكس الرؤي الغربية للثورات العربية وعلاقتها بالعنف أو الإرهاب، الذي يهدد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وكيف يمكن حصاره، والقضاء عليه، والتخلص منه. نقطة الانطلاق في الرؤية الغربية لعالمنا العربي هي أمن الغرب، دون النظر إلى علاقات اعتماد متبادل ترعي المصالح المشتركة بين العالمين المتجاورين: الغرب والعالم العربي والإسلامي.
أحد مصادر الجغرافيا السياسية الجديدة للعالم العربي هي المقولات الغربية التي أطلقها المحافظون الجدد، ومفكرون غربيون كبار، أمثال برنارد لويس، وصمويل هنتنجتون، عن الإسلام، باعتباره عدوا بديلا عن الاتحاد السوفيتي القديم، وعن صراع الحضارات، وعن خطوط جديدة لجغرافيا العالم السياسية، ستكون خطوطا دموية على حدود الحضارات الكبري، و على رأسها الحدود بين الحضارتين الغربية والإسلامية. ويري العالم الإسلامي أن الغرب يستخدم معايير مزدوجة في علاقته مع إسرائيل في مواجهة العالم العربي.
يعزز تلك الرؤية صعود الأصوليات في العالم الغربي - ممثلة في الأصولية الإنجيلية وتحالفها مع الأصولية اليهودية - وتوظيف المقولات الدينية في السياسية الخارجية، خاصة ما يتصل بدعم نوايا الكيان الصهيوني لهدم المسجد الأقصي وبناء الهيكل. ويجب ألا نتغاضي عن العدوان الغربي على مقدسات العالم الإسلامي، خاصة النبي محمدا (صلي الله عليه وسلم)، فقد اعتدت على حرمته صحف نرويجية وفرنسية، وكان الفيلم المسئ للنبي (صلي الله عليه وسلم) عنوانا للعدوان الغربي على مقدسات العالم الإسلامي، كل ذلك عزز للتيارات المتشددة، و على رأسها السلفية الجهادية، التي عجز الغرب طوال أكثر من عشر سنوات عن هزيمتها. وهنا، فإن المصادر المغذية للعنف في العلاقة مع العالم الغربي لا تزال قائمة، حيث دعا تنظيم القاعدة مثلا إلى مهاجمة الولايات المتحدة والدول الغربية، وقتل من شارك في الفيلم المسئ للنبي صلي الله عليه وسلم.
وهنا، فإن الحديث عن حلول ذات طابع اقتصادي - اجتماعي، مثل الفقر، والتهميش، والبطالة، وغياب التنافس الاقتصادي، أو الديمقراطية السياسية، يظل غير كاف في علاقة العالم الغربي بالعالمين العربي والإسلامي، ما لم يتم الحديث عن علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني والعقدي والثقافي. لا يكفي الحديث عن دعم الاتجاهات والأصوات النابذة للسلفية الجهادية في العالم العربي، والتي تستهدف المصالح الغربية، وإنما لابد من الحديث عن احترام العالم الغربي لثقافة العالم العربي، ولنظامه الاجتماعي والثقافي وتركه وما يختار ويدين.
لابد للغرب أن يتحرر من مركزيته وهيمنته الثقافية، وفرض نماذجه في حرية التعبير على العالم الإسلامي بالاستهتار بمقدساته، وبث الكراهية والتمييز ضد المسلمين في الغرب، فيما يعرف بظاهرة "الإسلامو فوبيا". فالعالم أصبح قرية واحدة، ولم يعد مقبولا الحديث عن الاستهتار بمقدسات أكثر من ألف مليون مسلم بحجة حرية التعبير. فأحد مصادر العنف المشكلة للجغرافيا السياسية الجديدة للعالم العربي هو العنف الرمزي في مواجهة المقدس الإسلامي، في ظل شبكات تواصل اجتماعي تجعل من المشاهد مشاركا في الحدث. فكما أن مصير العالم واحد فيما يتعلق بقضايا البيئة مثلا، فإن العالم مصيره واحد أيضا فيما يتعلق باحترام مقدسات كل أمة، وعدم ازدرائها، أو الاستهزاء بها.
على الغرب أن يدرك أن مصيره مرهون بمصائر الأمم الأخرى الكبري، مثل العالم الإسلامي، وفي القلب منه العالم العربي، ويكف عن التدخل في رسم خرائط جديدة لعالمنا العربي لإضعافه، وفرض الهيمنة، ومزيد من التجزئة عليه، فإن ذلك سيفتح الأبواب مشرعة علي حروب ونزاعات طائفية وعرقية وقومية، لن يكون الغرب ولا حلفاؤه بمنأى عنها.
الإحالات والمراجع :
1- Proctor, Pat, “war without violence: leveraging the arab spring to win the war on terrorism” , Journal of Strategic Security, Volume 5 Issue 2 2012, pp. 47-64.
2- Alexander, Yonah, Special Update Report, “Terrorism in North, West & Central Africa: From11l9 to The Arab Spring”, the International Center for Terrorism Studies (ICTS), January, 2012.
3- Shields, Nathan E, “Unrest in The ME: Potential Implications for International Terrorism and Counterterrorism Policy”, Global Security Studies, Spring 2012, Volume 3, Issue 2.
4- Anaraki, Nahid Kalbasi, “Corruption and Terrorism: Will they Undermine the Arab Spring ”, in 2012 Index of Economic Freedom.
5- ناهض حتر، سوريا كنموذج قيد الاختبار، الامبريالية وحرب ما بعد الحداثة:
http://www.al-akhbar.com/node/166852
6- كمال حبيب، مصادر الإرهاب في مصر، دراسة غير منشورة.
تعريف الكاتب:
باحث متخصص في شئون الجماعات الإسلامية.