انتقام الجغرافيا:
هل يمكن أن تتنبأ الخرائط السياسية بالصراعات القادمة في العالم ؟
روبرت كابلان
عرض :سمية المتولي
معيدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
Robert D. Kaplan, The Revenge of Geography: What Maps Tells Us About Coming Conflicts And The Battle Against Fate, (New York: Random House, 2012)
هل يمكن أن تنتشر الديمقراطية في الدول الإفريقية والشرق الأوسط مثلما انتشرت في دول شرق أوروبا؟ سؤال من المشروع طرحه في عصر العولمة، ذلك العصر الذي أضحت فيه الديمقراطية اتجاها أخلاقيا في مسار التطور التاريخي، ونظاما للأمن الدولي، عوضا عن كونها إحدي مراحل التطور الاقتصادي والثقافي، وهل يمكن أن نعول على الجغرافيا السياسية في التنبؤ بالتطورات المستقبلية للنظام الدولي؟ ..من خلال كتابه (انتقام الجغرافيا: ماذا تخبرنا الخرائط عن الصراعات القادمة والمعركة مع القدر؟)، يحاول روبرت كابلن أن يلقي الضوء على منظور جديد لقراءة التطورات الراهنة في العالم.
الجغرافيا والصراع الدولي:
اعتمدت النظريات الكبرى الواقعية والليبرالية، والنظريات الفرعية التي تندرج تحت مظلتهما في تفسيراتها، على افتراض مبدئي مفاده محورية الصراع في العلاقات البشرية، وأن ما تقدمه هذه النظريات يعمل في اتجاه السيطرة على العوامل التي تفضي إلى الصراع أو تؤججه.
إن السياسات المكانية ليست بالجديدة في نظريات العلاقات الدولية. فقد كانت الجغرافيا أحد مقدرات قوة الدولة داخليا وخارجيا، وهو ما جعل إمكانية بسط السيطرة والتوسع المكانيين على أقاليم الدول المتاخمة هي إحدي دلالات قوة الدولة، وإلا لما توسعت الامبراطوريتان اليونانية والرومانية خارج حدودهما وربما خارج الإطار القاري لهما، والامبراطورية العثمانية ليست استثناء عن القاعدة.
وإذا كان توسع الدولة وضمها لأقاليم أخرى إحدي علامات قوتها، فإن فقدانها للأحيزة المكانية الخاضعة لسيطرتها دليل على ضعف هذه الدولة. وليس أدل على ذلك من التفكك التدريجي لدول الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة. ولم تكن الفترة التالية على انتهاء الحرب الباردة سوى مرحلة من الافتراضات الجزافية والمسلمات المتتالية، تغلفها مسحة أكاديمية شديدة المراوغة في ألفاظها.
على سبيل المثال، رأى الكثيرون أن التدخل لأغراض إنسانية ما هو إلا ارتداد عن كل ما هو "واقعي" أو "براجماتي" للحد من الصراع الدولي، والحفاظ على استقرار النظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك. وبالمخالفة، كان من دواعي الفخر أن يعلن السياسي عن كونه ليبراليا دوليا ينادي بتوظيف الأداة العسكرية الأمريكية لوقف الإبادة الجماعية في البلقان أو يوغوسلافيا.
لقد اعتقد الغرب أن إفريقيا -أكثر قارات العالم تحملا لأعباء الحدود المصطنعة التي وضعها المستعمر الغربي، وأفقرها على الإطلاق- سوف تشهد ثورة ديمقراطية في كل بقاعها. لا يزال هناك متسع من الوقت- في رأى الكاتب- أمام القارة السمراء لتستوعب مجريات الأحداث الحاصلة في الفترة الزمنية الممتدة منذ سقوط حائط برلين، وحتي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2011 ودلالاتها.
ما بعد الحرب الباردة:
لم يبدأ النظام العالمي لما بعد الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفيتي، بل يمكن التأريخ له بصحوة "أوروبا الوسطي"، ذلك المصطلح الذي صكه الصحفي والباحث بجامعة أوكسفورد تيموثي آش، لتمييز تلك الدول عن الشرق السوفيتي سياسيا وثقافيا. لقد تحول مصطلح " أوروبا الوسطي" من مصطلح جامع لكل الثقافات الفرعية المتعايشة في ظل الاشتراكية إلى مصطلح يفرق ويقسم الشعوب، عقب اندلاع الصراعات الإثنية في يوغوسلافيا. لقد كان آش يري أن سقوط حائط برلين يجب ألا يقتصر أثره على الدول الأوروبية أو الغربية فحسب، بل يجب أن يمتد ذلك إلى العالم بأسره.
وقد كانت هذه النظرة الكوزموبيوليتانية هي أحد مستلزمات انطلاق الليبرالية الدولية، واتجاه المحافظين الجدد، فلا عجب أن يصبح آش وبول وولفويتز من مؤيدي التدخل الأمريكي في البلقان والبوسنة والعراق. وامتدادا لهذا الخط التحليلي، فإنه يمكن القول إن الهبة الأمريكية للتدخل في البوسنة وكوسوفو لم تكن إلا امتدادا لصحوة أوروبا الوسطي. ولاشك في أن أطروحة هالفورد جون ماكيندر التي تذهب إلى أن لكل منطقة جغرافية قلبا هي الأساس الفكري الذي انطلق منه آش في تفسيره لمحورية صراعات أوروبا الوسطي.
وفي القارة الآسيوية، ظهرت الصين لتكون هي قلب القارة الآسيوية، التي استطاعت أن توفر الغذاء لقاطنيها، من خلال حصولها على موارد الطاقة والمعادن من دول قمعية مثل بورما، وإيران وزيمبابوي، لتدخل في صراع أخلاقي مع الولايات المتحدة الأمريكية. وامتدت الصراعات الإثنية لتطول الهند علي خطوط عرقية أو دينية. ودخلت الهند في صراعات دامية مع باكستان المتاخمة، لعبت فيها الدولة الأفغانية دورا من خلال حدودها التي لا سيطرة عليها.
وفي عام 1977، لم تتمكن الولايات المتحدة من الذود عن حليفها الإيراني، وتمت الإطاحة بنظام الشاه، وقامت الجمهورية الإسلامية في إيران. وتقدم إيران نفسها على أنها قوة إقليمية صاعدة، وهي الأخرى لا تزال تمثل تحديا أمام الإرادة الأمريكية منذ أن عكفت على برنامجها النووي.
وأخيرا، هناك الإمبراطورية العثمانية التي تكونت من امتدادات جغرافية للإمبراطورية خارج حدود القارة الآسيوية، حتي شملت أقاليمها مصر والسودان في إفريقيا. وعندما بدأت الإمبراطورية العثمانية تفقد سيطرتها على الأقاليم المختلفة، فت ذلك في عضدها، وانتهي الأمر إلى ظهور الدولة التركية التي -على النقيض من إيران- أعلنت عن سقوط الدولة الدينية في مقابل ظهور العلمانية على يد أتاتورك.
ماذا يحمل المستقبل؟
بعد استعراض دورة الصراعات من منظور جغرافي يعيد للأذهان ما قدمه كل من ألفريد ماهان حول القوة البحرية، وماكيندر حول نظرية قلب العالم، ونيكولاس سبيكمان عن المناطق الداخلية التي تقع بين قلب العالم وهوامش القوة البحرية، يجدر التساؤل حول مناطق الصراع المستقبلية. إن أمريكا الجنوبية هي القارة المنسية، التي يمكن أن تكون هي البقعة التالية للصراع.
وعلى ذلك، من الأرجح أن تندم الولايات المتحدة الأمريكية على انخراطها في أفغانستان والعراق، بدلا من اهتمامها بالمكسيك التي تشكل خطرا على استقرار الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. إن المكسيك يمكن اعتبارها دولة شبه فاشلة، تنهار جراء حرب عصابات المخدرات والإتجار بالبشر. ربما من الأفضل للولايات المتحدة الأمريكية أن تهتم بالدول المتاخمة لها، قبل أن تهتم بما هو وراء البحار، وأن تقدم استراتيجية متكاملة للتعاون مع دول الجوار "الجنوب الأمريكي".