بتاريخ : الثلاثاء 27-11-2012 08:01 صباحا
إنّ التساؤل عن أي واقع للمغرب العربي أو اتحاد المغرب العربي في ظل الثورات العربية، أمر لازم وغير كاف ما لم يتم تناوله في إطار أشمل، خاصة وأن جلّ أرجاء العالم العربي تشهد تغيّرات سياسية نتيجة موجات ارتدادية كانت تونس مركزا لها، لتمتد إلى الشرق العربي مؤكدة على طبيعة العلاقة الجدلية بين جناحي هذا العالم الذي نسل من الأجداث وقد حسبناه لوقت طويل في عداد الموتى.
الملتقى العلمي المغاربي الثاني : تونس 21 / 22 نوفمبر 2012
(أي واقع للمغرب العربي في ظل الثورات العربية)
المغرب العربي، الحاضر الغائب.
د/ صالح المازقـــي، أستاذ علم الاجتماع
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس
· مقدمــــــــــــــــــــــــــة
إنّ التساؤل عن أي واقع للمغرب العربي أو اتحاد المغرب العربي في ظل الثورات العربية، أمر لازم وغير كاف ما لم يتم تناوله في إطار أشمل، خاصة وأن جلّ أرجاء العالم العربي تشهد تغيّرات سياسية نتيجة موجات ارتدادية كانت تونس مركزا لها، لتمتد إلى الشرق العربي مؤكدة على طبيعة العلاقة الجدلية بين جناحي هذا العالم الذي نسل من الأجداث وقد حسبناه لوقت طويل في عداد الموتى.
يفرض المنهج العلمي على الباحث الذي يروم دراسة واقع المغرب العربي في ظل الثورات العربية، دراسة سوسيو - سياسية - واقعية، أن يضع نصب عينيه ما قاله "آلان توران" في علم الاجتماع: " يرفض علم الاجتماع التّسليم بالتّفسيرات السطحية للظواهر الاجتماعية لمن يدّعي العقلانية... ليبحث عن الحقائق المتخفية بالتّشكيك (الشّك المنهجي) في وحدة نسق التّصورات الاجتماعية وتماسك الفكر السياسي المهيمن على المجتمع وبالتّالي فهو علم يشكّك في كل شيء بَدْأً بنظام الحكم..."([1]).
لتقديم إجابة موضوعية وعلمية معمّقة، سنراوح بين عدّة مناهج بحثية، تَحَصُنًا من الانغلاق النظري وتجنبا للرأي الأحادي المتزمت. لعل أفضل منهجية سوسيولوجية تلك التي تتفاعل فيها كل الأبعاد المكونة للحياة الاجتماعية من تاريخ وسياسة واقتصاد وثقافة... لفهم الواقع باعتباره محصلة مقدّمات سابقة، تؤسس الحاضر وتحوّله إلى مقدّمات لنتائج لاحقة، يمكن للباحث استقراؤها و/أو الاستدلال عليها مستقبلا.
هنا أراني مضطرا للقفز على كل عوامل الوحدة المغاربية التي يقرّها السفيه قبل العاقل؛ لأتطرق مباشرة إلى تحليل واقع لا يزال أسير عوامل الفرقة منذ قيام هذه الفكرة النّبيلة التي بُنِيَتْ على مبدأ العمل المشترك بعيدا عن النّزعة الوطنية التي لم يطرحها الآباء المؤسسون لحظة إنشاء المغرب العربي والتي أصابته ومقاصده في مقتل.
· دوافع نشأة المغرب العربي
لماذا أنشئ المغرب العربي؟ ببساطة لمقاومة "فَرْنَسَةِ" الجزائر وكسر الخطة الاستيطانية الفرنسية في أرض عربية إسلامية. تشكل الجزائر قلب المغرب العربي من ناحية وهي أهم مستعمرة فرنسية من بين كل مستعمراتها والمسماة اصطلاحا بمقاطعات ما وراء البحار أو (DOM TOM) (Départements d'outre-mer, Territoires d'outre-mer) و(DROM) و(DOM-ROM) و(COM) وجميعها مختصر لتسميات تطلق على ـمجموعة الجزر التابعة للسيادة الفرنسية، الكائنة في عرض المحيطين الأطلسي والهادي حسب وضعها القانوني في الدّستور الفرنسي بعد تعديل سنة 2003. جميع تلك المستعمرات على أهميتها بالنسبة للإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية قبل سقوطها، لا ترقى إلى مكانة الجزائر لأهمية هذا البلد بالنسبة لفرنسا من كل النّواحي:
1/ من الناحية الجغرا - إستراتيجية إذ لا يفصل شواطئ الجزائر الممتدّة على طول (1622 كم) جنوب البحر الأبيض المتوسط عن شواطئ المركز (Le métropole) إلا مسافة ألف ميل تقريبا، حوّلت البحر إلى ممر مائي عملاق، تهيمن فرنسا على ضفتيه الشمالية والجنوبية وجعلت منه مرصدا لحركة الملاحة التّجارية والحربية، يدعم مكانتها العالمية ويحمي عمقها الإستراتيجي.
2/ من الناحية الاقتصادية تزخر الجزائر بثروات طبيعية ومنجمية هائلة تمدُّ الصناعة الفرنسية بالطاقة وتؤمن لمصانعها المواد الأولية الرخيصة الآمنة.
3/ أما من الناحية السياسية والثقافية شكلت الجزائر امتدادا لفرنسا حكومة وشعبا بفضل التّواجد المكثّف للأقدام السوداء (Les pieds-Noirs) رأس حربة غربنة ديار الإسلام.
· أبرز المحطّات التاريخية
يمكن التّذكير في إيجاز بأهم المحطّات التي مرّ بها المغرب العربي وحولته من فكرة إلى مؤسسة تضّم بلدانه الخمسة.
Ø كان "علي باش حامبة"(*) أول من دعا للوحدة المغاربية في لقاء برلين سنة 1915 لإيمانه الشديد بأنّ زوال الاستعمار من شمال إفريقيا لا يتمّ إلا في توّحد منهج المقاومة بين كل أقطاره التي تجمع بينها قواسم مشتركة كالجغرافيا والتاريخ والدين والعقيدة واللغة والثقافة والوجدان والتّصورات الاجتماعية.
Ø تجدّدت نداءات الوحدة سنة 1928 في باريس على لسان العمّال الجزائريين المقيمين في فرنسا ممثلين في حزبهم " حزب نجم شمال إفريقيا".
Ø في سنة 1947 أعيد إحياء مشروع الوحدة المغاربية في ندوة القاهرة من خلال مكتب المغرب العربي الذي تأسس في عام 1946 على يد المرحوم "يوسف الرويسي"(·) في دمشق.
Ø في سنة 1958 وقّعت أحزاب التّحرير الوطني في كل من تونس والجزائر والمغرب(¨) في مؤتمر مدينة طنجة على وثيقة تأسيس المغرب العربي كجبهة سياسية موحّدة مقاومة للاستعمار. تفطنت فرنسا خطورة الحدث، فبادرت باختطاف طائرة الوفد الجزائري العائد من طنجة إلى الجزائر في المجال الجوي الجزائري (باعتباره آنذاك مجالا جويا فرنسيا) وأخذهم رهائن سياسيين للضغط على أحزاب التّحرير المغاربية للتّخلي على مساندة جبهة تحرير الجزائرية في حربها ضدّ المستعمر. (فكانت أول قرصنة جوية جسدت منهج الإرهاب الدولة فالإرهاب لم يكن في يوم من الأيام عربيا ولا إسلاميا).
I. أهم معوّقات الوحدة المغاربية
أ- تقديم المصلحة الوطنية على الوحدة
لقد نجح العمل السياسي المغاربي المشترك في تلك الفترة التاريخية من التّصدي إلى الاستعمار الفرنسي وعجّل فعلا بتحرير الجزائر. (وهذا دليل على أن المغرب العربي لم يولد ميّتا بل كان كيانا فاعلا).
لم تمضي سنة على استقلال الجزائر في 3 جويلية 1962، حتى نشب خلاف حدودي بينها وبين المغرب، سريعا ما تحوّل عام 1963 إلى نزاع مسّلح بين الجارتين. كانت تلك لحظة فارقة في تاريخ المغرب العربي، شكلت أول ضربة قسمت ظهر وحدة المواقف السياسية التي تفكّكت نهائيا باعتماد الرئيس "بومدين" منذ 1965 على الاتحاد السوفييتي لبناء نهضة الجزائر الصناعية بفضل عائدات النفط والغاز. منذ ذلك التاريخ اتّسعت رقعة الخلاف السياسي والإيديولوجي بين القادة المغاربة، تقوقع على إثره كل بلد من البلدان الثلاثة الموقعة على اتفاقية طنجة خلف حدوده وانكفأ على ذاته باسم الوطنية والتّنمية، فتعطّلت بذلك مسيرة المغرب العربي.
سهلت تلك الخلافات على الرئيس "الحبيب بورقيبة" الذي لم يؤمن يوما لا بالوحدة العربية ولا بالوحدة المغاربية، المُضِيَ في غرس الروح الوطنية في التصوّرات الاجتماعية لدى التونسيين، مُتَّخِذًا منها في نفس الوقت معولا لهدم البنية القبلية في المجتمع التونسي؛ ورافعة للشخصية التونسية التي عقد العزم على تحديثها وإخراجها من التّخلف. نأى بورقيبة بنفسه وبتونس عن أحلام الزّعامات العربية واختار المنهج البراغماتي في بناء البلاد وتغيّير سلوكيات العباد.
ما انفكت توجيهات الرئيس "بورقيبة" في ستينات القرن الماضي تصرّ على البعد الوطني، إذ يقول بالحرف الواحد: " بداية العمل امتاعي، الاتصال المباشر بالشعب من أجل تغيّير نفسيتو وإدخال الفكرة الوطنية وحب التّضحية من أجل الوطن؛ أنهو الوطن؟ الوطن التونسي، علاش الوطن التونسي موش الوطن العربي؟ لأن تونس من آلاف السنين عندها شخصية وحدة من قرطاج"([2]). من أجل تحديث تونس، كرّس الرئيس كل جهده لاستئصال العصبية القبلية واستبدالها بوطنية، تكون المرجعية الوحيدة لكل التونسيين ومحلّ انتمائهم دون سواها؛ علما منه أنّ العصبية القبلية هي الخطر الرئيسي الذي يتهدّد استقرار دولته واستمرار حكمه كما أشار إلى ذلك "ابن خلدون" في قوله: "... الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها، ويكون سلطانها وازعا لقلّة الهرج والانتفاض ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية " ([3]).
على نقيض "بورقيبة" كان السّعي المحموم للعقيد "القذّافي" الذي حكم ليبيا إثر انقلابه على المَلَكِيَةِ سنة 1969، للوحدة لا من أجل الوحدة بل بحثا عن الظّهور والشهرة ولو بالعلو على بعرة كما يقول المثل العربي، لإشباع عقدة الزّعامة في شخصية نرجسية مشبعة بالدكتاتورية من ناحية ولترقيع شرعية حكم عسكري من ناحية أخرى.
أما الملك "الحسن الثاني"، فلم يكن ليقبل بالمغرب العربي ما لم يضّم إلى مملكته الصحراء الغربية، إلاّ أنّ رفض الجزائر لمسعاه كان بمثابة الشوكة في خاصرته، بدعمها اللامشروط لاستقلال جبهة البوليزاريو وإقامة دولتها على أراضي الصحراء. تصرفت الجزائر انطلاقا من حسابات إستراتيجية أهمها الوصول إلى الساحل الأطلسي، أقصر طريق لتصدير نفطها وغازها للأمريكيتين والتّخفيف من كلفة نقله من قلب الصحراء إلى مواني البحر المتوسط (2000 كم).
في تلك الأثناء كان الموقف الموريتاني متذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء على رأي المثل الشعبي التّونسي (هاني معاكم لا تنساوني)، لعدم استقرار نظام احكم في هذا البلد لكثرة انقلاب العسكر على بعضهم البعض(*).
في هذا المناخ السياسي العام المتأزم سقطت فكرة الوحدة المغاربية ورُكِنَ ملفها على الرّف لانشغال كل بلد بتعثّر مشاريعه التّنموية وتداعياتها السلبية على شرعية أنظمة تهرأت وقيادات أصابها الوهن. لقد انصب اهتمام الزعماء المغاربة منذ ستينات القرن العشرين على تجاوز أزماتهم الدّاخلية والقضاء على معارضيهم السياسيين وفي مقدّمتهم الشيوعيين والإسلاميين. لدرء مخاطر المعارضة، انحاز كل منهم (تحت راية عدم الانحياز) إلى أحد المعسكرين المتصارعين على تقسيم العالم، حسب خلفيته الفكرية وانتمائه الأيديولوجي طلبا للتّسلح والحماية والمعونة.
وجد كل من المغرب وتونس ضالتهما في المعسكر الليبرالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. في حين ارتبطت الجزائر وليبيا وموريتانيا بالمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي قبل انهياره. كان هذا شأن كل الأنظمة العربية التي سعت إلى الوحدة وخابت في مساعيها. يقول الكاتب والصحفي المغربي " نجيب الأسد": " لعل من أهم ما يفتت وحدتنا العربية وليس فقط اتحاد المغرب العربي الكبير، هي تلك الأفكار الاتحادية والتي كانت رائجة في العالم العربي؛ وللأسف فهي لا ترى طريقها للتحقق لعدة أسباب منها: اختلاف الأنظمة العربية الحاكمة وتنامي الخلافات بينها، مما شكل إعاقة حقيقية للتوافق والوحدة. فهذه الأفكار تبقى دائما تفتقد إلى الجوهر الحقيقي للاتحاد، وتطغى عليها دائما مصلحة الحكّام على مصلحة الشعوب. من جهة أخرى ظل المغرب العربي يمر بأزمات كثيرة لا تقل عن كوارث الشرق العربي منها مثلا معضلة جبهة البوليساريو وجبروت العسكر في الجزائر، يضاف لهذا كله عجرفة الزعّيم اللّيبي الراحل الذي كان دائما يغرد خارج السرب... فقد اعتبرت ليبيا مشروع الاتحاد المغاربي مجرد مؤسسة احتفالية تتيح لدول الاتحاد ووسائل إعلامها ترديد الشعارات المكررة المفرغة من محتواها، عن أهمية الوحدة والتّكامل العربي وضرورتها، في حين أنّ هذا مجرد كذبة كبيرة وضحك على الذقون"([4])
تقف شعوب المنطقة أمام مشهد سياسي سريالي لم يتغيّر بسقوط حلف وارسو، لأن جميع الممانعين هرولوا طلبا لرضا القطب الواحد (عدو الأمس الإيديولوجي) الإمبراطورية الأمريكية. ورغم انضواء الجميع بدرجات متفاوتة، تحت راية الأمريكان بقي التّنافر قائما بين زعماء المنطقة نتيجة عدم الحسم في أزمة الصحراء الغربية. على أرضية تضارب المصالح واختلاف الرؤى بقي المغرب العربي المستقل فكرة مجرّدة، حاضرة في ذهن السياسي وغائبة عن وجدان الشعوب التي غرقت في المعيشي ورضت بالإقصاء والتّهميش والابتعاد عن أمهات القضايا.
ب - القيادات السياسية قبل وبعد الثورات
يمكن تشبيه المغرب العربي بعصا موسى عليه السلام قبل الثورات العربية وبعدها، يتوكأ عليها جميع حكّام الإقليم (بغض النظر عن طريقة وصولهم للسلطة) للذّود عن استبدادهم وصرف الأنظار عن سوءات سياساتهم الدّاخلية. كلّما سقطت عنهم ورقة التّوت إلاّ واستنجدوا بالمسألة المغاربية ليخرجوها من الذّاكرة وينفضوا عنها الغبار.
· قبل الثورة
هذا ما حدث بدقّة متناهية، عندما شهد عام 1989 ميلاد اتحاد المغرب العربي الذي لم يولد لولا ضغط ظروف داخلية وخارجية حرجة عرفها الإقليم، أهمها تدنّي الاقتصاد وارتفاع نسبة الدّيون الخارجية والاضطرابات الاجتماعية في الجزائر (انتفاضة 1988/1989) أجبرت القادة المغاربة على الاجتماع سريعا بحثا عن مخرج يصرف انتباه الشعوب عن الفشل العام لسياسات التّنمية، زادها توقّف الاتحاد الأوروبي عن استيراد المنتوجات الفلاحية من "الشريك" المغاربي إثر انضمام اسبانيا والبرتغال للسوق الأوروبية سنة 1986 تعقيدا. ضمن هذا السياق المتأزم، عُقِدَتْ قمة مغاربية في مدينة "زيرالدة" الجزائرية سنة 1988 تمخضت عن لجنة عليا مشتركة، كلّفت بوضع مشروع اتحاد المغرب العربي الذي حظي9بموافقة الزعماء الخمسة في قمة مراكش 1989.
· بعد الثورة
أما بعد الثورة أصبحت المسألة المغاربة في تونس تحديدا مصدر خلط الأوراق السياسية للحصول على شيء من شرعية لحكم هَشٍّ. كان أول من سارع إلى تفعيل اتحاد المغرب العربي وأخراجه من درج مكتبه، هو رئيس الجمهورية التونسية خلال زيارته لدول المنطقة، لكسب شرعية حكم لم يبلغه عن طريق انتخابات رئاسية عامة (suffrage universel). لمّا جازف الرئيس المرزوقي بتحريك بركة المياه الراكدة، قُوبِلَ بالاستهجان والرّفض داخل البلاد وخارجها...؛ ولعله قد غاب عنه أنّ المسألة لا تهم رئيسا أو ملكا بعينه، بل تهمهم جميعا ومن هنا جاءت ضرورة البدء بالتّنسيق بينهم لضبط حدود الموضوع وتحديد سقف الوعود ضمن قواعد اللّعبة الدبلوماسية المتّفق عليها قبل توليه منصب رئيس دولة... فبدا في موقف السياسي غير المحنك وكما نقول بالتونسي (نيّة)، لكشفه (ربّما) من حيث لا يقصد، حقيقة نوايا سابقيه ومعاصريه من قيادات الإقليم في تعطيل وحدة المغرب العربي. (وما تجميد الخارجية التونسية قرار فتح الحدود و... الخ خير شاهد).
هل الرئيس المرزوقي نيّة؟ قطعا لا، بل هو سياسي داهية، أراد التّعويض عن شرعية مفقودة داخليا بشرعية موهومة خارجيا؛ فإن أفلح فله شرف الإتيان بما لم يأت به الأوائل، فيعتلي صهوة الجواد الأبيض ويصبح رجل المغرب العربي وبالتّالي يسجل نقطة سياسية على حساب منافسيه في الدّاخل التونسي، تعطيه أسبقية في الفوز بانتخابات الرئاسة القادمة. أما إذا فشل والأمر كذلك، فالموضوع منتهي إلى حين موعد انعقاد دورة عادية لرؤساء اتحاد المغرب العربي ليعيد الكرّة بتكتيك أفضل.
ج - التّركيبة الاجتماعية لبلدان اتحاد المغرب العربي
يلاحظ المتأمل في النّسيج الاجتماعي للبلدان المغاربية الخمسة وجود تشابه كبير في تركيبتها الطبقية، المؤلفة من قاعدة شعبية، عريضة، تعيش تحت خط الفقر فاقت نسبتها (%20)، أي أنّ خمس شعوب المنطقة(*) هم من الفقراء، تعلوها طبقة وسطى متضخمة (%65)، تتوجس (التّفقيرفوبيا) لأسباب عدّة منها: بطش السلطة والبطالة الهيكلية، المتغلغلة في معظم شرائحها على اختلاف مستويات تعلّمها؛ من فوقها شريحة رأسمالية وطنية رفيعة، تحتكر السياسية والاقتصاد من خلال شبكة من التحالفات المستحدثة، أطلقنا عليها اسم " العصبية إتنو - مالية"([5]) يجتمع فيها رأس المال الوطني بالسلطة الحاكمة في علاقات نسب ومصاهرة من ناحية، بشراكة مع الرأسمالية العالمية من ناحية أخرى. إنّه الثلاثي المعطِّل للوحدة المغاربية والمحرك الحقيقي للشأن العام لمجتمعات المنطقة المضطهدة.
1 - دور الرأسمالية الوطنية
داخل هذه التّركيبة الهرمية تعمل الرأسمالية المحلية هنا وهناك على تعطيل الوحدة المغاربية، بتكريس مبدإ ( فرّق تسد) من خلال توسيع وتنويع شراكتها مع الرأسمالية في العالم المصنع. في هذا الإطار اضطرت الرأسماليات الوطنية على الدّخول في منافسة شرعية وغير شرعية فيما بينها من أجل الظّفر بصفقات مع الأسواق العالمية وفي مقدمتها السوق الأوروبية، بتقديم التّنازلات تلوى الأخرى لشركات متعدّدة الجنسيات ومستثمرين أجانب، أضّروا بالمجتمعات المغاربية واقتصادياتها أكثر مما أفادوها.
2 - دور كبار ملاّك الأراضي
لكبار ملاك الأراضي دور أساسي في تثبيط كل محاولات التّوحد المغاربي، بتنافسهم في تلبية شروط السوق الأوروبية المشتركة من أجل تصدير نفس المنتجات الفلاحية تقريبا. إنّ من مصلحة الغرب التّفاوض الثنائي مع كل دولة من دول المغرب العربي على حدّة، لإضعافها وإخضاعها لقبول قواعد وطرق الإنتاج الحديث (البيو BIO) وشروط الجودة الأوروبية إضافة إلى تحديد الثمن، برعاية ومباركة الدول المغاربية.
د - ضعف التّجارة البينية
اهتم عديد المختصين المغاربة بهذا الموضوع وضبطوا درجة تنافس/تناحر اقتصاديات بلدان المغرب العربي بالأرقام ونذكر ما ورد في دراسة للكاتب والصحفي الجزائري "عبد النور بن عنتر" الذي كتب يقول: " تتميز الاقتصاديات المغاربية باستقطابها الشديد من قبل الاتحاد الأوروبي حيث يستحوذ هذا الأخير على حوالي %70 من المبادلات التجارية لدول المغرب العربي. وإذا كانت أوروبا تمثل حوالي ثلثي التجارة الدولية المغاربية فإن المغرب العربي لا يمثل إلا حوالي %2 من المبادلات الأوروبية مع العالم، وتختلف درجة الاستقطاب من دولة لأخرى، حيث تبدو تونس والمغرب أكثر استقطاباً من قبل الاتحاد الأوروبي. فما يقارب 78% من صادرات تونس تذهب إلى الاتحاد الأوروبي. أما المغرب فتستحوذ أوروبا على ما يزيد على%60 من مبادلاته التجارية وتذهب %62 من صادرات الجزائر إلى الاتحاد الأوروبي... في حين يزوّد الاتحاد الأوروبي موريتانيا بنسبة تقارب %50 من حاجياتها..."([6]).
انشغلت الرأسمالية المغاربية بالتّنافس للحصول على عقود شراكة مع الاتحاد الأوروبي وأهملت التّبادل التّجاري البّيني في المنطقة. بالرّغم من وجود إطار قانوني ومؤسساتي(*) ضمن اتحاد المغرب العربي يعنى بتفعيل التّجارة البّينية فإّن " المبادلات التجارية المغاربية، سواء على الصعيد الثنائي مع الأسواق الخارجية أو على مستوى التجارة البينية المغاربية لم تتجاوز بعد نسبة %4 من الحجم الإجمالي لمبادلات دول المغرب العربي مع بقية دول العالم..."([7])
في ظّل مجتمعات مغاربية قاعدتها فقر وبطالة ويأس، وأوسطها خوف وحيرة، وأعلاها إستيلاب واستبداد تقوده منظومة المال والأعمال والسّلطة، غاب الفكر الوحدوي المغاربي بشكل شبه تام عن وجدان الأمة ليكون له حضورا باهتا في حسابات السياسيين الضيّقة. أمام هذا الوضع السوسيو - اقتصادي المتدّني لا يسعنا إلا أن نوافق المفكر "عبد الله العروي" رأيه بأنّ " المغرب الموحد الذي نحلم به ليس سوى وهما بعيدا، لأنه فكرة نشأت لدى نخبة صغيرة لا تعبّر عن أي حقيقة سوسيولوجية"([8]).
هـ - التّخلّف التكنولوجي والمديونية
ساهم التّخلف التكنولوجي لبلدان المغرب العربي في إضعاف التّبادل البيني داخل الإقليم، والسؤال المطروح هو: ماذا يُصَنَّعْ هذا البلد أو ذاك حتى يصدره إلى أجواره؟ فيما عدى بعض الصناعات التّحويلية الخفيفة أو الصناعات الغذائية لا توجد صناعة تعدين أو ميكانيكا أو إلكترونيك... الخ، تلبي حاجيات السوق المغاربية التي أوغلت في ثقافة التّفاعل والاستهلاك على حساب ثقافة الفعل والإنتاج. أما في مجال الزراعة فإنّ الإنتاج الفلاحي متشابه في النّوعية ومتقارب في الكمية، إضافة إلى أن الدول الخمسة تعاني عجزا غذائيا بدرجات متفاوتة لغياب التّنسيق بينها في هذا المجال رغم وجود لجنة مشتركة للأمن الغذائي(·) على مستوى الاتحاد مهتمة بهذا الشأن.
في ذات الوقت تغرق البلدان الخمسة في مديونية خارجية تثقل كاهل اقتصادياتها، فيما عدى الجزائر التي تخلصت منذ أشهر قليلة من هذا العبء. ورد في احصائيات الوكالة الأمريكية للاستخبارات (CIA) بخصوص المديونية الخارجية لبلدان اتحاد المغرب العربي ما قولها: " يحتل المغرب المرتبة الأولى بدين خارجي بلغ سنة 2011، 22.69 مليار دولار وتأتي تونس في المرتبة الثانية بما قيمته 16.76 مليار دولار(قبل الثورة تسبّبت في تعطّل الاقتصاد وركود السياحة)، ثم ليبيا في المرتبة الثالثة (قبل الحرب أي دون احتساب فاتورة النيتو) بما يساوي 6.38 مليار دولار وأخيرا موريتانيا بــ 2.5 مليار دولار"([9]). وهنا نتساءل عن إمكانية إقامة مغرب كبير في ظل تدني اقتصادي ومديونية خانقة ولسان حالنا يردّد المثل الشعبي التونسي (عريان مع عريان ما يتقابلو كان في الحمام).
II - الثورات العربية وإقصاء الشعوب
أ - توقّف المدّ الثوري
اليوم وفي ظل الثورات للباحث أن يسأل، هل تغيّرت الجغرافية الاقتصادية لمنطقة المغرب العربي بتغيّر بعض ملامح الجغرافيا السياسية؟ لا أحد يظن ذلك. الواقع يؤكد وجود دولتين بتروليتين غنيتين وثلاث دول فقيرة. ما دام لا شيء قد تغيّر في المنطقة، فهل يعقل توّحد الفقراء والأغناء؟ أليس التونسيون على حق عندما قالوا (ما يعطي خير إلى غيرو كان المجنون)، هذا وقد ازداد الوضع السياسي في المغرب العربي تعقيدا وقد تحوّلت الثورات إلى حركات مطلبية وصراعات سياسية ودستورية في كل من تونس ومصر وقتال قبلي مسلّح في ليبيا. وبعد صعود الإسلاميين للسلطة في تونس والمغرب، فهل ستقبل الدولة الجزائرية بالتّوحد السياسي مع تونس في ظل حكومة ذات خلفية إسلامية؟ وهل سترضى بالوحدة مع المغرب، خصمها التقليدي الذي أصبح غريما مزدوج العداء ( النّزاع على الصحراء الغربية وفوز التّيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتشكيل الحكومة)؟ ثم هل ستقبل ليبيا بوحدة مع الجزائر التي ترفض تسليم أفراد من أسرة العقيد القذّافي المحتمين في حمى حكومتها وشعبها؟
المنطق السليم ينفي ذلك، لكن في دنيا السياسة كل شيء وارد، خاصة بعد التّقارب القائم بين التّيارات الإسلامية في العالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين يباركون انحراف الثورات العربية عن مسارها الثّوري بتخلّي أصحابها عنها باسم الديمقراطية؛ فإنّ أباطرة العالم يقبلون بحكم كل من تأتي به هذه الثورات ولو كانوا إسلاميين، ويرفضون صعود ثوّار نكرة غير مدرجين في قائمات الاستخبارات الدولية إلى سدّة الحكم و( الوجه إلّي تعرفو خير ملّي ما تعرفوش). نحن بصدد رفض خارجي، معلن وتدّخل إمبريالي فاضح في تقرير مصير الشعوب العربية.
ب - حيرة المثقف
هل يحق للمثقف العربي عموما والمغاربي خصوصا وقد فشل خطابه التّقليدي في تعبئة الجماهير وتحسيسها بضرورة التّغيير ودفعها باتجاه الوحدة وكل أسباب الفرقة التاريخية لا تزال قائمة قبل وبعد الثورات؟ نظريا نعم، أما في الجانب العملي فإنّ المثقف يعاني من عقدة تفوّق الفعل التاريخي العفوي الصادر عن رجل الشّارع وسَبْقَهِ في تقديم الإجابة الشافية عن الحيرة الوجودية التي ما فتئت تنهش عقول المثقفين والمفكرين لمعادلة الحرية قبل والخبز أم الخبز قبل الحرية؟ لقد ضحّت الشعوب بالخبز في سبيل الحرية وفضّلت الموت جوعا على العيش المهين وحطّمت مقولة الأجداد( العيشة تحت جناح الذّبانة ولا رقود الجبّانة).
سيبقى المثقف العربي وخطابه متخلّفا عن رجل الشارع ما لم يستغل الفرصة النّادرة التي أتاحتها له الثورات العربية لرسم ملامح الخطوة الأولى على درب وحدة عربية حقيقية، قد تكون على المدى المتوسط إقليمية، مغاربية لتشمل على المدى البعيد مشرق الأمة العربية ومغربها؛ يكون مجلس دول الخليج همزة الوصل فيها، خاصة وقد برهنت الشعوب عمليا أنّ بعضها يمثل عمقا إستراتيجيا لبعضها الآخر رغم الحدود الوهمية الفاصلة بينها. لقد كتبت في 2011 معبّرا عن رؤيتي المستقبلية للعرب عموما على ضوء الحراك التاريخي الرّاهن قائلا: " لقد أحيت الثورة التونسية فكرة القومية العربية وصعقتها كهربائيا. لقد أثبتت هذه الثّورة (على أرض الواقع) أنّ كل دولة عربية، هي العمق الإستراتيجي لأي دولة عربية أخرى، مهما بعدت المسافات واختلفت الرؤى. ليس من باب التفاؤل، إذا اعتبرت أنّ ما حدث في تونس، يشكل اللّبنة الأولى الفعلية/العملية لوحدة عربية مستقبلية..."([10]). ولست أدري هل أنّ ما كتبته كان حدس الباحث أم حلم المغبون على رأي المثل التونسي( إلّي في قلب المغبون يبات يحلم به) أم غباء المتخلف الذّهني؟
ج - استمرار منهج التّغيّيب
قراءة في مبادرة الرئيس المرزوقي
يمكن الاستدلال على استمرار منهج تغيّيب الشّعب التونسي عن القضايا المصيرية بعد الثّورة، من قراءة مبادرة الرئيس التونسي التي جاءت باجتهاد منفرد لإحياء فكرة المغرب العربي، فوقعت المحاولة في خطئ مركب إستراتيجي ومنهجي؛ إستراتيجيا تمّ تقديم الفرع على الأصل مع توظيف عنصر المفاجأة، في محاولة البحث عن شرعية خارج حدود البلاد عوضا عن العمل على كسبها في الدّاخل من خلال تحقيق إنجازات فعلية تخفّف من معاناة المعيش اليومي للتونسيين.
. أما منهجيا فقد سار الرئيس على خطى سلفه المخلوع، فتجاهل الشّعب ومارس وصايته على الثّورة وصادر رأي الشعب. لقد انفرد الرئيس بالقرار وتحلّل من رأي التونسيين أولا ورأي شعوب المنطقة ورؤسائها ثانيا؛ هذه الشعوب التي لم تُسأل ولو لمرّة واحدة عن رأيها في موضوع المغرب العربي ولم يُسْتَفْتَى في الأمر منهم أحدا، ليبقى المغرب العربي حلم المستضعفين الضائع وكابوس المتسلّطين المزعج.
بات من الثّابت أنّ الزّعماء المغاربة هم أهم عائق (قبل الثّورات وبعدها) في طريق وحدة المغرب العربي، إذ يقولون ما لا يفعلون ويضمرون في أنفسهم الفرقة التي تعزّز سلطانهم ويعلنون على مضض عن رغبة في وحدة تقوّض مضاجعهم. كان منهج المبادرة التونسية مستنسخا من منهج تعامل القيادات العربية مع القضية الفلسطينية، المصدر المكمِّل لشرعيتهم وتعلّة بقائهم في السلطة. لهذا كانت مبادرة متسرّعة وسابقة لأوانها، باهتة إعلاميا وفاشلة سياسيا، متعارضة مع مصالح قيادات المنطقة، علاوة على أنّها لم تراعي المصلحة العامة للشعب التونسي الذي لا يزال يقبع تحت وصاية الحاكم؛ ممّا يجعل الباحث يعيد النّظر في مسألة الديمقراطية التي أتت بها الثورات.
د - الشباب، الثورة، الوحدة ووسائل التواصل الاجتماعي
لا عذر بعد اليوم لشباب المغرب العربي في الإبقاء على المنهج السياسي الكلاسيكي في التّعامل مع المسألة المغاربية أو السّماح لأي خيار نيو- كلاسيكي بإقصاء الشّعوب والتّصرف وتوجيه الوحدة المغاربية وجهة مصلحية ضيّقة؛ وبين يديه وسائل التّواصل الاجتماعي، تمكّنه من تجاوز الرؤية السياسية الفردية لتحقيق الإرادة الشعبية في بناء مغرب عربي متين. لقد أثبت الشباب العربي قدرته على استغلال هذه الوسائل والتّقنيات الحديثة وحسن توظيفها في تغيّير الإستراتيجيات القائمة والتّعبئة الجماهيرية والتّحرك التّكتيكي على الأرض في مواجهة الطغيان والإطاحة بالزّعامات وأساليب التّثبيط.
لعلي أحسب شباب المغرب العربي قادرا على توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الوعي الوحدوي وإحياء جهاز الاتحاد وتفعيل القواسم الأنثروبولوجية المشتركة والضغط على السياسيين وفرض القرار الشعبي وقطع الطريق على كل أنواع الفاشية. كان من الممكن أن يحدث ذلك لو حافظ هذا الشّباب الثائر على ثورته وأفلت من براثن الفراغ السياسي والضّحالة الفكرية؛ ولم يقف حائرا، عاجزا على عتبات قصر الحكومة بالقصبة في اعتصامات عبثية (absurde)، فسحت المجال لهواة الرّكمجة السياسية (surfeurs)، ليفرغوا شحنات كبت دفين في صراعات حزبية ومذهبية عدمية (nihiliste)، عطّلت الثورة وحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي من أداة وحدوية/تقدّمية إلى أداة فُرْقَةٍ/رجعية(*) ولسان حال الحكّام الجدد يردّد " لولا عماهم ما نعيشوا معاهم"(·)
هــ - جدلية الشرق والغرب
(برأيي) لا يمكن طرح المسألة المغاربية بمعزل عن المشرق العربي، فكلاهما يشكل عمقا إستراتيجيا للآخر في زمن أخطر الأزمات القديمة/الجديدة. إن كان المشرق قد تعرّض في مطلع القرن الماضي (1916) إلى التّقسيم (سايكس - بيكو) فإن العالم العربي بأسره يتمّ إعداده في ظلّ الثورات لمشروع (سياكس - بيكو II) على أرضية الفوضى الخلاّقة لتفتيته إلى دويلات، لتمييع الثورات سياسيا عن بُعْدٍ وتحويلها إلى بسيكودراما الجماعية تسمح بالتّمادي في نهب ثروات شعوب لا تستحقها و" كأنك يا بوزيد ما غزيت"(*).
نتساءل اليوم عن أي واقع للمغرب العربي في ظل الثورات العربية وهذا يستوجب (برأيي) تصويبا منهجيا، بالتساؤل أولا عن كنه هذه الثورات التلقائية إن كانت راديكالية أم إصلاحية أم تلفيقية أم انتهازية؟ ثم البحث في ماهيتها وتحديد مرتكزاتها الفلسفية وتوجهاتها الإيديولوجية إن وجدت؟ وأخيرا النّظر في مدى تأثيرها وتأثرها في شبكة العلاقات الدولية وقدرتها على تصويب الإخلالات التاريخية.
الباحثون العرب مطالبون في المقام الأول بتحليل الواقع الجديد للأمة بشرقها وغربها، لفهم تناقضات الوضع الرّاهن الذي تحوّل إلى معزوفة غير متجانسة المقامات، متنافرة الأصوات، تتصارع على استقطابها قوى دولية تقليدية، بالتّوازي مع قوى صاعدة مثل إيران التي تبحث عن بيئة سياسية واجتماعية رخوة أي (متجانسة التّركيبة الاجتماعية والمذهبية في ظل دولة ضعيفة) يسهل اختراقها تحت عنوان الشّريك (الثّوري على خلفية إسلامية). تناور إيران إستراتيجيا وتكتيكيا لتتوغل في منطقة كانت مستعصية عن مدّها الثّوري الصّفوي من ناحية ولكسر الحصار الدولي المضروب عليها من ناحية أخرى (زيارة وزير الخارجية الإيراني للمنطقة). تصبّ الجهود التركية باعتبارها قوة اقتصادية صاعدة بزعامة حزب إسلامي في نفس السّياق الإيراني، فهي تحاول اقتطاع نصيبا من المعاملات التّجارية تحت غطاء وحدة التّدين مع الحكومات الإسلامية ما بعد الثورة (زيارة رئيس وزراء تركيا إلى مصر وتونس وليبيا)، مهدّدة المصالح الاقتصادية الفرنسية في حديقتها الخلفية (شمال إفريقيا)، علّها تَكْسِرْ رفض فرنسا لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
شوّشت الخلافات و/أو الصراعات السياسية الممنهجة التي يشهدها الشارع العربي في الشرق والغرب على السلطة، على البوصلة العقدية الجماعية العربية، هدفها في تونس على سبيل المثال، محاولة إسقاط المذهب الرسمي للمجتمع والدولة (المذهب السنّي المالكي) على يد مذاهب دينية دخيلة كالوهّابية والحنبلية والشيعة. هذا ما حدث في مصر إذ يطالب الشيعة رسميا بإنشاء حسينيات " طالب رئيس اﻟﺘّﻴﺎر اﻟﺸّﻴﻌﻲ المصري السلطات المصرية والرئيس ﻣﺮﺳـﻲ واﻷزﻫـﺮ الشّريف بالاعتراف بالمذهب اﻟﺸّـﻴﻌﻲ كمذهب يتم اﻟﺴّـﻤﺎح بالتّعبد ﺑـﻪ ﻓـﻲ ﻣﺼـﺮ"([11]). جماعات مذهبية، صغيرة، نائمة، أفاقتها الثورة من سبات السّنين، لتنشط في جسد اجتماعي مشّوه، مستفيدة من مفاهيم غربية ترفضها مبدئيا وتستغلها تكتيكيا مثل الديمقراطية وحرية الـتّعبير. هذا وقد اتخذت من تقاربها الفكري من التّيارات الدّينية الحاكمة غطاء لممارسات اجتماعية شاذة (Atypiques). لقد تناست جميع هذه التّيارات والجماعات أنّها كانت بالأمس القريب محظورة في بلدانها باسم التّطرف الدّيني ومطاردة في العالم بعنوان الحرب على الإرهاب الدّولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها دول الناتو وأنّها لم يصل بعضها إلى السلطة ويخرج بعض الآخر عن تقيته إلا بموافقة أعدائها.
· الخاتمـــــــــــة
يبقى المغرب العربي كما أراده ورثة مؤسسيه ورقة سياسية بيد قادة المنطقة، مخزّنة في أذهانهم بعيدا عن الشعوب، استخدمها السّابقون في تغطية فشل سياساتهم التّنموية و/أو الالتفاف على اضطرابات داخلية؛ ويستخدمها المحدثون لترقيع شرعية مهتزة و/أو لاختصار الطريق لكسب شرعية مفقودة. في الوقت الذي قطع فيه الاتحاد الأوروبي الذي أنشئ في نفس السنة (1958) خطوات كبيرة على طريق الوحدة الأوروبية، كذلك شأن مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس سنة 1981 ليحقق أضعاف ما حققه اتحاد المغرب العربي الذي بقي مجمدا في أذهان القادة وفكرة غائبة عن اهتمامات الشعوب بالرغم من استقرارها في لاوعيهم الجماعي. نحسب دار لقمان محظوظة إن هي بقيت على حالها، من تخلف وتبعية وتشرذم... ولم تتعكّر أوضاعها أكثر بالتّفتت والتّشظي بعدد مللها ونحلها وأعراقها فيصبح أهلها " من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون"([12]).
أعتقد أنّ الوقت لا يزال مبكّرا لتقيّيم دور ثورات أسقطت بعض رموز تثبيط الوحدة المغاربية وجاءت بشخوص كانوا في الوجه الخفي لذات منظومة الحكم المتهاوية. وجهان لنفس العملة حلّت فيها الضّحية، بفضل الثورة محلّ الجلاّد. أملنا أن تصبح الثورات العربية في يوم من الأيام رافعة توّحد الأمة بمغربها ومشرقها لتعيدها إلى سيرورة التاريخ والحضارة الإنسانية. في انتظار هذه النّقلة لا تزال تسود العالم العربي حالة من التّرقب والخوف من المستقبل، لذا لا أريد الاستباق بالقول " العزوزة هازها الواد وهي تقول العام صابة"(*) وواقع العالم العربي بمغربه ومشرقه ليس له وجود، كالغول والعنقاء والخلّ الودود الذي لا يزال أسير الوجود بالقّوة عاجزا عن الخروج إلى الوجود بالفعل، ليظل الحاضر دائما والغائب أبدا في ظل تحدّيات قطرية وإقليمية وعالمية.
[1] (Alain Touraine. Pour la sociologie. Edition du seuil 1974
* ) علي باش حانبة صحفي ورجل سياسة تونسي، أحد مؤسسي حركة الشباب التونسي، ولد عام 1876 بمدينة تونس وتوفي في 29 أكتوبر 1918 بإسطنبول في تركيا.
· ) يوسف الرويسي ولد في بلدة دقاش بالجريد التونسي سنة 1907 وتوفي سنة 1980، سياسي ومناضل وطني انتخب عضوا بأول مجلس ملّي لما سيعرف بحزب الدستور الجديد في مؤتمره بقصر هلال سنة 1934،
¨ ) ضمّ الوفد الجزائري عن جبهة التحرير السادة بوصوف, بومنجل وعبد الحميد المهري, متحدثا باسم الوفد الجزائري. تألف الوفد التونسي عن الحزب الحرّ الدستوري من السيد الباهي الأدغم رئيسا ، كاتب الدولة للرئاسة (ما يعادلها رئيس وزراء في حكومة الاستقلال) ويضم من بين أعضائه مدير الحزب، السيد عبد المجيد شاكر والسيد أحمد التليلي كممثل للاتحاد العام للعمال التونسيين. أما الوفد المغربي فكان يتضمن أساسا علال الفاسي رئيس حزب الاستقلال والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد البصري.
[2] ) جملة مقتطفة من إحدى خطب بورقيبة مسجلة بالصوت والصورة على You Tube موقع Carthaginois-Bonne année 2008
[3] ) ابن خلدون: المقدمة. الفصل التاسع، في أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها الدولة. ص 292
* ) بلغ عدد الانقلابات في موريتانيا إلى اليوم 14 انقلابا
[4] ) نجيب الأسد: اتحاد المغرب العربي بين الأمس واليوم. موقع ديوان أصدقاء المغرب 14/06/2012
* ) نسبة الفقر في بلدان المغرب العربي: ليبيا %7.4 2006، الجزائر %23 2006 ، المغرب %19 2006، موريتانيا %40 2006، تونس %7.4 2005 المصدر: ( Index Mundi site. CIA World Factbook - Version du 1 Janvier 2011. )
[5] ) صالح المازقي، ثورة الكرامة، عن الدار المتوسطية للنشر تونس 2011.
[6] ) عبد النور بن عنتر، كاتب وصحفي من الجزائر مقيم بفرنسا. مقال بعنوان: الاتحاد المغاربي بين الافتراض والواقع. عن موقع الجزيرة.نت (2/10/2004)
* ) لجنة الاقتصاد والمالية المهتمة في اتحاد دول المغرب العربي بميادين التخطيط- الطاقة- المعادن- التجارة- الصناعة- السياحة- المالية- والجمارك- التأمين والمصارف وتمويل الاستثمار- الخدمات- الصناعة التقليدية.
[7] ) الحسن عاشي، مقال بعنوان: الاندماج المغاربي في ضوء "الرّبيع العربي" مركز كارنيغي للشرق الأوسط. الحسن عاشي، باحث واقتصادي مغربي بمركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، وهو خبير اقتصادي في التنمية والاقتصاديات المؤسسية والتجارة والعمل.
[8] ) نقلا من مقال للسيد عبد الله السيد ولد باه، الكاتب والصحفي الموريتاني بعنوان: مشروع المغرب العربي من منظور الأفق السّاحلي، الصحراء. عن موقع مغرس الإلكتروني 27/07/2012
· ) لجنة الأمن الغذائي، تهتم بقطاعات الفلاحة والثروة الحيوانية والمياه والغابات والصناعات الفلاحية والغذائية واستصلاح الأراضي والصيد البحري وتجارة المواد الغذائية والبحث الزراعي والبيطري والبيئة ومؤسسات الدعم الفلاحي.
[9] ( Index Mundi site. CIA World Factbook - Version du 1 Janvier 2011.
[10] ) صالح المازقي : الثورة والدولة عن الدار المتوسطية للنشر 2011.
* ) أتمنى لو يقوم المتخصصون في استعمال هذه التّقنية الحديثة بإجراء دراسة سوسيو- إعلامية مقارنة لمحتوى الحوارات على صفحات تويتر والفايسبوك... الخ، قبل وأثناء وبعد الثورة لقياس درجة ثباتها على مسارها الثوري و/أو انحرافها عليه.
· ) مثل شعبي تونسي.
* ) مثل شعبي مصري.
[11] ) عن جريدة القدس العربي 24/08/2012
[12] ) سورة الروم الآية 32
* ) مثل شعبي تونسي.