مفهوم الصفوة
يشكل موضوع الصفوة مفهوما مركزيا في الدراسات السياسية الحديثة بحيث أن فهم الصفوات يتطلب البحث في العديد من المفاهيم كالقوة, الطبقة الحاكمة, الأوليجارشية, فدراسة الصفوة تمكننا من فحص النظم السياسية من زوايا متعددة هي السلوك السياسي, والقوة السياسية, والأيدلوجيا والثقافة السياسية.
ولقد شكلت دراسات كل من (MILLS و MOSCA و PARETO ) الإطار النظري للأبحاث بعدها في هذا الحقل.
I ـ تعريف الصفوة " ELITE ":
حسب بوتومور فإن المفهوم المصطلح لم يستخدم استخداما واسعا في الكتابات الاجتماعية والسياسية إلا في أواخر ألقرن 19 م في أوربا, وفي ثلا تينات القرن 20 م في بريطانيا والو. م. أ.
استعار Paretoمفهوم النخبة Elite من عالم السلع التجارية (المفهوم كان يستخدم للتمييز بين السلع الممتازة, والسلع الرديئة). ليدخل المفهوم في حقل الدراسات الإنسانية , فالصفوة بالنسبة له تتكون من الأعضاء المتفوقين في المجتمع هؤلاء الذين تسمح لهم صفاتهم العليا بالوصول إلى السلطة والشهرة. فإلى جانب تحديده لصفات النخب العليا فهو يجعل من التفوق الطبيعي في المهارات الفردية سببا لوصول مجموعة صغيرة من الناس الناجحين في حياتهم إلى سدة الحكم.
غير أن رايت ميلز في دراسته "صفوة القوة" يقترح فهما معينا للنخبة فهي تتكون حسب رأيه من جماعة متعددة تضم ثلاث نخب أساسية العسكريون والساسة وأصحاب الشركات الكبرى, لهذا فإن تعريف صفوة القوة بواسطة وسائل السلطة يجعلنا نقول بأنها تضم كل الذين يشغلون مراكز القيادة. تمسك ميلز بمفهوم النخبة ولكنه لم يرجعه إلى أسس سيكولوجية, بل حاول أن يكتشف المصادر التي تمنح بعض الأفراد القوة وتمنعها عن الآخرين, والتي تأتي من النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري.
قدم جي روشيه (G.Rocher) تعريفا للصفوة فاعتبر أن: "الصفوة تضم أشخاصا وجماعات, والذين بواسطة القوة التي يمتلكونها, أو بواسطة التأثير الذي يمارسونه يشاركون في صياغة تاريخ جماعة ما, سواء كان ذلك عن طريق اتخاذ القرارات أم بالأفكار, والإحساسات والمشاعر التي يبدونها أو يتخذونها شعارا لهم.
إن مفهوم النخبة ( نخبة القوة) يشير إلى بعد أوليغارشي أو قلة قليلة من الأفراد تحتكر القوة لنفسها وتمنعها عن الآخرين.
هذا ما دفع بـR.DAHL أن هذه الصياغة تنطلق من نزعة نجنوية Elitisme تفترض أن القوة توزع في المجتمع توزيعا صفريا, حيث تملك جماعة واحدة (نخبة) كل القوة وتحرم منها بقية الجماعات.
مع هذا فإن السلوكيين خاصة دال يرى بأنه من العسير أن تحدث سيطرة لنخبة واحدة على كل النسق السياسي, ولهذا فهو يقول بمفهوم النخب المتعددة Plural Elite فهو ينطلق من مبدأ تعدد الحياة الاجتماعية بحيث أن القوة موزعة على كافة الجماعات دون أن تحتكرها جماعة واحدة بعينها.
وقد زاد مفهوم النخب المتعددة من خلال دراسة S.Killer, حول النخب الإستراتيجية stategic elites الموجودة في ميادين الحياة المختلفة فلكل واحدة من هذه النخب وظيفة في ميدان وجودها ( الاقتصاد, السياسة, الثقافة) فأصبح بالإمكان الحديث عن النخب الثقافية, ونخب اجتماعية تعمل في نطاق المجتمع المدني دون أن تصل بالضرورة إلى سدة الحكم.
وعلى هذا المستوى سار R.Mills على خطى سلفه موسكا مع تسجيله لبعض الاختلافات فميلز نظر إلى الحقيقة نظرة بسيطة بحيث تحدث عن الصفوة كما لو كانت طبقة الأمر الذي أدى به إلى الخلط بين ظاهرتين متمايزتين الطبقة الاجتماعية والصفوة, إذ يمكن تمييز الصفوات المشكلة للطبقة: صفوة الطبقة العاملة, صفوة الطبقة الريفية.
II الاتجاهات الرئيسية في الفكر الصفوي
1- الاتجاه التنظيمي MOSCA (1858-1941) :
مؤدى هذا الاتجاه أن الصفوة تمتلك القوة, وذلك بما لها من قدرات تنظيمية ومن براعة في تقدير مصادر القوة في المجتمع, فموسكا يرى أن الدرجة العالية التي تتميز بها الصفوة راجع لكونها أولا قلة متماسكة في مقابل أغلبية مشتتة.
أما روبرت ميشلز فقد حاول في مؤلفه الشهير " الأحزاب السياسية " تدعيم ما ذهب إليه موسكا فهو يرى أن قوة النخب إنما راجع أساسا إلى طابعها التنظيمي, لهذا درس مشلز بعض الأحزاب, والنقابات العمالية في أوربا, في فترة الحرب العالمية الأولى, وصاغ قانونه الشهير " القانون الحديدي للأليغارشية". فقد كانت بؤرة تركيزه على الحزب الاشتراكي الألماني الذي كان أقرب الأحزاب الألمانية في تبنيه للمبادئ الديمقراطية, وقد توصل إلى أن هذا الحزب بحكم بناءه كحزب أوليغارشي تسيطر عليه أقلية صغيرة من حيث العدد, كما استنتج أن جميع التنظيمات الكبيرة التي يشهد جهازها الإداري نموا فإنها تتجه لا محالة نحو سيطرة أوليغارشية متماسكة.
كما حلل ميشلز العلاقة بين الصفوة والجماهير, فعندما يتقلد القادة مراكز السلطة يصبحون جزءا مكملا للصفوة, وبذاك تصبح مصالحهم متعارضة مع مصالح الجماهير, بدفعهم إلى ذلك مختلف أصناف الضغوط البنائية.
كما يرى ميشلز أن الأقلية الحاكمة تسعى باستمرار إلى إيهام الجماهير بضوروة تحقيق الوحدة الداخلية والاستقرار لكي يواجه البلد الأخطار الخارجية, وتنظر إلى كل معارضة على أنها تخريبية, تعمل لصالح العدو, إذا كانت الصفوة متجانسة بعامة, فهي من جهة أخرى متدرجة (stratifiée) بمعنى وجود نواة مسيرة تتكون من عدد قليل من الأفراد أو الأسر التي تتمتع بأكبر قدر من السلطة, وتلعب دور الزعامة داخل الصفوة نفسها, وهذا يمثل في حد ذاته " صفوة ممتازة " " super-elite" داخل الصفوة.
ثانيا: الاتجاه السيكولوجي -باريتو فلفريدو:
يتميز تحليله بالشمول بحيث يقترب مفهوم النخبة عنده من مفهوم الطبقة الحاكمة عند ماركس, وهذا الاتجاه ينتمي إلى فكر تجديدي قائم أساسا على أبعاد سيكولوجيا خاصة. فالصفوة ليست نتاجا لقوى اقتصادية كما يرى ماركس, وإنما هي نتاج " الخصائص الإنسانية التابثة عبر التاريخ " ويعد باريتو أول من أدخل هذا المفهوم في حقل الدراسات الاجتماعية فكما يرى أن الصفوة تتكون من جميع الأشخاص الذين يظهرون نوعا من الاستعدادات العالية في ميدانهم أو في أنشطة أخرى, أي أن لهم صفات خاصة...", إن فكرة باريتو عن المجتمع تتمثل في أنه صفوي غير ارستقراطي فحسب مفهوم " دورة الصفوة " بمعنى أن الأبناء لا يرثون الصفات المتميزة عن آبائهم ولهذا فإن هذا المفهوم يقابل مبدأ " السلطة الوراثية للنبالة ".
برى بارتو بأن الصفوة هي ضرورة أو قدر " faith " لكي يؤدي المجتمع دوره على أحسن وجه.
ثالثا: الاتجاه الاقتصادي " جيمس برنهام":
يختلف هذا الاتجاه عن الاتجاهين السابقين ( باريتو/ موسكا, مشلز) فقد سعى سابقوه إلى دحض النظرية الماركسية في " الطبقة الحاكمة ", وإذا كان الماركسيون قد رفضوا فكرة الصفوة بوصفها تعبيرا عن أيدلوجية برجوازية, فنجد أن برنهام قد حاول المزاوجة بين النظريتين, ففي مؤلفه ( عهد المنظمين 1941), أوضح بأن النظام الرأسمالي في تدهور مستمر, وإنه سيتحول, تدريجيا إلى مجتمع تسيطر عليه صفوة إدارية تتولى شؤونه الاقتصادية والسياسية.
يرى برنهام أن كل طبقة حاكمة, وليس من الضرورة أن تكون منسجمة تتميز بتسلطها على الغالبية, فإذا كان القرن التاسع عشر اتسم بسيطرة البرجوازية الرأسمالية, فإننا نلاحظ تغيرا في القرن العشرين سيطرة البيروقراطيون " استبدال المالك بالإداري". استعان برنهام بطروحات الفكر الصفوي, خاصة مقولة: أن السياسة ما هي إلا كفاحا ونضال وصراع بين الجماعات من أجل الحصول على القوة, واستنتج بأن القرارات الأساسية في المجتمع تتخذ من طرف أقلية من الأفراد ( الصفوة). كما بين أن مصدر التغيير يكمن في بناء الصفوة ذاتها أو استبدالها بصفوة أخرى.
يبدو التأثر الشديد لجيمس برنهام بالطروحات الماركسية في فهمه وتحليله للنخبة, ذلك أن تحكمها في وسائل الإنتاج هو الذي يسمح لها بالسيطرة في أي مجتمع, وفي هذا يقول: " إذا أردنا أن نحدد الطبقة الحاكمة فعلينا أن نبحث عنها في الطبقة التي تحصل على أعلى الدخول"
رابعا: الاتجاه النظامي -رايت ميلز:
يتفق رايت ميلز وبرنهام جيمس في أن مكانة الصفوة وبناءها ( الاتجاه التنظيمي)، لا يتوقف على خصائص الأفراد، وإنما تتحدد في ضوء طبيعة البناء الاجتماعي والاقتصادي لمجتمع معين. فنجد أن ميلز أن القوة في المجتمع تؤدي إلى ظهور منظمات كبيرة الحجم كالمؤسسات العسكرية, والشركات الكبرى, والهيئات السياسية, وأن الصفوة هي نتاج للطابع المؤسساتي الذي سيطر على تنظيم المجتمع ككل, وبالتالي تمتل أهمية محورية في المجتمع, وتقود البناء الاجتماعي.
ويشكل قادة المنظمات المختلفة "صفوة القوة " على مستوى قومي بحيث ننشأ بينهم صلات وروابط وثيقة, تكون في أبلغ صورها حينما يتبادل الأفراد بينهم الوظائف العليا الممثلة لقطاعات المجتمع المختلفة" إن كبار المديرين, وأولئك الذين يوصفون بأنهم أثرياء جدا, لا يمثلون جماعتين متمايزتين ومنفصلتين, إذ بينهما رابطة وثيقة في عالم تسيطر عليه مؤسسات الثروة والنفوذ". منه فإن رايت ميلز يرى بأن صفوة القوة لا تتركز فقط في الفئة التي تتحكم في وسائل الإنتاج, وإنما تمتد إلى المؤسسة العسكرية, ورجال السياسة الكبار, ومع ذلك فإن القوة لا توزع ولا تتشتت في المجتمع. " إن جوهر القوة هو تعدد مصادر القوة في المجتمع, غير أن تعدد هذه المصادر لا يؤدي إلى توزيع القوة في المجتمع, أو حتى إلى تكوين صفوات متعددة , وإنما وجود صفوة واحدة قوية متعددة الأسس ولكنها مترابطة البنيان, وتكمن مصادر القوة المتعددة في البناء التنظيمي للمجتمع.
رفض هذا التصور التعدديون أمثال دال وبارسونز, ودانيل بيل, الذين يؤكدون على دور تعدد النخب في احذاث توازن سياسي.
III تدوير النخبة
طرح هذا المفهوم من طرف باريتو حيث قال " إن التاريخ هو مقبرة الارستقراطيات", لهذا فإن استمرار نخبة معينة في السلطة هو بعيد عن كل حتمية.
I ـ الدوائر المغلقة للنخبة –ميلز:
فهم توزيع القوة على انه توزيع مركز في أيدي قلة قليلة من الأفراد, لهذا يرى هذا الطرح أن الجماهير تميل للخضوع, والنخب السياسية تميل إلى الانغلاق والتحكم. يبرز سؤالين كبيرين على مستوى هذا الأفق: لماذا تظل السيطرة السياسية مغلقة على افراد بعينهم؟
إن غلق فرص الحراك الاجتماعي أمام الصاعدين إلى مصاف المسؤولية بـ:
أ ـ النخبة السياسية لها خبرة تمكنها من أحكام قبضة على وسائل الاتصال.
ب ـ تولد قناعة لدى النخبة بأن وجودها ضروري وأن انسحابها يسبب فراغا.
ج ـ خضوع الجماهير بواسطة الدعاية والخطاب السياسي, بالتركيز على القيم والتقاليد, والتاريخ لاكتسابها الشرعية.
يرى كل من ميشلز وميلز أن النخبة السياسية تحافظ على تماسكها الداخلي كما تحافظ على حدودها فالاتصال البطيء بين القادة القدامي والقادة الجدد يخلق مزيجا من الخصائص المتشابهة.
يسمح هذا التحليل بتصور ومستويات عدة للنخبة, فالنخبة الأم التي تتربع على الحكم " تحتفظ بقنوات الاتصال مع المستويات الدنيا للنخبة السياسية, بحيث لا يسبب صعود أي شخص من المستويات الدنيا للنخبة السياسية, أي تغيير جذري في الحكم (التغيير ضمن الاستمرارية).
2 ـ الدوائر المفتوحة للنخبة –باريتو، دال، بارسونز:
حلول نخبة مكان أخرى حسب باريتو راجع إلى:
أ ـ النخب غير الحاكمة تتقوى بتحسين أساليبها وخصائصها.
ب ـ النخب الحاكمة ستسقط في حالة الضعف بسبب الترف والجمود, ويتقاطع باريتو هنا مع ابن خلدون حول مسألة العصبة.
كما أن موسكا يرى بأن الانقلاب النخبوي قد يحدث بعيدا عن العنف, عندما تلجأ النخب غير الحاكمة إلى اقناع الجماهير والتأثير عليها, وفي تطوير أيدلوجيا أكثر إقناعا وقربا من معتقدات الأفراد، حينئذ تستطيع أن تصل الحكم. وبصيغة غرامشي تستطيع هيمنه مضادة أن تحل محل هيئة قائمة إذا ما استطاعت أن تخترق المجتمع المدني وان تهيمن على حياة الناس وثقافتهم اليومية.
تتبنى المدرسة التعددية ذات المنحى السلوكي نظرية المجال المفتوح فليس هناك نخبة واحدة تمسك بزمام الأمور, والدوائر المغلقة لا توجد إلا في تلك الأنظمة الأحادية أو الشمولية, أما تلك الأنظمة اللبرالية فإنها تتميز بتوزيع القوى داخل المجتمع فلا يوجد احتكار لها, بل هي قادرة على استيعاب أعضاء جدد.
لا تفترض هذه المدرسة انفتاحا كليا للنسق بل أن عملية الانتقاء تتم وفق آليات (واحدة ) معبئة لشغل المناصب القيادية في المجتمع, منها:
أ ـ الاستعداد السياسي, أو الولع بالممارسات السياسية, فهناك فروقا واضحة بين الإنسان السياسي HOMO,POLITICS, والإنسان المدني HOMO CIVICOUS.
ب ـ الانتخابات لاختيار أفضل العناصر القيادية.
ج ـ القدرة المالية للأشخاص (التمويل الشخصي للحملات الانتخابية).
د ـ القدرات الفنية والتنظيمية انطلاق من مبدأ التخصص.
IV تصنيف الصفوات
يستعمل غالبا مصطلح الصفوات بصيغة الجمع بذل صيغة الإفراد للتدليل على وجود صفوات مختلفة داخل المجتمع مهما كانت طبيعة العلاقة التي تربط بينها, ولهذا فإن التعدد ليس من باب توزيع القوة فقط بين الصفوات, وإنما من دراسة خلفية كل صفوة, ومصدر قوتها التي تتغذى عليه.
أولا: الصفوة التقليدية:
تتمتع الصفوة التقليدية بريادتها داخل النسق الاجتماعي ومن ضمنه النسق السياسي بالرجوع إلى عقائد دينية, تبريرات دينية كالحق الإلهي DROIT DIVIN أومن أبنية اجتماعية تعود جذورها إلى ماض بعد. وبناء على هذا فإن كل صفوة ذات طبيعة ارستقراطية تعتبر صفوة تقليدية, وتتكون الصفوة التقليدية من نبلاء لهم تاريخ طويل ومتوارث عبر العائلة ( النموذج الانجليزي).كما أن الصفوات الدينية هي في الوقت نفسه صفوات تقليدية ذلك أن احترام رجال الدين يعد من بين الحقائق التي شاعت بين الأفراد, فنجد رجال الدين يحتلون مكانة مرموقة ضمن السلم الاجتماعي, بل لهم تأثيرهم النافذ حتى على القرار السياسي ( النموذج الإيراني). وبعد هذا التصنيف كانبثاق صريح عن نظرية ماكس فيبر حول السلطة.
ثانيا: الزعماء السياسيون:
ليسوا بالضرورة أن يكونوا ذوو مكانة مرموقة في السلم الاجتماعي, بل أنهم يتصفون بملكات واستعدادات شخصية فوق عادية تؤلهم لتصدر الجماعة, وتنمية حس القيادة فيهم, نتيجة وجود استعداد للنشاط السياسي ونهتم كبير للاستغراق في قضايا السلطة والمسؤولية HOMO POLITICS , ويمكن لهؤلاء الزعماء أن يمتد تأثيرهم إلى الجماعة المحيطة بهم, فيأخذون نصيبا من ألق الكازرما, وعادة ما يلجأ الساسة عند وصولهم إلى السلطة إلى إضفاء نوع من الهالة على شخصياتهم بفضل الإعلام والدعاية.
يرى توماس جرين أنه كلما كانت الزعامة يسارية, كلما كانت غير ممثلة سوسيولوجيا لقاعدتها الجماهيرية, ويرى أن الثوار البرجوازيون يسعون إلى تحقيق العدالة بالنسبة للطبقات الوسطى في مجتمعهم مقارنة بالزعماء الثورين اليساريين.
ثالثا: صفوة التكنوقراطين:
يندرج هذا النوع من النخب في إطار بناء بيروقراطي, ويقوم نفوذها على قاعدتين:
أ ـ تعيينها أو انتخابها يتم بمقتضى القوانين المعمول بها.
ب ـ يعترف بكفاءتها حسب المعايير المعروفة والمعمول بها.
أما كفاءة أعضائها فتتأسس بالطرق التالية:
ـ بعد أداء اختيارات تثبت الجدارة. ـ حسب المستوى التعليمي. ـ حسب الأقدمية والخبرة في المنصب.
وتتكون الصفوة التكنوقراطية من:
1 ـ الطبقة العليا الإدارية وتوجد على مستوى الحكومة.
2 ـ ممثلي الحكومة, وتفرعاتها حتى الإدارة المحلية.
3 ـ من مدراء الهيئات الصناعية والمالية.
تتمتع هذه الصفوة بسلطة أطلق عليها ماكس فيبر بالسلطة العقلانية المشروعة, ويزيد وزنهم النسبي في أوقات الأزمات الاقتصادية أو السياسية, حيث تكون آراؤهم وصفات لتجاوز الأزمة الاقتصادية, أو يلعبون دور الحكم لتجاوز الصراعات والتطاحن على السلطة.
يرى جيمس برناهام أن التكنوقراطيين والذين يشكلون صفوة المدراء managers هم الذين يستحوذون على الحكم في المجتمعات الحديثة, كما أن دراسات جادة في هذا المجال ترى بأن النخبة التكنوقراطية ستتحول إلى طبقة حاكمة جديدة تجمع النواحي الإدارية والاقتصادية والسياسية.
على أن برنهام يفرق بين فئتين أساسيتين من المديرين, تشمل الأولى المتخصصين في مجال العلوم والتكنولوجيا, والثانية تضم مديري الإنتاج, عملية الإنتاج ومنظموها, وهو يقصد بتحليلاته الفئة الثانية.
ـ ضف إلى ذلك أن صفوة التكنوقراط لا يجب لصرها في عالم الأعمال فقط بل يجب البحث عنها أيضا داخل الإدارة العمومية.
رابعا: النخبة المثقفة
تحاول بعض الاتجاهات بدافع العلمنة أن تجرد العمل الفكري من أي بعد قيمي, فتجعل العلم مجرد ممارسات دهنية مقطوعة الصلة بالمتغيرات المجتمعية والظروف الموضوعية للمجتمع, إلا أن الشواهد التاريخية تؤكد أن العلم والمجتمع في حركة جدلية مستمرة.
تضم هذه النخبة: المفكرين, المؤلفين, والفنانين, والعلماء, والفلاسفة, والمفكرين الدينيين, المعلقين السياسيين، وصحافة الرأي...
ويعطي S. M. lipset تعريفا للمثقف, فيقول عن المثقفين: "هم أولئك الأشخاص الذين يمكن أن ننظر إليهم مهنيا باعتبارهم تلك الفئة المستغرقة في إنتاج الأفكار..." تاريخيا أنبثق دور المثقف " كقوة ناعمة" على مستوى أوربا كمثال في خضم الصراعات, والتناقضات التي شهدتها أوربا, والتي فوضت أسس النظام القديم (ANCIEN REGIME ) في تجربة الثورة الفرنسية, وقد لعب مفكرو عصر الأنوار دورا هاما في التأسيس منهجيا لهذه التحولات. تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن النخبة المثقفة ودورها الريادي في المجتمع يأتي كنقد مباشر للمدرسة الماركسية التي تجعل التفافة في بنية فوقية تابعة، ويبدو طرح أنطونيو غرامشي حول المثقف العضوي بمعنى الذي يرتبط عضويا بمجتمعه وقضاياه, ولقد وضع هذا الأخير تصنيفا لطبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة. لهذا لا يمكن فصل التفافة عن المجتمع. من هنا يتبين لنا من واقع الممارسة دور الإنتاج الرمزي على حد تعبير P. Bourdieu في زحزحة أو تكريس شرعية أية سلطة، أو نشر أو تقزيم منظوماتها الإيديولوجية.
يرى جمال الدين الأفغاني أن المفكرين هم الذين " يتمتعون بالروح الفلسفية النقدية ويستخدمونها في مراجعة ماضيهم والتأمل في حاضرهم لكي يفسروا النبل الإنساني ويضيئوا الطريق لأبناء أمتهم ويرشد إلى سواء السبيل".
وتبدوا النخبة المثقفة غير متجانسة وظيفيا إذ أن كل صنف من هذه النخبة يدافع عن مصالح وتوجهات طبقة محددة, فالمثقفون لديهم القدرة على توزيع ولائهم بين مختلف الطبقات, ومن تم فهم يدافعون عن المصالح العامة في المجتمع. إزاء تجاوب المثقفين مع القهر الإيديولوجي, فإن سلوكياتهم تتراوح بين:
- النمط المساير والمداهن. - النمط المقاوم أو المتمرد. - النمط المنسحب السلبي. - النمط المتردد المتعايش، غير المستقر على رأي.
خامسا: النخبة العسكرية:
لم يكن اهتمام عالم السياسة الأمريكي كبيرا بدور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية, نظرا لدورها المحدد والمقصور على الجانب العسكري, وحتى تلك الحالات التي شهدت تدخلا للجيش في السياسة كان ينظر إليها على أنها ظاهرة إيبرية ( إسبانيا, البرتغال) فالرجل الإسباني متمرد بطبعه, ولا ينصاع إلا بالقوة.
وقد تزايد الاهتمام بظاهرة عسكرة المجتمعات تزامنا مع الاهتمام بقضايا التمنية السياسية ومن ضمن الباحثين الذين اهتموا بهذا الموضوع, الباحث الفرنسي " MAURICE PIERRE ROY " أن الجيش يتصرف كقوة ضامنة للسلطة القائمة كما هو الشأن بالنسبة لدول كالأردن, السعودية, حيث يسيطر المجتمع القبلي, وهنا تبدوا الظاهرة كعملية لتسييس الجيش la politisation de l’armée وينسحب هذا الأمر على الصين, أين يبدو الجيش كجيش سياسي une armée politique.
لقد حاول Amos Perlamutter دراسة ظاهرة العسكرة le militarisme بإيجاد مفهوم الدولة البريتورية praetorian state , أين تعد الجيوش المصدر الوحيد للتأييد السياسي والشرعية, وقد ميز بين ثلاثة أنواع:
1- الأقلية العسكرية الأوتوقراطية: وهو تركيز السلطة السياسية في يد شخص واحد هو الحاكم العسكري, فكل الولاء معقود لهذا الشخص.
2- الأقلية العسكرية الأوليجارشية: يكون الجهاز التنفيذي يتشكل من عسكريين أو رجال من أصل عسكري, ويتدخل العسكريون عند التصعيد الاجتماعي الذي تتسبب فيه مختلف الجماعات.
3- النمط العسكري السلطوي: ويعرف تحالف العسكريين والمدنيين خاصة منهم التكنوقراطيين, ويسعى إلى كسب التأييد خارج المؤسسة العسكرية, فهو يفتح المجال أمام الأحزاب والجماعات في حدود ضيقة لا تصل إلى المشاركة الفعلية.
وظائف النخبة العسكرية
أ- الجيش كحكم بين المؤسسات Arbiter:
تنحصر وظيفته في الحفاظ على النظام السياسي وصيانته وضمان الاستقرار، مع قبول النظام الاجتماعي القائم, يغيب هنا أي تنظيم سياسي داخل صفوف العسكريين مما يعني عدم تفكيرهم في البقاء في الحكم, فبمجرد استتباب الأمن يعود الجيش للثكنات, مع احتفاظهم بممارسة الضغط على أجهزة الحكم.
ب- نمط الحارس Guardian : يتدخل العسكريون لتفادي بعض الأزمات الاقتصادية أو الطبيعية, ينظر العسكريون إلى أنفسهم على أنهم أصحاب المهام السامية, حراس الجمهورية, والملاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية تفضل هذا النموذج لأنه يحقق ضبطا اجتماعيا يحافظ على التوازن, ومن بين أهم أسباب تحول العسكريين إلى النمط الحارس تعقد المجتمع إلى الدرجة التي لا تسمح لهم بممارسة القوة بفاعلية, وقد لاحظ الباحثون أنه كلما أتسع نطاق المشاركة السياسية, وزاد تشابك الأجهزة ومؤسسات النظام السياسي كلما قلت احتمالات الانقلابات العسكرية.
ج- نمط الرقيب صاحب النقض: ينتشر هذا النمط حيث توجد الانقلابات العسكرية, ويشيع عدم الاستقرار السياسي ويحدث ذلك خاصة في حالة اتساع المشاركة السياسية في مجتمع يفتقر إلى مؤسسات قادرة على الاستيعاب, فيبدوا دور المؤسسة العسكرية كحاجب يفتح المشاركة أمام الطبقة الوسطى, ويغلقها أمام الطبقات الدنيا, ويلجأ إلى ذلك في حالتين:
1- في حالة انتصار أو توقع انتصار حزب أو حركة سياسية ما في الانتخابات لا تحوز على ثقة النخبة العسكرية.
2- في حالة إتباع السلطة لسياسات راديكالية ( البيرو 1984, البرازيل 1964...).
د- النمط الحاكم: لا يمكن تحييد العسكريين على هذا المستوى وأهم القائلين بهذا الموقف لينين الذي يرفض اعتبار القوات المسلحة محايدة لأن عدم جذبها إلى السياسة هو شعار خدم البورجوازية والقيصرية.