محاولات و مشاكل التسوية للمعضلة الاثنوسياسية في جنوب القوقاز:
( ناجورني كاراباخ, أبخازيا و أوسيتيا الجنوبية)
الأستاذ: نوفل لعمارة
- جامعة قسنطينة -
مقدمة:
"يشهد العالم، وخاصة منذ أوائل العقد الأخير من القرن المنصرم، موجة عارمة من التقلبات المثيرة. يذهب الكثير من الباحثين في الشؤون الجيو-سياسية وعلماء السياسة إلى أن إحدى نتائجها الأكثر دلالة هي سقوط جدار برلين سنة 1989، بعد سلسلة من حركات التمرد في براغ وبودابست وفرصوفيا... قوضت الحزام الأمني، وقلصت من النفوذ السياسي و الإيديولوجي لموسكو. قبل الانهيار السريع للاتحاد السوفييتي، و تفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة أحادية للعالم."1
في خضم كل هذا، ظهرت إلى الوجود ثلاث دول فتية في جنوب القوقاز هي أذربيجان، أرمينيا و جورجيا. و أعلنت استقلالها و قيامها كدول مستقلة و مستقرة ذات سيادة، إلا أنها اصطدمت بواقع التنوع العرقي بها الذي يمثل أحد أهم السمات المهددة للأمن و الاستقرار بالمنطقة. حيث تمثل الصراعات الإثنو – سياسية أهم أخطر عائق على درب تحقيق الأمن و الاستقرار في جنوب القوقاز. و في واقع الأمر، يعد الإقليم القوقازي مرجلا فائرا لأشهر بؤر الصراعات الصدامية الإثنو – سياسية على مستوى العالم، لاسيما منذ العقد الأخير من القرن الماضي.2 حيث يؤكد الواقع القوقازي أن الميراث السوفيتي كان ذا طابع صراعي، فما إن انهار حتى ظهرت عدة قوميات و أقاليم في الكيانات السياسية الوليدة، و برزت بشدة إشكالية القومية – الأكثرية في مواجهة القومية – الأقلية. كما نمت أكثر الإيديولوجيات القومية تطرفا بما تحويه من رفض كلي للآخر.3 وتورط الثالوث القوقازي، أرمينيا، أذربيجان و جورجيا. وورطوا أنفسهم، في مواجهات إثنو – سياسية دموية : ناجورنو – كاراباخ بين أرمينيا و أذربيجان (1982م – 1994م)، أوسيتيا الجنوبية و أبخازيا في جورجيا (1990م-1993م).
أولا: الصراع الأذربيجاني-الأرميني حول ناجورنو- كاراباخ
في سياق تراجع سلطة موسكو المركزية وتفكك الاتحاد السوفيتي، انبثقت عدة قضايا و صراعات في القوقاز. تضرب بجذورها إلى التراكمات التاريخية و التعقيدات الاثنية، في خط متواز مع الصراعات الراهنة. و يكمن الدافع الذاتي المحوري لمعظمها في البعد الاثني اللغوي، مطعما بالبعد الديني4. و هذا ما جعل الصراع الأرميني الأذربيجاني حول ناجورنو- كاراباخ يمثل أحد الصراعات المعقدة، التي تتداخل فيها الأبعاد العرقية الدينية فضلا عن ميراث تاريخي من العنف و الصدام. ناهيك عن الدور المتزايد للقوى الإقليمية الكبرى الساعية إلى تأكيد دورها الإقليمي في هذا الصراع، مما يجعله بؤرة للتنافس بين هذه القوى على نحو يزيد من أمد الصراع ويغذيه5.
1. الميراث التاريخي للعنف و الصدام في إقليم ناجورنو- كاراباخ
إقليم ناجورنو- كاراباخ المتنازع عليه، هو عبارة عن منطقة جبلية تتواجد بأقصى شرق المرتفعات المسماة الهضبة الأرمينية ويقع هذا الإقليم بالكامل داخل أراضي جمهورية أذربيجان، بمساحة 4400 كم2. يقطنه حوالي 200 ألف نسمة، يمثل الأرمن منهم 80 بالمائة، تربطهم صلات ثقافية، عرقية ودينية قوية مع جمهورية أرمينيا، ويطالبون بالاستقلال التام عن الجمهورية الأذربيجانية6. حيث تورد المصادر الأرمينية والأذربيجانية معلومات متناقضة حول حقوقها التاريخية في إقليم ناجورنو- كاراباخ. وعلى العموم، فإن كاراباخ تشكل جزءا من تاريخ أرمينيا منذ العصور القديمة. وقد خضعت للاحتلالات المتعاقبة من طرف القوى الإمبراطورية التي هيمنت على أرمينيا، بسبب موقعها الجيو-استراتيجي مثل الروس والفرس والاتراك.
إثر تطورات الحرب العالمية الأولى، خضعت كاراباخ للتجاذبات الدولية في منطقة القوقاز حيث يمكن رصد علامات فارقة في وضعية كاراباخ. ففي غداة سيطرة الانجليز على باكو، شكلت كاراباخ ورقة استرضاء للحكومة الأذربيجانية، التي كانت تمول الانجليز بكميات نفطية كبيرة. حيث أن البريطانيون مدفوعون بأطماعهم الإستراتيجية و الاقتصادية، انتهجوا سياسة موالية لأذربيجان، و زودوهم بالدعم الخارجي لإلحاق ناجورنو–كاراباخ بأذربيجان، متجاهلين بذلك المطالب الأرمينية رغم أنهم كانوا طوال فترة الحرب إلى جانب الحلفاء وبعد انحصار الدور البريطاني في القوقاز بزغ تحالف سوفيتي-تركي ، و تبوأت معه كاراباخ بعدا استراتيجيا في علاقات هاتين القوتين. التي استلزمت إيجاد خط تواصل بري بينهما، لتبادل الدعم و المساعدة. عبر الممر الذي يربط الأناضول بأذربيجان مرورا كاراباخ.7 و هكذا، أدى التعايش السلمي بين روسيا و تركيا إلى ترجيح احتمال عودة موسكو لجنوب القوقاز ثانية. فما كادت سنة 1920م تنقضي، حتى أصبحت دول جنوب القوقاز الثلاث جمهوريات اشتراكية سوفيتية. و تحول معها ناجورنو–كاراباخ، من نزاع بين دولتين إلى مسألة داخلية للاتحاد السوفيتي. مما تسبب في دمج ناجورنو–كاراباخ في أذربيجان بإعلان من المكتب القوقازي للحزب الشيوعي و ضغط من ستالين الذي كان يهدف من خلال كل هذا إلى إحكام السيطرة، عن طريق التفرقة. فبوضعه المنطقة داخل حدود أذربيجان يمكنه استخدام السكان الأرمن كرهائن محتملين، لضمان تعاون أرمينيا مع رغبات القيادة السوفيتية. و بالمثل، وجود جيب أرميني مستقل داخل أذربيجان يمكن أن يجعل منه طابورا خامسا محتملا موالي للسوفييت، في حال الخيانة من طرف أذربيجان. و لكي يحول ستالين هذه التصورات إلى حقائق قام بخلق الأوبلاست المستقل لناجورنو–كاراباخ في 07 جويلية 1923م، و رسمت حدوده بترك شريط أذربيجاني يفصله جسديا عن أرمينيا بعرض سبعة كيلومترات.8
وعلى العموم، فإن هذه المعطيات السياسية و الإستراتيجية تفسر الإصرار الأذربيجاني للسيطرة على كاراباخ، و الذي أكده قرار ستالين. و بهذا يتضح أن الرغبة في استرضاء تركيا، و المصالح الروسية النفطية في أذربيجان، و ميكيافلية ستالين القائمة على تطويع الجمهوريات القوقازية بتغذية الصراعات بينها، كانت كلها دوافع وراء قرار ستالين الذي تحدى وقائع الجغرافيا و حقائق التاريخ.
بيد أن هذا القرار لم ينه حالة النزاع بين الأذربيجانيين والأرمن، بل ولد حالة احتقان نمت تدريجيا في دوائر أرمن كاراباخ. إلا أن القوة السوفيتية ذات الطبيعة الاحتوائية الضابطة تمكنت من طمس التوجه الإيديولوجي السياسي للقومية الأرمينية، بطرق قمعية. وبالتالي، فقد كانت هذه الفترة فترة إذعان للأمر الواقع المفروض، أين قمعت قوة الحكم الداخلي لموسكو الشكاوي الأرمينية حول الوضع. لكن في حقيقة الأمر، هي مسألة وقت فقط لتطفو القضية مجددا، وبعنف اكبر.9 خاصة مع هامش الحرية الذي أوجدته البيروسرويكا أين أفسح المجال أمام الأرمن، سواء في إقليم كاراباخ أو في الوطن الأم، لتصعيد القضية من النقطة التي طمست عندها عام 1923م.
2. الانزلاق نحو المواجهة العسكرية في ناجورنو-كاراباخ
وهكذا اندلعت حركة احتجاجية سلمية متناغمة بين الإقليم و الشعب في أرمينيا، تطالب موسكو بضرورة انفصال الإقليم عن أذربيجان، وسط سلسلة متصاعدة من الاضطرابات و الإضرابات والاحتجاجات والمظاهرات. وقد اكتسبت هذه التحركات الشعبية والسياسية في كاراباخ، شرعية جماهيرية و دستورية مزدوجة. و الجدير بالذكر، أن التحرك الأرميني في أرمينيا، جعل قضية كاراباخ بالغة الأهمية على الصعيد القومي. إذ أصبح هذا الإقليم الصغير في مساحته، رمزا للأراضي الأرمينية التاريخية. وبالتالي، أصبح لهذا البعد الرمزي موقعا مهما في الشعور الجماعي الأرميني، ليس في الإقليم في حد ذاته أو في جمهورية أرمينيا، بل على مستوى الشتات الأرميني عبر كافة أنحاء العالم.10
ومنطقيا، يعد الموقفان السوفييتي والأرميني على طرفي نقيض. إذ أن المطالب الأرمينية تعتمد قاعدة قومية لتحقيق تغيرات جيو- سياسية، بينما تعتمد موسكو على منطق أممي للقومية. وعليه، كان الموقف السوفييتي بمثابة إدانة إيديولوجية لهذه المطالب. لأنها تهدف إلى نسف البناء المجتمعي القائم على وحدة العمال، واستبداله بآخر، يعتمد على وحدة القومية. وهنا سيطرت على الأرمن قناعة، بأنهم لن يحصلوا على مطالبهم بالوسائل الشرعية الدستورية أو عبر السلطة القائمة.11
أما على الصعيد الأذربيجاني الرسمي، فقد رفض مجلس السوفيت الأعلى في أذربيجان مبدأ انفصال كاراباخ، وأصر على وحدة الأراضي الأذربيجانية، كما ألغى البرلمان الأذربيجاني نظام الحكم الذاتي لكاراباخ. وعلى الصعيد الشعبي، ظهرت بوادر خطيرة لمواجهات أذربيجانية- أرمينية في عدة مناطق من أذربيجان. وردود فعل أرمينية، أدت إلى مجازر ووتهجيرات تعسفية لكليهما. وعلى الصعيد السياسي، تنامت العصبية القومية المعادية للأرمن بشكل مطرد. لاسيما مع تأسيس الجبهة الشعبية الأذربيجانية، كإطار إيديولوجي تنظيمي لتفعيل هذا التيار الشعبي.12
وبنظرة تحليلية، إن مشكلة كاراباخ قد تطورت منذ عام 1988م حتى عام 1992م، في إطار جدلية تناقضيه مزدوجة، وصار الموقف منها موقفا مصيريا مستقبليا للكيانين الأذربيجاني والأرميني. ومن هنا، شكل إقليم كاراباخ جزءا لا يتجزأ من مشروع قومي سياسي لكلا الشعبين، والتراجع عنه في فترة اليقظة القومية هذه لم يكن واردا عند الطرفين. لأنه يعني من منظور الواقعية السياسية، الرضا باجتزاء على الخريطة القومية الموعودة.13
ومن ناحية أخرى، يعتبر الأذربيجانيون أن التجاوب مع المطالب الأرمينية سينعكس سلبا على الكيان الجيو-سياسي لدولتهم، بالتخلي عن جزء مكتسب مكرس منذ 1923م. كما يقطع إمكانية أي اتصال بري مع تركيا، الساعية إلى إحياء فكرة العالم التركي- التوراني. أكثر من هذا، فقد تنامت السلوكيات العدائية من كلا الشعبين في إطار معادلتين: أولاهما، معادلة الاعتداء – المقاومة، يغذيها التحرك النشط للقوميتين من خلال استحضار تاريخهما المشحون. و ثانيتهما، معادلة المفروض – المرفوض، يغذيها إصرار آذاري-سوفيتي على استمرارية الأمر الواقع، يقابله إصرار أرميني على إنهاء هذا الأمر الواقع بأية وسيلة و كل طريقة.14
وهكذا، شكل انهيار الاتحاد السوفيتي لحظة المفترق التي دفعت أرمن كاراباخ للإحاطة مجددا بواقعهم، والبحث عن مواقعهم، وبلورة طموحاتهم، على ضوء المعطيات المستجدة. للاستفادة من مرحلة اختلاط الأوراق، والبحث عن ترتيبات جيو-سياسية جديدة في القوقاز. فاندفعوا لإعادة تركيز شرعية هويتهم القومية، على قاعدة إظهار أنهم ليسوا جماعة هامشية في الكيان الأذربيجاني الواسع. بل هم جماعة تاريخية حية، متراصة البنيان تمتد بجذورها في عمق الكيان الأرميني. كما سعوا للإفادة من الفراغ المؤسساتي، لتجسيد هويتهم في كيان سياسي. يستمد شرعيته من الحق التاريخي المكرس في الشواهد المعمارية والأثرية، والأكثرية السكانية الأرمينية (90 بالمائة من سكان كاراباخ أرمن)، فضلا عن الحق المستقبلي المطالب به في تقرير المصير على أساس القانون الدولي، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.15 فأعلن أرمن كاراباخ في 1991م، استقلالهم عن أذربيجان، وقيام جمهوريتهم المستقلة بكل مؤسساتها الدستورية. غير أن هذا الإعلان لم يحظى بالاعتراف الدولي.
وتوازي الانتفاضة الأرمينية في كاراباخ صحوة قومية قوية في أذربيجان، ذات طابع احتوائي، ترفض أي وجود مختلف عنها في مجالاتها الجغرافية و التاريخية والسياسية. كما أنها تنتمي في جذورها إلى "الطورانية- التركية"، بكل طموحاتها و توجهاتها. ناهيك عن أن أي تحقيق للخصوصية القومية لأي من الطرفين يستلزم التنكر النظري والعملي للآخر، في مجاليه الجغرافي والتاريخي.16
وتفسر المعطيات السابقة أسباب الانزلاق من الاختلافات إلى الصراعات الدموية، بعد أن تخطت هذه الاختلافات حدود التعايش الممكن. و قد مهد لهذا الانزلاق الدموي انقطاع التواصل بين الطرفين الناتج عن الغربة الكاملة للأقلية الأرمينية في الكل الأذربيجاني، إيديولوجيا و سياسيا. حيث أن شكوك الأكثرية في نوايا الأقلية، و النظر إليها بمثابة كيان غريب و مصدر خطر، يدفعها للعمل على احتوائه و قمعها عند الضرورة. وفي المقابل، فإن خوف الأقلية من نوايا الأكثرية يدفعها إلى الموقف الدفاعي عن الذات. ومن ناحية أخرى، تتمحور مشكلة كاراباخ حول مفهومين في القانون الدولي، يتعايشان بصعوبة و يتواجهان بسهولة: منطق الدولة "الأذربيجانية"، و حقها الشرعي في الحفاظ على كيانها تجاه الأخطار الأرمينية. ومنطق الشعوب "أرمن كاراباخ"، و حقها الشرعي في تقرير مصيرها في كيان سياسي مستقل. ومن هنا، فإن تحقيق الحل القانوني للمشكلة هو أمر مستعصي غير مرضي للطرفين معا، مما يفتح المجال لاحقا أمام تحكيم سياسي تلعب فيه قوى خارجية دور الحكم، وتراعي بلا شك موازين القوى الدولية القائمة.17
ومع الوصول إلى هذه المرحلة من التوتر، انفتح الباب على مصراعيه أمام عمل عسكري يسعى المتصارعون عبره إلى تأكيد قوتهم و تفوقهم كمدخل لمكاسب سياسية محتملة. و بدأت مؤشرات التصعيد العسكري تظهر في مرحلتها الأولى أواخر 1991م. لكن الأحداث ستأخذ طابعها العنفي الدموي و المدمر منذ أوائل فيفري 1992م، مع بدء استعمال الأسلحة الثقيلة، و اتساع الرقعة الجغرافية للمناوشات، و القصف لمواقع مهمة. و تدل هذه المعطيات، أن ما يجري فيما وراء القوقاز لمن يكن "عملية أمنية"، بل "حرب حقيقية".18 أظهرت ضعفا أذربيجانيا و تفوقا أرمينيا ، فحاولت أذربيجان تدويل المشكلة، بعد أن كانوا تعتبرها قضية داخلية، و دعوا الأمم المتحدة و منظمة الأمن و التعاون الأوروبي لمساعدتهم في وقف إطلاق النار. هذا و قد تميزت الوساطات الأولى بمقاربات سياسية خجولة، بسبب الطابع الداخلي للحرب، و تفادي الدول و المنظمات الدولية التدخل في المشاكل الداخلية.مما جعل الأرمن يتمادون في استغلال الظروف العسكرية و السياسية المواتية لهم، للسيطرة على أوسع مساحة جغرافية ممكنة تشكل قاعدة صلبة في المفاوضات المستقبلية.
أسهمت الانتصارات الأرمينية بامتياز في قلب ميزان القوى لصالحهم، بيد أنها صعدت مشكلة كاراباخ من سمتها الإقليمية إلى صفتها الدولية. وجاءت ردود الفعل الدولية (إيران، تركيا، واشنطن، حلف الأطلسي، منظمة الأمن و التعاون الأوروبي...) سلبية في مجملها، لأنها رأت في هذه الانتصارات خرقا لمبدأ مقدس في القانون الدولي، والذي ينص على ضرورة الحفاظ على سلامة أراضي الدولة القائمة، و عدم جواز إجراء أي تغيير بالقوة في الحدود الجغرافية.19 لهذا بدأت تظهر بعض المقترحات العملية لمعالجة الأوضاع المتردية فيما وراء القوقاز. مثل استعداد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي لإرسال مراقبي سلام إلى كاراباخ عقب تثبيت وقف إطلاق النار، ولكن جميع هذه المبادرات ظلت حبيسة "إعلان النيات" دون أي تصعيد سياسي فعال.20 فالأرمن الذين حققوا انتصارا عسكريا كبيرا تعرضو لإدانة سياسية دولية. لكنها لم تتخط آنذاك إطار تسجيل موقف نظري، دون تفعيل ضاغط لإعادة الأوضاع إلى سابق عهدها.
منذ أكتوبر 1993م، بدا أن الأرمن قد حققوا الأهداف الإستراتيجية لحربهم. فهم يسيطرون على المدى الحيوي من الشمال إلى الجنوب، كما يسيطرون على طوق أمني في أذربيجان يمتد أيضا من الشمال إلى الجنوب. و بهذا امتلك الأرمن أوراقا قوية ضاغطة على أذربيجان في أية مفاوضات لاحقة، خاصة فيما يتعلق بمقايضة الأراضي الأذربيجانية المحتلة بتنازلات سياسية أذربيجانية في كاراباخ. كما أحدثت هذه النتائج العسكرية خللا كبيرا في ميزان القوى، يجعل أية مفاوضات محتملة أقرب إلى إملاء شروط أرمينية و إذعان أذربيجاني.
لم يكن بوسع النظام الأذربيجاني تحمل هزيمة سياسية إلى جانب هزيمته العسكرية، و لذا كان المخرج الوحيد أمامه هو المبادرة بعمل عسكري يعدل ميزان القوى لصالحه. و بالفعل، بدأ الأذربيجانيون هجوما عسكريا منذ مطلع 1994م.21 و خشية انقلاب ميزان القوى، أعلن الأرمن موافقتهم على وقف إطلاق النار و إرسال مراقبين دوليين وقوة فصل إلى كاراباخ، في 13 مارس 1994م.
ناجورنو-كاراباخ بين الوضع الراهن و احتمالات المستقبل
ابتداء من 12 ماي 1994م وحتى الوقت الراهن، هدأت الأوضاع العسكرية، بموجب اتفاق هش لوقف إطلاق النار بين كل من أذربيجان وأرمينيا و كاراباخ. ليفسح المجال أمام المفاوضات التي مازالت مستمرة. ويبدو أن هذه الهدنة ناتجة عن قناعة ميدانية لدى المقاتلين، بعدم القدرة على إجراء تعديلات جديدة في ميزان القوى على الأرض. فأية سيطرة على أراضي إضافية سوف تضعف الأرمن، عسكريا من حيث تشتيت قواهم، وسياسيا من حيث زيادة الضغوط الدولية عليهم، ورفض المجتمع الدولي لأي احتلال إضافي غير مبرر لأراضي أذربيجانية. كما أن آخر هجوم أذربيجاني في بداية 1994م، أظهر لسلطات باكو مدى ضعف الجيش، فانكفأت إلى الداخل الأذربيجاني لضبط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبدء عملية بناء جديدة واسعة النطاق للقوى العسكرية، انتظارا للتطورات الآتية سياسيا وعسكريا.22
وجدير بالذكر أن مجلس الأمن قد تفادى التدخل في جوهر وتفاصيل مشكلة كاراباخ، وأحالها على منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بصفتها الراعية لمفاوضات السلام. وقد يكون هذا الموقف ناتجا عن المعطيات التالية:
تجاوب المجلس مع رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في عدم التدخل في المسألة.
مراعاة الرغبة الروسية التي تفضل التعامل مع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي كإطار يستبعد الأمم المتحدة، أين هيمنة واشنطن واضحة.
تفادي المواجهة مع موسكو التي ترغب في قيام سلام برعاية الأمم المتحدة وتمويلها، لكن بمشاركة وقيادة روسية في أغلبها.23
وتجد معالجة هذه المنظمة مشروعيتها السياسية في مشكلة كاراباخ من عدة زوايا :
ضرورة معالجة أزمة سياسية – عسكرية بين اثنين من أعضاءها.
امتناع مجلس الأمن الدولي عن الدخول في جوهر المشكلة، وتفويض المنظمة لإدارة المفاوضات السياسية.
امتناع الولايات المتحدة ومعها حلف الأطلسي عن التدخل المباشر في المشكلة.
الحاجة إلى إطار سياسي ذو طابع دولي، للإحاطة بمشكلة معقدة قد يترتب عليها انعكاسات سلبية على الأمن الأوروبي.
وقد تطورت مقاربة المنظمة للأزمة عبر مرحلتين: المعالجة السياسية كمدخل لمعالجة التأزم العسكري، ثم الانكباب على معالجة الشق العسكري كمدخل للحل السياسي. ورغم أن هذه المنظمة لم تتمكن حتى الآن من التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع إلا أنها تمثل همزة وصل ضرورية بين الثالوث: باكو، ستيباناجيرد وياريفان. ويرجع ضعف تأثيرها إلى: عدم امتلاكها قوة فرض عسكري، التعقيدات و المصالح الإقليمية المتداخلة (بدءا من التطلعات الروسية، مرورا بالصفقات البترولية و انتهاء بالتجاذب الروسي الأذربيجاني)، ناهيك عن عدم وضوح الرؤية بالنسبة لمستقبل القوقاز، وعدم إمكانية عزل مشكلة كاراباخ عن مجمل مشاكل المنطقة.24
ومهما يكن من أمر، فقد أجريت عدة مفاوضات بين الرئيسين الأرميني والأذربيجاني برعاية منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. لم تتوصل لحد الساعة إلى اتفاق شامل حول المسألة، ويبدو أن الرئيسين لديهما قناعة بأن مشكلة كاراباخ لن تحل إلا بموجب تنازلات متبادلة، إلا أن إقناع شعبيهما بهذا الطرح يعد مخاطرة إن لم تكن مقامرة بالنسبة لكليهما.
عند هذا الحد، ثمة تساؤل يطرح نفسه حول مستقبل أزمة كاراباخ، وهل ينتصر فيها حق الشعب الأرميني في تقرير مصيره؟ أم يكون منطق الدولة في سيادة ووحدة أراضيها هو السيد في النهاية ؟
يمكننا البحث عن إجابة في ضوء عدة معطيات:
على الصعيد العسكري يبدو الأرمن في وضع أقوى يعطيهم موقعا مريحا على مائدة أية مفاوضات مستقبلية، غير أن هذا التفوق يعد ظاهريا لأنه لا يستند على القدرة الذاتية، بقدر استناده على استمرارية الموقف الروسي الداعم له. كما أن التفوق الأرميني هش، لأن الانتصارات العسكرية الأرمينية ارتكزت على تغطية سياسية و عسكرية روسية غير معلنة، مما يبقي الموقع السياسي– العسكري الأرميني في حالة تأرجح.25 وفي الواقع، تشكل أزمة كاراباخ ورقة سياسية – عسكرية روسية لممارسة مناورات ضاغطة على باكو بهدف تغيير مسار سياستها، و تحويله إلى طريق الثوابت المصلحية الروسية الإستراتيجية. المتمثلة في إكمال الانتشار العسكري الروسي على طول الحدود السوفييتية السابقة، والحصول على الحصة الكافية من النفط. وحتى الآن ، شكل التصلب الأذربيجاني تجاه موسكو عاملا مساعدا للموقف الأرميني، إلا أن أي انعطاف جذري في موقف باكو صوب موسكو، سيقابله تراخ مواز في قوة الدعم الروسي للأرمن، ومن ثم اهتزاز موقعهم في ميزان القوى الراهن.
إضافة لذلك، يلعب عنصر الزمن عاملا مضادا للأرمن. فأحد العوامل المساعدة في الانتصارات العسكرية الأرمينية يكمن في الانهيار الاقتصادي، و التوتر السياسي، و الشلل العسكري، الذي كانت تعانيه أذربيجان عقب الاستقلال. ولكن بمرور الوقت -خاصة مع حالة الهدنة القائمة- بدأ هذا العامل يفقد أهميته. نتيجة استقرار الوضع السياسي في باكو، وبدء الاستثمار الاقتصادي-السياسي للثروة النفطية، والتقدم في عملية بناء القوات العسكرية.26 مما يجعل من غير المستبعد على القوة الأذربيجانية، بعد أن تصبح في كامل استعدادها أن تخرق الهدنة القائمة. في محاولة لقلب موازين القوى على الأكثر، أو حتى تعديلها على الأقل.
أما على الصعيد الإقليمي – الدولي القائم حاليا، لا يبدو الأرمن في وضع سياسي مريح، لا على مستوى القانون و الشرعية الدولية، ولا على مستوى المصالح السياسية للقوى الفاعلة في المنطقة، إذ أن المطالب الأرمينية الاستقلالية تفترض من وجهة نظر القانون الدولي تغييرا في كيان دولة قائمة. كما تشكل من وجهة النظر السياسية، وفي حالة تحقيق الاستقلال، سابقة تفتح الباب على المجهول، في منطقة شديدة الحساسية والتعقيدات بهذا الخصوص. ولذا، فإن هذه المطالب في حدها الأقصى الاستقلالي، غير مقبولة في ظل المعطيات الحالية وغير قابلة للتحقيق.27
على العكس، تبدو أذربيجان في موقع قوة، لأنها تمتلك إلى جانبها ورقة الشرعية الدولية، الرافضة لأي تغيير جغرافي في الكيانات القائمة. ولهذا، ينطلق وسطاء منظمة التعاون والأمن الأوروبي من ثابتين: ضرورة انسحاب القوات الأرمينية من الأراضي الأذربيجانية، والبحث في مستقبل كاراباخ كجزء من دولة أذربيجان.28
ورغم الدعم الروسي لكاراباخ، إلا أن روسيا لم تكن أبدا مع المطالب الأرمينية الاستقلالية، ولن تكون معها مستقبلا. لأنها تتضارب مع مصالحها الأساسية وتطلعاتها إلى لعب دور عالمي، والحصول على اعتراف دولي لقواتها المنتشرة في الأنحاء السوفييتية السابقة. كما أن روسيا التي تعاني من حركات انفصالية في داخلها، لا يمكنها أن تقبل بأي منعطف انفصالي في محيطها، يكون له انعكاس على داخليتها، ويدفع جوارها القريب إلى المجهول.29
وتكتمل الصورة أخيرا، بانبثاق التنافس الأمريكي– الروسي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. مما يعني أن الجوار القريب لم يعد "مسرحا روسيا"، بقدر ما صار "حلبة سباق" أمريكية – روسية. ولن يكون ذلك في الصالح الروسي، نظرا للترحيب الذي يلقاه أي تدخل أمريكي في القوقاز، واعتباره ملجأ خلاص من روسيا.30 وبذلك، لم تعد روسيا اللاعب الأكبر والأوحد في أزمة كاراباخ بعد أن انجذب المارد الأمريكي إلى رائحة النفط القوقازي. مما يبعد أي احتمالية لقيام تقارب حميم بين موسكو وباكو، خاصة بعد الاتفاقات البترولية الضخمة مع الشركات الأمريكية التي تربح أذربيجان اقتصاديا، وتغطيها سياسيا وأمنيا.31
وبدخول منطقة القوقاز في مرحلة تجاذب أمريكي-روسي، سوف تتحرك الأوضاع وسط رمال متحركة، مما يعني استبعاد الحلول الفورية للأزمات الراهنة في المنطقة. وبالتالي، ستظل أزمة كاراباخ معلقة في المستقبل بين اللاسلم واللاحرب، في انتظار سلام تتفق عليه موسكو وواشنطن. ولكن هذا السلام يستلزم اتفاقا أمريكيا روسيا شاملا على مستوى المنطقة، وهو أمر لا يبدو سهل المنال حاليا. وهكذا، أضيفت مشكلة كاراباخ بكل تعقيداتها وتشابكاتها وملابساتها إلى المشكلات الدولية الكبرى.
ثانيا : الصراعات العرقية في جورجيا
تعد الصراعات العرقية في جورجيا من الصراعات القومية التي تنشأ بين الأغلبية القومية والأقلية القومية، بسبب مطالبة الأخيرة بالاستقلال والانفصال عن الأولى. فيتحول الصراع إلى حرب أهلية محدودة، بسبب ضعف الروابط العرقية فيما بين القوميتين المتصارعتين والقوميات الأخرى في المنطقة، فلا تصل الحرب إلى درجة الحرب الإقليمية بين جمهوريتين مستقلتين مثل الصراع الأذربيجاني – الأرميني، وإن كان للصراع أبعاده الإقليمية والقومية بسبب الخارطة السكانية المعقدة التي تتوزع كما يلي:32
69 بالمائة جورج "كرج"، 9 بالمائة أرمن، 7 بالمائة روس، 5 بالمائة أذربيجانيين، 3 بالمائة أبخاز، 1 بالمائة يهود، 6 بالمائة أقليات أخرى.
وتضم جورجيا: جمهورية أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي، ويسيطر عليها الأوسيتيين ذوي الديانة المسيحية الأرثوذكسية. ومقاطعة أدجاريا ذات الحكم الذاتي، وسكانها تتار مسلمون، فضلا عن جمهورية أبخازيا المستقلة ذاتيا، وأغلب سكانها مسلمون.33
والجورج سلالة مستقلة بذاتها، لا علاقة لها بأنواع الأجناس الأخرى في أوروبا وآسيا. فالشعب الجورجي لا يتمتع بحجم دولي، وليس بإمكانه الاعتماد على الأشقاء أو الإخوة، لا بداخل الاتحاد السوفييتي السابق ولا خارجه. فالقومية الجورجية قومية تاريخية، اعتنقت المسيحية في القرن الخامس ميلادي، ولا توجد بين لهجاتهم ولغاتهم أصول تركية أو أوروبية أو سامية. وهم يعتبرون أنفسهم أرقى ثقافيا من جيرانهم، نظرا لأن بلادهم كانت مملكة مستقلة متمدينة وجزءا من العالم الإغريقي – الروماني، وجيرانهم في مرحلة البداوة.34 كما أن الجورجي يعتز بهويته الوطنية، وبديانته المسيحية الكاثوليكية، وبلغته (وهي إحدى اللغات الإيبيرو-قوقازية الجنوبية). فضلا على أن الجورجي يشعر بأنه مظلوم تاريخيا، فهو لم يحكم نفسه بنفسه طوال عمره التاريخي سوى مائة سنة فقط. وأنه بأصالته، حضارته وتاريخه، يستحق ما حرمته منه حركة التاريخ. فخمسون سنة من الحكم الإسلامي، فضلا عن أكثر من قرن من الحكم القيصري، و سبعون سنة من الحكم الشيوعي. لم تفلح في تغيير الانتماء الديني، و الهوية الوطنية الجورجية.35
ويعد الشعب الابخازي، أحد الشعوب القوقازية العديدة ذات الأصل الشركسي التي تسكن منطقة القوقاز. يسكنها ستون شعبا، تتجاور فيها أربع جمهوريات سوفييتية سابقة، وسبع جمهوريات ذات حكم ذاتي. ويدين أغلبية الأبخاز بالإسلام، إلا أن المراقبين لا يعتبرون القضية الدينية هي المحرك الأساسي للصراع، إذ يشترك في الحركة الانفصالية الأبخاز المسيحيون، والأقليات المسيحية اليونانية، والأرمينية، و الروسية.36
بالإضافة للحركة الانفصالية لأوسيتيا الجنوبية، فرغم مسيحيتها الأرثوذكسية فسكانها يعتبرون دخلاء نسبيا على الأرض الجورجية، فهم في الأصل أحفاد قبائل آلان القديمة، ذات الأصول الفارسية.37 ولهذا، فمطالبهم كانت في العيون الجورجية أقل أهمية. وحتى مصطلح أوسيتيا الجنوبية لا يعترفون به، وتم حذفه من المؤلفات الجورجية
1- : الصراعات العرقية و السياسات القومية الروسية-السوفيتية
من أهم ملامح هذه السياسات، التي حاولت التعامل مع المشكلة القومية، نجد سياسة الدمج القومي. القائمة على نقل القوميات المختلفة من مكان لآخر (كنقل الروس إلى وسط آسيا و القوقاز)، فضلا عن تدفق الفلاحين، والفارين من العبودية والقانون، وتصفية النخبة التقليدية في جميع المناطق دون تمييز، حتى صار أهل البلاد الأصليين أقلية في بلادهم. فنجد أن حكومات القياصرة حرصت على تطعيم هذه القوميات بقوميات أخرى، من أجل إضعاف قوة التركيبة الاجتماعية للقوميات الأصلية في القوقاز ووسط آسيا. مع إتباع سياسة الترحيل والتهجير للقبائل التترية والشركسية بعيدا عن شواطئ البحر الأسود، لمنعهم من الاتصال بالعالم الخارجي، وتوطين الروس مكانهم. وتهجير هذه القوميات إلى سيبيريا ووسط آسيا والأراضي العثمانية، تحت ضغط المجازر الرهيبة.38 فضلا عن سياسة التنصير الإجباري واضطهاد الأديان الأخرى، وفرض منهج ثقافي واحد، يفرض اللغة والثقافة الروسية على الجميع.
وترجع جذور الحرب الأهلية بين الجورج والأبخاز إلى هذه السياسات، فضلا عن المواريث التاريخية منذ القرن الثامن، وبالتحديد في 746م، أين أقيمت مملكة الأبخاز المستقلة. لكن جورجيا قامت بضمها إليها في 987م.
في عام 1463م، نجحت أبخازيا في استعادة استقلالها. لتخضع بعدها للحكم العثماني في القرن السادس عشر ميلادي، حيث حل الإسلام محل المسيحية. وفي الوقت ذاته كانت جورجيا تحت الحكم الإيراني ثم الروسي القيصري، بعد انتصار روسيا في حربها ضد إيران، من أجل الوصول إلى المياه الدافئة. وفي 1810م تم إبرام معاهدة بين روسيا والعثمانيين، تعترف روسيا بموجبها بوضع أبخازيا كمحمية. وخلال الفترة 1810م-1864م، استطاع الروس أن يقهروا الشعب الأبخازي، ويضموا أبخازيا لحكمهم. فرحل 70 بالمائة من الأبخاز (حوالي 200 ألف)، وانحازوا لتركيا في حربها ضد روسيا. في حين انحاز الجورج للروس، مرحبين بالحماية المسيحية. وتعرضت المنطقة للتهجير القسري، فلم يتبق من الأبخاز سوى 150 ألف فقط. واستمرت المقاومة الأبخازية حتى سنة 1877م، أين قمعت بشدة.39
ومن الناحية السياسية، ألحقت أبخازيا إلى بروسيا عام 1810م. بوصفها إمارة مستقلة، ليس لها أي علاقة تبعية بجورجيا. و استمر هذا الوضع، حتى تمكنت روسيا من ضم أبخازيا إليها سنة 1864م، لتصبح هي و جورجيا جزءا من الإمبراطورية القيصرية. إلى غاية ثورة أكتوبر 1917م، التي منحت الشعوب حق تقرير مصيرها. فأصبحت جورجيا دولة مستقلة في 1920م، و أبخازيا دولة مستقلة أيضا سنة 1921م.40
ثم تطورت سياسة البلاشفة إزاء مشكلة القوميات، فأقروا في أول قانون صادر عن الثورة إلغاء كافة قوانين ما قبل الثورة، خاصة تلك المنظمة لعلاقة الكنيسة بالدولة. كما ألغى لينين أي إشارة للانتماء الديني في أي وثائق شخصية، سعيا منه لطمس الشخصية الدينية و الانتماء العقائدي، و رفض فكرة القومية والثقافة القومية. وفكرة حق تقرير المصير، التي أكد أنها مفاهيم بورجوازية استخدمت كوسيلة تكتيكية ضد العدو القيصري.41 ليبرز ستالين فيما بعد، محاولا ملأ الفراغ الكبير في نظريات لينين، و طبق ثلاث حلول:
- تشجيع الانصهار العرقي بين القوميات المختلفة.
- نقل الجماعات العرقية التركية، التترية و الإيرانية القاطنة في القوقاز و إلى سيبيريا و آسيا الوسطى.
و إحلال القوميات الأخرى (كالكرج و الروس) محلهم. و تجزئة العديد من الأقاليم.
- تشجيع الزواج المختلط بين القوميات المختلطة.
وإلى جوار هذه السياسة السكانية التي كانت تتوخى الإحلال والتنوع، وتهدف إلى عدم جعل قومية واحدة تسيطر على منطقة ما. فقد جعلت السياسة السوفييتية قيام مقاطعات ذات حكم ذاتي أكثر من قيام كيانات دستورية. رامية من وراء ذلك، جعل الفئات العرقية المختلفة تتقوقع تحت مظلة الحكم في موسكو. ففي الحقبة الشيوعية ألحق بجورجيا ثلاث جمهوريات ذات حكم ذاتي، منها: أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.42
2- : تطورات الصراع الجورجي-الأبخازي
ترجع جذور الحرب الانفصالية الدموية في أبخازيا إلى سياسات سكانية تعود إلى العهد السوفييتي. فمنذ قرن مضى، كان الأبخاز يمثلون 68 بالمائة من سكان الإقليم. إلا أن آخر إحصاء أجراه الإتحاد السوفييتي السابق، عام 1990م. أشار إلى تقلص عدد الأبخاز إلى 18 بالمائة، وارتفاع الجورج إلى 41 بالمائة، في وطن الأبخاز. ويتحمل الرئيس ستالين مسؤولية ذلك، لممارسته في هذا الإقليم أسلوب الهندسة البشرية. بخلعه لسكانه الأصليين وترحيلهم إلى مناطق بعيدة، واستقدام غيرهم من الكرج. ويشير هذا، إلى حجم الإجرام في تغيير هوية إقليم كان يتمتع بالاستقلال والحكم الذاتي داخل جورجيا، أما استقلاله السياسي فكان مزيفا مثل استقلال جورجيا داخل الاتحاد السوفيتي السابق. وبعد وفاة ستالين سنة 1953م، نظم الأبخاز حملات لتأكيد عائدية الأرض لهم، وطالبوا بضمهم إلى روسيا الاتحادية كحل للمشكلة. ويؤكد الأبخاز أنهم عملوا على وقف الصهر القومي الذي تعرضوا له، ومحاولات إزاحتهم من المواقع الإدارية والاقتصادية. وفي 1989م، طالبوا كما في عام 1978م، بالانفصال عن جورجيا.43
تطور الصراع بعد ذلك في أربع مراحل متتالية، أثرت فيها عدة عوامل أهمها: الموقف الروسي من الصراع، موقف القوميات الأخرى، و الصراع الداخلي على السلطة في جورجيا.44 و هذه المراحل هي:
الأولى : تعتبر بداية الصراع الحقيقية حديثا عند استقلال جورجيا سنة 1991م بقيادة زفياد جامساخورديا، أين فتح باب الصراعات القومية على مصراعيه.
الثانية : عندما وصل شيفنادزة للسلطة في يناير 1992م، أصدر قرارا بإلغاء الاستقلال الذاتي للأبخاز و احتل أبخازيا 21 أوت 1992م.45
الثالثة : أعاد الابخاز تشكيل صفوفهم بدعم روسي واسترجعوا العاصمة سوخومي في 3 جويلية 1993م .
الرابعة : أعلن شيفنادزة انضمام بلاده لرابطة كومنولث الدول المستقلة. ليتحول الصراع لصالحة بعد سيطرة قواته على جميع الأقاليم، بمساعدة روسيا و جيوش الرابطة.46
تحت ضغط الصراع على السلطة دارت محادثات للسلام بين الابخاز و جورجيا في جنيف تحت إشراف كل من روسيا و الأمم المتحدة فأعلن في 31 ديسمبر 1993 عن اتفاق يقضي بوقف الأعمال الحربية وعودة 250 ألف لاجئ ، وتشكيل مجموعة عمل لتحديد الوضع السياسي للإقليم وتمركز قوة حفظ سلام دولية لمراقبة تطبيق الاتفاق على الحدود بينهما ، إلا أن الاشتباكات بين الطرفين تجددت في 26 مارس 1994 إثر فشل مفاوضات جنيف , وبقي الوضع على حاله الى غاية قيام ساكاشفيلي الرئيس الجورجي بمجازفته الاستفزازية لروسيا و التي انتهت على يد الروس واعترافهم باستقلال ابخازيا في العم الماضي.
3- : تطورات الصراع الجورجي – الأوسيتي الجنوبي
ترجع أصول الصراع الجورجي- الأوسيتي إلى 1921م. أين خضعت جورجيا للسيطرة السوفيتية، وتشكيل إقليم الحكم الذاتي لأوسيتيا الجنوبية، التابع للجمهورية السوفيتية الاشتراكية الجورجية، في 20 أفريل 1922م.47 حيث كان الأوسيتيون (66 بالمائة) فلاحون بلا أرض، يعيشون بشكل كبير على الأراضي المملوكة للطبقة الأرستقراطية الجورجية (29بالمائة). فقاموا بتمرد لتغيير الأوضاع، وإنهاء التمييز ضدهم. لكن هذا التمرد قمع بشدة من طرف حكومة جورجيا وبدعم بلشفي، وأدى إلى مجزرة شنيعة، قلصت عدد السكان الأوسيتيون في الإقليم. حيث يؤكد القاموس الديموغرافي السوفييتي أن عدد سكان الإقليم قد انخفض عام 1984م (98000نسمة) مقارنة بـ 1939م (106000نسمة).48 كما يفسر هذا الانخفاض جزئيا، بالخسائر الفادحة في الحرب العالمية الثانية. و كذا، بإعادة التوطين للأوسيتين في أنغوشيا، بعد الطرد الأنجوشي عام 1944م.
وطبقا للقائد الأوسيتي "توريز كلمبيجوف"، فإن الأسيتيون قد منعوا من دخول مؤسسات التعليم الجامعي، كما أن دورهم في الوظائف الإدارية كان محدودا جدا.49 الشيء الذي أنكره الكتاب الجورجيين، الذين ادعوا أن الإقليم المستقل لأوسيتيا الجنوبية والجمهورية السوفياتية الاشتراكية الأبخازية قد تم تشكيلهما من طرف البلاشفة، لخلق مصادر توتر دائم، يتمكن من خلاله الكريملين من إحكام قبضته على جورجيا بسهولة أكبر. فأبخازيا و أوسيتيا الجنوبية قائمتان على أسس إثنوقراطية، من أجل الإضرار بالمصالح الوطنية الجورجية. و لهذا، فالحاجة الجورجية المدركة هي في الحد -و لما لا- إلغاء هذه الكيانات المستقلة. و كان الرد الأوسيتي إما محاولة تأمين وضع فدرالي في جورجيا مثل أبخازيا، أو -إذا ما فشل ذلك- محاولة التوحد مع أوسيتيا الشمالية كجزء من روسيا.
وقد أصبح النزاع في اوسيتيا قضية سياسية، بسبب محاولة البرلمان الأوسيتي الجنوبي ترقية وضعية الإقليم المستقل. إثر قراره في 10 نوفمبر 1989م، القاضي بإعلان الإقليم جمهورية سوفيتية اشتراكية، مما أثار حفيظة الجورجيين الذين ألغوا هذا القرار في نفس اليوم.50 ليتطور الصراع بعدها إلى حرب دموية إلى غاية أواسط جوان 1992م أين كانت روسيا على حافة الحرب مع جورجيا من أجل أوسيتيا الجنوبية بعد اشارة عناصر من النخبة الروسية إلى أنه إضافة إلى مبدأ تقرير المصير (المتذرع به من طرف الأسيتيون)، فإن مبدأ تحجيم المعاناة البشرية يجب أن يعتد به أيضا. و هكذا، ردت روسيا على الحصار الجورجي غير الإنساني بحرب شاملة ضد جورجيا انتهت بتوقيع اتفاقية سوشي بخصوص وقف إطلاق النار، و نشر قوات حفظ سلام روسية ،جورجية و أوسيتية مشتركة في 14 جويلية 1992م .
منذ جويلية 1992م، لم يتغير الوضع كثيرا في أوسيتيا الجنوبية الى غاية وصول ساكاشفيلي لرئاسة جورجيا في 2004م و اعلانه عن ضرورة إخضاع جميع الاقاليم الانفصالية في جورجيا لكن محاولته الأخيرة في 2008 انتهت بمواجهة مع روسيا قضت بإعلان استقلال اوسيتيا الجنوبية و اعتراف روسيا بها.
4- : الموقف الدولي من الصراع :
هناك عدة اعتبارات تفسر الموقف الروسي من الصراعات في جورجيا فمن ناحية يعد الإقليمان منتجعا للقادة الروس خاصة العسكريين و يدخلان في دائرة الحزام الأمني الروسي ، ومن ناحية أخرى تسيطر أقلية روسية على الإقليمين وهي المالكة لكل شيء فيهما ، كما أن الإقليمان كلاهما يطمحان إلى الانفصال عن جورجيا ، و الارتباط بروسيا الاتحادية ، ومن ثمة ضمان المصالح الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة و من ناحية ثالثة فإن شعوب شمال القوقاز الروسية تدعم كلها الأبخاز و الأوسيتيون و من ثم فإن وقوف روسيا إلى جانب جورجيا سوف يغضب هذه الشعوب و من ناحية رابعة فإن وجود قوات روسية في هذين الإقليمين يساعد روسيا في تأديب جورجيا لتوجهها الغربي و انضمامها لحلف شمال الأطلسي فضلا عن أن مساعدة الابخاز و الأوسيتيون و إقامة تحالف معهم يسمح بمواصلة الوجود الروسي الاستراتيجي هناك. وعلى العموم ما يتسم بالأهمية هو التمييز بين :
أولا : الموقف المعلن : حيث رفضت بل و تعمدت روسيا بعدم التدخل و في الوقت نفسه دعت إلى مفاوضات تجمع بين الطرفين لتسوية الأزمة حيث طالب البرلمان الروسي بوقف إطلاق النار وتسوية الخلافات سلميا في ضوء احترام وحدة أراضي جورجيا ، وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وقد أشرفت روسيا على اتفاقيات سوشي ووقع شيفنادزة على اتفاق في شهر ماي 1993 يقضي بتهدئة الوضع بين جورجيا وأبخازيا وآخر بين جورجيا وأوسيتيا الجنوبية ، كما أشرفت على مباحثات جنيف و اتفاق 31 ديسمبر 1993 و تشرف الآن على تنفيذ هذا الاتفاق فضلا عن متابعتها للمباحثات الجارية حول أوسيتيا الجنوبية بالاشتراك مع مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي وأخرى حول أبخازيا بالاشتراك مع الأمم المتحدة ومؤتمر الأمن و التعاون الأوروبي لتحديد الوضع السياسي للإقليمين.
ثانيا: الموقف الفعلي : و الذي حدده ارتكاب جورجيا خطأين استراتيجيين في صراعاتها ، أولهما : عندما ركب القادة في تيبليسي رؤوسهم و رفضوا الانضمام إلى رابطة كومنولث الدول المستقلة وتفضيلهم التقارب مع الغرب على التقارب مع روسيا، الأمر الذي رأى فيه الروس تحديا لهم و لمجالهم الحيوي . و ثانيهما : عندما حركت جورجيا قواتها إلى إقليمين يدخلان ضمن دائرة الحزام الأمني الروسي. ويتمتع أحدهما بمركز استراتيجي هام على البحر الأسود ، فكان العقاب الروسي شديدا . حيث ساعدوا الابخاز وأوسيتيا الجنوبية و أمدوهم بالعتاد والأسلحة وحتى إرسال قوات من الجيش الرابع عشر الروسي كما أنها ساعدتهم سياسيا سواء بالمناورة السياسية بالضغط على جورجيا أو من خلال المباحثات والمفاوضات فضلا عن السماح للمتطوعين من شعوب شمال القوقاز الروسية للمحاربة إلى جانب الابخاز والأوسيتيون أو بقطع الطريق على الحلف الأطلسي للتدخل في الصراع.
ويمكن القول أن كلا من ابخازيا و أوسيتيا الجنوبية إذا أرادتا أن تحافظا على استقلالهما لا بد وإن تربط نفسيهما بروسيا ، خاصة وأنهما لا يمكنهما الاعتماد على نفسيهما في صراعهما مع جورجيا.
غير أن موقف القوميات الأخرى من هذه الصراعات شمل قوميات شمال القوقاز والتي مثلها اتحاد شعوب القوقاز أمدت الأسيتيون والابخاز بآلاف المتطوعين والعتاد والأسلحة ومن أهم هذه الشعوب الشيشان والأنجوش والروس ... إلخ ، في حين أن موقف القوميات الأوكرانية والمالدوفية كان مساندا لجورجيا لأنها تعاني من نفس المشكلة وأمدت جورجيا بالمقاتلين والمرتزقة و السلاح.
واقتصر الموقف الغربي على إدانة الأعمال العسكرية التي يقوم بها الأوسيتين والأبخاز والدعوة إلى تسوية المشكلة بالمفاوضات السياسية ، ولعبت دورا في مباحثات جنيف ، حيث مثلها فيها ممثلون عن مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي.
أما موقف الأمم المتحدة فلم يتعد إصدار بيانات من مجلس الأمن تعبر عن القلق العميق إزاء تدهور الوضع في جورجيا ، فضلا عن التأكيد على وحدة الأراضي الجورجية والدعوة المستمرة لعقد مباحثات سلام بين الأطراف المتصارعة لإنهاء النزاع سلميا وبحث مستقبل الوضع السياسي للإقليمين.
خلاصة واستنتاجات
يؤكد الواقع القوقازي أن الموروث التاريخي، والسوفيتي على وجه الخصوص كان ذا طابعا صراعيا، فانهيار الاتحاد السوفيتي قد أنهى المشكلة ما بين الدولة السوفيتية وشعوبها، لتحل محلها مجموعة مشكلات بين عدة قوميات وأقليات في الكيانات السياسية الوليدة، ما بين أذربيجان وأرمينيا حول ناجورنو كاراباخ، وداخل جورجيا في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.
إن ما يزيد في تعقيد المعضلة الاثنوسياسية القوقازية، هو استخدام الأطراف المتنازعة لحقين في القانون الدولي لتبرير سلوكهما ما بين منطق الدولة وحق تقرير المصير، إذ تميل الشرعية الدولية للأخذ بمنطق الدولة حفاظا على النظام الدولي.
رغم مرور أكثر من عشرية على اتفاقيات وقف إطلاق النار، إلا أنه لم ترتب بعد معاهدات السلام الدائمة. إذ باءت بالفشل كل المفاوضات السياسية الرامية لحل الصراعات العرقية سلميا ، لتبقى المعضلة الاثنوسياسية على قمة مفردات الواقع القوقازي السياسي المعاصر التي تؤثر سلبا على المنظومة الأمنية في الإقليم برمته.
إن عدم تطابق مصالح الكيانات القوقازية وتطلعات إغراقها أوجد خريطة سياسية صداميه، كرست الخطوط الإدارية الداخلية السابقة في الاتحاد السوفيتي كحدود سياسية. ولكنها لم تعكس تجانسا بين الجغرافيا الطبيعية السياسية من ناحية، و الوحدة القومية للشعوب من ناحية أخرى.
لقد أدت الصراعات لتداخل وتشابك القوى والمصالح الداخلية المتضاربة مع القوى والمصالح الإقليمية المتنافسة، مما فتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية.
وأخيرا يمكن القول أن منطقة القوقاز شهدت تغيرات متواصلة في الفترة الأخيرة قد تؤدي إلى رسم خارطة جديدة للمنطقة ، خاصة وأن هذه الصراعات ليست محلية محضة، بل إن لها امتداداتها الإقليمية المهمة وبخاصة فيما يتعلق بالجار الأكبر والأقوى و صاحب الهيمنة السابقة روسيا ، فضلا عن الترابط بين مجموعات الشعوب والقوميات هناك ، مما يزيد من تعقد هذه الصراعات وحدتها.