لماذا انتحر اللواء فاسيلي بولخين؟
الثلاثاء, 25 مارس 2014 11:52
(هذه القصة مستوحاة على وقائع حقيقية حدثت لأحد كبار منفذي عمليات الإعدام الجماعي في التاريخ)
موسكو - 1926: عاد العميد فاسيلي بولخين من عمله في وحدته العسكرية القريبة من موسكو إلى منزله الصغير بأطراف المدينة وهو غارق في النشوة والسعادة والغناء، فتح الباب باستخفاف ووضع كابه العسكري على حمالة الملابس ونادى زوجته بصوت مليء بالفرحة والقبول: "آنة. باركي لي، عانقيني، احتضنيني فورا، لقد حصلت على ترقية جديدة"، تخرج زوجته من الممر المؤدي إلى المطبخ وهي تجفف يديها في منشفة نظيفة وتسأله: "ما الأمر حبيبي؟" فيقول بولخين: "وصلني اليوم تلغراف من مكتب الرئيس جوزيف ستالين شخصيا! لقد أصبحت شخصا مهما جدا يا آنة".
لم تعرف زوجته بالضبط ما هي هذه الوظيفة الجديدة بالتحديد، لكنه أخبرها بشكل عام أنها عبارة عن منصب شديد السرية في المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية بالاتحاد السوفييتي، ليتولى مهمة لا يُصعّد إليها إلا عدد محدود جدا من الضباط الأكفاء والمخلصين لروسيا الأم وللحزب الشيوعي الحاكم، والتصعيد إليها لا يتم إلا بناءً على اختيار شخصي من الرئيس ستالين.
بعد فترة قصيرة، تغيرت حياة بولخين تماما، صار ينام طوال النهار في المنزل ولا يذهب إلى أي مكان، ثم يستقيظ في الليل.. يرتدي ملابسه العسكرية في الظلام الدامس، ويضع مسدسه بعد تنظيفه وتعميره في جرابه الجلدي المنقوش عليه رمز المطرقة والسندان بشكل بارز، وأخيرا يضع الكاب على رأسه وينزل، ولا يعود إلا في الساعات الأولى من الصباح شديد الإنهاك، وثملا بشكل واضح..!
اللواء فاسيلي بولخين
تشك زوجة بولخين الذي أصبح يعلق رتبة اللواء بعد فترة قصيرة من عمله الجديد في طبيعة وظيفته، فتقرر أن تتبعه سرًّا في إحدى الليالي، ظنا منها أن زوجها ربما كان يقضي ليلته في بعض البارات أو الملاهي الليلية ولا يذهب إلى أي عمل، لكنها تجده بالفعل يذهب إلى وحدة عسكرية محاطة بسلك شائك مرتفع، بحيث لا يمكنها أن تتبعه، وقبل أن تقرر المغادرة، تشاهد آنة باصًا كبيرا للترحيلات ينقل عددا من المسجونين بثياب الإعدام، وهم ينتقلون إلى الوحدة، مرددين بصوت مرتفع بعض الاستغاثات وآيات الكتاب المقدس المختلطة بأصوات النحيب والبكاء، فتعود آنة إلى المنزل وقد ازدادت هواجسها وحيرتها فيما يحدث.
داخل الوحدة: يتم إيقاف المعتقلين المطلوب تنفيذ أوامر الإعدام فيهم في طوابير طويلة، ويتم إدخالهم واحدًا تلو الآخر إلى حجرة الإعدام رميا بالرصاص حيث يجلس اللواء فاسيلي بولخين مع مساعديه، يطلق بنفسه النار على المعتقل تلو الآخر.. الآلاف قتلوا في ليالي بولخين الدموية الطويلة، ينتهي العمل مع تباشير الصباح، فيطلب بولخين الفودكا لنفسه ولمساعديه، ويخلع المريلة الجلدية التي يرتديها فوق ملابسه، لتقيها الاتساخ برذاذ الدماء المتطاير، والتي تشبه كثيرا ملابس الجزارين، ثم يغسل يديه ويعود إلى المنزل، لينام النهار كله في انتظار حلول مساء جديد تستيقظ فيه غريزة الدراكولا في داخله فيذهب إلى العمل.
في بعض الأحيان كان بولخين يشعر بأن طباعه تغيرت مع زوجته ومع الآخرين، وأنهم بدورهم تغيروا معه دون معرفة الأسباب، أو ربما لا يريدون أن يصارحوه بحقيقة ما يشعرون به، لكن بولخين كان يقول لنفسه بصرامة إنه يؤدي واجبا وطنيا، ويقوم بتنظيف الوطن الروسي من حثالة أعداء الداخل والخارج الأوغاد الذين يتربصون بالبلاد من كل جانب.
ما بين عامي 1934 و1939 ارتص عشرات الآلاف من المعتقلين في طوابير إعدام طويلة أمام اللواء فاسيلي بولخين في إطار سياسة "التطهير العظيم" التي اعتمدها الرئيس جوزيف ستالين واعتمد فيها على جلاده المخلص بولخين لتنفيذها، كان كالعادة يقتل بيده دون توقف ولا كلل ولا ملل، حتى سُجّل عنه أنه كان يقوم بتنفيذ عملية إعدام لشخص واحد على الأقل مرة كل ثلاث دقائق، حياته كلها بالتدريج اختصرت في الرصاص والدم والفودكا، انفصلت عنه زوجته ذات المؤهل الجامعي بعد مدة، وانفض من حوله الأصدقاء والأقرباء، ولم يعد له صديق إلا الدم وقضايا الإعدام الجماعي.
ازدادت أعباء العمل على بولخين مرورا بالحرب العالمية الثانية، ثم المجازر الكبرى التي ارتكبت بحق آلاف الضباط والجنود البولنديين، الذين نفذت فيهم أحكام الإعدام الجماعي ما بين أبريل ومايو 1940، فيما يعرف في كتب التاريخ بمجزرة كاتين.
هكذا ظلت حياة اللواء بولخين لمدة أعوام طويلة في خدمة الستالينية، إعدام جماعي من أجل الوطن.. إعدام جماعي من أجل القضية.. إعدام جماعي من أجل التطهير.. وفي نهاية المطاف، وبحلول عام 1953، توفي الرئيس جوزيف ستالين.. لم يكن لدى بولخين وقت طويل للبكاء على قائده القديم، فعندما استيقظ في المساء وحيدا كان وراءه عمل وعدة زجاجات من الفودكا.. ذهب بولخين إلى الوحدة العسكرية السرية التي يعمل فيها كعادته، لكنه وجد خطابًا من الرئاسة في انتظاره، يخبره بأنه تمت إحالته للتقاعد والاستغناء عن خدماته.
هذه المرة كانت الوحيدة منذ ثلاثين عاما تقريبا التي يعود فيها بولخين إلى منزله دون أن يسكر على كثرة الشرب.. لقد انتبه بولخين فجأة إلى أنه لم يعد لديه شيء يفعله، لا أحد معه.. لا أحد يرحب به.. كما أن تاريخه الدموي بدأ في مطاردته بشكل متصاعد.. وانهارات كل تبريرات حماية الوطن والدفاع عنه بالإعدام الجماعي لمن كان يسميهم بالخونة أمام عيون بولخين.. لقد أراد بصدق أن ينسى.. فغرق في الإدمان الكحولي، ثم انهار عقله تحت وطأة الجنون الحقيقي الذي أصابه.. وفي لحظة من اللحظات بعد أن فقد رشده تماما، سمع بولخين صوتا ما يناديه، لم يعلم بالتحديد إذا ما كان صوته هو أم صوت شخص آخر يقول له: ولماذا تفعل في نفسك هذا كله؟ أليست تكفيك أنت أيضا رصاصة واحدة يا فاسيلي بولخين الكلب؟!!
في الثالث من فبراير سنة 1955.. وجدت جثة بولخين غارقة في الدم في أحد شوارع موسكو، في حادثة سجلت رسميا كواقعة "انتحار".
وفي سنة 2010 سجلت موسوعة جينس للأرقام القياسية اسم اللواء فاسيلي بولخين بوصفه أبشع منفذ عمليات إعدام جماعية رسمية في تاريخ الإنسانية جمعاء.