مثلث برمودا
فرسان الهيكل (فرسان المعبد)، الماسونية (العلمانية: المنظمات اللادينية)
عبدة الشيطان (عقائد القبالاه، CABALA)
كان من نبوءة رسولنا - عليه الصلاة والسلام - أنْ تتداعى علينا الأمم، وتَجلَّت نبوءته بأنْ تداعت علينا - نحن معشرَ المسلمين - حتى المنظمات والحركات الهدَّامة، فما مر زمنٌ إلاَّ وتولَّدت من رحم الحقد، تَتَدافع للنَّيل من الإسلام والمسلمين، وتمالأ علينا حتى مَن كانوا فرقاء بينهم، فعلينا صاروا أشِقَّاء، لكن في العدواة لا غير، ففي زمن الرسول - عليه الصلاة والسلام - تَحالف اليهودُ أهل الكتاب، مع كفار قريش أهل الوثنية، ولا جامعَ بينهم غير عداوة أهلِ الإسلام ودينهم، وتظاهر على سَلَفِنا النصارى ومن قتلوا ربَّهم - بزعمهم - ولا جامعَ بينهم غير العداوة لأهل الإسلام ودينهم.
ولأن الأيام دول، والحرب بين المسلمين والكفار سجال بينهم، شاء ربُّ العزة أن تكون الغلبة للمسلمين بالسنان، فإن وهنوا فباللسان.
وأعداء الأمة كلما خبت الحرب وكلُّوا ووهنوا مِن قتالِ المسلمين في الميدان، تواروا في السراديب يحيكون الحربَ باللسان؛ وينشرون زيفَهم بما كتبت أيديهم، وفي أيام الله عِبَر وقَصص، يَرِد الآخرُ منها يُحاكي الأول، وما ذاك إلا ليُقاس عليهما ويوزنا، فيدري الكيِّس الفَطِن العلل ويعي العبر، فلا يلدغ مرَّتين.
وممن عادى المسلمين في الماضي الصليبيُّون، الذين تدافعوا على أرضِ الإسلام، وغزوها، ولحال اللِّقاء ولطول البقاء توالدت أفكارٌ وعقائدُ أثَّرت في الطرفين، من بينها إنشاء المنظمات السِّرية لقيادة حرب العصابات، وقيادة الأفكار الهدَّامة لتفتيت عزيمة المسلمين حالَ قُوتِهم العسكرية والحضارية، ولئلا يزعُم قارئ أنَّا نحكي التاريخ؛ لنبكي على اللبن المسكوب، وننتشي بمجدٍ كان وزال، ففي هذه الدراسة نحكي ما كان في عهدٍ وهنت فيه العزائمُ لدى المسلمين، فدخل عليهم النصارى من بين أيديهم ومن خلفهم، وكانت طوائف الشيعة الباطنية المجوسية من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لا تدعُ للمسلمين قائمة إلاَّ هوت عليها ترديها أرضًا، ومناط الحديث أنَّ هذا ليس ماضيًا ولَّى وفات، يُحكى ويُطوى، بل الفِرَق السرية التي نشأت على هيئة مُنظَّمات طبية عسكرية عاشت إلى يومنا ومعها عقائدها التي نشأت عليها، غَيْرَ أنَّ أسماءها تغيَّرت؛ لئلا يقول قائل: هذه هي؟!
من بين تلك المنظمات: "
فرسان الهيكل" التي تستمرُّ إلى يومنا تحت اسم "
الماسونية"، ولأنَّ الكثير ممن قرأتُ لهم وجدت عندهم تداخُلاً بين المنظمات، ولصقَ بعضها بالآخر، دون أن يُحددوا الفاصل بينها، بل بكلامٍ أدبي أكثرَ منه علميًّا، كأنَّهم حوَّلوا الماسونية على أنَّها الغول الخفي، الذي يتسبَّب في كل المصائب للعالم عامَّة وللمسلمين خاصة، فتجد هذا الكاتبَ كلما ذكر منظمة هدامة، قال: وهي من أعمال الماسونية، دون مُجرد إيضاح الرابط أو العلاقة... وما أرى ذلك - مع حسن الظنِّ بالكاتب - إلاَّ من مُركَّب النقص، ورمي بلائنا على الآخرين، وبدل أن نُبدي العويلَ كالنساء، علينا أنْ نُحاربهم كالرِّجال، كل بما أوتي من علم أو فكر أو سُلطة، وبدل أنْ نتَّهم وَهَنَ المسلمين بأنه من جراء أولئك، فليعلمْ الكلُّ هذه القاعدة السلفية: "ا
لمسلمون لا يغلبون من عدوٍّ لقوته؛ بل لضعفهم"، فلنا ديننا المتين، ولنا شبابنا، ولنا عُلماؤنا، وبالتصفية والتربية يكون نصرُنا عليهم، لا بالعويل، وبأن نرميَهم بكل ساقطة؛ فلا يَجرمنَّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا، والتهويل من العدو مُراده إضعاف الهمم، وقهر العزائم.
لكنَّ الدراسة المتعمقة للعدو، وفهم تصوُّراته وغاياته، مع العقيدة الراسخة والعلم الأصيل والحكمة السلفيَّة، يكون نتيجتها أن يفرح هنالك المسلمون بنصر الله، وتدك حصونهم، ونجليهم من قلاعهم.
لتلك وذاك رُمت البحثَ في بعض الحركات الهدَّامة، التي أقامت الدُّنيا ولم تقعدها، وصارت الغولَ الأسطوري الذي يهول به تخلُّف الأمة، والشمعدان الذي تنصبُّ فيه معاصي أهل الإسلام، فكيف بهم لو دَرَوْا أنَّ هذه المنظمة الهدَّامة قد أخذت تعاليمَها من أراضي المسلمين؟! فالشرُّ قابع بين ظَهْرانَيْنَا، وما يأتي من الخارج لا ينشأ من العَدَم، بل يحفز ما كان قبل أن ينعدم.
نشأة الجمعيات السرية النصرانية: من المتعارف تاريخيًّا لدى الباحثين أنَّ التجمُّعات السرية لا تتكوَّن إلاَّ حيث تتصادمُ مُعتقداتها ونشاطاتُها مع المجتمعات القائمة بها، فيكون التستُّر دليلاً على خطر العَلَن، وخطر الجَهْر بما يُسَرُّ في خبايا الأتباع، وغالب هذه التجمُّعات كان لها نشاطٌ معادٍ للنظام القائم، أو كان معتقدها يُناهض ما عليه الملأ الحاكم.
والمسلمون عَانَوا الأَمَرَّين من المنظمات السرِّية، خاصَّة الفارسية الشيعية، فبعد أن أجهدتهم المقاومة، وبسط المسلمون دينَهم قبل دولتهم على إمبراطوريَّة المجوس، غدا السُّلطان للإسلام لا شريكَ له من الأديان، فحاك أولو الدَّهاء من المجوس نظامَ الطعن في الظَّهر من أولي القُربى؛ ليقينِهم ألاَّ طاقة لهم، لا بجند المسلمين، ولا جند الإسلام - علمائهم - فكان لهم ظاهر به الرَّحمة، وباطن مِن قِبَله الكُره والحقد، فشكَّلوا أوائل عمليَّات الاختراق للفِرَق، ثم الترقي في مراتبها بين الأتباع، ثم الانفراد بالإدارة للمُريدين، بعدها بَث عقائدهم المجوسية، لكن بلباس إسلامي، ونَحت مُصطلحات عربية إسلامية، مع تشبيعها بالدَّلالات والمفاهيم المجوسية، فصاروا أمرًا واقعًا وشرًّا مفروضًا، وزعموا أنَّهم من الفرق الإسلامية، وما لبثوا أنْ كان لهم السُّلطان، فزعموا أنَّهم هم الإسلام، ولا أحد غيرهم، هذه المنظمات السِّرية صارت لها منظومة سِرِّية، ذات خبرة وحنكة وتَجربة بالغة النَّجاح؛ مِمَّا جعلها مدرسة لغيرها، خاصَّة أنَّ أقطابها حاكوا المؤامرة على نطاق عالمي؛ لامتداد سلطان المسلمين بين أمم كثيرة.
أمَّا أوروبا فقد عانت من المنظمات السرية اليهودية، إلاَّ أن عبقرية التنظيم، وتشكيل فرق الأتباع، وصياغة المنظومة الفكرية السرية - لم تكُن بحنكة؛ لذا كان مصيرُ تلك المنظمات أن تَجِزَّ عنوقَ تابعيها على أيدي المخابرات الملكيَّة، ومَحاكم التفتيش الكَنَسية، فنُفوذُ الكنيسة الروحي والسياسي قَلَّل منها في أوروبا إلى أنْ بدأت الحروب الصليبية، وتعرَّف الصليبيون على أنظمةِ إنشاء الجمعيات السرِّية على مَثَلٍ شامل عام لم يعرفوه إلاَّ في المشرق على وجه التحديد، فكانت الحروبُ الصليبيَّة طريقًا لوقوف الدُّعاة، وأصحاب النَّظريات "
الثورية"، و"
أحرار المفكرين" من الأوروبيِّين - على أسرار الجمعيات السرية ونُظُمها، والحركات الهدَّامة ونظمها وأساليبها، من شيوخ وأقطاب الملاحدة والباطنية الشيعة[1]، فأخذ الصليبيُّون نظم الجمعيات السرية الدينية والسياسية، من الباطنية الإسماعيلية والقرامطة والحشاشين، وتعاليم دار الحكمة وإخوان الصَّفا، فتكاثرت الجمعيات السرية في أوروبا متخذة من منظمات المشرق مدرسة، بالأخص جمعيات الاغتيال المنظَّم مثل الكربوناري، والنهليست، والإخاء الجهموري الإيرلندي... وغيرها.
وأوائل الجمعيات السرية التي ظهرت على إثر الاحتكاك بين الشرق الإسلامي والغرب النَّصراني، بين أُمَّة لا تَملك واسطة بينها وبين ربِّها، وأُمَّة عليها أن تطرق باب البابا كلما رامت مناجاةَ ربِّها، هي جمعية فُرسان المعبد (
Templars)، أو فرسان المسيح، أو معبد سليمان، أو فرسان الهيكل، وتعرف عند العرب بالداوية، أنشئت في سنة 1119م عَقِبَ انتهاء الحرب الصليبيَّة الأولى، واستيلاء الصليبيِّين على أنطاكية وبيت المقدس، وتعيِين جودفري دي بويون ملكًا على بيت المقدِس بتسعة عشر سنة.
في حينها قامَ عصبة من تسعة سادة فَرنسيِّين برئاسة هوك دي بايان
Hugh de Payans، وجودفرو دي سنتومار، وقطعوا العهد على أنفسهم بأنْ يتركوا الفروسية الدُنيوية، ويقوموا بحراسة الطُّرق، وحماية طريق الحجاج إلى القبر المقدَّس، وكان ملك بيت المقدس حينذاك بلدوين الثاني، فقدَّم للجمعية جناحًا من قصرِه الواقع بالقُرب من منطقة معبد سُليمان؛ لتقيم فيه، ولهذا سُمِّيت بفرسان المعبد، وفي سنة 1128م صادَق مجلس المقدس على إنشاء الجمعيَّة، وكذلك صادق عليه البابا، وأصدرت لفُرسان المعبد وثيقة أقسموا فيها بالتزام الفاقَة والعِفَّة والطاعة شعارًا للجمعية.
كان فُرسان المعبد من جمعية "
الأُخُوة الرهبانية للقديس تامبلر" الفَرَنسية، رايتهم بيضاء، عليها صليبٌ أحمر، أمَّا الواحد من فرسان المعبد، فكان يَلْبَس مِئزَرًا أبيضَ، على "
حرملته" صليب أحمر.
صارت الجمعيةُ فيما بعد تقبَل في صفوفها بالأخص الفُرسان الخوارج والمُذنبين بعد تَوبتهم، فأصبحت الأراضي المقدَّسة أراضي لطلب الغُفران والتوبة من المعاصي، وهذا هو شعار الحروب الصليبية، وشعار الإصلاحيِّين بعد تجييشهم للمجتمع النَّصراني؛ مما حدا بالكثير من فرسان أوروبا بأنْ يُولُّوا وُجوهَهم قبل فلسطين، والرَّاعي المستقبِل هنالك كان "
جَمعيةَ فُرسان المعبد"، ومن أهمِّ امتيازاتِهم الدينية أنَّ أعضاءَها لم يكونوا قابلين للنَّفي من الكنيسة، وأسبغ البابوات حمايتَهم على الجمعية، وسمح لها بأن تكون لها كنائسها الخاصَّة.
ولم يَمضِ على قيامها سوى القليل، حتى ذاعتْ مبادئُها، وانتشرت في سائر أنحاء أوروبا، حتى قيل: "إنَّ الفضلَ في بقاءِ مدينة القُدس في يد الصليبيِّين، واستمرار الحيويَّة في الجيوش الصليبيَّة يَعود في الأساس إلى فرسان الإسبتارية بجانب فُرسان المعبد"[2]، فقد كان في المملكة النَّصرانية الصليبية الناشئة الكثيرُ من أسباب الضَّعف، ولكنَّها كانت تتلقى معونةً فذَّة من نظامٍ من الرهبان الحربيِّين
[3].
ووضع لهم القديس برنار نظامًا صارمًا، لم يطيعوه زمنًا طويلاً، وكان مما أثنى عليهم به أنَّهم "
أكثرُ الناس علمًا بفنِّ الحرب"، وأمرهم "
ألاَّ يغتسلوا إلا نادرًا"، وأن يقصوا شَعْر رُؤوسهم، وكتب برنار إلى فرسان المعبد يقول: "إنَّ على المسيحيِّ الذي يَقتُل غيرَ المؤمن في الحرب المقدَّسة أنْ يَثِقَ بما سينال من ثواب، وعليه أن يكون أشدَّ وثوقًا من هذا الثواب إذا قتل هو نفسه، وإن المسيحيَّ ليَبتهج بموت الكافر؛ لأنَّ المسيحَ يبتهج بهذا الموت"، ومن الواجب على الناس أن يقاتلوا وهم مرتاحو الضمير، إذا كانوا يُريدون النصر في الحروب.
ومع أن فرسانَ المعبد لم يكونوا يَزيدون على ثلاثِمائة، فقد كان لهم جميعًا شأن ظاهر في معارك الحروب الصليبيَّة، وذاعت شهرتُهم الحربية، وقاموا بحملة واسعة لجمع المال، فتوالت عليهم الإعانات من الكنيسة والدَّولة، ومن الأغنياء والفُقراء على السواء، فلم يَحل القرن الثالث عشر حتى ملكوا في أوروبا ضياعًا واسعة تشمل أديرة، وقرى، وبلدانًا أدهشت المسيحيِّين والمسلمين بما أنشؤوا من الحصون الواسعة في بلاد الشام؛ حيث كانوا يستمتعون بالتَّرف مُجتمعين وسط متاعب الحروب وكدحِها، مع أنَّهم قد نذروا أنفسَهم فرادى للفَقر[4].
ورئيس الهيئة في البداية يُسمى (
سيد المعبد) أيَّامَ أنْ كان مَركزها في بيت المقدس، فلما سَقطتْ المملكة اللاتينية في أيدي المسلمين، ولجأت الجمعية إلى جزيرة قبرص سُمِّي (
بالأستاذ الأعظم).
كانت الهيئةُ منذ بدايتها تنقسِم إلى مَراتب أربع هي: 1- الفرسان.
2- القساوسة.
3- الجاويشية والتابعون.
4- الخدم وأهل التَّرف.
قام فرسان المعبد بادئَ الأمر بطائفةٍ من الأعمال القيِّمة، وامتازوا بالإخلاص والبَسَالة القِتاليَّة في المعارك، ولكن ميثاقهم ألاَّ يقبلوا من المال غير الصَّدقات أدَّى إلى أن تَماطَرت عليهم الهبات الضَّخْمة من كلِّ حَدَبٍ وصوب، فكثُرت أموالهم، ونبذوا قسم الفاقة، وصارت لهم أساطيلُهم وأسلحتُهم وجيشهم ومخابراتُهم، بل أصبحوا كنيسة داخل الكنيسة، ودولة داخل الدَّولة، حتى إنَّهم وصلوا إلى حد أنْ كانوا يَعقدون التحالُفات والمعاهدات والهُدنة، ويُعلنون الحرب، دون الرُّجوع إلى الملك الصليبي للقُدس، بل ربَّما تحالفوا مع أمراء مُسلمين ضد نصارى مقابل المال، فأصبحوا على نظامِ الحشَّاشين[5] مُنظَّمة عسكرية مرتزقة، تقاتل لصالح مَن يَدْفَع لها[6].
ثم انتشروا في الأقطار الأوروبية، وغَدَوا قبل نِهَاية القرن الثاني عشر جمعيةً عظيمةَ الثراء، شديدةَ البأس، اقتطعت أملاكًا عظيمة في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا، وغدت المعارك الصليبية للفُرسان مصدرًا للجاه والثَّراء، وناهض زعماؤهم الملوكَ في الفخامة والسُّلطان والبذخ، حتَّى حار في ثرائهم العربُ والعَجَم، المسلمون والنَّصارى، واستمر سُلطانُهم ينمو، ويَتَوطَّد ما بقيتِ الفكرةُ الصليبيَّة قائمةً؛ لإنقاذ الأراضي المقدَّسة، واقترن تاريخ الجمعية بسير الحرب الصليبية التي كانت مبعثَ قيامها.
ولكنَّ الفرسان ما لبثوا حين شعروا بقوتِهم أن تحولوا من حماية ذويهم في الدِّين إلى سلبهم، ومن مُحالفة الصليبيِّين إلى نبذِهم، بل خيانتهم ومقاتلتِهم في مواقف، من ذاك ما ينسب إليهم من أنَّهم كانوا على تفاهُم مع حامية دمشق الإسلامية، حينما أخفق الإمبراطور كونراد الثالث في الاستيلاء على المدينة سنة 1148م، وأنَّهم في سنة 1145م باعوا إلى المسلمين أميرًا مسلمًا ارتَدَّ وتنصَّر بمبلغ ستين ألف دينار.
وفي سنة 1166م سلموا بطريق الخيانة حِصنًا إلى الملك نور الدين، فشَنَقَ آموري ملك بيت المقدس منهم اثني عشر، كذلك يُنسب إليهم أنَّهم كانوا على اتِّصال بالإسماعيليَّة في الشام، وشركاء لهم في تدبير عِدَّة من جرائم اغتيال، ذهب ضحيتها عددٌ من أمراء الإفرنج وكبار فرسانه، ولما سقط بيت المقدس في يد المسلمين، لجأ الفُرسان إلى قلعة منيعة بَنَوها بالقُرب من عَكَّا، وفي سنة 1218م اشتركوا مع الحملة الصليبية الخامسة في حصار دمياط، ثم اشتركوا بعد ذلك في مَوقعة المنصورة إلى جانب لويس التاسع، وقُتِلوا جميعًا ما عدا ثلاثة منهم, وهم الذين دفعوا الجزيةَ لتحرير لويس التاسع من الأَسْر.
انهيار تشكيل فرسان المعبد: بعد فتح القدس عفا السُّلطان صلاح الدين عن أهلها، عدا الفرسان الحربيِّين، وخاصة فرسان المعبد، فأمر بذبْحِهم كالخراف، ومن نجا فَرَّ لقلعة بعكا، لكنَّ المسلمين أجلوا جميعَ النصارى من أراضيهم فيما بعد، فصار الفُرسان بلا دولة؛ لذا رجعوا لمواطنهم الأصلية، وكان غالبيتُهم من فرنسا، وهناك أعاد فرسان المعبد تنظيمَ صفوفهم بعد أن أخرجوا من كل آسيا، وإذ كانت لهم أملاك واسعة غنيَّة في جميع أنحاء أوروبا، فقد أخذوا يستمتعون بما تدرُّه عليهم هذه الأملاك، وإذ كانت أملاكهم مُعفاة من الضَّرائب، فقد كان في وُسعهم أن يقرضوا المال بفوائد أقل من التي يتقاضاها اللمبارد واليهود، وجمعوا بهذا ثروة طائلة، مع أنَّ الربا كانت تحرِّمه آنذاك الكنيسة الكاثوليكية، وتعدُّه من الكبائر، حتى احتكر اليهود العمليات الرِّبَوية، إلا أن الفرسان قضوا على هذا الاحتكار مع غيرهم من النصارى، فكان العامة يلقبونهم باليهود المسيحيِّين؛ لأنَّ الرِّبا لصيقٌ باليهود.
ومارسوا أعمالَ الصيرفة الدولية، من إقراضٍ للدُّول وتمويل للمعارك، والتجارة الدولية، وإدارة المزارع الإقطاعية الضَّخمة، فتحولوا إلى قوة اقتصادية هائلة، ونافسوا الملوك في التَّرف، وشكَّلوا مُجتمعهم المخملي، وبنوا منظومتهم الفكرية والاقتصادية والدينية، ونظموا نشاطاتهم الاجتماعية والثقافية.
"ولم يكونوا كفرسان الإسبتارية ينشئون المستشفيات والمدارس، أو يقدمون المعونة للفُقراء، فأثارت أموالُهم الطائلة المكنوزة، ودولتهم المسلحة في داخل الدَّولة، وعدم خضوعهم لسُلطان الملوك، أثارت هذه كلها حَسَدَ فيليب الرابع الجميل لهم، وخوفَه منهم وغضبه عليهم"[7].
وغدا الفرسان في أوروبا قوة سياسية يُحسَب حسابها، وغَدَوا للملوك أصدقاء ونُصحاء، وأملاكهم العظيمة في سائر بُلدان أوروبا من العقار والمال تَمدهم بسلطان عظيم، فبوسعهم أن يُموِّلوا دولةً بأكملها، بل أنْ يشتروها بمن عليها.
وفي أواخر القرن الثالث عشر ساءت سُمعتهم، ودارت حولهم الشائعات، وغدوا موضعًا للرِّيبة في نَظَرِ العامَّة، فضلاً عن رجال الدين، وحامت الشكوك على تنظيمهم والسرِّية المنوطة به، ونسبت إليهم فضائحُ وفظائع كثيرة، كالإدمان على الخمر، وهتك الأعراض، ومُقارفة الكبائر، وحامت شُبَه كثيرة حولَ مَبادئهم الدِّينية ومُعتقداتِهم السرية، حتى إنَّ البابا (
كلمنضس) الخامس في سنة 1305م أمر أستاذَهم الأعظم - وهو يومئذ جاك دي مولاي - أنْ يُغادر قبرص؛ حيث كان يُعنى بتنظيم القوات الصليبية، فغادرها إلى فرنسا مع 60 فارسًا، وأموال كبيرة من الفضة والحلي جمعها الفرسان.
ثم أخذ البابا في تَحقيق ما اتُّهموا به من الارتداد عن النَّصرانية، واعتناق مبادئ وثنية، والإغراق في صنوف الكفر والكبائر.
ووقتئذ كان فيليب الجميل ملك فرنسا على وفاقٍ مع الفُرسان بادئ الأمر، ولكنَّ نفوذَ الفرسان كان قد عَظُم، واشتَدَّ بأسهم، وكثر ثراؤهم، والملك فيليب يرمي إلى استئثاره بسائر السُّلطات والنفوذ، ويرمق ثراء الفُرسان بعين الجشع، وتُحدثه نفسه بالاستيلاء على أملاكهم، من ثَمَّ لم يلبث أنِ انقلبَ عليهم وحاكمهم، فقبضَ في الثاني عشر من شهر أكتوبر عام 1310 على جميعِ مَن كان في فرنسا من فرسان المعبد، دون سابق إنذار لهم، ووضع الخاتم الملكي على جميعِ مُمتلكاتهم، وصادر أملاكَهم من أراضٍ وأموال، ثم زاد بعد ذلك سخطُه عليهم، وارتياعه لما أذيع عن مبادئهم ومَقاصدهم السرِّية والتهم الشنيعة، فسبق البابا إلى مطاردتهم ومُحاكمتهم، وقبض على جميع فرسان المعبد الفرنسيين في أكتوبر سنة 1307م[8]، ووجه إليهم المحقِّق العام التهمَ الآتية:
1- أنَّ رسوم الالتحاق بجمعيتهم تقترن بإهانة الصَّليب بالبصق عليه، وإنكار ألوهية المسيح، وأعمال فجور شنيعة.
2- أنَّهم يعبدون صنمًا، يقال: إنَّه صورة الإله الحقيقي.
3- أنَّهم يغفلون ألفاظ التقديس حين لقاء القُدَّاس.
4- أنَّ زعماءَهم يزاولون حقَّ منع الغفران، مع أنَّهم ليسوا من رجال الدين.
5- أنَّهم يبيحون ارتكابَ الفجور الشائن.
كانت اجتماعاتهم الليلية مبعثَ الشكوك وتَوالي التُّهم، فتُروى عن الرُّسوم التي يُجريها الفُرسان خلالَها قصصٌ عجيبة، فجلسات قَبُول الأعضاء الليلية تُجرى فجرًا في تكتم تام، ويُمنع تسريبُ ما فيها، وهذا مَبعث للرِّيبة والشائعات، فقيل: إنَّهم يُخضعون الحضور لأعمال منافية للحياء، ويُبيحون ارتكابَ أعمالٍ فظيعة فاحشة ضِدَّ النساء.
والشيطان يَمثُل عندهم في صورة امرأة، فيُحضِرون النساءَ، ويرتكبُ الفرسان معهن الفجور، إلى غير ذلك من الرِّوايات الشائنة.
اعترف بهذه التُّهم الكثيرُ من الفرسان، ومنهم الأستاذ الأعظم جاك دي مولاي نفسه، وقرَّر بعضُهم أنَّهم عند التحاقهم بالجمعية يقدَّم إليهم صليبٌ نصب عليه تِمثال المسيح، ويُسألون: هل يعتقدون في ألوهيته، فإذا أجابوا: نعم، قيل لهم: إنَّهم على ضلال؛ لأن المسيح ليس إلهًا، بل هو نبي زائف.
وقرَّر آخرون أنَّه قُدِّم إليهم صنمٌ أو رأسٌ مُلتحية ليعبدوه، وآخرون كانوا يُؤمرون بالبَصق على الصليب، وكثيرون منهم أُمِروا بارتكاب صنوف شائنة من الفُجور، وأنذروا بالسجن والعذاب إذا رفضوا امتثال الأوامر.
فقَرَّر البابا (
كليمنضس) الخامس - رغم احتجاجه على تصرُّف فيليب الجميل - أنَّه تحقيقٌ مستقلٌّ، بِذَريعة أنَّ تَحقيقات المحقِّق العام الفرنسي كانت تحت التَّعذيب، فاستمع المحقِّق لعددٍ كبير من الفرسان بحضور البابا نفسِه، واستجوب الأستاذ الأعظم جاك دي مولاي، ودعا جمعية فرسان المعبد أمام لجنة من الكرادلة، فأقروا بما نُسِب إليهم من إنكار المسيح وإهانة الصليب.
وأقروا بما أعلنه المحقق الفرنسي العام من ارتكابهم لطائفة من الرَّذائل الممقوتة، ومع ذلك لم يقتنع البابا بإجرام الفُرسان بصفة عامَّة، وقرر أنْ يعيِّن لجنة بابوية للتحقيق في باريس، استأنفت التحقيقَ في نوفمبر سنه 1309م، واستُدْعِيَ الأستاذُ الأعظم ونحو مائتي فارس، وسار التحقيقُ ببطءٍ على يد جماعة من كبار الأحبار والأساقفة، فعدل بعضُ الفرسان ومنهم الأستاذ الأعظم عن اعترافاتِهم، وأقر بعضُ الفرسان صحةَ التُّهم الشنيعة التي نسبت إليهم، وكانت هنالك تحقيقات أخرى مع الفرسان في مدن إيطالية أخرى، انتهت بأنْ أصدرَ البابا (
كليمنضس) الخامس قرارًا أشار فيه إلى (
جرائم الكفر الشنيع)، التي يرتكبها الفرسان، وأمر بالقَبْضِ عليهم أينما كانوا.
استمرت مُحاكمات الفُرسان بضعة أعوام، هلك خلالها الكثير أثناء التعذيب، خاصَّة في مَملكة فرنسا، فقد "حوكم السُّجناء أمامَ مَحكمة من المطارنة والرُّهبان الموالين للملك، فأنكروا التُّهم الموجهة إليهم، وعُذِّبوا لكي يَعترفوا، فمنهم من علقوا من معاصِمِهم، وكانوا يرفعون وينزلون فَجأةً، ومنهم من وُضِعَت أقدامهم عارية أمام النِّيران، ومنهم من دُقّت شظايا حادَّة بين أظافر أيديهم، ومنهم من كانت تقتلع لهم سِنٌّ كل يوم، ومنهم من علقت أوزانٌ ثقيلة في أعضائهم التناسلية، ومنهم من ماتوا موتًا بطيئًا من الجوع، وكانت جميعُ وسائل التعذيب السَّالفة الذكر تستخدم مع أولئك الفُرسان في كثير من الحالات، فكانت النَّتيجة أنَّ الكثيرين منهم حين جيء بهم؛ ليعادَ استجوابهم كانوا ضعافًا موشكين على الموت، وأظهر واحدٌ منهم العظام التي سقطت من قدميه المحروقَتَين، واعترف الكثيرون منهم بجميع التُّهم التي وجَّهها لهم الملك..."[9]، وأُحْرِقَ الأستاذُ الأعظم جاك دي مولاي عَلَنًا على ضفة نَهر السين في مارس سنة 1314م.
وفي وقتها قبض إدوارد الثاني ملك إنجلترا على جميعِ الفرسان في إنجلترا، وحَقَّق معهم بعد ضغط من ملك فرنسا فيليب، فاعترف بعضهم بما تقدَّم من التُّهم، وشهد عليهم آخرون بصحة التهم.
ولما فضح فرسان المعبد على هذا النَّحو، سخطت عليهم كلُّ الهيئات الدينية في جميع الدول، والعامَّة والخاصَّة، من فلاسفة ومفكرين ومشاهير وأمراء ونبلاء أوروبا.
إلاَّ أن هنالك بعض المؤرخين ممن نفى عن الفُرسان هذه التهم، ونسبوا إلى فيليب الجميل الطمعَ في أموالهم وأملاكهم الشاسعة في مملكته، كمُعاصرهم الشاعر الكبير دانتي الجييري، وفي العصر الحديث المؤرخ الإيطالي فيالاني، ومن مؤرخي فرنسا مينيه وجيزو ورينان.
حقيقة تنظيم فرسان المعبد: مهما تكن الحقيقةُ، فالمؤكد أنَّ الفرسان وصلوا في ذلك العهد إلى حدٍّ مزعج من الجاه والسُّلطان والغِنَى، وبلغ من خروجهم على السُّلطة الملكية أنَّهم كانوا يأبون دَفْع الضرائب، وفيليب الجميل كملك خَشِيَ تفاقُم خطرِهم على سُلطته الملكية، كما أنَّ دعوة الفرسان غدت في كثير من الأحوال خطرًا على النظم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية أيضًا.
فهم تغلغلوا في جميعِ النَّواحي والشؤون، ونظموا لهم فروعًا قوية في جميع البُلدان، وأحرزوا الأملاك الضَّخمة، وباشروا كثيرًا من الإجراءات المالية التي تقوم بها البنوك العالمية اليوم، كإصدار السندات وتَحويل الأموال الضَّخمة، ودفع الأرباح عن الودائع، وإدارة الحسابات الخاصَّة، وتقديم القروض لدول بعينها، وكانوا فوق ذاك عضدًا قويًّا للسادة والأحبار، يفرضون لهم الضَّرائب على اقتطاعاتِهم، ويقومون بتحصيلها، "وقد كُسر احتكار أعضاء الجماعات اليهودية للرِّبا مع ظهور جماعات من المُرابين المسيحيين مثل جماعات فرسان المعبد الألمانية، واللومبارد في إيطاليا، والكوهارسين في فرنسا، ويبدو أن الكنيسة الكاثوليكية ذاتَها كانت مُتورطة في عمليات الإقراض بالرِّبا، وكانت تلتف حول التحريم الذي أصدرته..."[10].
وتضارُب شهادة أعضاء المنظمة والشُّهود من خارجها يَدُل على اختلاف مَراتِبهم، واختلاف المعلومات المقدمة للأتباع، فمن أنكرَ حَكَمَ بما رأى، ومن أثبتَ أثبَتَ ما أمر به.
كما أنَّ سرية مُعتقداتهم كشفها الزَّمن، فبعض ما سُرب عن الماسونية - وهي من صناعتهم - مُطابق بالتمام لما اتُّهموا به، فشعائرهم من البَصق على الصليب و إهانته، و إهانة أُمِه (مريم ابنة عمران)، والزنا واللِّواط، قد جاهر بها أتباعُهم في القرن العشرين، وبالمواصفات التي ذكرتها مُذكرة الاتهام الفرنسية، من قولهم: إنَّ الشيطان يأتي في صورة امرأة، وكفرهم بالمسيح ربًّا ونبيًّا، واستهزائهم بالإنجيل، بل الأديان كلها... ومن المعلوم بالتحقيقات التاريخية أنَّ عَبَدة الشيطان فكرهم يُقارب فكر الماسونيِّين في نظرية الخلق والأُلوهية والموقف من الأديان والأخلاق... والماسونية في طَوْرِها الثاني هي إصدارٌ أخير لمنظمة فرسان الهيكل، فالتُّهمة ثابتة عليهم الآن ولا تزول بالتقادم.
غَيْرَ أنَّ السرية المُحكمة، وتوزيع المراتب بين الأعضاء آنَذاك أوجبَ تعدُّد المهام، ومِنْ ثَمَّ اختلاف المعلومات والأوامر بين الطَّبقات العُليا والدُّنيا، فينتج التضارُب بين الشهادات، والأيام كانت كفيلةً بفَضْحِ المستور؛ إذ المنظمات السرية سرية في المجتمعات التي تعاندُها أو تضطهدها، لكنَّها لن تكون سرية في مُحيطها، ولازم الأمر لن تكون سرية في مجتمع يتقبَّل أفكارَها، وهذا ما حصل بعد انتشار أفكارِها في قوالب براقة.
فالتعاليم السرية تغلف بما يَجعلها جذَّابة المظهر، مَجهولة الأصل، فإنْ شاعَت عسر اجتثاثها، بل ستقلب منطقَ العقل الأول إلى: أخرجوا آلَ الرجعية من مُجتمعاتكم، التهمة: إنَّهم قوم يتطهرون.
يقول المستشرق لوازلير في كتابه "تعاليم
[11] عن تعاليم الفرسان": "إذا نَحن رجعنا إلى تعاليم جمعية المعبد، كما وصلت إلينا، لم نَجد أبدًا ما يُؤيد التُّهمَ الغريبة الشنيعة التي أذيعت في التَّحقيق، ولكن ألَم يكن للجمعيَّة خلافَ التعاليم العامَّة تعاليمُ أخرى؟ سواء مكتوبة أم شفوية، تُخوِّل أو تفرض ارتكابَ هذه الأفعال؛ أعني: تعاليمَ سرية لا تكشف إلاَّ للخاصة الأعضاءِ...".
وموضوعُ تعاليمِ الفرسان السرية موضوعُ خلافٍ كبير، فيَرى البعضُ أنَّها اشتقت من نظريَّات (
الملحدين المسلمين)، وأنَّ فارسًا يُدعى جيوم دي مونبار تلقَّى مذهبَ الإسماعيلية على يد شيخ الجبل في مغارة في لبنان، حينما كان مركزُ الفرسان في فلسطين.
يقول المؤرِّخ وول ديورانت: "... أيَّد الفاطميُّون
[12] سُلطانَهم بِجَمع طائفة الإسماعيلية في جماعة كبرى ذات مراسم وطقوس ودرجات مُتفاوتة، واستخدموا أعضاءَها في التجسُّس والدَّسائس السياسية، وانتقلت طقوسُ هذه الجماعة إلى بيت المقدس وأوروبا، وكان لها أكبر الأثر في أنظمةِ فرسان المعبد، والشيعة المستنيرة
Illuminate[13] ، وغيرها من الجماعات السِّرية التي قامت في العالم الغربي، كما كان لها أكبر الأثر أيضًا في طقوسها وملابسها...".
وأشار المستشرق فون هامار إلى الشبه القائم بين تعاليم الإسماعيلية والفرسان، كما أوضحه كلافل - مؤرخ البناء الحر "
الماسونية" - في قوله: ".. دَرَيْنا - نحن المؤرخين الشرقيين - في عصور مُختلفة أنَّ جمعيةَ فرسان المعبد كانت ذات علاقة وثيقة بالإسماعيلية، إنَّهما اختارتا اللَّونين الأحمرَ والأبيضَ نَفْسَيهما شِعارًا لهما، واتبعتا النظامَ نفسَه، والمراتب نفسَها، فكانت مراتبُ الفدائيِّين والرِّفاق والدُّعاة تقابلُ المراتبَ نَفْسَها في الناحية الأخرى، وهي: "
المبتدئ، والمنتهي، والفارس"[14]... وكلتاهما تآمرت لهدم الدِّين الذي تظاهرت باعتناقِه أمامَ العامَّة... وأخيرًا كلتاهما كانت تَملك الحصونَ العديدة، الإسماعيلية في آسيا، والفرسان في أوروبا...".
والدكتور الخطيب يربط بين أساليب الدعوة والحِيَل للحشاشين، وبين أساليب ومراحل التدرُّج عند الماسونية في عصرنا الحاضر، فيقولُ: والمُطَّلِع على أساليبِ الماسونية في العصر الحاضِر، وطرق الدُّخول فيها، والتكريس الذي تُمارسه للدُّخول في مَحافلها - يستطيع أنْ يقارن بين أساليب الباطنية عمومًا وبالأخص الإسماعيلية، وأساليب التكريس الماسوني؛ بحيثُ لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إنَّ هناك خيطًا رفيعًا يجمع بين الباطنية والماسونية[15].
ولطُرقِهم السرية حِيَل في الدَّعوة تقترب من حِيَلِ الباطنية الشيعة، "... وفي الاطِّلاع على هذه الحيل فوائدُ جَمَّة لجماهير الأمة... وهاك تفصيلَ حيلهم[16]:
1 - التفرس: يُميز الدَّاعي مَن يُمكن استدراجُه، وله القُدرة على الإقناع بأنَّ للنصوص ظاهرًا وباطنًا، وأن يأتي كل واحد بما يُوافق مزاجَه وعقله.
2 - التأنيس: يَجتهد الدَّاعي في التقرُّب من المدعو، والتنسُّك والتعبُّد أمامه، والتبشير بقُرب الفَرَج.
3 - التشكيك: يَجتهد الداعي في تغيير مُعتقد المدعو المستجيب بالأسئلة عن الحكمة من الشرائع، وغوامض المسائل، والمتشابه، وأسرار الأرقام في آي القرآن.
4 - التعليق: بِطَيِّ سِرِّ الشُّكوك المثارة، والإيهام بكِتمان حقيقَتِها عن الغير، فلا بد من عهود توثيق للمُريد؛ كيما يُطالع بها، ثم يُترَك معلَّقًا.
5 - الربط: بالأَيْمان المغلظة، والجهود المؤكدة[17]، (
لدرجة الإرهاب الفكري)، فلا يجسر على المخالفة.
6 - التدليس: بالتدرُّج في بثِّ الأسرار - بعد الرَّبط - فيعرض عليه المذهب شيئًا فشيئًا، ويُوهم أن لهم أتباعًا كثيرين لا يُمكن إطْلاعه عليهم؛ كيما يستأنس، وقد يسمون له بعض المرموقين من أهل العلم أو السُّلطان، لكن في بلاد بعيدة لا يُمكنه مراجعتهم؛ لبُعدهم[18].
7 - التلبيس: بالاتِّفاق على بعضِ القواعد والمسلمات البديهية، ثم يستدرج إلى نتائج باطلة لا يعي بُطلانَها؛ لتسليمه القياد للدَّاعي.
8 - الخلع والسلخ: الخلع من المجتمع بإتباعِه أوامرَ العمل، أما السلخ فمنَ الدين بإتباعه لفلسفةِ المذهب.
وغالب ما ورد هنا مثله فيما ذكر من مخططات الماسونية، وغالب النوادي التابعة لها في الدعوة.
والماسونية ما هي إلاَّ تنظيم للفُرسان بعد أن تواروا عن الأنظار زمنًا، والراجح أن فرسان المعبد ارْتَدُّوا عن النصرانية، فنَفَوا ألوهيةَ المسيح ونبوته معًا، ولعلهم كانوا مانوية أو ثانوية[19]، ويعرف لوازلير بنظرِيَّاتِهم في الألوهية بقوله: "يعترف فرسانُ المعبد في الوقت نفسِه بإله للخير لا يصلُ البشر إليه، وليست له أشكال مادية ظاهرة، وإله للشر يُمثِّلونه بصنم، وهو الإله الأدنى، منظم العالم المادي وسيده، وخالق الخير والشر الذي هو الشرُّ نفسه في الخليقة... ".
اختراق فرسان المعبد لمحفل البنائين الأحرار "الماسونيِّين": في عام 1312م اتَّخذ البابا الخطوة الحاسمة، فأصدرَ مجلسُ فيينا المقدَّس قرارًا بحلِّ جمعية فرسان المعبد، فشُردوا حيثما ثقفوا، ولاقوا في فرنسا أشنع ضروب الاضطهاد والتَّنكيل، وأُحرِقَ منهم أربعة وخمسون أحياء في عام 1310م، ومن نجا اختفى تحت الأرض في الدهاليز.
ونَجح بعضهم في الفرار من فرنسا مُلتجئين إلى سكوتلندا، وملكها روبرت بروس
Robert Bruce" "الذي كان الوحيد في أوروبا النصرانية الخارج عن إمرة الفاتيكان، وهناك لملموا شتاتَهم المتبقي من الأتباع خفية، واستمروا سرًّا في نشاطهم... ثم تسلَّلوا إلى منظمة البنَّائين الأحرار "الماسونية"، وكانت من أقوى المحافل المدنيَّة في بريطانيا آنذاك، وسرعان ما سيطروا عليها تمامًا، ثم تغير هذا المحفل إلى "
محفل الماسونية العالمية".
فلم يختفِ فرسان المعبد، بل استمروا بنشاطهم وعقائدهم تحت سقف "
المحفل الماسوني".
بعدها بنى هؤلاء أول محفل ماسوني في العالم في إنجلترا عام 1717م، ثم شرعوا في نشر عقائدهم المرتبطة بالمصادر الصُّوفية الحلولية الباطنية اليهودية السحرية الوثنية "القابالاه"، وشركاؤهم في الإثم الكنيسة البروتستانتية.
ويعترف ماسونيُّو تركيا بالعلاقة بين فرسان المعبد والماسونية، ففي مقالة ظهرت في مجلة "
الماسونيين الأتراك"، واسمها معمار سنان "
Mimar Sinan" العدد 77 عام 1990 صفحة 78 - 81، بقلم "أندر آركون"
Ender Arkun تحت عنوان: "نظرة سريعة إلى جهود الماسونيِّين في التطوُّر الفكري: "... إن الماسونيين اليومَ بعقائدهم وفلسفتهم امتدادٌ لفرسان المعبد... لفلسفة وعقائد فرسان المعبد، وعلاقتهم بعقيدة الكابالا...".
وقام بريطانيَّان ماسونيَّان هما "كرستوفر نايت"
Christopher Knight، و"روبرت لوماس
Robert Lomas "ببحثٍ طويلٍ عن جُذور الماسونية نشراه في كتاب "مفتاح حيرام
[20]"
The Hiram Key، وهما يتَّفقان على أن أصل الماسونية ومنشَأَها يرجع إلى فرسان المعبد.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Spotlight/0/9527/#ixzz2srMpdGkr